سعيد ماليزيا
13-08-2011, 04:14 PM
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ما فقدته الأمة بعد هدم الخلافة
الكاتب: الدكتور سعيد التونسي
الحمد لله الذي جعل العاقبة للمتقين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
في صبيحة الثالث من مارس (آذار) من سنة 1924م أي منذ ما يقرب عن 85 سنة، هدم الكفار الخلافة الإسلامية على يد اليهودى المتمسلم مصطفى كمال عميل الأنكليز وصنيعتهم, وهو الذي قال فى مرسوم إلغاء الخلافة: "بأي ثمن يجب صون الجمهورية المهددة وجعلها تقوم على أسس علمية متينة, فالخليفة ومخلفات آل عثمان يجب أن يذهبوا, والمحاكم الدينية العتيقة وقوانينها يجب أن تستبدل بها محاكم وقوانين عصرية, ومدارس رجال الدين يجب أن تخلي منشآتها لمدارس حكومية غير دينيه". وفى الليلة ذاتها أرسل مصطفى كمال أمراً الى حاكم إستنبول يقضى يأن يغادر الخليفة عبد المجيد تركيا قبل فجر اليوم التالى, فذهب حاكم إستنبول بصحبه حامية من رجال البوليس إلى قصر الخليفة عند منتصف الليل, وهناك أجبر الخليفة أن يستقل سيارة حملته إلى خارج الحدود. وبعد يومين حشد كمال جميع أفراد أسرة الخليفة وتم ترحيلهم. وبذالك نفذ مصطفى كمال الشروط الأربعة التي شرطها الانكليز فى مؤتمر لوزان بسويسرا للإعتراف باستقلال تركيا وهى:
·إلغاء الخلافة إلغاءً تاماً.
·طرد الخليفة خارج المدينة.
·مصادرة أمواله.
·إعلان علمانية تركيا.
وبذالك سقطت الخلافة ومحيت من الوجود وحلت الطامة الكبرى بالمسلمين وفتح باب المصائب والبلايا عليهم من كل جانب.
سقطت دولة الخلافة والأمة صامتة تراقب ما يحدث وهى مغلوبة على أمرها, ولا تكاد تصدق ما يجرى. وقد عبر أحمد شوقى فى قصيدته رثاء الخلافة أصدق تعبير عن حال الأمة حين رأت دولة الخلافة تهوي تحت ضربات معاول الكفار والمنافقين فقال:
عادت أغانى العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت فى ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الإصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك فى كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكى عليك بدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح
وعلى إثر هدم الخلافة بدت البغضاء من أفواه الانكليز على لسان وزير خارجيتها كروزون أمام مجلس العموم البريطاني الذي احتج على قرار الحكومة البريطانية آنذاك القاضى بإنسحاب القوات البريطانية من تركيا فرد مبرراً قرار حكومته قائلا:
"القضية أن نركيا قد قضى عليها ولن تقوم لها قائمة لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها, الخلافة والإسلام".
هذا الكلام من كروزون يمثل تطلعات دول الكفر منذ قرون عديدة بعد اندحارهم في الحروب الصليبية وفشلهم فى تحقيق مقاصدهم فيها.
وهذه القوة المعنوية النى أشار إليها كروزون والمتمثلة فى الخلافة والإسلام السياسى هو عين ما بكاه شعراء الخلافة الإسلامية ونوّهوا به وأسفوا عليه أسفا شديدا.
يقول شوقي في رثاء البلقان:
يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام
نزل الهلال عن السماء فليتها ... طويت وعم العالمين ظلام
وقبل ذالك رثى أبو البقاء الرندى الأندلس الإسلامية بقصيدة مؤثرة جدا، ومما جاء فيها قوله:
أتى على الكل أمر لا مردّ له حتى قضوا فكأنّ القوم ما كانوا
وطار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف عثمان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الأنس هيمان
على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
تلك المصيبة آنست ما تقدّمها وما لها مع طول الدهر نسيان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
لقد فقد المسلمون أمور عظيمة جراء غياب الخلافة الأسلامية. ولا بد والحالة هذه من التنبيه إلى أبرز ما فقدوه لعل إدراك المسلمين لفداحة الخسارة وجسامة المفقود يدفعهم للعمل الجاد لإعادة ما فقدوه بإقامة خلافتهم لأنها الطريق الوحيد إلى ذالك ولقد جربوا غيرها من الأفكار والطرق والمناهج فما زادتهم غير تتبيب وصاروا طرائق قددا والعياذ بالله تعالى.
1. فقدت الأمة الإسلامية, الحكم بما أنزل الله وتلك جريمة كبرى أطاحت بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) من سدة الحكم والمرجعية عند الأمة. وهي مخالفة صريحة لقوله تعالى :{وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.
وهذا وحده كاف لإثارة غضب الله علينا, وأن تتحفز ملائكة العذاب لإختطافنا وتتهيأ جهنم لإستقبالنا.
عن أبى هريرة (رضى الله عنه) أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبه فينادى فى السماء ثم تنزل له المحبة فى أهل الأرض فذالك قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً} وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إنى أبغضت فلاناً فينادى فى السماء ثم تتنزل له البغضاء فى الأرض».
وبما أنه قد ثبت لدينا أن بعض المسلمين قد شارك فى تلك الجريمة, وكثير منهم قد سكت ورضى بما جرى وتابع فمن يدرينا أن يكون الله تعالى قد نادى جبريل عليه السلام فقال له إنى أبغضت هؤلاء القوم فأبغضهم, فنادى جبريل فى السماء بالقرار الإلهي فتحركت الملائكة للتنفيذ فرفعت الحصانة وزالت الحماية ونزعت البركة وقل القطر ورفعت ملائكة النصرة أسلحتها غير عابئة بنداءات الإستغاثة.
هذا طرف من الغضب السماوى ولا يملك أحد أية إحصائية عن حجم السيئات التى سجلت، والخسارة التى حصلت جراء هذا الغضب. أما الغضب الأرضى فأثاره محسومة ونتائجه لا تخطئها عين مبصرة.
إن فقد حكم الله فى الأرض ليعتبر بحق الخسارة الفادحة والجريمة الكبيرة, كونه فنح الباب واسعا لارتكاب كافة أنواع الجرائم من قبل الكفار والمسلمين على حد سواء.
فالكفار يقتلون النفوس, وينهبون الثروة, ويغتصبون الحقوق ويصولون ويجولون فى بلاد المسلمين لا فرق بين فلسطين والعراق ولا بين اندونيسيا ودارفور وغبرها من بلاد المسلمين.
والمسلمون يرتكبون الجرائم المختلفة مما تؤاخذ على مثلها الشريعة الاسلامية حداً أو قصاصاً أو تعزيراً ولكنهم يفلتون من العقاب كون تلك الجرائم لاتشكل خرقاً للقوانين الوضعية فيكون بذالك سجل الجرائم فى إزدياد مستمر مع مرور كل دقيقة من الزمن........
لقد حجب الله نصره عن الصحابة والرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم فى بداية معركة حنين بسبب معصية واحدة وهى الاغترار بأن الكثرة ستجلب النصر.
فما بالكم وسجل المعاصى التى ترتكب فى بلاد المسلمين نتيجة غياب حكم الله فى الارض فى إزدياد مستمر وهو كفيل بحجب النصر عنا رغم إستغاثة المستغيثين. وصدق الله العظيم عندما قال {ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}.
فالإعراض عن ذكر الله (أي عن شرع الله) تنتج عنه المعيشة الضنك ( أي الشقاء فى الدنيا) والعذاب فى الآخرة.
لذالك كان على المسلمين أن يعملوا بأقصى سرعة وأكثر طاقة لإسترجاع ما فقدوه بإقامة خلافتهم لأنها السبيل الوحيد لإعادة حكم الله فى الأرض.
2. فقد المسلمون الجماعة ووقعوا فى الفرقة كما خطط لهم أعداءهم، فبعد هدم الخلافة سقط التاج من رؤوس المسلمين وهدم البنيان الذى كان بؤويهم وانفرط عقد الأمة الإسلامية ومزّقها الكفار الى عرقيات متعددة وأقاليم متفرقة كى يسهل عليهم الهيمنة عليها وإذلال شعوبها وأكل خيراتها.
وتجأر الأمة الإسلامية اليوم وبالأمس مستغيثة فى كل مكان ولكن لا جواب، فلا عمر ولا معتصم ولا صلاح الدين.
وإذا كان الرسول (ص) قد قال: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». فإننا نقول كم من القاصيات أكلن مند هدم الخلافة، ففلسطين قاصية والعراق قاصية وكشمير قاصية........... والقائمة تطول.
اسمعوا ما قاله الجاسوس الأنكليزي الخبيث لورانس والذي خطط لما يسمى بالثورة العربية من أولها الى آخرها:
"إن نشاط الحسين (جد ملك الأردن السابق) مهم لنا إذ إنه ينسجم مع أهدافنا المباشرة وهي تفكيك الرابطة الإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية"
ثم يقول "فإذا تمكنا من التحكم بهم فإنهم سيبقون منقسمين سياسياً إلى دويلات تحصد بعضها البعض ولا يمكن لها أن تتوحد".
هل هناك إعتراف أكثر صراحة ووضوحاً من هذا وهل يجوز لمسلم بعد ذلك أن يحتفل بأعياد الاستقلال (باستقلال هذا البلاد أو ذاك) وأن يرفع رايات دويلات الضرار التي أقامها الكافر المستعمر, إنها جريمة ما بعدها جريمة.
إن الجماعة المطلوبة لا تكون إلا على إمام واحد "وإنه لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا طاعة" كما قال عمر.
أما الصديق أبو بكر رضي الله عنه فقد حذر من غياب الجماعة وحضور الفرقة وتعدد الأمراء، فقال في سقيفة بني ساعدة:
"وانه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران فإنه مهما يكن ذلك ( أي إذا حصل ذلك) يختلف أمرهم وأحكامهم وتتفرّق جماعتهم ويتنازعوا فيما بينهم هنالك (في حالة تعدد الأمراء) تترك السنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح".
لذا كان لابد من الجدّ في إزالة الحواجز المادية والمعنوية التي تقف حائلا بين المسلمين وتحقيق الجماعة لأنّ الذي يوحّد رأي المسلمين ويجمع كلمتهم ويوحد موقفهم السياسي ويجعل منهم أُمة ترهب عدوّ الله وعدوّهم هي الخلافة الراشدة لا غير, هذه الخلافة هي التي يرتفع مع قيامها قوله تعالى {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} وتتهاوى معها عروش الباطل عروش الخونة والعملاء, الني يظنون أنها قوية منيعة وهي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت.
3. فقد المسلمون أموالهم وثرواتهم الثمينة فكلّها نهب للكفار تحت سمع المسلمين وبصرهم ولا يعود للأمة إلا النزر اليسير، يأخذه الحكام اللصوص فيضعونه في بنوك الغرب الكافر, فلو كانت ثروة الأمة بيد إمام صالح لكان الواقع مختلفا حقّا وكان الناس في سعة ورخاء وبركة وهناء. ذكر ابن خلدون في مقدمته أن ما حمل الى بيت مال المسلمين ببغداد أيام الخليفة العباسي المأمون ما يعادل اليوم ب 70 مليار دولار و1700 طن من الذهب فلو كان للمسلمين اليوم خلافة راشدة على منهاج النبوة ورزقهم الله بخليفة حافظ لثروات الأمة والتي منها إضافة لما كان في الزمن الماضي النفط والمعادن وغير ذلك فهل يبقى في دار الأسلام فقير واحد, وسأسوق لكم مثالا على نظافة اليد عند خلفاء المسلمين من سيرة عمر بن عبد العزيز والذي لم يجدوا في دار خلافته فقيراً واحداً يستحق الزكاة.
أخرج ابن عساكر "دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز حين حضرته الوفاة فقال يا أمير المؤمنين أقفرت افواه بنيك من هذا المال فلو أوصيت بهم إليّ وإلى وزراء فكفوك مأونتهم فلما سمع مقالته قال : أجلسوني فأجلسوه فقال: والله ما ظلمتهم حقهم ولم أكن أعطيهم شيئاً لغيرهم، وإنّما ولد عمر بين أحد رجلين إما رجل صالح فالله يتولى الصالحين وإما ان يكون غير ذلك فلن أكون أوّل من أعانه (بالمال) على معصية الله ثمّ قال ادعوا لي بني فأتوه فلما رآهم ترقرقت عيناه وقال بنفسي فتية تركتهم عالة لاشيء لهم وبكى ثمّ قال يا بني إما أن تستغنوا فادخل النار وإما أن تفتقروا فادخل الجنة، توبوا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله".
رحم الله عمر وعجّل لنا بالنظير في وقت قريب.
إنّ الغرب الرأسمالي الكافر المستعمر قد لعب لعبته وضرب ضربته فهدم الخلافة لأنه يعلم أنه لن تقوم له قائمة إذا لم يقض عليها، وبما أنّ الغرب صاحب مصلحة مستمرّة في بلادنا، ولأنّ بلاد المسلمين تنعم بخيرات وفيرة وكنوز دفينة وثروات هائلة كانت مصلحته تقضي بأن لا تقوم للاسلام خلافته.
ولأن المبدأ الإسلامي مبدأ عالمي بعقيدته وأنظمته فإنه يشكّل في نظر الغرب خطراً حضارياً عليه وتهديداً حقيقياً له. لذلك وحفاظاً على مبدئه وحضارته ومصالحه كان حريصاً على هدم الخلافة، وأن نبقى متفرّقين وعالة عليه, يمنعوننا بأن نكون أمة صناعية بل ولا حتى زراعية، فأسواقنا أسواق إستهلاكية لا تستغني عن أعدائها، وحال المسلمين شاهد على فقر هذه الأمة ومديونيتها الهائلة, وإنعدام الأمن الغذائي فيها. وعلى ذلك فإنه لن يتحقق النموّ الإقتصادي في الزراعة والصناعة ولن تضمن الحاجات الأساسية للأفراد فرداً فردا إلا بأن يملك المسلمون أمرهم ويتخلصوا من ربقة الكفر والعملاء.
4. الخسارة الرابعة هي فلسطين أرض الإسراء والمعراج أرض المحشر والمنشر, وإنا لنجد إرتباطاً واضحاً بين هدم الخلافة العثمانية وبين ضياع فلسطين وقيام دولة يهود عليها فدولة المسخ هذه ما كانت لتوجد على أرض فلسطين لو كانت الخلافة الإسلامية قائمة.
وكلّنا يعرف موقف الخلافة الإسلامية زمن العثمانين وهي في أشد حالاتها ضعفا وقد رماها الكفار عن قوس واحد.
وكلّنا يذكر قولة السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, فقد قال قولته المشهورة عندما ردّ الوفد اليهودي الذي جاء يفاوضه من أجل بيع فلسطين لهم فقال: "إنّي لا أستطيع أن اتخلّى عن شبر واحد من أرض فلسطين فهي ليست ملك يميني.........بل ملك الأمة الإسلامية......... وإذا مزّقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن ياخذوا فلسطين بلا ثمن".
وهذا فعلاً ما حدث ففلسطين ضاعت بعد هدم الخلافة ولن يعيدها من جديد إلا دولة الخلافة عندها يتحقق قول الله فيهم {وإذ تأذّن ربك ليبعثنّ عليهم إلى بوم القيامة من يسومهم سوء العذاب...}. ويتحقق وعد رسولنا (صلى الله عليه وسلم): «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبيء اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود». أخرجه البخاري في باب فضائل الجهاد, ومسلم في كتاب الفتن.
5. ومن الخسائر التي تملأ القلب والألم والحسرة والأسى ضياع مهابة المسلمبن التي كانت في قلوب أعدائهم منهم مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وسلم): «ولينزعنّ الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم» فصار الواحد منهم والحكام في الدرجة الأولى كالعبد إن سبه السيد لم يستطيع العبد أن يسبه وإن ضربه لم يستطيع العبد أن يضربه.
وإنا نتساءل هل بقيت لأمة محمّد (صلى الله عليه وسلم) مهابة في قلوب أي أمة على وجه الأرض مهما كانت ضعيفة أو فقيرة؟ لا، لا نرى ذلك، مع أنه عليه الصلاة والسلام يقول: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» ويقول: «الإسلام يعلوا ولا يعلى عليه».
إن المؤمن المخلص الصادق عندما يرى جال المسلمين اليوم بعد غياب سلطان الإسلام الحارس الذي يتقى به حين يرى ذلك يتميّزمن الغيظ على كل مسلم لايعمل للتغير ويرضى بعيش الذل والهوان وهو قد رأى بعينيه وسمع بأذنيه وأدرك بحواسه جميعها أن العزّة والمهابة والقوّة والسيادة لاتكون إلا بسلطان الإسلام ودولة الإسلام، ورحم الله عمر القائل: "أيها الناس كنتم أذلّ النّاس فأعزكم الله بالإسلام ومهما ابتغيتم العزة من غيره أذلكم الله". وأضرب لكم مثالا واحداً على المهابة التي كانت للمسلمين في كل شيء، والمثال الذي سأذكره هو كيف كان يدير المسلمون المفاوضات مع الكفار.
"لقي عمرو بن العاص أحد بطارقة الروم في فلسطين، فقال البطريق: ما الذي جاء بكم فقد كانت الآباء إقتسمت الأرض فصارّ لكم ما يليكم وصار لنا ما يلينا. وقد عرفنا أنكم إنما أخرجكم من بلادكم الجهد وسنأمر لكم بمعروف وتنصرفوا.
فقال له عمرو: أما القسمة التي تحدّثت عنها فإنها كانت قسمة شططا، ونحن نريد أن نتراضى فتكون قسمة معتدلة لنأخذ نصف ما في أيديكم من الأنهار والعمارة ونعطيكم نصف ما بأيدينا من الشوك والحجارة ونحن لا نفارقكم حتى نصيّركم عبيداً أو تقتلوننا.
فالفت البطريق إلى أصحابه وقال : ( صدقوا). ثم افترقا ثم لحق بهم المسلمون حتى طووهم عن فلسطين والأردن".
6. ومما خسر المسلمون العلم والتكنلوجيا اللازمتين للصناعات الثقيلة وأدوات الحرب الحديثة وغير ذلك من نواحي الحياة، وكل ذلك لن يتحقق إلا بوجود سلطان مخلص لربه، حريص على مصالح أمته، وإنّ الضرورة لذلك تتجلّى من حيث أن الدولة الأسلامية الموعودة هي دولة مبدئية تمتلك فكرة مبدئية واضحة ولديها وجهة نظر في الحياة، والعقيدة الإسلامية التي تقوم عليها الدولة, عقيدة عالمية والمسلمون مكلفون بإيصال هذه العقيدة لكل الشعوب والأمم، وهذا لا يتم إلاّ بإمتلاك تكنولوجيا نوعية تستخدمها الدولة في نشر الإسلام. وقد استطاع المسلمون في الماضي التغلب على التفوق العلمي والعسكري عند الروم والفرس وبعد ذلك أبدع المسلمون بإستخراج مكنونات هذه الأرض وكشف القوانين العلمية التي تحكمها وقد حققوا إنجازات رائعة في مجال الطب والهندسة والفلك والجغرافيا وغيرها وكانت أوروبا ترسل طلابها ليتلقوا العلم عند المسلمين.
والدولة الإسلامية القادمة إن شاء الله ينتظرها هذا التقدم العلمي الهائل، وهذا ليس بالأمر المستحيل وإنما هو أمر ممكن بإذن الله تعالى ونحن لسنا بأقل من الصين مثلاً. هذه الدولة الزراعية المتخلفة (سابقاً) والتي لا تملك مبدأ كمبدئنا قد دخلت اللعبة الكونية في ظل ثورة تكنولوجية هائلة لم تكن متوقعة، وها هي اليوم من أكبر المنافسين اللذين يشكلون خطراً يهدد الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد، هذا غيض من فيض مما خسره المسلمون ويخسرونه في كل يوم في غياب دولتهم وإمامهم، ولقد بدا أن الخلافة فوق كونها ضرورة شرعية يجب علينا إيجادها فهي حاجة ملحة للمسلمين، وهي كذلك حاجة إنسانية للبشرية جمعاء، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
إن تاريخ الثالث من مارس يجب أن يمحى وتمحى كل آثاره من حياة المسلمين, فالأمم الحية هي التي تعمل على تدوين أيام العزّ لا على تدوين أيام القهر والذل, والأمة الإسلامية وإن احتفظت بهذا التاريخ في ذاكرتها فلكي تمحوه لا لتخلده، ولكي تنطلق منه لإيجاد تاريخ جديد بعودة الخلافة من جديد بإذن الله تعالى مصداقا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثميرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء اللهأن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أنتكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أنتكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت» أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن حذيفة.
ما فقدته الأمة بعد هدم الخلافة
الكاتب: الدكتور سعيد التونسي
الحمد لله الذي جعل العاقبة للمتقين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
في صبيحة الثالث من مارس (آذار) من سنة 1924م أي منذ ما يقرب عن 85 سنة، هدم الكفار الخلافة الإسلامية على يد اليهودى المتمسلم مصطفى كمال عميل الأنكليز وصنيعتهم, وهو الذي قال فى مرسوم إلغاء الخلافة: "بأي ثمن يجب صون الجمهورية المهددة وجعلها تقوم على أسس علمية متينة, فالخليفة ومخلفات آل عثمان يجب أن يذهبوا, والمحاكم الدينية العتيقة وقوانينها يجب أن تستبدل بها محاكم وقوانين عصرية, ومدارس رجال الدين يجب أن تخلي منشآتها لمدارس حكومية غير دينيه". وفى الليلة ذاتها أرسل مصطفى كمال أمراً الى حاكم إستنبول يقضى يأن يغادر الخليفة عبد المجيد تركيا قبل فجر اليوم التالى, فذهب حاكم إستنبول بصحبه حامية من رجال البوليس إلى قصر الخليفة عند منتصف الليل, وهناك أجبر الخليفة أن يستقل سيارة حملته إلى خارج الحدود. وبعد يومين حشد كمال جميع أفراد أسرة الخليفة وتم ترحيلهم. وبذالك نفذ مصطفى كمال الشروط الأربعة التي شرطها الانكليز فى مؤتمر لوزان بسويسرا للإعتراف باستقلال تركيا وهى:
·إلغاء الخلافة إلغاءً تاماً.
·طرد الخليفة خارج المدينة.
·مصادرة أمواله.
·إعلان علمانية تركيا.
وبذالك سقطت الخلافة ومحيت من الوجود وحلت الطامة الكبرى بالمسلمين وفتح باب المصائب والبلايا عليهم من كل جانب.
سقطت دولة الخلافة والأمة صامتة تراقب ما يحدث وهى مغلوبة على أمرها, ولا تكاد تصدق ما يجرى. وقد عبر أحمد شوقى فى قصيدته رثاء الخلافة أصدق تعبير عن حال الأمة حين رأت دولة الخلافة تهوي تحت ضربات معاول الكفار والمنافقين فقال:
عادت أغانى العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت فى ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الإصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك فى كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكى عليك بدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح
وعلى إثر هدم الخلافة بدت البغضاء من أفواه الانكليز على لسان وزير خارجيتها كروزون أمام مجلس العموم البريطاني الذي احتج على قرار الحكومة البريطانية آنذاك القاضى بإنسحاب القوات البريطانية من تركيا فرد مبرراً قرار حكومته قائلا:
"القضية أن نركيا قد قضى عليها ولن تقوم لها قائمة لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها, الخلافة والإسلام".
هذا الكلام من كروزون يمثل تطلعات دول الكفر منذ قرون عديدة بعد اندحارهم في الحروب الصليبية وفشلهم فى تحقيق مقاصدهم فيها.
وهذه القوة المعنوية النى أشار إليها كروزون والمتمثلة فى الخلافة والإسلام السياسى هو عين ما بكاه شعراء الخلافة الإسلامية ونوّهوا به وأسفوا عليه أسفا شديدا.
يقول شوقي في رثاء البلقان:
يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام
نزل الهلال عن السماء فليتها ... طويت وعم العالمين ظلام
وقبل ذالك رثى أبو البقاء الرندى الأندلس الإسلامية بقصيدة مؤثرة جدا، ومما جاء فيها قوله:
أتى على الكل أمر لا مردّ له حتى قضوا فكأنّ القوم ما كانوا
وطار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف عثمان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الأنس هيمان
على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
تلك المصيبة آنست ما تقدّمها وما لها مع طول الدهر نسيان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
لقد فقد المسلمون أمور عظيمة جراء غياب الخلافة الأسلامية. ولا بد والحالة هذه من التنبيه إلى أبرز ما فقدوه لعل إدراك المسلمين لفداحة الخسارة وجسامة المفقود يدفعهم للعمل الجاد لإعادة ما فقدوه بإقامة خلافتهم لأنها الطريق الوحيد إلى ذالك ولقد جربوا غيرها من الأفكار والطرق والمناهج فما زادتهم غير تتبيب وصاروا طرائق قددا والعياذ بالله تعالى.
1. فقدت الأمة الإسلامية, الحكم بما أنزل الله وتلك جريمة كبرى أطاحت بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) من سدة الحكم والمرجعية عند الأمة. وهي مخالفة صريحة لقوله تعالى :{وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.
وهذا وحده كاف لإثارة غضب الله علينا, وأن تتحفز ملائكة العذاب لإختطافنا وتتهيأ جهنم لإستقبالنا.
عن أبى هريرة (رضى الله عنه) أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبه فينادى فى السماء ثم تنزل له المحبة فى أهل الأرض فذالك قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً} وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إنى أبغضت فلاناً فينادى فى السماء ثم تتنزل له البغضاء فى الأرض».
وبما أنه قد ثبت لدينا أن بعض المسلمين قد شارك فى تلك الجريمة, وكثير منهم قد سكت ورضى بما جرى وتابع فمن يدرينا أن يكون الله تعالى قد نادى جبريل عليه السلام فقال له إنى أبغضت هؤلاء القوم فأبغضهم, فنادى جبريل فى السماء بالقرار الإلهي فتحركت الملائكة للتنفيذ فرفعت الحصانة وزالت الحماية ونزعت البركة وقل القطر ورفعت ملائكة النصرة أسلحتها غير عابئة بنداءات الإستغاثة.
هذا طرف من الغضب السماوى ولا يملك أحد أية إحصائية عن حجم السيئات التى سجلت، والخسارة التى حصلت جراء هذا الغضب. أما الغضب الأرضى فأثاره محسومة ونتائجه لا تخطئها عين مبصرة.
إن فقد حكم الله فى الأرض ليعتبر بحق الخسارة الفادحة والجريمة الكبيرة, كونه فنح الباب واسعا لارتكاب كافة أنواع الجرائم من قبل الكفار والمسلمين على حد سواء.
فالكفار يقتلون النفوس, وينهبون الثروة, ويغتصبون الحقوق ويصولون ويجولون فى بلاد المسلمين لا فرق بين فلسطين والعراق ولا بين اندونيسيا ودارفور وغبرها من بلاد المسلمين.
والمسلمون يرتكبون الجرائم المختلفة مما تؤاخذ على مثلها الشريعة الاسلامية حداً أو قصاصاً أو تعزيراً ولكنهم يفلتون من العقاب كون تلك الجرائم لاتشكل خرقاً للقوانين الوضعية فيكون بذالك سجل الجرائم فى إزدياد مستمر مع مرور كل دقيقة من الزمن........
لقد حجب الله نصره عن الصحابة والرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم فى بداية معركة حنين بسبب معصية واحدة وهى الاغترار بأن الكثرة ستجلب النصر.
فما بالكم وسجل المعاصى التى ترتكب فى بلاد المسلمين نتيجة غياب حكم الله فى الارض فى إزدياد مستمر وهو كفيل بحجب النصر عنا رغم إستغاثة المستغيثين. وصدق الله العظيم عندما قال {ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}.
فالإعراض عن ذكر الله (أي عن شرع الله) تنتج عنه المعيشة الضنك ( أي الشقاء فى الدنيا) والعذاب فى الآخرة.
لذالك كان على المسلمين أن يعملوا بأقصى سرعة وأكثر طاقة لإسترجاع ما فقدوه بإقامة خلافتهم لأنها السبيل الوحيد لإعادة حكم الله فى الأرض.
2. فقد المسلمون الجماعة ووقعوا فى الفرقة كما خطط لهم أعداءهم، فبعد هدم الخلافة سقط التاج من رؤوس المسلمين وهدم البنيان الذى كان بؤويهم وانفرط عقد الأمة الإسلامية ومزّقها الكفار الى عرقيات متعددة وأقاليم متفرقة كى يسهل عليهم الهيمنة عليها وإذلال شعوبها وأكل خيراتها.
وتجأر الأمة الإسلامية اليوم وبالأمس مستغيثة فى كل مكان ولكن لا جواب، فلا عمر ولا معتصم ولا صلاح الدين.
وإذا كان الرسول (ص) قد قال: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». فإننا نقول كم من القاصيات أكلن مند هدم الخلافة، ففلسطين قاصية والعراق قاصية وكشمير قاصية........... والقائمة تطول.
اسمعوا ما قاله الجاسوس الأنكليزي الخبيث لورانس والذي خطط لما يسمى بالثورة العربية من أولها الى آخرها:
"إن نشاط الحسين (جد ملك الأردن السابق) مهم لنا إذ إنه ينسجم مع أهدافنا المباشرة وهي تفكيك الرابطة الإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية"
ثم يقول "فإذا تمكنا من التحكم بهم فإنهم سيبقون منقسمين سياسياً إلى دويلات تحصد بعضها البعض ولا يمكن لها أن تتوحد".
هل هناك إعتراف أكثر صراحة ووضوحاً من هذا وهل يجوز لمسلم بعد ذلك أن يحتفل بأعياد الاستقلال (باستقلال هذا البلاد أو ذاك) وأن يرفع رايات دويلات الضرار التي أقامها الكافر المستعمر, إنها جريمة ما بعدها جريمة.
إن الجماعة المطلوبة لا تكون إلا على إمام واحد "وإنه لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا طاعة" كما قال عمر.
أما الصديق أبو بكر رضي الله عنه فقد حذر من غياب الجماعة وحضور الفرقة وتعدد الأمراء، فقال في سقيفة بني ساعدة:
"وانه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران فإنه مهما يكن ذلك ( أي إذا حصل ذلك) يختلف أمرهم وأحكامهم وتتفرّق جماعتهم ويتنازعوا فيما بينهم هنالك (في حالة تعدد الأمراء) تترك السنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح".
لذا كان لابد من الجدّ في إزالة الحواجز المادية والمعنوية التي تقف حائلا بين المسلمين وتحقيق الجماعة لأنّ الذي يوحّد رأي المسلمين ويجمع كلمتهم ويوحد موقفهم السياسي ويجعل منهم أُمة ترهب عدوّ الله وعدوّهم هي الخلافة الراشدة لا غير, هذه الخلافة هي التي يرتفع مع قيامها قوله تعالى {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} وتتهاوى معها عروش الباطل عروش الخونة والعملاء, الني يظنون أنها قوية منيعة وهي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت.
3. فقد المسلمون أموالهم وثرواتهم الثمينة فكلّها نهب للكفار تحت سمع المسلمين وبصرهم ولا يعود للأمة إلا النزر اليسير، يأخذه الحكام اللصوص فيضعونه في بنوك الغرب الكافر, فلو كانت ثروة الأمة بيد إمام صالح لكان الواقع مختلفا حقّا وكان الناس في سعة ورخاء وبركة وهناء. ذكر ابن خلدون في مقدمته أن ما حمل الى بيت مال المسلمين ببغداد أيام الخليفة العباسي المأمون ما يعادل اليوم ب 70 مليار دولار و1700 طن من الذهب فلو كان للمسلمين اليوم خلافة راشدة على منهاج النبوة ورزقهم الله بخليفة حافظ لثروات الأمة والتي منها إضافة لما كان في الزمن الماضي النفط والمعادن وغير ذلك فهل يبقى في دار الأسلام فقير واحد, وسأسوق لكم مثالا على نظافة اليد عند خلفاء المسلمين من سيرة عمر بن عبد العزيز والذي لم يجدوا في دار خلافته فقيراً واحداً يستحق الزكاة.
أخرج ابن عساكر "دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز حين حضرته الوفاة فقال يا أمير المؤمنين أقفرت افواه بنيك من هذا المال فلو أوصيت بهم إليّ وإلى وزراء فكفوك مأونتهم فلما سمع مقالته قال : أجلسوني فأجلسوه فقال: والله ما ظلمتهم حقهم ولم أكن أعطيهم شيئاً لغيرهم، وإنّما ولد عمر بين أحد رجلين إما رجل صالح فالله يتولى الصالحين وإما ان يكون غير ذلك فلن أكون أوّل من أعانه (بالمال) على معصية الله ثمّ قال ادعوا لي بني فأتوه فلما رآهم ترقرقت عيناه وقال بنفسي فتية تركتهم عالة لاشيء لهم وبكى ثمّ قال يا بني إما أن تستغنوا فادخل النار وإما أن تفتقروا فادخل الجنة، توبوا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله".
رحم الله عمر وعجّل لنا بالنظير في وقت قريب.
إنّ الغرب الرأسمالي الكافر المستعمر قد لعب لعبته وضرب ضربته فهدم الخلافة لأنه يعلم أنه لن تقوم له قائمة إذا لم يقض عليها، وبما أنّ الغرب صاحب مصلحة مستمرّة في بلادنا، ولأنّ بلاد المسلمين تنعم بخيرات وفيرة وكنوز دفينة وثروات هائلة كانت مصلحته تقضي بأن لا تقوم للاسلام خلافته.
ولأن المبدأ الإسلامي مبدأ عالمي بعقيدته وأنظمته فإنه يشكّل في نظر الغرب خطراً حضارياً عليه وتهديداً حقيقياً له. لذلك وحفاظاً على مبدئه وحضارته ومصالحه كان حريصاً على هدم الخلافة، وأن نبقى متفرّقين وعالة عليه, يمنعوننا بأن نكون أمة صناعية بل ولا حتى زراعية، فأسواقنا أسواق إستهلاكية لا تستغني عن أعدائها، وحال المسلمين شاهد على فقر هذه الأمة ومديونيتها الهائلة, وإنعدام الأمن الغذائي فيها. وعلى ذلك فإنه لن يتحقق النموّ الإقتصادي في الزراعة والصناعة ولن تضمن الحاجات الأساسية للأفراد فرداً فردا إلا بأن يملك المسلمون أمرهم ويتخلصوا من ربقة الكفر والعملاء.
4. الخسارة الرابعة هي فلسطين أرض الإسراء والمعراج أرض المحشر والمنشر, وإنا لنجد إرتباطاً واضحاً بين هدم الخلافة العثمانية وبين ضياع فلسطين وقيام دولة يهود عليها فدولة المسخ هذه ما كانت لتوجد على أرض فلسطين لو كانت الخلافة الإسلامية قائمة.
وكلّنا يعرف موقف الخلافة الإسلامية زمن العثمانين وهي في أشد حالاتها ضعفا وقد رماها الكفار عن قوس واحد.
وكلّنا يذكر قولة السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, فقد قال قولته المشهورة عندما ردّ الوفد اليهودي الذي جاء يفاوضه من أجل بيع فلسطين لهم فقال: "إنّي لا أستطيع أن اتخلّى عن شبر واحد من أرض فلسطين فهي ليست ملك يميني.........بل ملك الأمة الإسلامية......... وإذا مزّقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن ياخذوا فلسطين بلا ثمن".
وهذا فعلاً ما حدث ففلسطين ضاعت بعد هدم الخلافة ولن يعيدها من جديد إلا دولة الخلافة عندها يتحقق قول الله فيهم {وإذ تأذّن ربك ليبعثنّ عليهم إلى بوم القيامة من يسومهم سوء العذاب...}. ويتحقق وعد رسولنا (صلى الله عليه وسلم): «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبيء اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود». أخرجه البخاري في باب فضائل الجهاد, ومسلم في كتاب الفتن.
5. ومن الخسائر التي تملأ القلب والألم والحسرة والأسى ضياع مهابة المسلمبن التي كانت في قلوب أعدائهم منهم مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وسلم): «ولينزعنّ الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم» فصار الواحد منهم والحكام في الدرجة الأولى كالعبد إن سبه السيد لم يستطيع العبد أن يسبه وإن ضربه لم يستطيع العبد أن يضربه.
وإنا نتساءل هل بقيت لأمة محمّد (صلى الله عليه وسلم) مهابة في قلوب أي أمة على وجه الأرض مهما كانت ضعيفة أو فقيرة؟ لا، لا نرى ذلك، مع أنه عليه الصلاة والسلام يقول: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» ويقول: «الإسلام يعلوا ولا يعلى عليه».
إن المؤمن المخلص الصادق عندما يرى جال المسلمين اليوم بعد غياب سلطان الإسلام الحارس الذي يتقى به حين يرى ذلك يتميّزمن الغيظ على كل مسلم لايعمل للتغير ويرضى بعيش الذل والهوان وهو قد رأى بعينيه وسمع بأذنيه وأدرك بحواسه جميعها أن العزّة والمهابة والقوّة والسيادة لاتكون إلا بسلطان الإسلام ودولة الإسلام، ورحم الله عمر القائل: "أيها الناس كنتم أذلّ النّاس فأعزكم الله بالإسلام ومهما ابتغيتم العزة من غيره أذلكم الله". وأضرب لكم مثالا واحداً على المهابة التي كانت للمسلمين في كل شيء، والمثال الذي سأذكره هو كيف كان يدير المسلمون المفاوضات مع الكفار.
"لقي عمرو بن العاص أحد بطارقة الروم في فلسطين، فقال البطريق: ما الذي جاء بكم فقد كانت الآباء إقتسمت الأرض فصارّ لكم ما يليكم وصار لنا ما يلينا. وقد عرفنا أنكم إنما أخرجكم من بلادكم الجهد وسنأمر لكم بمعروف وتنصرفوا.
فقال له عمرو: أما القسمة التي تحدّثت عنها فإنها كانت قسمة شططا، ونحن نريد أن نتراضى فتكون قسمة معتدلة لنأخذ نصف ما في أيديكم من الأنهار والعمارة ونعطيكم نصف ما بأيدينا من الشوك والحجارة ونحن لا نفارقكم حتى نصيّركم عبيداً أو تقتلوننا.
فالفت البطريق إلى أصحابه وقال : ( صدقوا). ثم افترقا ثم لحق بهم المسلمون حتى طووهم عن فلسطين والأردن".
6. ومما خسر المسلمون العلم والتكنلوجيا اللازمتين للصناعات الثقيلة وأدوات الحرب الحديثة وغير ذلك من نواحي الحياة، وكل ذلك لن يتحقق إلا بوجود سلطان مخلص لربه، حريص على مصالح أمته، وإنّ الضرورة لذلك تتجلّى من حيث أن الدولة الأسلامية الموعودة هي دولة مبدئية تمتلك فكرة مبدئية واضحة ولديها وجهة نظر في الحياة، والعقيدة الإسلامية التي تقوم عليها الدولة, عقيدة عالمية والمسلمون مكلفون بإيصال هذه العقيدة لكل الشعوب والأمم، وهذا لا يتم إلاّ بإمتلاك تكنولوجيا نوعية تستخدمها الدولة في نشر الإسلام. وقد استطاع المسلمون في الماضي التغلب على التفوق العلمي والعسكري عند الروم والفرس وبعد ذلك أبدع المسلمون بإستخراج مكنونات هذه الأرض وكشف القوانين العلمية التي تحكمها وقد حققوا إنجازات رائعة في مجال الطب والهندسة والفلك والجغرافيا وغيرها وكانت أوروبا ترسل طلابها ليتلقوا العلم عند المسلمين.
والدولة الإسلامية القادمة إن شاء الله ينتظرها هذا التقدم العلمي الهائل، وهذا ليس بالأمر المستحيل وإنما هو أمر ممكن بإذن الله تعالى ونحن لسنا بأقل من الصين مثلاً. هذه الدولة الزراعية المتخلفة (سابقاً) والتي لا تملك مبدأ كمبدئنا قد دخلت اللعبة الكونية في ظل ثورة تكنولوجية هائلة لم تكن متوقعة، وها هي اليوم من أكبر المنافسين اللذين يشكلون خطراً يهدد الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد، هذا غيض من فيض مما خسره المسلمون ويخسرونه في كل يوم في غياب دولتهم وإمامهم، ولقد بدا أن الخلافة فوق كونها ضرورة شرعية يجب علينا إيجادها فهي حاجة ملحة للمسلمين، وهي كذلك حاجة إنسانية للبشرية جمعاء، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
إن تاريخ الثالث من مارس يجب أن يمحى وتمحى كل آثاره من حياة المسلمين, فالأمم الحية هي التي تعمل على تدوين أيام العزّ لا على تدوين أيام القهر والذل, والأمة الإسلامية وإن احتفظت بهذا التاريخ في ذاكرتها فلكي تمحوه لا لتخلده، ولكي تنطلق منه لإيجاد تاريخ جديد بعودة الخلافة من جديد بإذن الله تعالى مصداقا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثميرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء اللهأن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أنتكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أنتكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت» أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن حذيفة.