بسمه
12-12-2011, 02:18 PM
http://www.elfagr.org/Portal_News/Big/933820111210237.jpg
يشيرالقرآن الكريم في عدد من آياته, الي الكون والي العديد من مكوناته ( السماوات والأرض, وما بكل منهما من صور الأحياء والجمادات, والظواهر الكونية المختلفة), وتأتي هذه الآيات في مقام الاستدلال علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت هذا الكون, بجميع ما فيه ومن فيه, وفي مقام الاستدلال كذلك علي أن الإله الخالق الذي أبدع هذا الكون قادر علي إفنائه, وقادر علي إعادة خلقه من جديد, وذلك في معرض محاجة الكافرين والمشركين والمتشككين, وفي إثبات الألوهية لرب العالمين بغير شريك ولا شبيه ولا منازع. وكانت دعوى الكافرين منذ الأزل, وإلى يوم الدين, هي محاولة إنكار قضيتي الخلق والبعث بعد الإفناء, وهما من القضايا التي لا تقع تحت الإدراك المباشر للعلماء, علي الرغم من أن الله تعالى قد أبقي لنا في أديم الأرض, وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية الملموسة ما يمكن أن يعين المتفكرين المتدبرين من بني الإنسان علي إدراك حقيقة الخلق, وحتمية الإفناء والبعث, ويبقي فهم تفاصيل ذلك في غيبة من الهداية الربانية شيئا من الضرب في الظلام, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي) ردا علي الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51). وفي تشجيع الإنسان علي التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض يقول ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار( آل عمران:190 ـ191).
وكان لنزول هاتين الآيتين الكريمتين وما تلاهما من آيات في السورة نفسها, وقع شديد علي رسول الله( صلي الله عليه وسلم), الذي يروي عنه أنه قال عقب الوحي بها: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها.وواضح الأمر في ذلك أن التفكر في خلق السماوات والأرض فريضة إسلامية لابد من قيام نفر من المسلمين بها, لأنها عبادة من أجل وأعظم العبادات لله الخالق, ووسيلة من أعظم الوسائل للتعرف علي كل من حقيقة الخلق, وحتمية الافناء وضرورة البعث, وللتأكيد علي عظمة الخالق( سبحانه وتعالى), وعلي تفرده بالألوهية, والربوبية, والوحدانية, فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع, دقيق البناء, محكم الحركة, منضبط في كل أمر من أموره, مبني علي وتيرة واحدة من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته, وكون هذا شأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وجد بمحض المصادفة, أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه, بل لابد له من موجد عظيم, له من طلاقة القدرة, وكمال الحكمة, وشمول العلم ما أبدع به هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه, وهذا الخالق العظيم لاينازعه أحد في ملكه, ولا يشاركه أحد في سلطانه, لأنه رب هذا الكون ومليكه, ولا يشبهه أحد من خلقه, لأنه( تعالي) خالق كل شيء, وهو بالقطع فوق كل خلقه, لا يحده المكان, ولا الزمان لأنه( سبحانه) خالقهما, ولا يشكله أي من المادة أو الطاقة, لأنه( تعالى) مبدعهما, ولا نعرف عن ذاته العلية إلا ما عرف به نفسه بقوله( عز من قائل):ليس كمثله شيء وهو السميع البصير[ الشوري:11). وقوله( سبحانه) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله( صلى الله عليه وسلم): قل هو الله أحد, الله الصمد, لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد( الإخلاص:1 ـ4). من هنا كان التفكر في خلق السماوات والأرض مدخلا عظيما من مداخل الإيمان بالله, ولذا حض عليه القرآن الكريم, كما حضت عليه السنة النبوية المطهرة حضا كثيرا.تأكيد القرآن الكريم علي ما في السماوات والأرض من أدلة الخلق والإفناء والبعث يؤكد القرآن الكريم علي ما في السماوات والأرض من الأدلة, التي تنطق بطلاقة القدرة الإلهية في خلقهما وإبداعهما, كما تنطق بحتمية إفنائهما, وإعادة خلقهما من جديد في هيئة غير التي نراهما فيها اليوم, وذلك في عدد غير قليل من الآيات التي منها قوله( تعالي) وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق...( الأنعام:73). وقوله( سبحانه):خلق الله السماوات والأرض بالحق, إن في ذلك لآية للمؤمنين( العنكبوت:44) وقوله( عز من قائل):... ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمي, وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون( الروم:8) وقوله( تعالى):ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم,إن في ذلك لآيات للعالمين (الروم:22). وقوله( سبحانه):وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم( الروم:27). وقوله( سبحانه وتعالى): خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير( التغابن:3). وقوله( عز من قائل):خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ( الزمر:5). وقوله( سبحانه): لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون(غافر:57). وقوله( تعالى) ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (الشوري:29). وقوله( سبحانه وتعالى): وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين, ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون( الدخان:38 و39). تأكيد القرآن الكريم علي أن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء جاءت مادة خلق بمشتقاتها في القرآن الكريم مائتين وإحدي وستين(261) مرة, لتأكيد أن عملية الخلق هي عملية خاصة بالله( تعالى) وحده, لا يشاركه فيها أحد, ولا ينازعه عليها أحد, ولا يقدر عليها أحد غيره( سبحانه وتعالي) إلا بإذنه, كذلك وردت لفظة السماء في القرآن الكريم بالإفراد والجمع في ثلاثمائة وعشر(310) مواضع, منها مائة وعشرون(120) مرة بصيغة الإفراد( السماء), ومائة وتسعون(190) مرة بصيغة الجمع( السماوات) معرفة وغير معرفة, كما وردت لفظة الأرض بمشتقاتها في أربعمائة وواحد وستين(461) موضعا, وذلك في مقامات كثيرة تؤكد أن الله( تعالي) هو خالق السماوات والأرض, وخالق كل شيء, من مثل قوله( عز من قائل):ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو علي كل شيء وكيل( الأنعام:102). وقوله( سبحانه):ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( الأعراف:54). وقوله( تعالى):إنه يبدأ الخلق ثم يعيده...( يونس:41) وقوله( سبحانه وتعالى):.... قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار( الرعد:16). وقوله( تبارك وتعالى):.... وخلق كل شيء فقدره تقديرا( الفرقان:2) وقوله( عز من قائل):الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل( الزمر:62). وقوله( سبحانه):ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون( غافر:62). وقوله( تعالى) إنا كل شيء خلقناه بقدر( القمر:49). وقوله( سبحانه وتعالى هو الله الخالق الباريء المصور...( الحشر:24). هذا, وقد أفاض القرآن الكريم في حسم قضيتي الخلق والبعث بنسبتهما إلى الله( تعالي) وحده, وذلك لأن هاتين القضيتين كانتا من أصعب القضايا التي خاض فيها الجاحدون والمتشككون بغير علم ولا هدي عبر التاريخ, ولايزالون يستخدمون هذا الجحود والإنكار في معارضة قضية الإيمان بالله الخالق الباريء المصور, ويرد عليهم القرآن الكريم بقول الحق( تبارك وتعالى) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون( النحل:17). وقوله( تعالى) في السورة نفسها:والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون( النحل:20). وقوله( سبحانه وتعالى): واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون( الفرقان:3) وقوله( تبارك وتعالى): أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون, أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون( الطور:35 و36). وقوله( عز من قائل): قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأني تؤفكون( يونس:34). وقوله( تعالى) أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير, قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير( العنكبوت:19 ـ20).
موقف الحضارة الإسلامية من قضية الخلق
بعد بعثة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم) انطلق المسلمون من الإيمان بحقيقة الخلق, وحتمية البعث, ليقيموا على أساس من تلك العقيدة الربانية الخالصة) أعظم حضارة في التاريخ, لأنها كانت الحضارة الوحيدة التي جمعت بين الدنيا والآخرة في معادلة واحدة, واستمرت لأكثر من عشرة قرون كاملة, تدعو إلى عبادة الله( تعالى) بما أمر( على التوحيد الخالص لذاته العلية, والتنزيه الكامل لأسمائه وصفاته عن الشبيه والشريك والمنازع), وإلى حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض, وإقامة عدل الله فيها, على أساس من شرعه المنزل على خاتم أنبيائه ورسله, والذي تعهد( سبحانه وتعالى) بحفظه بنفس اللغة التي أنزل بها( كلمة كلمة وحرفا حرفا) فحفظ حتي لا يكون للناس على الله حجة بعد نزول هذا الوحي الخاتم, وتعهد الله( تعالى) بحفظه من الضياع أو التحريف. وبهذا الجمع المتزن بين وحي السماء والاجتهاد في كسب المعارف النافعة, حملت حضارة الإسلام مشاعل المعرفة في كل مناشط الحياة الدينية والعمرانية, وأقامت قاعدة صلبة للدين والعلم والتقنية, وآمنت بوحدة المعرفة, وبأن الحكمة هي ضالة المؤمن, أني وجدها فهو أولي الناس بها, فجمعت المعارف من مختلف مصادرها مهما تباعدت أماكنها, واختلفت الحضارات التي انبثقت عنها, ومعتقدات أصحابها, ولكنها لم تقبل تلك المعارف قبول التسليم, فقامت بغربلة تراث الإنسانية المتاح لها, بمعيار الإسلام العظيم القائم على أساس من التوحيد الخالص لله, وذلك لتطهير هذا التراث من أدران الشرك والكفر والجحود بالله, وأضافت اليه إضافات أصيلة عديدة في كل المجالات, مما مثل القاعدة التي انطلقت منها النهضة العلمية والتقنية المعاصرة, كما يعترف بذلك عدد غير قليل من العلماء المعاصرين غربيين وشرقيين. ولم يحل الإيمان بالغيب دون التقدم العلمي والتقني في الحضارة الإسلامية, بل حض عليه الإسلام حضا, واعتبره نمطا من أنماط عبادة الله( تعالى), والتفكر في خلقه, ووسيلة منهجية لاستقراء سنن الله في الكون, وتوظيفها في عمارة الأرض, وهي من واجبات الاستخلاف في الأرض, والوجه الثاني للعبادة التي يمثل وجهها الأول عبادة الله( تعالى) بما أمر, واتباع سنة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلى الله عليه وسلم).
موقف الحضارة المادية المعاصرة من قضية الخلق
انطلقت الحضارة المادية المعاصرة في الأصل من بوتقة الحضارة الإسلامية, ولكن على مغايرة من حضارة المسلمين, فإن الغرب بني حضارته على أساس من المادية البحتة, فنبذ الدين, ووقف موقف المنكر لقضية الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, الرافض لكل أمر غيبي, في عداء صريح, واستهجان أوضح, فتنكب الطريق, وضل ضلالا بعيدا ـ على الرغم من القدر الهائل من الكشوف العلمية, والانجازات التقنية المذهلة التي حققها, والتي يمكن أن تكون سببا في دماره في غيبة الالتزام الديني والروحي والأخلاقي, وصدق الله العظيم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون, فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين( الأنعام:44 ـ45).
وبنبذ الإيمان بالله, وصلت المجتمعات الغربية إلى مستوي متدن من التحلل الأخلاقي, والانهيار الاجتماعي, ومجافاة الفطرة التي فطر الله الخلق عليها, في وقت ملكت فيه من أسباب الغلبة المادية ما يمكن أن يعينها على الاستعلاء في الأرض, والتجبر على الخلق, ونشر المظالم بغير مراعاة لرب أو مخافة من حساب, مما يمكن أن يهدد البشرية بالفناء...!! ولاتزال المعارف الإنسانية بصفة عامة, والعلمية منها بصفة خاصة, تكتب إلى يومنا هذا, من منطلقات مادية صرفة, لا تؤمن إلا بالمدرك المحسوس, وتتنكر لكل ما هو فوق ذلك, فدارت بالمجتمعات الإنسانية في متاهات من الضياع, ضلت وأضلت, على الرغم من الكم الهائل من المعلومات التي تحتويها, وروعة التقنيات التي أنجزتها. وكان ضلال الحضارة المادية المعاصرة أبلغ ما يكون في القضايا التي لايمكن اخضاعها لإدراك الإنسان المباشر, من مثل قضايا الخلق والإفناء والبعث( خلق الكون, خلق الحياة, خلق الإنسان, ثم إفناء كل ذلك وإعادة خلقه من جديد), وهي من القضايا التي إذا خاض فيها الإنسان بغير هداية ربانية فإنه يضل ضلالا بعيدا, وصدق الله العظيم إذ يقول في الرد على هؤلاء الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51). وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم أن أحدا من الجن والإنس, لم يشهد خلق السماوات والأرض, ولا خلق نفسه, فإنه يؤكد ضرورة التفكر في خلق السماوات والأرض, وخلق الحياة لأن ذلك من أعظم الدلائل على طلاقة القدرة الإلهية, وكمال الصنعة الربانية, وعلى كل من حتمية الآخرة وضرورة البعث والحساب والجنة والنار, وذلك لأن الخالق( سبحانه وتعالي) قد ترك لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء ما يمكن أن يعين الإنسان على فهم قضيتي الخلق والبعث, بالرغم من محدودية قدراته الذهنية والحسية, واتساع الكون وضخامة أبعاده وتعقيد بنائه, وكذلك تعقيد بناء الجسد الإنساني وبناء خلاياه, وهي صورة رائعة لتسخير الكون للإنسان, وجعله في متناول إدراكه وحسه.
خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم:
من قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة, لخص لنا ربنا( تبارك وتعالي) في صياغة كلية شاملة عملية خلق السماوات والأرض, وإفنائهما وإعادة خلقهما من جديد, في خمس آيات من القرآن الكريم على النحو التالي: (1) والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47) (2) أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون( الأنبياء:30) (3) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11) (4) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين( الأنبياء:104) (5) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار( إبراهيم:48) وهذه الآيات الكريمات تشير إلى أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار, وإذا عدنا بهذا الاتساع إلى الوراء مع الزمن فلابد أن يتكدس على هيئة جرم واحد( مرحلة الرتق), وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله( مرحلة الفتق), فتحول إلى غلالة من الدخان( مرحلة الدخان), خلقت منه الأرض والسماوات( مرحلة الإتيان), وأن الكون منذ لحظة انفجاره في توسع مستمر, وأن هذا التوسع سوف يتوقف في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله, بأمر منه( تعالى), فيبدأ الكون في الانطواء على ذاته, والتكدس في جرم واحد كهيئة الجرم الابتدائي الأول, الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض, فتتكرر عملية الانفجار والتحول إلى الدخان الذي تخلق منه أرض غير أرضنا الحالية, وسماوات غير السماوات التي تظللنا في الحياة الدنيا, وهنا تنتهي رحلة الحياة الدنيا وتبدأ رحلة الآخرة, ومراحل الرتق والفتق والدخان, والاتيان بالسماوات والأرض, وتوسع السماء ثم طيها تعطينا كليات مراحل الخلق والإفناء والبعث دون الدخول في التفاصيل.وهذه الحقائق القرآنية لم يستطع الإنسان إدراك شيء منها إلا في أواخر القرن العشرين, مما يؤكد سبق القرآن الكريم للمعارف الإنسانية بأكثر من أربعة عشر قرنا, وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لايمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق, كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), بأنه كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, حيث إنه لم يكن لأحد علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله, وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله, وشمولها, وكمالها, وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني يتناسب مع المستوي العلمي للعصر, وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله.
بدايات تعرف الإنسان على ظاهرة توسع الكون
الى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين, ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره, في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكر للخالق( سبحانه وتعالى) حتي ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة دوبلر على حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا, ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر, كان العالم النمساوي دوبلر C.Dopplerقد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتا متصلا ذا طبقة صوتية ثابتة, ولكن هذه الطبقة الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد, وتهبط كلما ابتعد عنه, وفسر دوبلر السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عددا من الموجات الصوتية المتلاحقة في الهواء, وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطا شديدا كلما اقترب مصدر الصوت, فترتفع بذلك طبقة الصوت, وعلى النقيض من ذلك, فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتي تصل إلى سمع الراصد, فتنخفض بذلك طبقة الصوت.كذلك لاحظ دوبلر أن تلك الظاهرة تنطبق أيضا على الموجات الضوئية, فعندما يصل إلى عين الراصد ضوء منبعث من مصدر متحرك بسرعة كافية, يحدث تغير في تردد ذلك الضوء, فإذا كان المصدر يتحرك مقتربا من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المدرك نحو التردد العالي( أي نحو الطيف الأزرق), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الزرقاء, وإذا كان المصدر يتحرك مبتعدا عن الراصد, فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المنخفض( أي نحو الطرف الأحمر من الطيف), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الحمراء, وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جدا عنا. ففي سنة1914 م أدرك الفلكي الأمريكي سلايفرSlipher أنه بتطبيق ظاهرة دوبلر على الضوء القادم الينا من النجوم, في عدد من المجرات البعيدة عنا, ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة, وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك, وهل يمكن أن يشير إلى تمدد الكون المدرك بمعني تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة؟ وبحلول سنة1925, تمكن هذا الفلكي نفسهSlipher من إثبات أن أربعين مجرة قام برصدها تتحرك فعلا في معظمها بسرعات فائقة متباعدة عن مجرتنا( سكة التبانة), وعن بعضها البعض. وفي سنة1929 م تمكن الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هبلEdwin Hubble من الوصول إلى الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مؤداه: أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسبا طرديا مع بعدها عنا, والذي عرف من بعد باسم قانون هبل Hubble sLaw وبتطبيق هذا القانون تمكن هبل من قياس أبعاد العديد من المجرات, وسرعة تباعدها عنا, وذلك بمشاركة من مساعده ملتون هيوماسون Milton Humason الذي كان يعمل معه في مرصد جبل ولسون بولاية كاليفورنيا, وذلك في بحث نشراه معا في سنة1934 م. وقد أشار تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض, إلى حقيقة توسع الكون المدرك, التي أثارت جدلا واسعا بين علماء الفلك, الذين انقسموا فيها بين مؤيد ومعارض حتي ثبتت ثبوتا قاطعا بالعديد من المعادلات الرياضية والقراءات الفلكية في صفحة السماء.ففي سنة1917 م أطلق ألبرت أينشتاين A.Einstein نظريته عن النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية, وأشارت النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه غير ثابت, فهو إما أن يتمدد أو ينكمش وفقا لعدد من القوانين المحددة له, وجاء ذلك على عكس ما كان أينشتاين وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية يعتقدون, انطلاقا من محاولاتهم اليائسة لمعارضة الخلق, وقد أصاب أينشتاين الذعر عندما اكتشف أن معادلاته تنبيء, رغم أنفه, بأن الكون في حالة تمدد مستمر, ولذلك عمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني, ليلغي حقيقة تمدد الكون من أجل الادعاء بثباته واستقراره, ثم عاد ليعترف بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته. وقد قام العالم الهولندي وليام دي سيتر Williamde Sitter بنشر بحث في نفس السنة(1917 م) استنتج فيه تمدد الكون انطلاقا من النظرية النسبية ذاتها. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاعتقاد في تمدد الكون يلقي القبول من أعداد كبيرة من العلماء, فقد أجبرت ملاحظات كل من سلايفر(1914 م), ودي سيتر(1917 م), وهبل ومساعده هيوماسون(1934 م) جميع الفلكيين الممارسين, وعددا من المشتغلين بالفيزياء النظرية, وفي مقدمتهم ألبرت أينشتاين, ومجموعة البحث العلمي بجامعة كمبردج, والمكونة من كل من هيرمان بوندي Herman Bondi وتوماس جولد Thomas Goldوفريد هويل Fred Hoyle والتي ظلت إلى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين تنادي بثبات الكون, أملي الاعتراف بحقيقة توسع الكون المدرك. وسبحان الله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه قبل أكثر من ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق: والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47). وتشير هذه الآية الكريمة إلى عدد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة لأحد من الخلق, وقت تنزل القرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله, منها: أولا: أن السماء بناء محكم التشييد, دقيق التماسك والترابط, وليست فراغا كما كان يعتقد إلى عهد قريب, وقد ثبت علميا أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جدا من الغازات التي يغلب عليها غاز الإيدروجين, وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المتناهية في الصغر من المواد الصلبة, على هيئة غبار دقيق الحبيبات, يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم, والصوديوم, والبوتاسيوم, والتيتانيوم, والحديد, بالإضافة إلى جزيئات من بخار الماء, والأمونيا, والفورمالدهايد, وغيرها من المركبات الكيميائية. وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم, فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لتربط بينها في بناء محكم التشييد, متماسك الأطراف, وهذه حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين, بل في العقود المتأخرة منه. وعلى الرغم من رقة كثافة المادة في المسافات بين النجوم, والتي تصل إلى ذرة واحدة من الغاز في كل سنتيمتر مكعب تقريبا من المسافات البينية للنجوم, وإلى أقل من ذلك بالنسبة للمواد الصلبة( الغبار الكوني), إذا ما قورن بحوالي مليون مليون مليون جزئ(1810) في كل سنتيمتر مكعب من الهواء عند سطح الأرض, فإن كمية المادة في المسافات بين النجوم تبلغ قدرا مذهلا للغاية, فهي تقدر في مجرتنا( سكة التبانة) وحدها بعشرة بلايين ضعف ما في شمسنا من مادة, مما يمثل حوالي5% من مجموع كتلة تلك المجرة.
ثانيا: إن في الإشارة القرآنية الكريمة والسماء بنيناها بأيد أي بقوة وحكمة واقتدار, تلميحا إلى ضخامة الكون المذهلة, وإحكام صنعه, وانضباط حركاته, ودقة كل أمر من أموره, وثبات سننه, وتماسك أجزائه, وحفظه من التصدع أو الانهيار, فالسماء لغة هي كل ما علاك فأظلك, ومضمونا هي كل ما حول الأرض من أجرام ومادة وطاقة السماء, التي لايدرك العلم إلا جزءا يسيرا منها, ويحصي العلماء أن بالجزء المدرك من السماء الدنيا مائتي بليون من المجرات, بعضها أكبر كثيرا من مجرتنا( درب اللبانة أو سكة التبانة), وبعضها أصغر قليلا منها, وتتراوح أعداد النجوم في المجرات بين المليون والعشرة ملايين الملايين, وتمر هذه النجوم في مراحل من النمو مختلفة( الميلاد, الطفولة, الشباب, الكهولة, الشيخوخة ثم الوفاة), وكما أن لأقرب النجوم إلينا( وهي شمسنا) توابع من الكواكب والكويكبات, والأقمار, وغيرها فإن القياس يقتضي أن للنجوم الأخري توابع قد اكتشف عدد منها بالفعل, ويبقي الكثير مما لم يتم اكتشافه بعد.
ثالثا: تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الكون الشاسع الاتساع, الدقيق البناء, المحكم الحركة, والمنضبط في كل أمر من أموره, والثابت في سننه وقوانينه, قد خلقه الله( تعالى) بعلمه وحكمته وقدرته, وهو( سبحانه) الذي يحفظه من الزوال والانهيار, وهو القادر على كل شيء. والجزء المدرك لنا من هذا الكون شاسع الاتساع بصورة لايكاد عقل الإنسان إدراكها( إذ المسافات فيه تقدر ببلايين السنين الضوئية), وهو مستمر في الاتساع اليوم وإلى ما شاء الله, والتعبير القرآني وإنا لموسعون يشير إلى تلك السعة المذهلة, كما يشير إلى حقيقة توسع هذا الكون باستمرار إلى ما شاء الله, وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الثلاثة الأولي من القرن العشرين, حين ثبت لعلماء كل من الفيزياء النظرية والفلك أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تتزايد بتزايد بعدها عن مجرتنا, وتقترب أحيانا من سرعة الضوء( المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية).
والمجرات من حولنا تتراجع متباعدة عنا, وقد أدرك العلماء تلك الحقيقة من ظاهرة انزياح الموجات الطيفية للضوء الصادر عن نجوم المجرات الخارجة عنا في اتجاه الطيف الأحمر( الزحزحة إلى الطيف الأحمر, أو حتي دون الطيف الأحمر أحيانا), وقد أمكن قياس سرعة تحرك تلك المجرات في تراجعها عنا من خلال قياس خطوط الطيف لعدد من النجوم في تلك المجرات, وثبت أنها تتراوح بين60,000 كيلومتر في الثانية, و272,000 كيلومتر في الثانية.
وقد وجد العلماء أن مقدار الحيود في أطياف النجوم إلى الطيف الأحمر( أو حتي دون الأحمر في بعض الأحيان), يعبر عن سرعة ابتعاد تلك النجوم عنا, وأن هذه السرعة ذاتها يمكن استخدامها مقياسا لأبعاد تلك النجوم عنا.
رابعا: تشير ظاهرة توسع الكون إلى تخلق كل من المادة والطاقة, لتملآ المساحات الناتجة عن هذا التوسع, وذلك لأن كوننا تنتشر المادة فيه بكثافات متفاوتة, ولكنها متصلة بغير انقطاع, فلايوجد فيه مكان بلا زمان, كما لايوجد فيه مكان وزمان بغير مادة وطاقة, ولا يستطيع العلم حتي يومنا هذا, أن يحدد مصدر كل من المادة والطاقة اللتين تملآن المساحات الناتجة عن تمدد الكون, بتلك السرعات المذهلة, ولا تأويل لها إلا الخلق من العدم.
خامسا: أدي إثبات توسع الكون إلى التصور الصحيح بأننا اذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن, فلابد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة كما يلتقي كل من المكان والزمان في نقطة واحدة, وأدي ذلك إلى الاستنتاج الصحيح بأن الكون قد بدأ من نقطة واحدة بعملية انفجار عظيم, وهو مما يؤكد أن الكون مخلوق له بداية, وكل ما له بداية فلابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية, كما يؤكد حقيقة الخلق من العدم, لأن عملية تمدد الكون تقتضي خلق كل من المادة والطاقة بطريقة مستمرة ـ من حيث لايدرك العلماء ـ وذلك ليملآ( في التو والحال) المسافات الناشئة عن عملية تباعد المجرات عن بعضها البعض بسرعات مذهلة, وذلك لكي يحتفظ الكون بمستوي متوسط لكثافته التي نراه بها اليوم, وقد أجبرت هذه الملاحظات علماء الغرب على هجر معتقداتهم الخاطئة عن ثبات الكون, والتي دافعوا طويلا عنها, انطلاقا من ظنهم الباطل بأزلية الكون وأبديته, لكي يبالغوا في كفرهم بالخلق وجحودهم للخالق( سبحانه وتعالى).
هذه الاستنتاجات الكلية المهمة عن أصل الكون, وكيفية خلقه, وإبداع صنعه, وحتمية نهايته, أمكن الوصول اليها من ملاحظة توسع الكون, وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين, ودار حولها الجدل حتي سلم بها أهل العلم أخيرا, وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد, ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق( تبارك وتعالى), فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته, والذي أنزل لنا في خاتم كتبه, وعلى خاتم أنبيائه ورسله( صلى الله عليه وسلم) عددا من حقائق الكون الثابتة, ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال( عز من قائل): والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ( الذاريات:47) لتبقي هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية, شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله, وأن سيدنا ونبينا محمدا( صلى الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة
يشيرالقرآن الكريم في عدد من آياته, الي الكون والي العديد من مكوناته ( السماوات والأرض, وما بكل منهما من صور الأحياء والجمادات, والظواهر الكونية المختلفة), وتأتي هذه الآيات في مقام الاستدلال علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت هذا الكون, بجميع ما فيه ومن فيه, وفي مقام الاستدلال كذلك علي أن الإله الخالق الذي أبدع هذا الكون قادر علي إفنائه, وقادر علي إعادة خلقه من جديد, وذلك في معرض محاجة الكافرين والمشركين والمتشككين, وفي إثبات الألوهية لرب العالمين بغير شريك ولا شبيه ولا منازع. وكانت دعوى الكافرين منذ الأزل, وإلى يوم الدين, هي محاولة إنكار قضيتي الخلق والبعث بعد الإفناء, وهما من القضايا التي لا تقع تحت الإدراك المباشر للعلماء, علي الرغم من أن الله تعالى قد أبقي لنا في أديم الأرض, وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية الملموسة ما يمكن أن يعين المتفكرين المتدبرين من بني الإنسان علي إدراك حقيقة الخلق, وحتمية الإفناء والبعث, ويبقي فهم تفاصيل ذلك في غيبة من الهداية الربانية شيئا من الضرب في الظلام, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي) ردا علي الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51). وفي تشجيع الإنسان علي التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض يقول ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار( آل عمران:190 ـ191).
وكان لنزول هاتين الآيتين الكريمتين وما تلاهما من آيات في السورة نفسها, وقع شديد علي رسول الله( صلي الله عليه وسلم), الذي يروي عنه أنه قال عقب الوحي بها: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها.وواضح الأمر في ذلك أن التفكر في خلق السماوات والأرض فريضة إسلامية لابد من قيام نفر من المسلمين بها, لأنها عبادة من أجل وأعظم العبادات لله الخالق, ووسيلة من أعظم الوسائل للتعرف علي كل من حقيقة الخلق, وحتمية الافناء وضرورة البعث, وللتأكيد علي عظمة الخالق( سبحانه وتعالى), وعلي تفرده بالألوهية, والربوبية, والوحدانية, فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع, دقيق البناء, محكم الحركة, منضبط في كل أمر من أموره, مبني علي وتيرة واحدة من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته, وكون هذا شأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وجد بمحض المصادفة, أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه, بل لابد له من موجد عظيم, له من طلاقة القدرة, وكمال الحكمة, وشمول العلم ما أبدع به هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه, وهذا الخالق العظيم لاينازعه أحد في ملكه, ولا يشاركه أحد في سلطانه, لأنه رب هذا الكون ومليكه, ولا يشبهه أحد من خلقه, لأنه( تعالي) خالق كل شيء, وهو بالقطع فوق كل خلقه, لا يحده المكان, ولا الزمان لأنه( سبحانه) خالقهما, ولا يشكله أي من المادة أو الطاقة, لأنه( تعالى) مبدعهما, ولا نعرف عن ذاته العلية إلا ما عرف به نفسه بقوله( عز من قائل):ليس كمثله شيء وهو السميع البصير[ الشوري:11). وقوله( سبحانه) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله( صلى الله عليه وسلم): قل هو الله أحد, الله الصمد, لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد( الإخلاص:1 ـ4). من هنا كان التفكر في خلق السماوات والأرض مدخلا عظيما من مداخل الإيمان بالله, ولذا حض عليه القرآن الكريم, كما حضت عليه السنة النبوية المطهرة حضا كثيرا.تأكيد القرآن الكريم علي ما في السماوات والأرض من أدلة الخلق والإفناء والبعث يؤكد القرآن الكريم علي ما في السماوات والأرض من الأدلة, التي تنطق بطلاقة القدرة الإلهية في خلقهما وإبداعهما, كما تنطق بحتمية إفنائهما, وإعادة خلقهما من جديد في هيئة غير التي نراهما فيها اليوم, وذلك في عدد غير قليل من الآيات التي منها قوله( تعالي) وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق...( الأنعام:73). وقوله( سبحانه):خلق الله السماوات والأرض بالحق, إن في ذلك لآية للمؤمنين( العنكبوت:44) وقوله( عز من قائل):... ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمي, وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون( الروم:8) وقوله( تعالى):ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم,إن في ذلك لآيات للعالمين (الروم:22). وقوله( سبحانه):وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم( الروم:27). وقوله( سبحانه وتعالى): خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير( التغابن:3). وقوله( عز من قائل):خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ( الزمر:5). وقوله( سبحانه): لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون(غافر:57). وقوله( تعالى) ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (الشوري:29). وقوله( سبحانه وتعالى): وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين, ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون( الدخان:38 و39). تأكيد القرآن الكريم علي أن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء جاءت مادة خلق بمشتقاتها في القرآن الكريم مائتين وإحدي وستين(261) مرة, لتأكيد أن عملية الخلق هي عملية خاصة بالله( تعالى) وحده, لا يشاركه فيها أحد, ولا ينازعه عليها أحد, ولا يقدر عليها أحد غيره( سبحانه وتعالي) إلا بإذنه, كذلك وردت لفظة السماء في القرآن الكريم بالإفراد والجمع في ثلاثمائة وعشر(310) مواضع, منها مائة وعشرون(120) مرة بصيغة الإفراد( السماء), ومائة وتسعون(190) مرة بصيغة الجمع( السماوات) معرفة وغير معرفة, كما وردت لفظة الأرض بمشتقاتها في أربعمائة وواحد وستين(461) موضعا, وذلك في مقامات كثيرة تؤكد أن الله( تعالي) هو خالق السماوات والأرض, وخالق كل شيء, من مثل قوله( عز من قائل):ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو علي كل شيء وكيل( الأنعام:102). وقوله( سبحانه):ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( الأعراف:54). وقوله( تعالى):إنه يبدأ الخلق ثم يعيده...( يونس:41) وقوله( سبحانه وتعالى):.... قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار( الرعد:16). وقوله( تبارك وتعالى):.... وخلق كل شيء فقدره تقديرا( الفرقان:2) وقوله( عز من قائل):الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل( الزمر:62). وقوله( سبحانه):ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون( غافر:62). وقوله( تعالى) إنا كل شيء خلقناه بقدر( القمر:49). وقوله( سبحانه وتعالى هو الله الخالق الباريء المصور...( الحشر:24). هذا, وقد أفاض القرآن الكريم في حسم قضيتي الخلق والبعث بنسبتهما إلى الله( تعالي) وحده, وذلك لأن هاتين القضيتين كانتا من أصعب القضايا التي خاض فيها الجاحدون والمتشككون بغير علم ولا هدي عبر التاريخ, ولايزالون يستخدمون هذا الجحود والإنكار في معارضة قضية الإيمان بالله الخالق الباريء المصور, ويرد عليهم القرآن الكريم بقول الحق( تبارك وتعالى) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون( النحل:17). وقوله( تعالى) في السورة نفسها:والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون( النحل:20). وقوله( سبحانه وتعالى): واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون( الفرقان:3) وقوله( تبارك وتعالى): أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون, أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون( الطور:35 و36). وقوله( عز من قائل): قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأني تؤفكون( يونس:34). وقوله( تعالى) أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير, قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير( العنكبوت:19 ـ20).
موقف الحضارة الإسلامية من قضية الخلق
بعد بعثة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم) انطلق المسلمون من الإيمان بحقيقة الخلق, وحتمية البعث, ليقيموا على أساس من تلك العقيدة الربانية الخالصة) أعظم حضارة في التاريخ, لأنها كانت الحضارة الوحيدة التي جمعت بين الدنيا والآخرة في معادلة واحدة, واستمرت لأكثر من عشرة قرون كاملة, تدعو إلى عبادة الله( تعالى) بما أمر( على التوحيد الخالص لذاته العلية, والتنزيه الكامل لأسمائه وصفاته عن الشبيه والشريك والمنازع), وإلى حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض, وإقامة عدل الله فيها, على أساس من شرعه المنزل على خاتم أنبيائه ورسله, والذي تعهد( سبحانه وتعالى) بحفظه بنفس اللغة التي أنزل بها( كلمة كلمة وحرفا حرفا) فحفظ حتي لا يكون للناس على الله حجة بعد نزول هذا الوحي الخاتم, وتعهد الله( تعالى) بحفظه من الضياع أو التحريف. وبهذا الجمع المتزن بين وحي السماء والاجتهاد في كسب المعارف النافعة, حملت حضارة الإسلام مشاعل المعرفة في كل مناشط الحياة الدينية والعمرانية, وأقامت قاعدة صلبة للدين والعلم والتقنية, وآمنت بوحدة المعرفة, وبأن الحكمة هي ضالة المؤمن, أني وجدها فهو أولي الناس بها, فجمعت المعارف من مختلف مصادرها مهما تباعدت أماكنها, واختلفت الحضارات التي انبثقت عنها, ومعتقدات أصحابها, ولكنها لم تقبل تلك المعارف قبول التسليم, فقامت بغربلة تراث الإنسانية المتاح لها, بمعيار الإسلام العظيم القائم على أساس من التوحيد الخالص لله, وذلك لتطهير هذا التراث من أدران الشرك والكفر والجحود بالله, وأضافت اليه إضافات أصيلة عديدة في كل المجالات, مما مثل القاعدة التي انطلقت منها النهضة العلمية والتقنية المعاصرة, كما يعترف بذلك عدد غير قليل من العلماء المعاصرين غربيين وشرقيين. ولم يحل الإيمان بالغيب دون التقدم العلمي والتقني في الحضارة الإسلامية, بل حض عليه الإسلام حضا, واعتبره نمطا من أنماط عبادة الله( تعالى), والتفكر في خلقه, ووسيلة منهجية لاستقراء سنن الله في الكون, وتوظيفها في عمارة الأرض, وهي من واجبات الاستخلاف في الأرض, والوجه الثاني للعبادة التي يمثل وجهها الأول عبادة الله( تعالى) بما أمر, واتباع سنة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلى الله عليه وسلم).
موقف الحضارة المادية المعاصرة من قضية الخلق
انطلقت الحضارة المادية المعاصرة في الأصل من بوتقة الحضارة الإسلامية, ولكن على مغايرة من حضارة المسلمين, فإن الغرب بني حضارته على أساس من المادية البحتة, فنبذ الدين, ووقف موقف المنكر لقضية الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, الرافض لكل أمر غيبي, في عداء صريح, واستهجان أوضح, فتنكب الطريق, وضل ضلالا بعيدا ـ على الرغم من القدر الهائل من الكشوف العلمية, والانجازات التقنية المذهلة التي حققها, والتي يمكن أن تكون سببا في دماره في غيبة الالتزام الديني والروحي والأخلاقي, وصدق الله العظيم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون, فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين( الأنعام:44 ـ45).
وبنبذ الإيمان بالله, وصلت المجتمعات الغربية إلى مستوي متدن من التحلل الأخلاقي, والانهيار الاجتماعي, ومجافاة الفطرة التي فطر الله الخلق عليها, في وقت ملكت فيه من أسباب الغلبة المادية ما يمكن أن يعينها على الاستعلاء في الأرض, والتجبر على الخلق, ونشر المظالم بغير مراعاة لرب أو مخافة من حساب, مما يمكن أن يهدد البشرية بالفناء...!! ولاتزال المعارف الإنسانية بصفة عامة, والعلمية منها بصفة خاصة, تكتب إلى يومنا هذا, من منطلقات مادية صرفة, لا تؤمن إلا بالمدرك المحسوس, وتتنكر لكل ما هو فوق ذلك, فدارت بالمجتمعات الإنسانية في متاهات من الضياع, ضلت وأضلت, على الرغم من الكم الهائل من المعلومات التي تحتويها, وروعة التقنيات التي أنجزتها. وكان ضلال الحضارة المادية المعاصرة أبلغ ما يكون في القضايا التي لايمكن اخضاعها لإدراك الإنسان المباشر, من مثل قضايا الخلق والإفناء والبعث( خلق الكون, خلق الحياة, خلق الإنسان, ثم إفناء كل ذلك وإعادة خلقه من جديد), وهي من القضايا التي إذا خاض فيها الإنسان بغير هداية ربانية فإنه يضل ضلالا بعيدا, وصدق الله العظيم إذ يقول في الرد على هؤلاء الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51). وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم أن أحدا من الجن والإنس, لم يشهد خلق السماوات والأرض, ولا خلق نفسه, فإنه يؤكد ضرورة التفكر في خلق السماوات والأرض, وخلق الحياة لأن ذلك من أعظم الدلائل على طلاقة القدرة الإلهية, وكمال الصنعة الربانية, وعلى كل من حتمية الآخرة وضرورة البعث والحساب والجنة والنار, وذلك لأن الخالق( سبحانه وتعالي) قد ترك لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء ما يمكن أن يعين الإنسان على فهم قضيتي الخلق والبعث, بالرغم من محدودية قدراته الذهنية والحسية, واتساع الكون وضخامة أبعاده وتعقيد بنائه, وكذلك تعقيد بناء الجسد الإنساني وبناء خلاياه, وهي صورة رائعة لتسخير الكون للإنسان, وجعله في متناول إدراكه وحسه.
خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم:
من قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة, لخص لنا ربنا( تبارك وتعالي) في صياغة كلية شاملة عملية خلق السماوات والأرض, وإفنائهما وإعادة خلقهما من جديد, في خمس آيات من القرآن الكريم على النحو التالي: (1) والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47) (2) أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون( الأنبياء:30) (3) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11) (4) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين( الأنبياء:104) (5) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار( إبراهيم:48) وهذه الآيات الكريمات تشير إلى أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار, وإذا عدنا بهذا الاتساع إلى الوراء مع الزمن فلابد أن يتكدس على هيئة جرم واحد( مرحلة الرتق), وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله( مرحلة الفتق), فتحول إلى غلالة من الدخان( مرحلة الدخان), خلقت منه الأرض والسماوات( مرحلة الإتيان), وأن الكون منذ لحظة انفجاره في توسع مستمر, وأن هذا التوسع سوف يتوقف في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله, بأمر منه( تعالى), فيبدأ الكون في الانطواء على ذاته, والتكدس في جرم واحد كهيئة الجرم الابتدائي الأول, الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض, فتتكرر عملية الانفجار والتحول إلى الدخان الذي تخلق منه أرض غير أرضنا الحالية, وسماوات غير السماوات التي تظللنا في الحياة الدنيا, وهنا تنتهي رحلة الحياة الدنيا وتبدأ رحلة الآخرة, ومراحل الرتق والفتق والدخان, والاتيان بالسماوات والأرض, وتوسع السماء ثم طيها تعطينا كليات مراحل الخلق والإفناء والبعث دون الدخول في التفاصيل.وهذه الحقائق القرآنية لم يستطع الإنسان إدراك شيء منها إلا في أواخر القرن العشرين, مما يؤكد سبق القرآن الكريم للمعارف الإنسانية بأكثر من أربعة عشر قرنا, وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لايمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق, كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), بأنه كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, حيث إنه لم يكن لأحد علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله, وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله, وشمولها, وكمالها, وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني يتناسب مع المستوي العلمي للعصر, وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله.
بدايات تعرف الإنسان على ظاهرة توسع الكون
الى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين, ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره, في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكر للخالق( سبحانه وتعالى) حتي ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة دوبلر على حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا, ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر, كان العالم النمساوي دوبلر C.Dopplerقد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتا متصلا ذا طبقة صوتية ثابتة, ولكن هذه الطبقة الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد, وتهبط كلما ابتعد عنه, وفسر دوبلر السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عددا من الموجات الصوتية المتلاحقة في الهواء, وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطا شديدا كلما اقترب مصدر الصوت, فترتفع بذلك طبقة الصوت, وعلى النقيض من ذلك, فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتي تصل إلى سمع الراصد, فتنخفض بذلك طبقة الصوت.كذلك لاحظ دوبلر أن تلك الظاهرة تنطبق أيضا على الموجات الضوئية, فعندما يصل إلى عين الراصد ضوء منبعث من مصدر متحرك بسرعة كافية, يحدث تغير في تردد ذلك الضوء, فإذا كان المصدر يتحرك مقتربا من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المدرك نحو التردد العالي( أي نحو الطيف الأزرق), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الزرقاء, وإذا كان المصدر يتحرك مبتعدا عن الراصد, فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المنخفض( أي نحو الطرف الأحمر من الطيف), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الحمراء, وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جدا عنا. ففي سنة1914 م أدرك الفلكي الأمريكي سلايفرSlipher أنه بتطبيق ظاهرة دوبلر على الضوء القادم الينا من النجوم, في عدد من المجرات البعيدة عنا, ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة, وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك, وهل يمكن أن يشير إلى تمدد الكون المدرك بمعني تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة؟ وبحلول سنة1925, تمكن هذا الفلكي نفسهSlipher من إثبات أن أربعين مجرة قام برصدها تتحرك فعلا في معظمها بسرعات فائقة متباعدة عن مجرتنا( سكة التبانة), وعن بعضها البعض. وفي سنة1929 م تمكن الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هبلEdwin Hubble من الوصول إلى الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مؤداه: أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسبا طرديا مع بعدها عنا, والذي عرف من بعد باسم قانون هبل Hubble sLaw وبتطبيق هذا القانون تمكن هبل من قياس أبعاد العديد من المجرات, وسرعة تباعدها عنا, وذلك بمشاركة من مساعده ملتون هيوماسون Milton Humason الذي كان يعمل معه في مرصد جبل ولسون بولاية كاليفورنيا, وذلك في بحث نشراه معا في سنة1934 م. وقد أشار تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض, إلى حقيقة توسع الكون المدرك, التي أثارت جدلا واسعا بين علماء الفلك, الذين انقسموا فيها بين مؤيد ومعارض حتي ثبتت ثبوتا قاطعا بالعديد من المعادلات الرياضية والقراءات الفلكية في صفحة السماء.ففي سنة1917 م أطلق ألبرت أينشتاين A.Einstein نظريته عن النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية, وأشارت النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه غير ثابت, فهو إما أن يتمدد أو ينكمش وفقا لعدد من القوانين المحددة له, وجاء ذلك على عكس ما كان أينشتاين وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية يعتقدون, انطلاقا من محاولاتهم اليائسة لمعارضة الخلق, وقد أصاب أينشتاين الذعر عندما اكتشف أن معادلاته تنبيء, رغم أنفه, بأن الكون في حالة تمدد مستمر, ولذلك عمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني, ليلغي حقيقة تمدد الكون من أجل الادعاء بثباته واستقراره, ثم عاد ليعترف بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته. وقد قام العالم الهولندي وليام دي سيتر Williamde Sitter بنشر بحث في نفس السنة(1917 م) استنتج فيه تمدد الكون انطلاقا من النظرية النسبية ذاتها. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاعتقاد في تمدد الكون يلقي القبول من أعداد كبيرة من العلماء, فقد أجبرت ملاحظات كل من سلايفر(1914 م), ودي سيتر(1917 م), وهبل ومساعده هيوماسون(1934 م) جميع الفلكيين الممارسين, وعددا من المشتغلين بالفيزياء النظرية, وفي مقدمتهم ألبرت أينشتاين, ومجموعة البحث العلمي بجامعة كمبردج, والمكونة من كل من هيرمان بوندي Herman Bondi وتوماس جولد Thomas Goldوفريد هويل Fred Hoyle والتي ظلت إلى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين تنادي بثبات الكون, أملي الاعتراف بحقيقة توسع الكون المدرك. وسبحان الله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه قبل أكثر من ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق: والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47). وتشير هذه الآية الكريمة إلى عدد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة لأحد من الخلق, وقت تنزل القرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله, منها: أولا: أن السماء بناء محكم التشييد, دقيق التماسك والترابط, وليست فراغا كما كان يعتقد إلى عهد قريب, وقد ثبت علميا أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جدا من الغازات التي يغلب عليها غاز الإيدروجين, وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المتناهية في الصغر من المواد الصلبة, على هيئة غبار دقيق الحبيبات, يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم, والصوديوم, والبوتاسيوم, والتيتانيوم, والحديد, بالإضافة إلى جزيئات من بخار الماء, والأمونيا, والفورمالدهايد, وغيرها من المركبات الكيميائية. وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم, فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لتربط بينها في بناء محكم التشييد, متماسك الأطراف, وهذه حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين, بل في العقود المتأخرة منه. وعلى الرغم من رقة كثافة المادة في المسافات بين النجوم, والتي تصل إلى ذرة واحدة من الغاز في كل سنتيمتر مكعب تقريبا من المسافات البينية للنجوم, وإلى أقل من ذلك بالنسبة للمواد الصلبة( الغبار الكوني), إذا ما قورن بحوالي مليون مليون مليون جزئ(1810) في كل سنتيمتر مكعب من الهواء عند سطح الأرض, فإن كمية المادة في المسافات بين النجوم تبلغ قدرا مذهلا للغاية, فهي تقدر في مجرتنا( سكة التبانة) وحدها بعشرة بلايين ضعف ما في شمسنا من مادة, مما يمثل حوالي5% من مجموع كتلة تلك المجرة.
ثانيا: إن في الإشارة القرآنية الكريمة والسماء بنيناها بأيد أي بقوة وحكمة واقتدار, تلميحا إلى ضخامة الكون المذهلة, وإحكام صنعه, وانضباط حركاته, ودقة كل أمر من أموره, وثبات سننه, وتماسك أجزائه, وحفظه من التصدع أو الانهيار, فالسماء لغة هي كل ما علاك فأظلك, ومضمونا هي كل ما حول الأرض من أجرام ومادة وطاقة السماء, التي لايدرك العلم إلا جزءا يسيرا منها, ويحصي العلماء أن بالجزء المدرك من السماء الدنيا مائتي بليون من المجرات, بعضها أكبر كثيرا من مجرتنا( درب اللبانة أو سكة التبانة), وبعضها أصغر قليلا منها, وتتراوح أعداد النجوم في المجرات بين المليون والعشرة ملايين الملايين, وتمر هذه النجوم في مراحل من النمو مختلفة( الميلاد, الطفولة, الشباب, الكهولة, الشيخوخة ثم الوفاة), وكما أن لأقرب النجوم إلينا( وهي شمسنا) توابع من الكواكب والكويكبات, والأقمار, وغيرها فإن القياس يقتضي أن للنجوم الأخري توابع قد اكتشف عدد منها بالفعل, ويبقي الكثير مما لم يتم اكتشافه بعد.
ثالثا: تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الكون الشاسع الاتساع, الدقيق البناء, المحكم الحركة, والمنضبط في كل أمر من أموره, والثابت في سننه وقوانينه, قد خلقه الله( تعالى) بعلمه وحكمته وقدرته, وهو( سبحانه) الذي يحفظه من الزوال والانهيار, وهو القادر على كل شيء. والجزء المدرك لنا من هذا الكون شاسع الاتساع بصورة لايكاد عقل الإنسان إدراكها( إذ المسافات فيه تقدر ببلايين السنين الضوئية), وهو مستمر في الاتساع اليوم وإلى ما شاء الله, والتعبير القرآني وإنا لموسعون يشير إلى تلك السعة المذهلة, كما يشير إلى حقيقة توسع هذا الكون باستمرار إلى ما شاء الله, وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الثلاثة الأولي من القرن العشرين, حين ثبت لعلماء كل من الفيزياء النظرية والفلك أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تتزايد بتزايد بعدها عن مجرتنا, وتقترب أحيانا من سرعة الضوء( المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية).
والمجرات من حولنا تتراجع متباعدة عنا, وقد أدرك العلماء تلك الحقيقة من ظاهرة انزياح الموجات الطيفية للضوء الصادر عن نجوم المجرات الخارجة عنا في اتجاه الطيف الأحمر( الزحزحة إلى الطيف الأحمر, أو حتي دون الطيف الأحمر أحيانا), وقد أمكن قياس سرعة تحرك تلك المجرات في تراجعها عنا من خلال قياس خطوط الطيف لعدد من النجوم في تلك المجرات, وثبت أنها تتراوح بين60,000 كيلومتر في الثانية, و272,000 كيلومتر في الثانية.
وقد وجد العلماء أن مقدار الحيود في أطياف النجوم إلى الطيف الأحمر( أو حتي دون الأحمر في بعض الأحيان), يعبر عن سرعة ابتعاد تلك النجوم عنا, وأن هذه السرعة ذاتها يمكن استخدامها مقياسا لأبعاد تلك النجوم عنا.
رابعا: تشير ظاهرة توسع الكون إلى تخلق كل من المادة والطاقة, لتملآ المساحات الناتجة عن هذا التوسع, وذلك لأن كوننا تنتشر المادة فيه بكثافات متفاوتة, ولكنها متصلة بغير انقطاع, فلايوجد فيه مكان بلا زمان, كما لايوجد فيه مكان وزمان بغير مادة وطاقة, ولا يستطيع العلم حتي يومنا هذا, أن يحدد مصدر كل من المادة والطاقة اللتين تملآن المساحات الناتجة عن تمدد الكون, بتلك السرعات المذهلة, ولا تأويل لها إلا الخلق من العدم.
خامسا: أدي إثبات توسع الكون إلى التصور الصحيح بأننا اذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن, فلابد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة كما يلتقي كل من المكان والزمان في نقطة واحدة, وأدي ذلك إلى الاستنتاج الصحيح بأن الكون قد بدأ من نقطة واحدة بعملية انفجار عظيم, وهو مما يؤكد أن الكون مخلوق له بداية, وكل ما له بداية فلابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية, كما يؤكد حقيقة الخلق من العدم, لأن عملية تمدد الكون تقتضي خلق كل من المادة والطاقة بطريقة مستمرة ـ من حيث لايدرك العلماء ـ وذلك ليملآ( في التو والحال) المسافات الناشئة عن عملية تباعد المجرات عن بعضها البعض بسرعات مذهلة, وذلك لكي يحتفظ الكون بمستوي متوسط لكثافته التي نراه بها اليوم, وقد أجبرت هذه الملاحظات علماء الغرب على هجر معتقداتهم الخاطئة عن ثبات الكون, والتي دافعوا طويلا عنها, انطلاقا من ظنهم الباطل بأزلية الكون وأبديته, لكي يبالغوا في كفرهم بالخلق وجحودهم للخالق( سبحانه وتعالى).
هذه الاستنتاجات الكلية المهمة عن أصل الكون, وكيفية خلقه, وإبداع صنعه, وحتمية نهايته, أمكن الوصول اليها من ملاحظة توسع الكون, وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين, ودار حولها الجدل حتي سلم بها أهل العلم أخيرا, وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد, ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق( تبارك وتعالى), فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته, والذي أنزل لنا في خاتم كتبه, وعلى خاتم أنبيائه ورسله( صلى الله عليه وسلم) عددا من حقائق الكون الثابتة, ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال( عز من قائل): والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ( الذاريات:47) لتبقي هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية, شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله, وأن سيدنا ونبينا محمدا( صلى الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة