اميرة
15-04-2012, 03:48 PM
المؤمن بين الإخلاص والرياء
عباد الله ..
إنَّ الإخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة المرسلين .. قال سبحانه : { وَ مَنْ أَحْسَنُ دِينَاً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِن } .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلّم : ( من تعلَّم علماً مما يُبتغى به وجه الله عزَّ وجل لا يتعلَّمه إلاَّ ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ـ يعني ريحها ـ يوم القيامة ) رواه أبو دواد .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً .
أحبتي ..قد يقول قائل ماهو الإخلاص الذي يأتي في الكتاب والسنة وفي استعمال السلف الصالح رحمهم الله ..
فأقول : لقد تنوَّعت تعاريف العلماء للإخلاص ، ولكنها تصبُّ في معين واحد
ألا وهو أن يكون قصد الإنسان في سكناته وحركاته وعباداته الظاهرة والباطنة خالصة لوجه الله تعالى لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس .
قال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد بن حنبل ـ سألته عن النية في العمل ، قلت : كيف النية ، قال : يعالج نفسه إذا أراد عملاً لا يريد به الناس ..أن يعالج نفسه فإذا أراد عملاً لا يريد به إلا وجه الله تبارك تعالى ..
قال أحد العلماء : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا : أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا .
عباد الله ..
إنَّ شأن الإخلاص.. إنَّ شأن الإخلاص مع العبادات بل مع جميع الأعمال ، حتى المباحة لعجيب جداً ..
فبالإخلاص يعطي الله على القليل الكثير ، وبالرياء وترك الإخلاص لا يعطي الله على الكثير شيئاً ، ورُبَّ درهم سبق مئة ألف درهم ..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والنوع الواحد من العمل ... والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمن فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله به كبائر الذنوب ، كما في حديث البطاقة ..
وحديث البطاقة كما أخرجه الترمذي وحسنَّه النسائي وابن حبَّان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة .. يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فيُنشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجِّلٍ منها مدَّ البصر ، ثم يقال : أتنكر من هذا شيئاً !! أظلمك كتبتي الحافظون !! فيقول : لا يا ربي ، فيُقال : أفَلك عذر أو حسنة فيها ؟! فيقول الرجل : لا يا ربي ، فيُقال : بلى .إنَّ لك عندنا حسنة ..إنَّ لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيُخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : يا ربّي ما هذه البطاقة !.. ما هذه البطاقة ، وما تصنع مع هذه السجلات من الذنوب ! ، فيُقال : إنك لا تظلم اليوم . فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة ، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة ) صححه االذهبي رحمه الله .
قال ابن القيم رحمه الله : فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضلها في القلوب ، فتكون صورة العملين واحدة ، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض .
قال : ومن تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ، ويقابلها تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مدَّ البصر تثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يُعذَّب صاحبها ..
ومعلوم أنَّ كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه لقلة إخلاصه في توحيده لربِّه تبارك وتعالى .
ومن هذا أيضاً : حديث الرجل الذي سقى الكلب .. وفي رواية بغيٌ من بغايا بني إسرائيل ـ زانية ـ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قالبينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد بلغ مني ، فنزل البئر فملاً خفه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له ) ، قالوا : يا رسول الله إنَّ لنا في البهائم أجراً ، فقال : ( في كل كبدٍ رطبة أجر ) متفق عليه .
وفي رواية البخاري ( فشكرالله له فغفر له فأدخله الجنة ).
قد ترى أنَّ العمل بسيط ، لكن خالط من العمل الإخلاص الشيء الكثير .
ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لقد رأيت رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين ) ، وفي رواية : ( مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال : والله لأنحينَّ هذا .. والله لأنحينَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة ) ..
بعمل بسيط أخلصه لله ربِّ العالمين كان سبباً في دخوله الجنة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله معلقاً على هذا الحديث ـ حديث البغي التي سقت الكلب ـ ، وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق .. قال رحمه الله : فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر الله لها ، وإلا فليست كل بغي سقت كلباً يُغفر لها .
فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال ..
إنه سرُّ الإخلاص الذي أودعه الله قلوب عباده الصادقين..
عباد الله ..
وفي المقابل نجد أنَّ أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله لا قيمة لها ولا ثواب لها عليها ، بل صاحبها معرَّض للوعيد الشديد ، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير ، والقتال ، بل وطلب العلم الشرعي ، كما جاء في حديث أبو هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَم يقول : ( إنَّ أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ اُستشهد فأُتي به فعرَّفه نعمته فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟! قال : قاتلت فيك حتى اُستشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ليقال جرئ و لقد قيل ، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ..
وآخر تعلَّم العلم وعلَّمه ، وقرأ القرآن . فأُتي به فعرَّفه الله بنعمته عليه فعرفها ، قال : فما عملت ؟! قال : تعلَّمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت .ولكن تعلَّمت ليقال عالم و قارئ و قد قيل ، ثم يؤمر به فيُسحب على وجهه في النار فيُلقى فيها والعياذ بالله.
وآخر وسَّع الله عليه وأعطاه من صنوف المال. فأُتي به فعرَّفه الله نعمه عليه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ، ألا أنفقت فيها ؟!، قال : ما تركت من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها لك إلا أنفقت فيه ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال جواد وقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار )
إنه الإخلاص الذي يجعل للأعمال قيمة عند الله تبارك وتعالى ، فلا إنفاق، ولا استشهاد ، ولا قراءة قرآن ... إلا بالإخلاص لله ربِّ العالمين
عباد الله ..
من أجل ذلك فقد كان سلفنا الصالح من أشدِّ الناس خوفاً على أعمالهم من أن يخالطها الرياء أو تشوبها شائبة الشرك فكانوا رحمهم الله يجاهدون أنفسهم في أعمالهم وأقوالهم كي تكون خالصة لوجه الله تبارك وتعالى .
ولذلك لما حدَّث يزيد بن هارون بحديث عمر رضي الله عنه : ( إنما الأعمال بالنيات ) والإمام أحمد جالس ، فقال الإمام أحمد ليزيد : يا أبا خالد : هذا والله هو الخناق ..هذا والله هو الخناق أن تجعل عملك خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى.
وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشدّ عليَّ من نيتي لأنها تتقلب عليَّ في كل حين .
وقال يوسف بن أسباط : تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وقال بعض السلف : من سرَّه أن يُكمَّل له عمله فليُحسِّن نيته فإنَّ الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسن نيته حتى باللقمة يأكلها
قال سهل بن عبدالله التستري : ليس على النفس شيءٌ أشقُّ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب .
وقال ابن عيينة : كان من دعاء المطرِّف بن عبد الله : اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك ، فخالط قلبي منه ما قد علمت .
وهذا خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته من الطلاب ، قام خوف الشهرة والرياء.
وهذا محمد بن المنكدر يقول : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت على طاعة الله.
وهذا أيوب السختياني كان يقوم الليل كله فإذا جاء الصباح رفع صوته كأنه قد استيقظ من حينه .
وكان رحمه الله إذا حدَّث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم يشتدُّ عليه البكاء وهو في حلقته ، فكان يشدُّ العمامة على عينه ويقول : ما أشدَّ الزكام.. ما أشدَّ الزكام..
وهذا عبد الواحد بن زيد يخبرنا بحديث عجيب حصل لأيوب وقد عاهده ألاَّ يخبر إلا أن يموت أيوب ـ إذ لا رياء يومئذ ـ ، قال عبدالواحد : كنت مع أيوب فعطشنا عطشاً شديداً حتى كدنا نهلك ، فقال أيوب : تستر علي ، قلت : نعم إلا أن تموت، قال : عبد الواحد فغمز أيوب برجله على حِراءٍ فتفجَّر منه الماء فشربت حتى رويت وحملت معي.
كانت بينهم وبين الله أسرار لو أقسم منهم على الله أحد لأبرَّه إلا لإخلاصهم وصدقهم مع الله تبارك وتعالى .
وقال أبو حازم :لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين ربه إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد ، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله إلا أعوَّر الله ما بينه وبين العباد ، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها.
هذا داود ابن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله .. كان له دكَّان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به ، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به ، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله ...
أربعين سنة وهم لا يدرون بصيامه .
وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته .
سبحان الله..انظر كيف ربّوا أنفسهم على الإخلاص وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة.. فهذه زوجته تضاجعه وينام معها ، ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به وبقيامه ..
أي إخفاء للعمل كهذا ! ، وأي إخلاص كهذا !، وأي أسرار كانت بينهم وبين الله !.
فأين بعض المسلمين اليوم ؟! أين بعض المسلمين اليوم الذي يحدِّث جميع أعماله ، ولربما قام ليلة من الدهر لعلم به الأقارب والجيران والأصدقاء ..
ولو تصدَّق بصدقة أو أهدى هدية أو تبَّرع بمال أو عقار أو غير ذلك لعلمت الأمة في شرقها وغربها.
إني لأعجب من هؤلاء! أهم أكمل إيماناً وأقوى إخلاصاً من هؤلاء السلف ، بحيث أنَّ السلف يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم وهؤلاء يظهرونها لكمال الإيمان ..
عجباً ثم عجباً ...
أوصيك أيها الغالي ..
إذا أردت أن يحبك الله ، وأن تنال رضاه فما عليك إلا بصدقات مخفية لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك فضلاً أن يعلمه الناس .
وما عليك إلا بركعات إمامُها الخشوع ، وقائدها الإخلاص تركعها في ظلمات الليل بحيث لا يراك إلا الله ، ولا يعلم بك أحد ..
فلما أخفوا أعمالهم أخفى الله لهم من الأجر ما الله به عليم { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
إنَّ تربية النفس على مثل هذه الأعمال لهو أبعد لها عن الرياء وأكمل لها في الإخلاص.
وقد كان محمد بن سيرين رحمه الله يضحك في النهار حتى تدمع عينه ، فإذا جاء الليل قطعه بالبكاء والصلاة .. ومن خير الناس ( بسَّام بالنهار بكَّاءٌ في الليل )
الإخلاص سرٌّ بين العبد وبين ربّه لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه ، ولا شيطانٌ فيفسده .
اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا واجعلها خالصة لوجهك ثواباً على سنّة رسولك
عباد الله ..
إنَّ الإخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة المرسلين .. قال سبحانه : { وَ مَنْ أَحْسَنُ دِينَاً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِن } .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلّم : ( من تعلَّم علماً مما يُبتغى به وجه الله عزَّ وجل لا يتعلَّمه إلاَّ ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ـ يعني ريحها ـ يوم القيامة ) رواه أبو دواد .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً .
أحبتي ..قد يقول قائل ماهو الإخلاص الذي يأتي في الكتاب والسنة وفي استعمال السلف الصالح رحمهم الله ..
فأقول : لقد تنوَّعت تعاريف العلماء للإخلاص ، ولكنها تصبُّ في معين واحد
ألا وهو أن يكون قصد الإنسان في سكناته وحركاته وعباداته الظاهرة والباطنة خالصة لوجه الله تعالى لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس .
قال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد بن حنبل ـ سألته عن النية في العمل ، قلت : كيف النية ، قال : يعالج نفسه إذا أراد عملاً لا يريد به الناس ..أن يعالج نفسه فإذا أراد عملاً لا يريد به إلا وجه الله تبارك تعالى ..
قال أحد العلماء : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا : أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا .
عباد الله ..
إنَّ شأن الإخلاص.. إنَّ شأن الإخلاص مع العبادات بل مع جميع الأعمال ، حتى المباحة لعجيب جداً ..
فبالإخلاص يعطي الله على القليل الكثير ، وبالرياء وترك الإخلاص لا يعطي الله على الكثير شيئاً ، ورُبَّ درهم سبق مئة ألف درهم ..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والنوع الواحد من العمل ... والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمن فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله به كبائر الذنوب ، كما في حديث البطاقة ..
وحديث البطاقة كما أخرجه الترمذي وحسنَّه النسائي وابن حبَّان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة .. يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فيُنشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجِّلٍ منها مدَّ البصر ، ثم يقال : أتنكر من هذا شيئاً !! أظلمك كتبتي الحافظون !! فيقول : لا يا ربي ، فيُقال : أفَلك عذر أو حسنة فيها ؟! فيقول الرجل : لا يا ربي ، فيُقال : بلى .إنَّ لك عندنا حسنة ..إنَّ لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيُخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : يا ربّي ما هذه البطاقة !.. ما هذه البطاقة ، وما تصنع مع هذه السجلات من الذنوب ! ، فيُقال : إنك لا تظلم اليوم . فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة ، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة ) صححه االذهبي رحمه الله .
قال ابن القيم رحمه الله : فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضلها في القلوب ، فتكون صورة العملين واحدة ، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض .
قال : ومن تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ، ويقابلها تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مدَّ البصر تثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يُعذَّب صاحبها ..
ومعلوم أنَّ كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه لقلة إخلاصه في توحيده لربِّه تبارك وتعالى .
ومن هذا أيضاً : حديث الرجل الذي سقى الكلب .. وفي رواية بغيٌ من بغايا بني إسرائيل ـ زانية ـ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قالبينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد بلغ مني ، فنزل البئر فملاً خفه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له ) ، قالوا : يا رسول الله إنَّ لنا في البهائم أجراً ، فقال : ( في كل كبدٍ رطبة أجر ) متفق عليه .
وفي رواية البخاري ( فشكرالله له فغفر له فأدخله الجنة ).
قد ترى أنَّ العمل بسيط ، لكن خالط من العمل الإخلاص الشيء الكثير .
ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لقد رأيت رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين ) ، وفي رواية : ( مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال : والله لأنحينَّ هذا .. والله لأنحينَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة ) ..
بعمل بسيط أخلصه لله ربِّ العالمين كان سبباً في دخوله الجنة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله معلقاً على هذا الحديث ـ حديث البغي التي سقت الكلب ـ ، وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق .. قال رحمه الله : فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر الله لها ، وإلا فليست كل بغي سقت كلباً يُغفر لها .
فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال ..
إنه سرُّ الإخلاص الذي أودعه الله قلوب عباده الصادقين..
عباد الله ..
وفي المقابل نجد أنَّ أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله لا قيمة لها ولا ثواب لها عليها ، بل صاحبها معرَّض للوعيد الشديد ، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير ، والقتال ، بل وطلب العلم الشرعي ، كما جاء في حديث أبو هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَم يقول : ( إنَّ أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ اُستشهد فأُتي به فعرَّفه نعمته فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟! قال : قاتلت فيك حتى اُستشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ليقال جرئ و لقد قيل ، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ..
وآخر تعلَّم العلم وعلَّمه ، وقرأ القرآن . فأُتي به فعرَّفه الله بنعمته عليه فعرفها ، قال : فما عملت ؟! قال : تعلَّمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت .ولكن تعلَّمت ليقال عالم و قارئ و قد قيل ، ثم يؤمر به فيُسحب على وجهه في النار فيُلقى فيها والعياذ بالله.
وآخر وسَّع الله عليه وأعطاه من صنوف المال. فأُتي به فعرَّفه الله نعمه عليه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ، ألا أنفقت فيها ؟!، قال : ما تركت من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها لك إلا أنفقت فيه ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال جواد وقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار )
إنه الإخلاص الذي يجعل للأعمال قيمة عند الله تبارك وتعالى ، فلا إنفاق، ولا استشهاد ، ولا قراءة قرآن ... إلا بالإخلاص لله ربِّ العالمين
عباد الله ..
من أجل ذلك فقد كان سلفنا الصالح من أشدِّ الناس خوفاً على أعمالهم من أن يخالطها الرياء أو تشوبها شائبة الشرك فكانوا رحمهم الله يجاهدون أنفسهم في أعمالهم وأقوالهم كي تكون خالصة لوجه الله تبارك وتعالى .
ولذلك لما حدَّث يزيد بن هارون بحديث عمر رضي الله عنه : ( إنما الأعمال بالنيات ) والإمام أحمد جالس ، فقال الإمام أحمد ليزيد : يا أبا خالد : هذا والله هو الخناق ..هذا والله هو الخناق أن تجعل عملك خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى.
وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشدّ عليَّ من نيتي لأنها تتقلب عليَّ في كل حين .
وقال يوسف بن أسباط : تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وقال بعض السلف : من سرَّه أن يُكمَّل له عمله فليُحسِّن نيته فإنَّ الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسن نيته حتى باللقمة يأكلها
قال سهل بن عبدالله التستري : ليس على النفس شيءٌ أشقُّ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب .
وقال ابن عيينة : كان من دعاء المطرِّف بن عبد الله : اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك ، فخالط قلبي منه ما قد علمت .
وهذا خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته من الطلاب ، قام خوف الشهرة والرياء.
وهذا محمد بن المنكدر يقول : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت على طاعة الله.
وهذا أيوب السختياني كان يقوم الليل كله فإذا جاء الصباح رفع صوته كأنه قد استيقظ من حينه .
وكان رحمه الله إذا حدَّث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم يشتدُّ عليه البكاء وهو في حلقته ، فكان يشدُّ العمامة على عينه ويقول : ما أشدَّ الزكام.. ما أشدَّ الزكام..
وهذا عبد الواحد بن زيد يخبرنا بحديث عجيب حصل لأيوب وقد عاهده ألاَّ يخبر إلا أن يموت أيوب ـ إذ لا رياء يومئذ ـ ، قال عبدالواحد : كنت مع أيوب فعطشنا عطشاً شديداً حتى كدنا نهلك ، فقال أيوب : تستر علي ، قلت : نعم إلا أن تموت، قال : عبد الواحد فغمز أيوب برجله على حِراءٍ فتفجَّر منه الماء فشربت حتى رويت وحملت معي.
كانت بينهم وبين الله أسرار لو أقسم منهم على الله أحد لأبرَّه إلا لإخلاصهم وصدقهم مع الله تبارك وتعالى .
وقال أبو حازم :لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين ربه إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد ، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله إلا أعوَّر الله ما بينه وبين العباد ، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها.
هذا داود ابن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله .. كان له دكَّان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به ، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به ، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله ...
أربعين سنة وهم لا يدرون بصيامه .
وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته .
سبحان الله..انظر كيف ربّوا أنفسهم على الإخلاص وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة.. فهذه زوجته تضاجعه وينام معها ، ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به وبقيامه ..
أي إخفاء للعمل كهذا ! ، وأي إخلاص كهذا !، وأي أسرار كانت بينهم وبين الله !.
فأين بعض المسلمين اليوم ؟! أين بعض المسلمين اليوم الذي يحدِّث جميع أعماله ، ولربما قام ليلة من الدهر لعلم به الأقارب والجيران والأصدقاء ..
ولو تصدَّق بصدقة أو أهدى هدية أو تبَّرع بمال أو عقار أو غير ذلك لعلمت الأمة في شرقها وغربها.
إني لأعجب من هؤلاء! أهم أكمل إيماناً وأقوى إخلاصاً من هؤلاء السلف ، بحيث أنَّ السلف يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم وهؤلاء يظهرونها لكمال الإيمان ..
عجباً ثم عجباً ...
أوصيك أيها الغالي ..
إذا أردت أن يحبك الله ، وأن تنال رضاه فما عليك إلا بصدقات مخفية لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك فضلاً أن يعلمه الناس .
وما عليك إلا بركعات إمامُها الخشوع ، وقائدها الإخلاص تركعها في ظلمات الليل بحيث لا يراك إلا الله ، ولا يعلم بك أحد ..
فلما أخفوا أعمالهم أخفى الله لهم من الأجر ما الله به عليم { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
إنَّ تربية النفس على مثل هذه الأعمال لهو أبعد لها عن الرياء وأكمل لها في الإخلاص.
وقد كان محمد بن سيرين رحمه الله يضحك في النهار حتى تدمع عينه ، فإذا جاء الليل قطعه بالبكاء والصلاة .. ومن خير الناس ( بسَّام بالنهار بكَّاءٌ في الليل )
الإخلاص سرٌّ بين العبد وبين ربّه لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه ، ولا شيطانٌ فيفسده .
اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا واجعلها خالصة لوجهك ثواباً على سنّة رسولك