اميرة
16-06-2012, 07:16 PM
دلائل معرفة الله
روى عن بعض الحكماء أنه قال
أوصيك ونفسي ومن سمع كلامي بتقوى الله الذي خلق العباد وإليه المعاد وبه السداد والرشاد
فاتقه يا أخي تقوى من قد عرف قرب الله منه وقدرته عليه
وآمن به إيمان من قد اقر له بالوحدانية والفردانية والأزلية لما ظهر من مشاهدة ملكوته وشواهد سلطانه وكثرة الدلائل عليه والآيات التي تدل على ربوبيته ونفاذ مشيئته وإحكام صنعته وبيان قدرته على جميع خلقه وحسن تدبيره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين
وثق به يا أخي ثقة من قد حسن ظنه به وقلت تهمته له وصدق بوعده ووثق بضمانه وسكن قلبه عن الاضطراب إلى وعده وعظم وعيده في قلبه
واشكره يا أخي شكر من قد عرف فضله وكثرت أياديه عنده وبره به
وتعرف نعمه الظاهرة والباطنة الخاصة منها والعامة واخلص له إخلاص من قد عرف أنه لا يقبل له عملا إلا بعد تخليصه من الآفات وإخلاصه لله لا شريك له ولا يشرك في عمله أحدا سواه
وأعلم يا أخي أن إشراك المخلوقين في العمل أن يتزين لهم العبد في مواطن الامتحان فيكذب في عمله أو يرائي ليكرم ويعظم لجميل قوله ومحاسن ما يظهر من عمله وهو يعرف ذلك من نفسه أو يجهله منها
ولا يسلم يا أخي من شره إلا من هرب من مواطنه وعمل وهو لا يحب أن يطلع له مخلوق على عمل وإن اطلع له مخلوق على عمل وهو لا يحب اطلاعه فمن صدقه ألا يحب أن يحمده ذلك المخلوق على ما اطلع عليه من عمله وإن حمده أحد وهو لا يحب حمده فلا يسر بحمده له على عمله فإن سره فلا يسرن لمعنى الدنيا بسبب من الأسباب
ثم أصدق يا أخي في قولك وفعلك صدق من قد عرف أن الله مطلع على دخيلة أمره وسره وعلانيته وما طوى عليه ضميره
وتوكل عليه يا أخي توكل من قد وثق بوعده واطمأن إلى ضمانه
ثقة منه بوفائه ورضا منه بقضائه واستسلاما منه لأمره وإيمانا بقدره ويقينا صادقا منه بجنته وناره
وخفه يا أخي خوف من قد عرف سطوته وشدة نقمته وأليم عذابه ومثلته وآثاره ووقائعه لمن خالف أمره وعصاه
وتعرف يا أخي انه لا تمسك لأحد خذله ولا صنيعة على أحد وفقه وسدده وحاطه وحفظه وأنه لا صبر لأحد على عقوبته ونكاله وتغير نعمه
وارجه يا أخي رجاء من قد صدق بوعده وعاين ثوابه
واشكره يا أخي شكر من قد قبل منه محاسنه واصلح عمله وحباه من مزيد أياديه وأناله من مزيد كراماته ما لم يستأهله بعمله
واستحيه يا أخي حياء من قد تعرف كثرة تفضله وجزيل مواهبه وعرف من نفسه التقصير في شكره وقلة الوفاء منه بعهده والعجز عن القيام بأداء ما لزمه من حقه ثم لا يتعرف من خالقه إلا جميل ستره وعظيم العافية وتتابع النعم ودوام الإحسان إليه وعظيم الحلم والصفح عنه
ثم اعلم يا أخي أن الله جل ذكره قد افترض فرائض ظاهرة وباطنة وشرع لك شرائع دلك عليها وأمرك بها ووعدك على حسن أدائها جزيل الثواب وأوعدك على تضييعها أليم العقاب رحمة لك وحذرك نفسه شفقة منه عليك
فقم يا أخي بفرائضه والزم شرائعه ووافق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتبع آثار أصحاب نبيه والزم سيرتهم وتأدب بآدابهم واسلك طريقهم واهتد بهداهم وتوسل إلى الله بحبهم وحب من أحبهم فهم الذين أنابوا اليه وقصدوا قصده واختارهم لصحبة نبيه فجعلهم له أحبابا وأخدانا
حقيقة التوسل بحب الصالحين
واعلم يا أخي أن علامة حبك إياهم لزومك محجتهم مع استقامة قلبك وصحة عملك وصدق لسانك وحسن سريرتك لأمر دنياك وآخرتك كما كان القوم في هذه الأحوال فهذا يحقق منك صدق دعواك لحبهم والتمسك بسنتهم
فإذا صحت فيك ومنك هذه الخلال كصحتها منهم وفيهم كنت صادقا في حب القوم وحسن الاتباع لهم
وإن كنت مدعيا لحبهم وأنت مخالف لأفاعيلهم عادل عن سبيل الاستقامة لطريق المحجة التي كانوا عليها فأنت مائل الى موافقة هواك عادل عن مسيرتهم ولست بصادق في دعواك
فلا تجمعن على نفسك الخلاف لمحجتهم والدعوى أنك على سبيلهم فمتى فعلت ذلك صح منك جهل وكذب وتعرضت للمقت من اللطيف الخبير
ولكن إقرارا واستغفارا فذلك أولى بمن كانت هذه صفته
وليكن لك يا أخي في الحق نصيب فإنه قد قيل ليأتين على الناس زمان يكون المقر فيه بالحق ناجيا
سياسة النفس
فإذا أنت عرفت الحق فأقررت به ودلك الحق على أن لله عليك مع الفرائض الظاهرة فرضا باطنا هو تصحيح السرائر واستقامة الإرادة وصدق النية ومفاتشة الهمة ونقاء الضمير من كل ما يكره الله وعقد الندم على جميع ما مضى من التواثب بالقلب والجوارح على ما نهى الله عنه
وهذا أمر جعله الله مهيمنا على أعمال الجوارح فما كان من أعمال العبد من عمل ظاهر قوبل به من الباطن فما صح ووافق باطنه صلح وقبل ظاهره وما خالف وفسد باطنه ردت عليه أعمال ظاهرة وإن كثرت وخسر ظاهرها لفساد باطنها
ويحقق ذلك كله قول الله تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون }
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إنما العمل بالنية وإنما لامرئ ما نوى ) )
وقوله في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده وإذا فسدت فسد سائر جسده يريد عمله الا وهي القلب
وقوله إن الملك ليكثر أعمال العبد بعد وفاته عند الله تعالى فيقول عبدك لم أزل معه حتى توفيته ثم يذكر محاسن عمله فيكثرها ويطيبها ويحسن الثناء عليه فيقول الله تعالى أنت كنت حفيظا على عمل عبدي وأنا كنت رقيبا على قلبه وإن عمله الذي كثرته وطيبته لم يكن لي خالصا ولست أقبل من عبدي إلا ما كان لي خالصا
فاعرف يا أخي نفسك وتفقد أحوالها وابحث عن عقد ضميرها بعناية منك وشفقة منك عليها مخافة تلفها فليس لك نفس غيرها فإن هلكت فهي الطامة الكبرى والداهية العظمى
فأحد النظر إليها يا أخي بعين نافذة البصر حديدة النظر حتى تعرف آفات عملها وفساد ضميرها وتعرف ما يتحرك به لسانها ثم خذ بعنان هواها فاكبحها بحكمة الخوف وصدق الخلاف عليها وردها بجميل الرفق الى مراجعة الإخلاص في عملها وتصحيح الإرادة في ضميرها وصدق المنطق في لفظها واستقامة النية في قلبها وغض البصر عما كره مولاها مع ترك فضول النظر الى ما قد أبيح النظر إليه مما يجلب على القلب اعتقاد حب الدنيا
وخذها بالصمم عن استماع شئ مما كره مولاها من الهوى والخنا وفي تناولها وقبضها وبسطها وفي فرحها وحزنها
وخذها بتصحيح ما يصل الى بطنها من غذائها وما تستر به عورتها
وخذها بجميع همها كلها
وامنع فرجها عن جميع ما كره مولاها
وليكن مع ذلك منك تيقظ وإزالة للغفلات عن قلبك عند كل حركة تكون منك وسكون وعند الصمت والمنطق والمدخل والمخرج والمنشط والحب والبغض والضحك والبكاء
فتعاهدها يا أخي في ذلك كله فإن لها في كل نوع ذكرناه من ذلك كله سبب لهواها وسبب لطاعتها وسبب لمعصيتها
فإن غفلت و وافقت هواها وغفلت عن مفاتشة هممها كان جميع ما ذكرت لك من ذلك كله معاصي منها وإن انت سقطت بالغفلة ثم رجعت بالتيقظ إلى خلاف هواها فكان معك الندم على غفلتك وسقطتك رجع ذلك كله إحسانا وطاعات لك
فتفقدها يا أخي بالعناية المتحركة منك لها مخافة تلفها فإنك تقطع عن إبليس طريق المعاصي وتفتح على نفسك باب الخيرات وما التوفيق إلا بالله العلي العظيم
بين اللسان والقلب
خطر اللسان
وخف يا أخي من لسانك اشد من خوفك من السبع الضاري القريب المتمكن من أخذك فإن قتيل السبع من اهل الايمان ثوابه الجنة وقتيل اللسان عقوبته النار إلا أن يعفو الله
فإياك يا اخي والغفلة عن اللسان فإنه سبع ضار و أول فريسته صاحبه
فأغلق باب الكلام من نفسك بغلق وثيق ثم لا تفتحه إلا فيما لا بد لك منه فإذا فتحته فاحذر وخذ من الكلام حاجتك التي لا بد لك منها وأغلق الباب
وإياك والغفلة عن ذلك والتمادي في الحديث وأن يستمد بك الكلام فتهلك نفسك فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم
وسأله رجل فقال ما أتقي فقال هذا يعني لسانه
وقال له رجل ما أخوف ما تخاف علي فقال هذا وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه
وقال له آخر ما النجاة فقال امسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
وقال صلى الله عليه وسلم من صمت نجا
وقال من سره ان يسلم فليلزم الصمت
و ورد عمر بن الخطاب على ابي بكر رضي الله عنهما وهو آخذ بطرف لسانه يبصبصه فقال ما تصنع فقال هذا أوردني الموارد
وقال عبدالله بن مسعود ليس شئ أحق بطول سجن من لسان
الى أخبار كثيرة في اللسان
فإياك يا أخي والغفلة عنه فإنه اعظم جوارحك عليك جناية وأكثر ما تجد في صحيفة أعمالك يوم القيامة من الشر ما املاه عليك لسانك وأكثر ما
تجده في صحيفتك من الخير ما اكتسبه قلبك
فضل عمل القلب على عمل اللسان
وذلك ان اكتساب قلوب الحكماء واهل البصائر للخير اعمال خفية تخفى على إبليس وعلى الحفظة فهي اعمال نقية من الفساد زاكية قد حصلت مع خفة مؤنة على أهلها جزيلة الثواب مخلصات من عوارض العدو ومن هوى النفس
وذلك لأنها أعمال مستورة عن أعين العباد خاملة لان العبد يصل إليها قائما وقاعدا ومضطجعا فأولئك هم أولو الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وأكثر ذكرهم التفكر قال تعالى { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض }
فهم اهل الإخمال من المؤمنين الذين عبدوا الله عبادة لم تظهر منهم
سياسة القلب
تصفية القلب عن الحرص على الدنيا
وتعاهد يا أخي قلبك بأسباب الآخرة وعرضه لذلك وصنه من أسباب الدنيا ومن ذكر يجر الى الحرص والرغبة
ولا تأذن لقلبك في استصحاب ما يعسر طلبه وينطفئ نور القلب من اجله وكن في تأليف ما بينه وبين محمود العواقب حريصا وخوف نفسك عقوبة ما في يديه من الدنيا وقلة ادائك لما يجب عليك فيه من الشكر
واستكثر ما في يديك لما تعلم من ضعف شكرك فتشتغل النفس بما في يديها عن الفكر في أمر الدنيا والمحبة للزيادة منها
فإذا اجممتها من ذكر الزيادة من الدنيا وحملتها على درجة الخوف
مما في يديها قنعت ورضيت وعفت عن طلب الدنيا بالحرص والرغبة ورجعت الى الآخرة بالحرص عليها والرغبة فيها فإن النفس مبنية على أساس الطمع
أخطار الطمع على القلب
ومخرج الحرص والرغبة من الطمع وبناء الانفس قائم على قواعد الطمع أما الطمع في الدنيا فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من الدنيا أما الطمع في الاخرة فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من أعمال الاخرة بالحرص عليها والرغبة فيها
قيل لحكيم فما آله الطمع وجماع آفاته
قال الشرة والحرص وهيجان الرغبة فعلى ايها اوقعت النفس طمعها احضرت أداتها وجمعت آلتها وجدت في طلبها
فإذا قهرت صاحبها على موافقة هواها استعبدته فأذهلته وأذلته وأدهشته وأتعبته وطيشت عقله ودنست عرضه وأخلقت مروءته وفتنته عن دينه وإن كان عالما لبيبا عاقلا كيسا فطينا فصيحا حكيما فقيها لوثته واسقطته وفضحته فاحتمل لها ذلك كله وهو الاريب العالم الاديب فصيرته بعد العلم جاهلا سفيها أحمق خفيفا
وذلك أنها سقته من موافقة هواها كأسا سما صرفا فاستمالته فمال بعلمه وعقله وفهمه ونفاذ حكمته وبصره فاجراه مجرى هوى نفسه فعجلت له الفضيحة في عاجل الدنيا عند حكمائها وعقلائها وأسقطته من عين الله واعين عباده أمن أهل البصائر وأخرت له آجل الندامة الطويلة عند مفارقة الدنيا وفي عرصات القيامة
قهر النفس على طلب الآخرة
فإذا قطع عليها العبد الطمع من أسباب الدنيا وغلب بعقله هواها رجعت بطمعها إلى أسباب الآخرة لا محالة لأنها بنيت على الطمع
فإذا تجردت من أسباب الدنيا وأقلبت على نفسها بالإياس من المخلوقين رجعت برغبتها وطمعها الى اسباب الآخرة فجدت في طلبها واجتهدت وعزفت عن الدنيا وباينت الهوى وخالفت العدو وتبعت العلم وكانت مطية للعقل صابرة على مر ما يدل عليه الحق فنجت وأنجت
الخوف والحزن
وسيلة تحصيل الخوف والحزن
وتعاهد يا أخي قلبك عند هممه وألزمه الفكرة في أمر المعاد فلا تفارق قلبك وتوهم بقلبك هول المطلع عند مفارقة الدنيا وترك ما قد بذل اهلها فيه مهج نفوسهم وتدنيس أعراضهم وإخلاق مروءاتهم وانتقاص أديانهم ثم تركوا ذلك كله وقدموا على الله فرادى آحاد مع ما قد وردوا عليه من وحشة القبر وسؤال منكر ونكير وأهوال القيامة والوقوف بين يدي الله والمساءلة عن جميع ما كان منهم من قول أو فعل من مثل مثاقيل الذر وموازين الخردل
وسؤاله عن الشباب فيم أبلى شبابه وعن العمر فيم أفنى عمره وعن المال من أين اكتسب وعمن منع وفيم انفق وعن العلم ماذا عمل فيه وعن جميع الأعمال التي صدقوا فيها والتي كذبوا فيها
فإنك يا أخي إن شغلت قلبك بذلك وأسكنته إياه وكان فيك شئ
من صحة تركيب العقل فإنه سيكل منك لسانك ولا يعدمك الخوف اللازم مع الحزن الدائم والشغل المحيط بقلبك
إبليس يهوى القلوب الخربة
وإن إبليس إنما يسور عليك في الآثام من وسوسة نفسك وخراب قلبك
وخرابه إنما يكون اذا كان فارغا من الخوف اللازم والحزن الدائم فحينئذ ينفث فيه بالوسوسة لآمال الدنيا والجمع لها مخافة فقرها مع لزوم طول الأمل لقلبك وإعراضه عن الله تعالى وانقطاع مواد عظمة الله منه وفراغه من الهيبة والحياء منه
فإذا وجد القلب عامرا خنس ونفر منه ولم يجد فيه مساغا ولا من جوانبه مدخلا لأن القلب عامر بالخوف والأحزان والفكر فهو منير مضيء
يرى العبد بنور قلبه مداخل إبليس فيرميه بالإنكار لما يدعو إليه ويعتصم بما أيده الله به من نور قلبه فيدحره عنه فولى الخبيث الى قلب قد فقد الخوف فخرب وأظلم فلا نور فيه
فلا شيء أثقل على الخبيث من النور فإذا وجده خنس ونفر منه
فلا يقدر عليه إلا من قبل الغفلة من العبد
ونور القلب إنما هو من يتعظه وحياته فإذا غفل مات وأظلم وطفىء نوره فيلتبس على العبد ما يدخله عليه العدو او يكدر عليه فاختلس إبليس من العبد واستدام القلب بالغفلة فتسور عليه بالآثام فإذا اصر على الاقامة عليها ورضي بها علاه الرين فاظلمه واستقر إبليس فيه ثم سلك به سبيل الآثام إلى ان يوصله ويوقعه في الكبائر
ولا شيء اعجب إلى إبليس من ظلمة القلب وسواده وانطفاء نوره وتراكب الرين عليه ولا شيء أثقل على الخبيث من النور والبياض والنقاء والصفاء وإنما مأواه الظلمة وإلا فلا مأوى له ولا قرار في النور والبياض
ولقد بلغني ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ان يدخل البيت المظلم حتى يضاء له فيه بمصباح
مراقبة الله تعالى
ما يعين على المراقبة
يروي عن بعض الحكماء أنه قال إن من أشرف المقامات وأفضلها المراقبة لله
ومن احسن المراقبة أن يكون العبد مراقبا بالشكر على النعم والاعتراف بالإساءة والتعرض للعفو عن الإساءة فيكون قلبه لازما لهذا المقام في كل أعماله فمتى ما غفل رده إلى هذا بإذن الله
ومما يعين على هذا ترك الذنوب والتفرغ من الاشغال والعناية بالمراجعة
ومن أعمال القلب التي يزكو بها ولا يستغني عنها الإخلاص والثقة والشكر والتواضع والاستسلام والنصيحة والحب في الله تعالى والبغض فيه
وقال أقل النصح الذي يحرجك تركه ولا يسعك إلا العمل به فمتى قصرت عنه كنت مصرا على معصية الله تعالى في ترك النصيحة لعباده
فأقل ذلك ألا تحب لاحد من الناس شيئا مما يكره الله عز وجل ولا تكره لهم ما أحب الله عز وجل
فهذه الحال التي وصفنا واجبه على الخلق لا يسع تركها طرفة عين بضمير ولا بفعل جوارح
وحال أخرى فوق هذه وهي فضيلة للعبد أن يكره لهم ما كره الله وأن يحب لهم ما أحب الله تعالى
قال وجاء رجل الى عبدالله بن المبارك فقال له أوصني فقال راقب الله فقال الرجل وما مراقبة الله فقال أن يستحيي من الله
المراقبة والمناجاة من اليقين
قال فالمناجاة والمراقبة من حيث تضع قلبك وهو أن تضعه دون العرش فتناجي من هناك
وفي رد القلب الى المراقبة مراجعتان
اولاهما مراقبة النظر مع تذكر العلم قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } وقال تعالى { يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }
ثم تذكر العظمة لوجود الحلاوة
والقول الآخر يروى ان الله سبحانه أوصى الى ابراهيم عليه السلام يا ابراهيم تدري لم أتخذتك خليلا قال لا يا رب قال لطول قيامك بين يدي قال فقيل إنما كان قيامه بالقلب وليس بالصلاة
وهذا يوافق القرآن قال تعالى { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار }
وقول حارثة كأني انظر الى عرش ربي بارزا
المصدر: منتديات أحلى كلام
روى عن بعض الحكماء أنه قال
أوصيك ونفسي ومن سمع كلامي بتقوى الله الذي خلق العباد وإليه المعاد وبه السداد والرشاد
فاتقه يا أخي تقوى من قد عرف قرب الله منه وقدرته عليه
وآمن به إيمان من قد اقر له بالوحدانية والفردانية والأزلية لما ظهر من مشاهدة ملكوته وشواهد سلطانه وكثرة الدلائل عليه والآيات التي تدل على ربوبيته ونفاذ مشيئته وإحكام صنعته وبيان قدرته على جميع خلقه وحسن تدبيره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين
وثق به يا أخي ثقة من قد حسن ظنه به وقلت تهمته له وصدق بوعده ووثق بضمانه وسكن قلبه عن الاضطراب إلى وعده وعظم وعيده في قلبه
واشكره يا أخي شكر من قد عرف فضله وكثرت أياديه عنده وبره به
وتعرف نعمه الظاهرة والباطنة الخاصة منها والعامة واخلص له إخلاص من قد عرف أنه لا يقبل له عملا إلا بعد تخليصه من الآفات وإخلاصه لله لا شريك له ولا يشرك في عمله أحدا سواه
وأعلم يا أخي أن إشراك المخلوقين في العمل أن يتزين لهم العبد في مواطن الامتحان فيكذب في عمله أو يرائي ليكرم ويعظم لجميل قوله ومحاسن ما يظهر من عمله وهو يعرف ذلك من نفسه أو يجهله منها
ولا يسلم يا أخي من شره إلا من هرب من مواطنه وعمل وهو لا يحب أن يطلع له مخلوق على عمل وإن اطلع له مخلوق على عمل وهو لا يحب اطلاعه فمن صدقه ألا يحب أن يحمده ذلك المخلوق على ما اطلع عليه من عمله وإن حمده أحد وهو لا يحب حمده فلا يسر بحمده له على عمله فإن سره فلا يسرن لمعنى الدنيا بسبب من الأسباب
ثم أصدق يا أخي في قولك وفعلك صدق من قد عرف أن الله مطلع على دخيلة أمره وسره وعلانيته وما طوى عليه ضميره
وتوكل عليه يا أخي توكل من قد وثق بوعده واطمأن إلى ضمانه
ثقة منه بوفائه ورضا منه بقضائه واستسلاما منه لأمره وإيمانا بقدره ويقينا صادقا منه بجنته وناره
وخفه يا أخي خوف من قد عرف سطوته وشدة نقمته وأليم عذابه ومثلته وآثاره ووقائعه لمن خالف أمره وعصاه
وتعرف يا أخي انه لا تمسك لأحد خذله ولا صنيعة على أحد وفقه وسدده وحاطه وحفظه وأنه لا صبر لأحد على عقوبته ونكاله وتغير نعمه
وارجه يا أخي رجاء من قد صدق بوعده وعاين ثوابه
واشكره يا أخي شكر من قد قبل منه محاسنه واصلح عمله وحباه من مزيد أياديه وأناله من مزيد كراماته ما لم يستأهله بعمله
واستحيه يا أخي حياء من قد تعرف كثرة تفضله وجزيل مواهبه وعرف من نفسه التقصير في شكره وقلة الوفاء منه بعهده والعجز عن القيام بأداء ما لزمه من حقه ثم لا يتعرف من خالقه إلا جميل ستره وعظيم العافية وتتابع النعم ودوام الإحسان إليه وعظيم الحلم والصفح عنه
ثم اعلم يا أخي أن الله جل ذكره قد افترض فرائض ظاهرة وباطنة وشرع لك شرائع دلك عليها وأمرك بها ووعدك على حسن أدائها جزيل الثواب وأوعدك على تضييعها أليم العقاب رحمة لك وحذرك نفسه شفقة منه عليك
فقم يا أخي بفرائضه والزم شرائعه ووافق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتبع آثار أصحاب نبيه والزم سيرتهم وتأدب بآدابهم واسلك طريقهم واهتد بهداهم وتوسل إلى الله بحبهم وحب من أحبهم فهم الذين أنابوا اليه وقصدوا قصده واختارهم لصحبة نبيه فجعلهم له أحبابا وأخدانا
حقيقة التوسل بحب الصالحين
واعلم يا أخي أن علامة حبك إياهم لزومك محجتهم مع استقامة قلبك وصحة عملك وصدق لسانك وحسن سريرتك لأمر دنياك وآخرتك كما كان القوم في هذه الأحوال فهذا يحقق منك صدق دعواك لحبهم والتمسك بسنتهم
فإذا صحت فيك ومنك هذه الخلال كصحتها منهم وفيهم كنت صادقا في حب القوم وحسن الاتباع لهم
وإن كنت مدعيا لحبهم وأنت مخالف لأفاعيلهم عادل عن سبيل الاستقامة لطريق المحجة التي كانوا عليها فأنت مائل الى موافقة هواك عادل عن مسيرتهم ولست بصادق في دعواك
فلا تجمعن على نفسك الخلاف لمحجتهم والدعوى أنك على سبيلهم فمتى فعلت ذلك صح منك جهل وكذب وتعرضت للمقت من اللطيف الخبير
ولكن إقرارا واستغفارا فذلك أولى بمن كانت هذه صفته
وليكن لك يا أخي في الحق نصيب فإنه قد قيل ليأتين على الناس زمان يكون المقر فيه بالحق ناجيا
سياسة النفس
فإذا أنت عرفت الحق فأقررت به ودلك الحق على أن لله عليك مع الفرائض الظاهرة فرضا باطنا هو تصحيح السرائر واستقامة الإرادة وصدق النية ومفاتشة الهمة ونقاء الضمير من كل ما يكره الله وعقد الندم على جميع ما مضى من التواثب بالقلب والجوارح على ما نهى الله عنه
وهذا أمر جعله الله مهيمنا على أعمال الجوارح فما كان من أعمال العبد من عمل ظاهر قوبل به من الباطن فما صح ووافق باطنه صلح وقبل ظاهره وما خالف وفسد باطنه ردت عليه أعمال ظاهرة وإن كثرت وخسر ظاهرها لفساد باطنها
ويحقق ذلك كله قول الله تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون }
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إنما العمل بالنية وإنما لامرئ ما نوى ) )
وقوله في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده وإذا فسدت فسد سائر جسده يريد عمله الا وهي القلب
وقوله إن الملك ليكثر أعمال العبد بعد وفاته عند الله تعالى فيقول عبدك لم أزل معه حتى توفيته ثم يذكر محاسن عمله فيكثرها ويطيبها ويحسن الثناء عليه فيقول الله تعالى أنت كنت حفيظا على عمل عبدي وأنا كنت رقيبا على قلبه وإن عمله الذي كثرته وطيبته لم يكن لي خالصا ولست أقبل من عبدي إلا ما كان لي خالصا
فاعرف يا أخي نفسك وتفقد أحوالها وابحث عن عقد ضميرها بعناية منك وشفقة منك عليها مخافة تلفها فليس لك نفس غيرها فإن هلكت فهي الطامة الكبرى والداهية العظمى
فأحد النظر إليها يا أخي بعين نافذة البصر حديدة النظر حتى تعرف آفات عملها وفساد ضميرها وتعرف ما يتحرك به لسانها ثم خذ بعنان هواها فاكبحها بحكمة الخوف وصدق الخلاف عليها وردها بجميل الرفق الى مراجعة الإخلاص في عملها وتصحيح الإرادة في ضميرها وصدق المنطق في لفظها واستقامة النية في قلبها وغض البصر عما كره مولاها مع ترك فضول النظر الى ما قد أبيح النظر إليه مما يجلب على القلب اعتقاد حب الدنيا
وخذها بالصمم عن استماع شئ مما كره مولاها من الهوى والخنا وفي تناولها وقبضها وبسطها وفي فرحها وحزنها
وخذها بتصحيح ما يصل الى بطنها من غذائها وما تستر به عورتها
وخذها بجميع همها كلها
وامنع فرجها عن جميع ما كره مولاها
وليكن مع ذلك منك تيقظ وإزالة للغفلات عن قلبك عند كل حركة تكون منك وسكون وعند الصمت والمنطق والمدخل والمخرج والمنشط والحب والبغض والضحك والبكاء
فتعاهدها يا أخي في ذلك كله فإن لها في كل نوع ذكرناه من ذلك كله سبب لهواها وسبب لطاعتها وسبب لمعصيتها
فإن غفلت و وافقت هواها وغفلت عن مفاتشة هممها كان جميع ما ذكرت لك من ذلك كله معاصي منها وإن انت سقطت بالغفلة ثم رجعت بالتيقظ إلى خلاف هواها فكان معك الندم على غفلتك وسقطتك رجع ذلك كله إحسانا وطاعات لك
فتفقدها يا أخي بالعناية المتحركة منك لها مخافة تلفها فإنك تقطع عن إبليس طريق المعاصي وتفتح على نفسك باب الخيرات وما التوفيق إلا بالله العلي العظيم
بين اللسان والقلب
خطر اللسان
وخف يا أخي من لسانك اشد من خوفك من السبع الضاري القريب المتمكن من أخذك فإن قتيل السبع من اهل الايمان ثوابه الجنة وقتيل اللسان عقوبته النار إلا أن يعفو الله
فإياك يا اخي والغفلة عن اللسان فإنه سبع ضار و أول فريسته صاحبه
فأغلق باب الكلام من نفسك بغلق وثيق ثم لا تفتحه إلا فيما لا بد لك منه فإذا فتحته فاحذر وخذ من الكلام حاجتك التي لا بد لك منها وأغلق الباب
وإياك والغفلة عن ذلك والتمادي في الحديث وأن يستمد بك الكلام فتهلك نفسك فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم
وسأله رجل فقال ما أتقي فقال هذا يعني لسانه
وقال له رجل ما أخوف ما تخاف علي فقال هذا وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه
وقال له آخر ما النجاة فقال امسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
وقال صلى الله عليه وسلم من صمت نجا
وقال من سره ان يسلم فليلزم الصمت
و ورد عمر بن الخطاب على ابي بكر رضي الله عنهما وهو آخذ بطرف لسانه يبصبصه فقال ما تصنع فقال هذا أوردني الموارد
وقال عبدالله بن مسعود ليس شئ أحق بطول سجن من لسان
الى أخبار كثيرة في اللسان
فإياك يا أخي والغفلة عنه فإنه اعظم جوارحك عليك جناية وأكثر ما تجد في صحيفة أعمالك يوم القيامة من الشر ما املاه عليك لسانك وأكثر ما
تجده في صحيفتك من الخير ما اكتسبه قلبك
فضل عمل القلب على عمل اللسان
وذلك ان اكتساب قلوب الحكماء واهل البصائر للخير اعمال خفية تخفى على إبليس وعلى الحفظة فهي اعمال نقية من الفساد زاكية قد حصلت مع خفة مؤنة على أهلها جزيلة الثواب مخلصات من عوارض العدو ومن هوى النفس
وذلك لأنها أعمال مستورة عن أعين العباد خاملة لان العبد يصل إليها قائما وقاعدا ومضطجعا فأولئك هم أولو الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وأكثر ذكرهم التفكر قال تعالى { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض }
فهم اهل الإخمال من المؤمنين الذين عبدوا الله عبادة لم تظهر منهم
سياسة القلب
تصفية القلب عن الحرص على الدنيا
وتعاهد يا أخي قلبك بأسباب الآخرة وعرضه لذلك وصنه من أسباب الدنيا ومن ذكر يجر الى الحرص والرغبة
ولا تأذن لقلبك في استصحاب ما يعسر طلبه وينطفئ نور القلب من اجله وكن في تأليف ما بينه وبين محمود العواقب حريصا وخوف نفسك عقوبة ما في يديه من الدنيا وقلة ادائك لما يجب عليك فيه من الشكر
واستكثر ما في يديك لما تعلم من ضعف شكرك فتشتغل النفس بما في يديها عن الفكر في أمر الدنيا والمحبة للزيادة منها
فإذا اجممتها من ذكر الزيادة من الدنيا وحملتها على درجة الخوف
مما في يديها قنعت ورضيت وعفت عن طلب الدنيا بالحرص والرغبة ورجعت الى الآخرة بالحرص عليها والرغبة فيها فإن النفس مبنية على أساس الطمع
أخطار الطمع على القلب
ومخرج الحرص والرغبة من الطمع وبناء الانفس قائم على قواعد الطمع أما الطمع في الدنيا فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من الدنيا أما الطمع في الاخرة فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من أعمال الاخرة بالحرص عليها والرغبة فيها
قيل لحكيم فما آله الطمع وجماع آفاته
قال الشرة والحرص وهيجان الرغبة فعلى ايها اوقعت النفس طمعها احضرت أداتها وجمعت آلتها وجدت في طلبها
فإذا قهرت صاحبها على موافقة هواها استعبدته فأذهلته وأذلته وأدهشته وأتعبته وطيشت عقله ودنست عرضه وأخلقت مروءته وفتنته عن دينه وإن كان عالما لبيبا عاقلا كيسا فطينا فصيحا حكيما فقيها لوثته واسقطته وفضحته فاحتمل لها ذلك كله وهو الاريب العالم الاديب فصيرته بعد العلم جاهلا سفيها أحمق خفيفا
وذلك أنها سقته من موافقة هواها كأسا سما صرفا فاستمالته فمال بعلمه وعقله وفهمه ونفاذ حكمته وبصره فاجراه مجرى هوى نفسه فعجلت له الفضيحة في عاجل الدنيا عند حكمائها وعقلائها وأسقطته من عين الله واعين عباده أمن أهل البصائر وأخرت له آجل الندامة الطويلة عند مفارقة الدنيا وفي عرصات القيامة
قهر النفس على طلب الآخرة
فإذا قطع عليها العبد الطمع من أسباب الدنيا وغلب بعقله هواها رجعت بطمعها إلى أسباب الآخرة لا محالة لأنها بنيت على الطمع
فإذا تجردت من أسباب الدنيا وأقلبت على نفسها بالإياس من المخلوقين رجعت برغبتها وطمعها الى اسباب الآخرة فجدت في طلبها واجتهدت وعزفت عن الدنيا وباينت الهوى وخالفت العدو وتبعت العلم وكانت مطية للعقل صابرة على مر ما يدل عليه الحق فنجت وأنجت
الخوف والحزن
وسيلة تحصيل الخوف والحزن
وتعاهد يا أخي قلبك عند هممه وألزمه الفكرة في أمر المعاد فلا تفارق قلبك وتوهم بقلبك هول المطلع عند مفارقة الدنيا وترك ما قد بذل اهلها فيه مهج نفوسهم وتدنيس أعراضهم وإخلاق مروءاتهم وانتقاص أديانهم ثم تركوا ذلك كله وقدموا على الله فرادى آحاد مع ما قد وردوا عليه من وحشة القبر وسؤال منكر ونكير وأهوال القيامة والوقوف بين يدي الله والمساءلة عن جميع ما كان منهم من قول أو فعل من مثل مثاقيل الذر وموازين الخردل
وسؤاله عن الشباب فيم أبلى شبابه وعن العمر فيم أفنى عمره وعن المال من أين اكتسب وعمن منع وفيم انفق وعن العلم ماذا عمل فيه وعن جميع الأعمال التي صدقوا فيها والتي كذبوا فيها
فإنك يا أخي إن شغلت قلبك بذلك وأسكنته إياه وكان فيك شئ
من صحة تركيب العقل فإنه سيكل منك لسانك ولا يعدمك الخوف اللازم مع الحزن الدائم والشغل المحيط بقلبك
إبليس يهوى القلوب الخربة
وإن إبليس إنما يسور عليك في الآثام من وسوسة نفسك وخراب قلبك
وخرابه إنما يكون اذا كان فارغا من الخوف اللازم والحزن الدائم فحينئذ ينفث فيه بالوسوسة لآمال الدنيا والجمع لها مخافة فقرها مع لزوم طول الأمل لقلبك وإعراضه عن الله تعالى وانقطاع مواد عظمة الله منه وفراغه من الهيبة والحياء منه
فإذا وجد القلب عامرا خنس ونفر منه ولم يجد فيه مساغا ولا من جوانبه مدخلا لأن القلب عامر بالخوف والأحزان والفكر فهو منير مضيء
يرى العبد بنور قلبه مداخل إبليس فيرميه بالإنكار لما يدعو إليه ويعتصم بما أيده الله به من نور قلبه فيدحره عنه فولى الخبيث الى قلب قد فقد الخوف فخرب وأظلم فلا نور فيه
فلا شيء أثقل على الخبيث من النور فإذا وجده خنس ونفر منه
فلا يقدر عليه إلا من قبل الغفلة من العبد
ونور القلب إنما هو من يتعظه وحياته فإذا غفل مات وأظلم وطفىء نوره فيلتبس على العبد ما يدخله عليه العدو او يكدر عليه فاختلس إبليس من العبد واستدام القلب بالغفلة فتسور عليه بالآثام فإذا اصر على الاقامة عليها ورضي بها علاه الرين فاظلمه واستقر إبليس فيه ثم سلك به سبيل الآثام إلى ان يوصله ويوقعه في الكبائر
ولا شيء اعجب إلى إبليس من ظلمة القلب وسواده وانطفاء نوره وتراكب الرين عليه ولا شيء أثقل على الخبيث من النور والبياض والنقاء والصفاء وإنما مأواه الظلمة وإلا فلا مأوى له ولا قرار في النور والبياض
ولقد بلغني ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ان يدخل البيت المظلم حتى يضاء له فيه بمصباح
مراقبة الله تعالى
ما يعين على المراقبة
يروي عن بعض الحكماء أنه قال إن من أشرف المقامات وأفضلها المراقبة لله
ومن احسن المراقبة أن يكون العبد مراقبا بالشكر على النعم والاعتراف بالإساءة والتعرض للعفو عن الإساءة فيكون قلبه لازما لهذا المقام في كل أعماله فمتى ما غفل رده إلى هذا بإذن الله
ومما يعين على هذا ترك الذنوب والتفرغ من الاشغال والعناية بالمراجعة
ومن أعمال القلب التي يزكو بها ولا يستغني عنها الإخلاص والثقة والشكر والتواضع والاستسلام والنصيحة والحب في الله تعالى والبغض فيه
وقال أقل النصح الذي يحرجك تركه ولا يسعك إلا العمل به فمتى قصرت عنه كنت مصرا على معصية الله تعالى في ترك النصيحة لعباده
فأقل ذلك ألا تحب لاحد من الناس شيئا مما يكره الله عز وجل ولا تكره لهم ما أحب الله عز وجل
فهذه الحال التي وصفنا واجبه على الخلق لا يسع تركها طرفة عين بضمير ولا بفعل جوارح
وحال أخرى فوق هذه وهي فضيلة للعبد أن يكره لهم ما كره الله وأن يحب لهم ما أحب الله تعالى
قال وجاء رجل الى عبدالله بن المبارك فقال له أوصني فقال راقب الله فقال الرجل وما مراقبة الله فقال أن يستحيي من الله
المراقبة والمناجاة من اليقين
قال فالمناجاة والمراقبة من حيث تضع قلبك وهو أن تضعه دون العرش فتناجي من هناك
وفي رد القلب الى المراقبة مراجعتان
اولاهما مراقبة النظر مع تذكر العلم قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } وقال تعالى { يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }
ثم تذكر العظمة لوجود الحلاوة
والقول الآخر يروى ان الله سبحانه أوصى الى ابراهيم عليه السلام يا ابراهيم تدري لم أتخذتك خليلا قال لا يا رب قال لطول قيامك بين يدي قال فقيل إنما كان قيامه بالقلب وليس بالصلاة
وهذا يوافق القرآن قال تعالى { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار }
وقول حارثة كأني انظر الى عرش ربي بارزا
روى عن بعض الحكماء أنه قال
أوصيك ونفسي ومن سمع كلامي بتقوى الله الذي خلق العباد وإليه المعاد وبه السداد والرشاد
فاتقه يا أخي تقوى من قد عرف قرب الله منه وقدرته عليه
وآمن به إيمان من قد اقر له بالوحدانية والفردانية والأزلية لما ظهر من مشاهدة ملكوته وشواهد سلطانه وكثرة الدلائل عليه والآيات التي تدل على ربوبيته ونفاذ مشيئته وإحكام صنعته وبيان قدرته على جميع خلقه وحسن تدبيره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين
وثق به يا أخي ثقة من قد حسن ظنه به وقلت تهمته له وصدق بوعده ووثق بضمانه وسكن قلبه عن الاضطراب إلى وعده وعظم وعيده في قلبه
واشكره يا أخي شكر من قد عرف فضله وكثرت أياديه عنده وبره به
وتعرف نعمه الظاهرة والباطنة الخاصة منها والعامة واخلص له إخلاص من قد عرف أنه لا يقبل له عملا إلا بعد تخليصه من الآفات وإخلاصه لله لا شريك له ولا يشرك في عمله أحدا سواه
وأعلم يا أخي أن إشراك المخلوقين في العمل أن يتزين لهم العبد في مواطن الامتحان فيكذب في عمله أو يرائي ليكرم ويعظم لجميل قوله ومحاسن ما يظهر من عمله وهو يعرف ذلك من نفسه أو يجهله منها
ولا يسلم يا أخي من شره إلا من هرب من مواطنه وعمل وهو لا يحب أن يطلع له مخلوق على عمل وإن اطلع له مخلوق على عمل وهو لا يحب اطلاعه فمن صدقه ألا يحب أن يحمده ذلك المخلوق على ما اطلع عليه من عمله وإن حمده أحد وهو لا يحب حمده فلا يسر بحمده له على عمله فإن سره فلا يسرن لمعنى الدنيا بسبب من الأسباب
ثم أصدق يا أخي في قولك وفعلك صدق من قد عرف أن الله مطلع على دخيلة أمره وسره وعلانيته وما طوى عليه ضميره
وتوكل عليه يا أخي توكل من قد وثق بوعده واطمأن إلى ضمانه
ثقة منه بوفائه ورضا منه بقضائه واستسلاما منه لأمره وإيمانا بقدره ويقينا صادقا منه بجنته وناره
وخفه يا أخي خوف من قد عرف سطوته وشدة نقمته وأليم عذابه ومثلته وآثاره ووقائعه لمن خالف أمره وعصاه
وتعرف يا أخي انه لا تمسك لأحد خذله ولا صنيعة على أحد وفقه وسدده وحاطه وحفظه وأنه لا صبر لأحد على عقوبته ونكاله وتغير نعمه
وارجه يا أخي رجاء من قد صدق بوعده وعاين ثوابه
واشكره يا أخي شكر من قد قبل منه محاسنه واصلح عمله وحباه من مزيد أياديه وأناله من مزيد كراماته ما لم يستأهله بعمله
واستحيه يا أخي حياء من قد تعرف كثرة تفضله وجزيل مواهبه وعرف من نفسه التقصير في شكره وقلة الوفاء منه بعهده والعجز عن القيام بأداء ما لزمه من حقه ثم لا يتعرف من خالقه إلا جميل ستره وعظيم العافية وتتابع النعم ودوام الإحسان إليه وعظيم الحلم والصفح عنه
ثم اعلم يا أخي أن الله جل ذكره قد افترض فرائض ظاهرة وباطنة وشرع لك شرائع دلك عليها وأمرك بها ووعدك على حسن أدائها جزيل الثواب وأوعدك على تضييعها أليم العقاب رحمة لك وحذرك نفسه شفقة منه عليك
فقم يا أخي بفرائضه والزم شرائعه ووافق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتبع آثار أصحاب نبيه والزم سيرتهم وتأدب بآدابهم واسلك طريقهم واهتد بهداهم وتوسل إلى الله بحبهم وحب من أحبهم فهم الذين أنابوا اليه وقصدوا قصده واختارهم لصحبة نبيه فجعلهم له أحبابا وأخدانا
حقيقة التوسل بحب الصالحين
واعلم يا أخي أن علامة حبك إياهم لزومك محجتهم مع استقامة قلبك وصحة عملك وصدق لسانك وحسن سريرتك لأمر دنياك وآخرتك كما كان القوم في هذه الأحوال فهذا يحقق منك صدق دعواك لحبهم والتمسك بسنتهم
فإذا صحت فيك ومنك هذه الخلال كصحتها منهم وفيهم كنت صادقا في حب القوم وحسن الاتباع لهم
وإن كنت مدعيا لحبهم وأنت مخالف لأفاعيلهم عادل عن سبيل الاستقامة لطريق المحجة التي كانوا عليها فأنت مائل الى موافقة هواك عادل عن مسيرتهم ولست بصادق في دعواك
فلا تجمعن على نفسك الخلاف لمحجتهم والدعوى أنك على سبيلهم فمتى فعلت ذلك صح منك جهل وكذب وتعرضت للمقت من اللطيف الخبير
ولكن إقرارا واستغفارا فذلك أولى بمن كانت هذه صفته
وليكن لك يا أخي في الحق نصيب فإنه قد قيل ليأتين على الناس زمان يكون المقر فيه بالحق ناجيا
سياسة النفس
فإذا أنت عرفت الحق فأقررت به ودلك الحق على أن لله عليك مع الفرائض الظاهرة فرضا باطنا هو تصحيح السرائر واستقامة الإرادة وصدق النية ومفاتشة الهمة ونقاء الضمير من كل ما يكره الله وعقد الندم على جميع ما مضى من التواثب بالقلب والجوارح على ما نهى الله عنه
وهذا أمر جعله الله مهيمنا على أعمال الجوارح فما كان من أعمال العبد من عمل ظاهر قوبل به من الباطن فما صح ووافق باطنه صلح وقبل ظاهره وما خالف وفسد باطنه ردت عليه أعمال ظاهرة وإن كثرت وخسر ظاهرها لفساد باطنها
ويحقق ذلك كله قول الله تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون }
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إنما العمل بالنية وإنما لامرئ ما نوى ) )
وقوله في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده وإذا فسدت فسد سائر جسده يريد عمله الا وهي القلب
وقوله إن الملك ليكثر أعمال العبد بعد وفاته عند الله تعالى فيقول عبدك لم أزل معه حتى توفيته ثم يذكر محاسن عمله فيكثرها ويطيبها ويحسن الثناء عليه فيقول الله تعالى أنت كنت حفيظا على عمل عبدي وأنا كنت رقيبا على قلبه وإن عمله الذي كثرته وطيبته لم يكن لي خالصا ولست أقبل من عبدي إلا ما كان لي خالصا
فاعرف يا أخي نفسك وتفقد أحوالها وابحث عن عقد ضميرها بعناية منك وشفقة منك عليها مخافة تلفها فليس لك نفس غيرها فإن هلكت فهي الطامة الكبرى والداهية العظمى
فأحد النظر إليها يا أخي بعين نافذة البصر حديدة النظر حتى تعرف آفات عملها وفساد ضميرها وتعرف ما يتحرك به لسانها ثم خذ بعنان هواها فاكبحها بحكمة الخوف وصدق الخلاف عليها وردها بجميل الرفق الى مراجعة الإخلاص في عملها وتصحيح الإرادة في ضميرها وصدق المنطق في لفظها واستقامة النية في قلبها وغض البصر عما كره مولاها مع ترك فضول النظر الى ما قد أبيح النظر إليه مما يجلب على القلب اعتقاد حب الدنيا
وخذها بالصمم عن استماع شئ مما كره مولاها من الهوى والخنا وفي تناولها وقبضها وبسطها وفي فرحها وحزنها
وخذها بتصحيح ما يصل الى بطنها من غذائها وما تستر به عورتها
وخذها بجميع همها كلها
وامنع فرجها عن جميع ما كره مولاها
وليكن مع ذلك منك تيقظ وإزالة للغفلات عن قلبك عند كل حركة تكون منك وسكون وعند الصمت والمنطق والمدخل والمخرج والمنشط والحب والبغض والضحك والبكاء
فتعاهدها يا أخي في ذلك كله فإن لها في كل نوع ذكرناه من ذلك كله سبب لهواها وسبب لطاعتها وسبب لمعصيتها
فإن غفلت و وافقت هواها وغفلت عن مفاتشة هممها كان جميع ما ذكرت لك من ذلك كله معاصي منها وإن انت سقطت بالغفلة ثم رجعت بالتيقظ إلى خلاف هواها فكان معك الندم على غفلتك وسقطتك رجع ذلك كله إحسانا وطاعات لك
فتفقدها يا أخي بالعناية المتحركة منك لها مخافة تلفها فإنك تقطع عن إبليس طريق المعاصي وتفتح على نفسك باب الخيرات وما التوفيق إلا بالله العلي العظيم
بين اللسان والقلب
خطر اللسان
وخف يا أخي من لسانك اشد من خوفك من السبع الضاري القريب المتمكن من أخذك فإن قتيل السبع من اهل الايمان ثوابه الجنة وقتيل اللسان عقوبته النار إلا أن يعفو الله
فإياك يا اخي والغفلة عن اللسان فإنه سبع ضار و أول فريسته صاحبه
فأغلق باب الكلام من نفسك بغلق وثيق ثم لا تفتحه إلا فيما لا بد لك منه فإذا فتحته فاحذر وخذ من الكلام حاجتك التي لا بد لك منها وأغلق الباب
وإياك والغفلة عن ذلك والتمادي في الحديث وأن يستمد بك الكلام فتهلك نفسك فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم
وسأله رجل فقال ما أتقي فقال هذا يعني لسانه
وقال له رجل ما أخوف ما تخاف علي فقال هذا وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه
وقال له آخر ما النجاة فقال امسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
وقال صلى الله عليه وسلم من صمت نجا
وقال من سره ان يسلم فليلزم الصمت
و ورد عمر بن الخطاب على ابي بكر رضي الله عنهما وهو آخذ بطرف لسانه يبصبصه فقال ما تصنع فقال هذا أوردني الموارد
وقال عبدالله بن مسعود ليس شئ أحق بطول سجن من لسان
الى أخبار كثيرة في اللسان
فإياك يا أخي والغفلة عنه فإنه اعظم جوارحك عليك جناية وأكثر ما تجد في صحيفة أعمالك يوم القيامة من الشر ما املاه عليك لسانك وأكثر ما
تجده في صحيفتك من الخير ما اكتسبه قلبك
فضل عمل القلب على عمل اللسان
وذلك ان اكتساب قلوب الحكماء واهل البصائر للخير اعمال خفية تخفى على إبليس وعلى الحفظة فهي اعمال نقية من الفساد زاكية قد حصلت مع خفة مؤنة على أهلها جزيلة الثواب مخلصات من عوارض العدو ومن هوى النفس
وذلك لأنها أعمال مستورة عن أعين العباد خاملة لان العبد يصل إليها قائما وقاعدا ومضطجعا فأولئك هم أولو الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وأكثر ذكرهم التفكر قال تعالى { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض }
فهم اهل الإخمال من المؤمنين الذين عبدوا الله عبادة لم تظهر منهم
سياسة القلب
تصفية القلب عن الحرص على الدنيا
وتعاهد يا أخي قلبك بأسباب الآخرة وعرضه لذلك وصنه من أسباب الدنيا ومن ذكر يجر الى الحرص والرغبة
ولا تأذن لقلبك في استصحاب ما يعسر طلبه وينطفئ نور القلب من اجله وكن في تأليف ما بينه وبين محمود العواقب حريصا وخوف نفسك عقوبة ما في يديه من الدنيا وقلة ادائك لما يجب عليك فيه من الشكر
واستكثر ما في يديك لما تعلم من ضعف شكرك فتشتغل النفس بما في يديها عن الفكر في أمر الدنيا والمحبة للزيادة منها
فإذا اجممتها من ذكر الزيادة من الدنيا وحملتها على درجة الخوف
مما في يديها قنعت ورضيت وعفت عن طلب الدنيا بالحرص والرغبة ورجعت الى الآخرة بالحرص عليها والرغبة فيها فإن النفس مبنية على أساس الطمع
أخطار الطمع على القلب
ومخرج الحرص والرغبة من الطمع وبناء الانفس قائم على قواعد الطمع أما الطمع في الدنيا فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من الدنيا أما الطمع في الاخرة فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من أعمال الاخرة بالحرص عليها والرغبة فيها
قيل لحكيم فما آله الطمع وجماع آفاته
قال الشرة والحرص وهيجان الرغبة فعلى ايها اوقعت النفس طمعها احضرت أداتها وجمعت آلتها وجدت في طلبها
فإذا قهرت صاحبها على موافقة هواها استعبدته فأذهلته وأذلته وأدهشته وأتعبته وطيشت عقله ودنست عرضه وأخلقت مروءته وفتنته عن دينه وإن كان عالما لبيبا عاقلا كيسا فطينا فصيحا حكيما فقيها لوثته واسقطته وفضحته فاحتمل لها ذلك كله وهو الاريب العالم الاديب فصيرته بعد العلم جاهلا سفيها أحمق خفيفا
وذلك أنها سقته من موافقة هواها كأسا سما صرفا فاستمالته فمال بعلمه وعقله وفهمه ونفاذ حكمته وبصره فاجراه مجرى هوى نفسه فعجلت له الفضيحة في عاجل الدنيا عند حكمائها وعقلائها وأسقطته من عين الله واعين عباده أمن أهل البصائر وأخرت له آجل الندامة الطويلة عند مفارقة الدنيا وفي عرصات القيامة
قهر النفس على طلب الآخرة
فإذا قطع عليها العبد الطمع من أسباب الدنيا وغلب بعقله هواها رجعت بطمعها إلى أسباب الآخرة لا محالة لأنها بنيت على الطمع
فإذا تجردت من أسباب الدنيا وأقلبت على نفسها بالإياس من المخلوقين رجعت برغبتها وطمعها الى اسباب الآخرة فجدت في طلبها واجتهدت وعزفت عن الدنيا وباينت الهوى وخالفت العدو وتبعت العلم وكانت مطية للعقل صابرة على مر ما يدل عليه الحق فنجت وأنجت
الخوف والحزن
وسيلة تحصيل الخوف والحزن
وتعاهد يا أخي قلبك عند هممه وألزمه الفكرة في أمر المعاد فلا تفارق قلبك وتوهم بقلبك هول المطلع عند مفارقة الدنيا وترك ما قد بذل اهلها فيه مهج نفوسهم وتدنيس أعراضهم وإخلاق مروءاتهم وانتقاص أديانهم ثم تركوا ذلك كله وقدموا على الله فرادى آحاد مع ما قد وردوا عليه من وحشة القبر وسؤال منكر ونكير وأهوال القيامة والوقوف بين يدي الله والمساءلة عن جميع ما كان منهم من قول أو فعل من مثل مثاقيل الذر وموازين الخردل
وسؤاله عن الشباب فيم أبلى شبابه وعن العمر فيم أفنى عمره وعن المال من أين اكتسب وعمن منع وفيم انفق وعن العلم ماذا عمل فيه وعن جميع الأعمال التي صدقوا فيها والتي كذبوا فيها
فإنك يا أخي إن شغلت قلبك بذلك وأسكنته إياه وكان فيك شئ
من صحة تركيب العقل فإنه سيكل منك لسانك ولا يعدمك الخوف اللازم مع الحزن الدائم والشغل المحيط بقلبك
إبليس يهوى القلوب الخربة
وإن إبليس إنما يسور عليك في الآثام من وسوسة نفسك وخراب قلبك
وخرابه إنما يكون اذا كان فارغا من الخوف اللازم والحزن الدائم فحينئذ ينفث فيه بالوسوسة لآمال الدنيا والجمع لها مخافة فقرها مع لزوم طول الأمل لقلبك وإعراضه عن الله تعالى وانقطاع مواد عظمة الله منه وفراغه من الهيبة والحياء منه
فإذا وجد القلب عامرا خنس ونفر منه ولم يجد فيه مساغا ولا من جوانبه مدخلا لأن القلب عامر بالخوف والأحزان والفكر فهو منير مضيء
يرى العبد بنور قلبه مداخل إبليس فيرميه بالإنكار لما يدعو إليه ويعتصم بما أيده الله به من نور قلبه فيدحره عنه فولى الخبيث الى قلب قد فقد الخوف فخرب وأظلم فلا نور فيه
فلا شيء أثقل على الخبيث من النور فإذا وجده خنس ونفر منه
فلا يقدر عليه إلا من قبل الغفلة من العبد
ونور القلب إنما هو من يتعظه وحياته فإذا غفل مات وأظلم وطفىء نوره فيلتبس على العبد ما يدخله عليه العدو او يكدر عليه فاختلس إبليس من العبد واستدام القلب بالغفلة فتسور عليه بالآثام فإذا اصر على الاقامة عليها ورضي بها علاه الرين فاظلمه واستقر إبليس فيه ثم سلك به سبيل الآثام إلى ان يوصله ويوقعه في الكبائر
ولا شيء اعجب إلى إبليس من ظلمة القلب وسواده وانطفاء نوره وتراكب الرين عليه ولا شيء أثقل على الخبيث من النور والبياض والنقاء والصفاء وإنما مأواه الظلمة وإلا فلا مأوى له ولا قرار في النور والبياض
ولقد بلغني ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ان يدخل البيت المظلم حتى يضاء له فيه بمصباح
مراقبة الله تعالى
ما يعين على المراقبة
يروي عن بعض الحكماء أنه قال إن من أشرف المقامات وأفضلها المراقبة لله
ومن احسن المراقبة أن يكون العبد مراقبا بالشكر على النعم والاعتراف بالإساءة والتعرض للعفو عن الإساءة فيكون قلبه لازما لهذا المقام في كل أعماله فمتى ما غفل رده إلى هذا بإذن الله
ومما يعين على هذا ترك الذنوب والتفرغ من الاشغال والعناية بالمراجعة
ومن أعمال القلب التي يزكو بها ولا يستغني عنها الإخلاص والثقة والشكر والتواضع والاستسلام والنصيحة والحب في الله تعالى والبغض فيه
وقال أقل النصح الذي يحرجك تركه ولا يسعك إلا العمل به فمتى قصرت عنه كنت مصرا على معصية الله تعالى في ترك النصيحة لعباده
فأقل ذلك ألا تحب لاحد من الناس شيئا مما يكره الله عز وجل ولا تكره لهم ما أحب الله عز وجل
فهذه الحال التي وصفنا واجبه على الخلق لا يسع تركها طرفة عين بضمير ولا بفعل جوارح
وحال أخرى فوق هذه وهي فضيلة للعبد أن يكره لهم ما كره الله وأن يحب لهم ما أحب الله تعالى
قال وجاء رجل الى عبدالله بن المبارك فقال له أوصني فقال راقب الله فقال الرجل وما مراقبة الله فقال أن يستحيي من الله
المراقبة والمناجاة من اليقين
قال فالمناجاة والمراقبة من حيث تضع قلبك وهو أن تضعه دون العرش فتناجي من هناك
وفي رد القلب الى المراقبة مراجعتان
اولاهما مراقبة النظر مع تذكر العلم قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } وقال تعالى { يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }
ثم تذكر العظمة لوجود الحلاوة
والقول الآخر يروى ان الله سبحانه أوصى الى ابراهيم عليه السلام يا ابراهيم تدري لم أتخذتك خليلا قال لا يا رب قال لطول قيامك بين يدي قال فقيل إنما كان قيامه بالقلب وليس بالصلاة
وهذا يوافق القرآن قال تعالى { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار }
وقول حارثة كأني انظر الى عرش ربي بارزا
المصدر: منتديات أحلى كلام
روى عن بعض الحكماء أنه قال
أوصيك ونفسي ومن سمع كلامي بتقوى الله الذي خلق العباد وإليه المعاد وبه السداد والرشاد
فاتقه يا أخي تقوى من قد عرف قرب الله منه وقدرته عليه
وآمن به إيمان من قد اقر له بالوحدانية والفردانية والأزلية لما ظهر من مشاهدة ملكوته وشواهد سلطانه وكثرة الدلائل عليه والآيات التي تدل على ربوبيته ونفاذ مشيئته وإحكام صنعته وبيان قدرته على جميع خلقه وحسن تدبيره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين
وثق به يا أخي ثقة من قد حسن ظنه به وقلت تهمته له وصدق بوعده ووثق بضمانه وسكن قلبه عن الاضطراب إلى وعده وعظم وعيده في قلبه
واشكره يا أخي شكر من قد عرف فضله وكثرت أياديه عنده وبره به
وتعرف نعمه الظاهرة والباطنة الخاصة منها والعامة واخلص له إخلاص من قد عرف أنه لا يقبل له عملا إلا بعد تخليصه من الآفات وإخلاصه لله لا شريك له ولا يشرك في عمله أحدا سواه
وأعلم يا أخي أن إشراك المخلوقين في العمل أن يتزين لهم العبد في مواطن الامتحان فيكذب في عمله أو يرائي ليكرم ويعظم لجميل قوله ومحاسن ما يظهر من عمله وهو يعرف ذلك من نفسه أو يجهله منها
ولا يسلم يا أخي من شره إلا من هرب من مواطنه وعمل وهو لا يحب أن يطلع له مخلوق على عمل وإن اطلع له مخلوق على عمل وهو لا يحب اطلاعه فمن صدقه ألا يحب أن يحمده ذلك المخلوق على ما اطلع عليه من عمله وإن حمده أحد وهو لا يحب حمده فلا يسر بحمده له على عمله فإن سره فلا يسرن لمعنى الدنيا بسبب من الأسباب
ثم أصدق يا أخي في قولك وفعلك صدق من قد عرف أن الله مطلع على دخيلة أمره وسره وعلانيته وما طوى عليه ضميره
وتوكل عليه يا أخي توكل من قد وثق بوعده واطمأن إلى ضمانه
ثقة منه بوفائه ورضا منه بقضائه واستسلاما منه لأمره وإيمانا بقدره ويقينا صادقا منه بجنته وناره
وخفه يا أخي خوف من قد عرف سطوته وشدة نقمته وأليم عذابه ومثلته وآثاره ووقائعه لمن خالف أمره وعصاه
وتعرف يا أخي انه لا تمسك لأحد خذله ولا صنيعة على أحد وفقه وسدده وحاطه وحفظه وأنه لا صبر لأحد على عقوبته ونكاله وتغير نعمه
وارجه يا أخي رجاء من قد صدق بوعده وعاين ثوابه
واشكره يا أخي شكر من قد قبل منه محاسنه واصلح عمله وحباه من مزيد أياديه وأناله من مزيد كراماته ما لم يستأهله بعمله
واستحيه يا أخي حياء من قد تعرف كثرة تفضله وجزيل مواهبه وعرف من نفسه التقصير في شكره وقلة الوفاء منه بعهده والعجز عن القيام بأداء ما لزمه من حقه ثم لا يتعرف من خالقه إلا جميل ستره وعظيم العافية وتتابع النعم ودوام الإحسان إليه وعظيم الحلم والصفح عنه
ثم اعلم يا أخي أن الله جل ذكره قد افترض فرائض ظاهرة وباطنة وشرع لك شرائع دلك عليها وأمرك بها ووعدك على حسن أدائها جزيل الثواب وأوعدك على تضييعها أليم العقاب رحمة لك وحذرك نفسه شفقة منه عليك
فقم يا أخي بفرائضه والزم شرائعه ووافق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتبع آثار أصحاب نبيه والزم سيرتهم وتأدب بآدابهم واسلك طريقهم واهتد بهداهم وتوسل إلى الله بحبهم وحب من أحبهم فهم الذين أنابوا اليه وقصدوا قصده واختارهم لصحبة نبيه فجعلهم له أحبابا وأخدانا
حقيقة التوسل بحب الصالحين
واعلم يا أخي أن علامة حبك إياهم لزومك محجتهم مع استقامة قلبك وصحة عملك وصدق لسانك وحسن سريرتك لأمر دنياك وآخرتك كما كان القوم في هذه الأحوال فهذا يحقق منك صدق دعواك لحبهم والتمسك بسنتهم
فإذا صحت فيك ومنك هذه الخلال كصحتها منهم وفيهم كنت صادقا في حب القوم وحسن الاتباع لهم
وإن كنت مدعيا لحبهم وأنت مخالف لأفاعيلهم عادل عن سبيل الاستقامة لطريق المحجة التي كانوا عليها فأنت مائل الى موافقة هواك عادل عن مسيرتهم ولست بصادق في دعواك
فلا تجمعن على نفسك الخلاف لمحجتهم والدعوى أنك على سبيلهم فمتى فعلت ذلك صح منك جهل وكذب وتعرضت للمقت من اللطيف الخبير
ولكن إقرارا واستغفارا فذلك أولى بمن كانت هذه صفته
وليكن لك يا أخي في الحق نصيب فإنه قد قيل ليأتين على الناس زمان يكون المقر فيه بالحق ناجيا
سياسة النفس
فإذا أنت عرفت الحق فأقررت به ودلك الحق على أن لله عليك مع الفرائض الظاهرة فرضا باطنا هو تصحيح السرائر واستقامة الإرادة وصدق النية ومفاتشة الهمة ونقاء الضمير من كل ما يكره الله وعقد الندم على جميع ما مضى من التواثب بالقلب والجوارح على ما نهى الله عنه
وهذا أمر جعله الله مهيمنا على أعمال الجوارح فما كان من أعمال العبد من عمل ظاهر قوبل به من الباطن فما صح ووافق باطنه صلح وقبل ظاهره وما خالف وفسد باطنه ردت عليه أعمال ظاهرة وإن كثرت وخسر ظاهرها لفساد باطنها
ويحقق ذلك كله قول الله تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون }
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ( إنما العمل بالنية وإنما لامرئ ما نوى ) )
وقوله في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده وإذا فسدت فسد سائر جسده يريد عمله الا وهي القلب
وقوله إن الملك ليكثر أعمال العبد بعد وفاته عند الله تعالى فيقول عبدك لم أزل معه حتى توفيته ثم يذكر محاسن عمله فيكثرها ويطيبها ويحسن الثناء عليه فيقول الله تعالى أنت كنت حفيظا على عمل عبدي وأنا كنت رقيبا على قلبه وإن عمله الذي كثرته وطيبته لم يكن لي خالصا ولست أقبل من عبدي إلا ما كان لي خالصا
فاعرف يا أخي نفسك وتفقد أحوالها وابحث عن عقد ضميرها بعناية منك وشفقة منك عليها مخافة تلفها فليس لك نفس غيرها فإن هلكت فهي الطامة الكبرى والداهية العظمى
فأحد النظر إليها يا أخي بعين نافذة البصر حديدة النظر حتى تعرف آفات عملها وفساد ضميرها وتعرف ما يتحرك به لسانها ثم خذ بعنان هواها فاكبحها بحكمة الخوف وصدق الخلاف عليها وردها بجميل الرفق الى مراجعة الإخلاص في عملها وتصحيح الإرادة في ضميرها وصدق المنطق في لفظها واستقامة النية في قلبها وغض البصر عما كره مولاها مع ترك فضول النظر الى ما قد أبيح النظر إليه مما يجلب على القلب اعتقاد حب الدنيا
وخذها بالصمم عن استماع شئ مما كره مولاها من الهوى والخنا وفي تناولها وقبضها وبسطها وفي فرحها وحزنها
وخذها بتصحيح ما يصل الى بطنها من غذائها وما تستر به عورتها
وخذها بجميع همها كلها
وامنع فرجها عن جميع ما كره مولاها
وليكن مع ذلك منك تيقظ وإزالة للغفلات عن قلبك عند كل حركة تكون منك وسكون وعند الصمت والمنطق والمدخل والمخرج والمنشط والحب والبغض والضحك والبكاء
فتعاهدها يا أخي في ذلك كله فإن لها في كل نوع ذكرناه من ذلك كله سبب لهواها وسبب لطاعتها وسبب لمعصيتها
فإن غفلت و وافقت هواها وغفلت عن مفاتشة هممها كان جميع ما ذكرت لك من ذلك كله معاصي منها وإن انت سقطت بالغفلة ثم رجعت بالتيقظ إلى خلاف هواها فكان معك الندم على غفلتك وسقطتك رجع ذلك كله إحسانا وطاعات لك
فتفقدها يا أخي بالعناية المتحركة منك لها مخافة تلفها فإنك تقطع عن إبليس طريق المعاصي وتفتح على نفسك باب الخيرات وما التوفيق إلا بالله العلي العظيم
بين اللسان والقلب
خطر اللسان
وخف يا أخي من لسانك اشد من خوفك من السبع الضاري القريب المتمكن من أخذك فإن قتيل السبع من اهل الايمان ثوابه الجنة وقتيل اللسان عقوبته النار إلا أن يعفو الله
فإياك يا اخي والغفلة عن اللسان فإنه سبع ضار و أول فريسته صاحبه
فأغلق باب الكلام من نفسك بغلق وثيق ثم لا تفتحه إلا فيما لا بد لك منه فإذا فتحته فاحذر وخذ من الكلام حاجتك التي لا بد لك منها وأغلق الباب
وإياك والغفلة عن ذلك والتمادي في الحديث وأن يستمد بك الكلام فتهلك نفسك فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم
وسأله رجل فقال ما أتقي فقال هذا يعني لسانه
وقال له رجل ما أخوف ما تخاف علي فقال هذا وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه
وقال له آخر ما النجاة فقال امسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
وقال صلى الله عليه وسلم من صمت نجا
وقال من سره ان يسلم فليلزم الصمت
و ورد عمر بن الخطاب على ابي بكر رضي الله عنهما وهو آخذ بطرف لسانه يبصبصه فقال ما تصنع فقال هذا أوردني الموارد
وقال عبدالله بن مسعود ليس شئ أحق بطول سجن من لسان
الى أخبار كثيرة في اللسان
فإياك يا أخي والغفلة عنه فإنه اعظم جوارحك عليك جناية وأكثر ما تجد في صحيفة أعمالك يوم القيامة من الشر ما املاه عليك لسانك وأكثر ما
تجده في صحيفتك من الخير ما اكتسبه قلبك
فضل عمل القلب على عمل اللسان
وذلك ان اكتساب قلوب الحكماء واهل البصائر للخير اعمال خفية تخفى على إبليس وعلى الحفظة فهي اعمال نقية من الفساد زاكية قد حصلت مع خفة مؤنة على أهلها جزيلة الثواب مخلصات من عوارض العدو ومن هوى النفس
وذلك لأنها أعمال مستورة عن أعين العباد خاملة لان العبد يصل إليها قائما وقاعدا ومضطجعا فأولئك هم أولو الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وأكثر ذكرهم التفكر قال تعالى { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض }
فهم اهل الإخمال من المؤمنين الذين عبدوا الله عبادة لم تظهر منهم
سياسة القلب
تصفية القلب عن الحرص على الدنيا
وتعاهد يا أخي قلبك بأسباب الآخرة وعرضه لذلك وصنه من أسباب الدنيا ومن ذكر يجر الى الحرص والرغبة
ولا تأذن لقلبك في استصحاب ما يعسر طلبه وينطفئ نور القلب من اجله وكن في تأليف ما بينه وبين محمود العواقب حريصا وخوف نفسك عقوبة ما في يديه من الدنيا وقلة ادائك لما يجب عليك فيه من الشكر
واستكثر ما في يديك لما تعلم من ضعف شكرك فتشتغل النفس بما في يديها عن الفكر في أمر الدنيا والمحبة للزيادة منها
فإذا اجممتها من ذكر الزيادة من الدنيا وحملتها على درجة الخوف
مما في يديها قنعت ورضيت وعفت عن طلب الدنيا بالحرص والرغبة ورجعت الى الآخرة بالحرص عليها والرغبة فيها فإن النفس مبنية على أساس الطمع
أخطار الطمع على القلب
ومخرج الحرص والرغبة من الطمع وبناء الانفس قائم على قواعد الطمع أما الطمع في الدنيا فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من الدنيا أما الطمع في الاخرة فيستعمل أداة الطمع في طلب الزيادة من أعمال الاخرة بالحرص عليها والرغبة فيها
قيل لحكيم فما آله الطمع وجماع آفاته
قال الشرة والحرص وهيجان الرغبة فعلى ايها اوقعت النفس طمعها احضرت أداتها وجمعت آلتها وجدت في طلبها
فإذا قهرت صاحبها على موافقة هواها استعبدته فأذهلته وأذلته وأدهشته وأتعبته وطيشت عقله ودنست عرضه وأخلقت مروءته وفتنته عن دينه وإن كان عالما لبيبا عاقلا كيسا فطينا فصيحا حكيما فقيها لوثته واسقطته وفضحته فاحتمل لها ذلك كله وهو الاريب العالم الاديب فصيرته بعد العلم جاهلا سفيها أحمق خفيفا
وذلك أنها سقته من موافقة هواها كأسا سما صرفا فاستمالته فمال بعلمه وعقله وفهمه ونفاذ حكمته وبصره فاجراه مجرى هوى نفسه فعجلت له الفضيحة في عاجل الدنيا عند حكمائها وعقلائها وأسقطته من عين الله واعين عباده أمن أهل البصائر وأخرت له آجل الندامة الطويلة عند مفارقة الدنيا وفي عرصات القيامة
قهر النفس على طلب الآخرة
فإذا قطع عليها العبد الطمع من أسباب الدنيا وغلب بعقله هواها رجعت بطمعها إلى أسباب الآخرة لا محالة لأنها بنيت على الطمع
فإذا تجردت من أسباب الدنيا وأقلبت على نفسها بالإياس من المخلوقين رجعت برغبتها وطمعها الى اسباب الآخرة فجدت في طلبها واجتهدت وعزفت عن الدنيا وباينت الهوى وخالفت العدو وتبعت العلم وكانت مطية للعقل صابرة على مر ما يدل عليه الحق فنجت وأنجت
الخوف والحزن
وسيلة تحصيل الخوف والحزن
وتعاهد يا أخي قلبك عند هممه وألزمه الفكرة في أمر المعاد فلا تفارق قلبك وتوهم بقلبك هول المطلع عند مفارقة الدنيا وترك ما قد بذل اهلها فيه مهج نفوسهم وتدنيس أعراضهم وإخلاق مروءاتهم وانتقاص أديانهم ثم تركوا ذلك كله وقدموا على الله فرادى آحاد مع ما قد وردوا عليه من وحشة القبر وسؤال منكر ونكير وأهوال القيامة والوقوف بين يدي الله والمساءلة عن جميع ما كان منهم من قول أو فعل من مثل مثاقيل الذر وموازين الخردل
وسؤاله عن الشباب فيم أبلى شبابه وعن العمر فيم أفنى عمره وعن المال من أين اكتسب وعمن منع وفيم انفق وعن العلم ماذا عمل فيه وعن جميع الأعمال التي صدقوا فيها والتي كذبوا فيها
فإنك يا أخي إن شغلت قلبك بذلك وأسكنته إياه وكان فيك شئ
من صحة تركيب العقل فإنه سيكل منك لسانك ولا يعدمك الخوف اللازم مع الحزن الدائم والشغل المحيط بقلبك
إبليس يهوى القلوب الخربة
وإن إبليس إنما يسور عليك في الآثام من وسوسة نفسك وخراب قلبك
وخرابه إنما يكون اذا كان فارغا من الخوف اللازم والحزن الدائم فحينئذ ينفث فيه بالوسوسة لآمال الدنيا والجمع لها مخافة فقرها مع لزوم طول الأمل لقلبك وإعراضه عن الله تعالى وانقطاع مواد عظمة الله منه وفراغه من الهيبة والحياء منه
فإذا وجد القلب عامرا خنس ونفر منه ولم يجد فيه مساغا ولا من جوانبه مدخلا لأن القلب عامر بالخوف والأحزان والفكر فهو منير مضيء
يرى العبد بنور قلبه مداخل إبليس فيرميه بالإنكار لما يدعو إليه ويعتصم بما أيده الله به من نور قلبه فيدحره عنه فولى الخبيث الى قلب قد فقد الخوف فخرب وأظلم فلا نور فيه
فلا شيء أثقل على الخبيث من النور فإذا وجده خنس ونفر منه
فلا يقدر عليه إلا من قبل الغفلة من العبد
ونور القلب إنما هو من يتعظه وحياته فإذا غفل مات وأظلم وطفىء نوره فيلتبس على العبد ما يدخله عليه العدو او يكدر عليه فاختلس إبليس من العبد واستدام القلب بالغفلة فتسور عليه بالآثام فإذا اصر على الاقامة عليها ورضي بها علاه الرين فاظلمه واستقر إبليس فيه ثم سلك به سبيل الآثام إلى ان يوصله ويوقعه في الكبائر
ولا شيء اعجب إلى إبليس من ظلمة القلب وسواده وانطفاء نوره وتراكب الرين عليه ولا شيء أثقل على الخبيث من النور والبياض والنقاء والصفاء وإنما مأواه الظلمة وإلا فلا مأوى له ولا قرار في النور والبياض
ولقد بلغني ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ان يدخل البيت المظلم حتى يضاء له فيه بمصباح
مراقبة الله تعالى
ما يعين على المراقبة
يروي عن بعض الحكماء أنه قال إن من أشرف المقامات وأفضلها المراقبة لله
ومن احسن المراقبة أن يكون العبد مراقبا بالشكر على النعم والاعتراف بالإساءة والتعرض للعفو عن الإساءة فيكون قلبه لازما لهذا المقام في كل أعماله فمتى ما غفل رده إلى هذا بإذن الله
ومما يعين على هذا ترك الذنوب والتفرغ من الاشغال والعناية بالمراجعة
ومن أعمال القلب التي يزكو بها ولا يستغني عنها الإخلاص والثقة والشكر والتواضع والاستسلام والنصيحة والحب في الله تعالى والبغض فيه
وقال أقل النصح الذي يحرجك تركه ولا يسعك إلا العمل به فمتى قصرت عنه كنت مصرا على معصية الله تعالى في ترك النصيحة لعباده
فأقل ذلك ألا تحب لاحد من الناس شيئا مما يكره الله عز وجل ولا تكره لهم ما أحب الله عز وجل
فهذه الحال التي وصفنا واجبه على الخلق لا يسع تركها طرفة عين بضمير ولا بفعل جوارح
وحال أخرى فوق هذه وهي فضيلة للعبد أن يكره لهم ما كره الله وأن يحب لهم ما أحب الله تعالى
قال وجاء رجل الى عبدالله بن المبارك فقال له أوصني فقال راقب الله فقال الرجل وما مراقبة الله فقال أن يستحيي من الله
المراقبة والمناجاة من اليقين
قال فالمناجاة والمراقبة من حيث تضع قلبك وهو أن تضعه دون العرش فتناجي من هناك
وفي رد القلب الى المراقبة مراجعتان
اولاهما مراقبة النظر مع تذكر العلم قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } وقال تعالى { يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }
ثم تذكر العظمة لوجود الحلاوة
والقول الآخر يروى ان الله سبحانه أوصى الى ابراهيم عليه السلام يا ابراهيم تدري لم أتخذتك خليلا قال لا يا رب قال لطول قيامك بين يدي قال فقيل إنما كان قيامه بالقلب وليس بالصلاة
وهذا يوافق القرآن قال تعالى { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار }
وقول حارثة كأني انظر الى عرش ربي بارزا