دانة الكون
23-06-2012, 01:38 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ظل العلماء خلال حقبة من الزمان ينظرون إلى مادة الدماغ البيضاء
على أنها بنية تحتية غير فعالة، لكن بحثا جديدا بيّن أنها تؤثر
تأثيرا فعالا في عملية التعلم(1) وفي الأمراض العقلية(2).
<D.R. فيلدز>
مفاهيم مفتاحية
إن المادة البيضاء، التي ظل يُعْتقد خلال حقبة من الزمان أنها نسيج غير فعال، تؤثر تأثيرا فعالا في الكيفية التي يتعلم بها الدماغ والتي تختل بها وظائفه.
ومع أن المادة السنجابية (المؤلفة من عصبونات) تقوم بوظيفة الدماغ في التفكير والحساب، فإن المادة البيضاء (المؤلفة من محاوير مغلفة بالميلين) تتحكم في الإشارات التي تتشاطرها العصبونات، منسقةً بذلك عمل مناطق الدماغ معا بشكل جيد.
لقد أظهر لأول مرة نوع جديد من تقانة الرنين المغنطيسي، اسمه تصوير مُوَتِّر انتشاري (DTI) (3)المادة البيضاء أثناء قيامها بعملها، كاشفا بذلك النقاب عن دورها الذي لم يقدر حق قدره.
يتكون الميلين جزئيا عند الولادة، ثم يتنامى تدريجيا في مناطق مختلفة طوال العشرينات من عمرنا. ويمكن أن يؤثر توقيت النمو الميليني ودرجة اكتماله في التعلم، وضبط النفس (وسبب احتمال افتقار المراهقين له)، والأمراض العقلية مثل الفصام، والتوحّد (الذاتوية)، بل والكذب المرضي.
إن المادة السنجابية الموجودة فيما بين الأذنين والتي يقرعك بشأنها معلموك، هي المكان الذي تحدث فيه العمليات الحسابية العقلية وتخَزَّن فيه الذكريات. هذه القشرة المخية تكوِّن سطح الدماغ وتتألف من أجسام خلايا عصبونية متراصة على نحو كثيف تمثل الأجزاء الصانعة للقرار من الخلايا العصبية أو العصبونات. من ناحية أخرى، تقع تحت القشرة المخية مباشرة طبقة سفلى من المادة البيضاء تملأ ما يقرب من نصف الدماغ البشري، وهي نسبة أكبر بكثير من تلك الموجودة في أدمغة الحيوانات الأخرى. تتكون المادة البيضاء من الملايين من كبلات الاتصال، ويحتوي كل منها على سلك طويل منفرد مستقل يسمى المحوار axon، مغلف بمادة شحمية بيضاء تسمى مَيَلِيْن (نُخاعِين) myelin. تربط هذه الكبلات البيضاء العصبونات الموجودة في منطقة ما من الدماغ بالعصبونات الموجودة في المناطق الأخرى مثلما تربط الخطوط الرئيسية للشبكة الهاتفية بين الهواتف التي توجد في الأجزاء المختلفة من البلاد.
لعقود من الزمن، ظل علماء الأعصاب يبدون اهتماما قليلا بالمادة البيضاء، وكانوا يعتبرون الميلين مجرد عازل والكبلات الموجودة في داخله ليست أكثر من مسالك غير فعالة. لقد ركزت نظريات التعلم والذاكرة والاضطرابات النفسية على فعل جزيئي يحدث داخل العصبونات وعند المشابك الشهيرة، وهي عبارة عن نقاط اتصال بالغة الصغر بين العصبونات. ولكن العلماء بدؤوا يدركون الآن أننا قد بخسنا المادة البيضاء أهميتها في نقل المعلومات فيما بين مناطق الدماغ على النحو الصحيح. لقد أظهرت الدراسات الجديدة أن حجم المادة البيضاء يختلف باختلاف الأشخاص الذين تتفاوت خبراتهم العقلية أو الذين يعانون من اختلالات وظيفية معينة. كما أنه يتغير أيضا داخل دماغ الشخص الواحد (ذكرا كان أو أنثى) أثناء تعلمه أو ممارسته لإحدى المهارات، مثل العزف على الپيانو. وعلى الرغم من أن العصبونات في المادة السنجابية تُنفّذُ الأنشطة العقلية والبدنية، فإن وظيفة المادة البيضاء يمكن أن يكون لها الأهمية نفسها بالنسبة إلى كيفية تمكن الأشخاص من المهارات العقلية والاجتماعية، وكذلك بالنسبة إلى سبب صعوبة تعلم الكلاب المسنة الحيل الجديدة.
المادة البيضاء مرتبطة
أكثر بالبراعة والتمكن(**)
لقد كان الميلين الذي يعطي المادة البيضاء لونها يشكل دائما لغزا. ولأكثر من قرن من الزمن ظل العلماء يفحصون العصبونات من خلال مجاهرهم ويرون أليافا طويلة، هي المحاوير، يمتد كل منها من جسم خلية عصبونية إلى جسم خلية مجاورة مثل إصبع طويلة ممدودة. لقد وُجِد أن كل محوار مغلف بهلام كثيف. وقد ظن علماء التشريح أن هذا الغلاف الشحمي(6) لابد وأنه يعزل المحاوير، كما يفعل الغمد المطاطي الموجود على طول سلك النحاس. ولكن الغريب أن العديد من المحاوير وخاصة الخيوط الأصغر حجما لم يكن مغلفا على الإطلاق، وحتى الألياف المعزولة كانت تظهر على طول أغلفتها العازلة ثغرات كل مليمتر تقريبا. لقد أصبحت هذه المواضع العارية تعرف بعقد «رانفييه»(7) نسبة إلى عالم التشريح الفرنسي <A.L. رانفييه> الذي كان أول من وصفها.
لقد كشف الاستقصاء الحديث أن السرعة التي تنتقل بها الدفعات العصبية عبر المحاوير تزداد 100 مرة حينما تكون المحاوير مغلفة بالميلين، وأن الميلين يبرم حول المحاوير مثل الشريط الكهربائي إلى حد ما، حيث يلتف نحو 150 مرة حول المحوار فيما بين كل عقدة وأخرى. تصَنع مادة الميلين على هيئة ألواح بواسطة نوعين من الخلايا الدبقية المنتشرة في الدماغ والجهاز العصبي ولكنها ليست عصبونات [انظر: «النصف الآخر من الدماغ»، مجلة العلوم، العددان 2/1 (2005)، ص 46]. تقوم الخلايا الدبقية الأخطبوطية الشكل المسماة بالخلايا الدبقية القليلة التغصن oligodendrocyte بعملية لف الميلين حول المحاوير لتغليفها، وبذلك تصبح الإشارات العصبية غير قادرة على التسرب خلال الغمد، فتنتقل عبر المحوار بالوثب السريع من عقدة إلى أخرى؛ أما في الأعصاب الواقعة خارج الدماغ والنخاع (الحبل) الشوكي، فتوجد خلايا دبقية تشبه النقانق تسمى خلايا شوان Schwan cells (أو الخلايا المغمدة للألياف العصبية) لتكوين الميلين.
ولولا وجود الميلين لتسربت الإشارات الكهربائية وتبددت. وينبغي أن يكون سمك الميلين العازل مناسبا بالضبط لقطر الليف العصبي الموجود داخله لتحقيق سرعة النقل القصوى للدفعات العصبية. تبلغ النسبة الأمثل لقطر المحوار العاري المقسوم على قطر الليف بأكمله (متضمنا الميلين) 0.6. ليست لدينا أية فكرة عن كيفية «معرفة» الخلايا الدبقية القليلة التغصن لعدد طبقات العزل الضرورية لتكوين السمك الصحيح للميلين على المحاوير المختلفة الأقطار، سواء أكان 10 أم 100. ولكن الإخصائي في البيولوجيا (علم الأحياء) <A.K. نيف> [في معهد ماكس پلانك للطب التجريبي في جوتينجن بألمانيا] وجد مؤخرا أن خلايا شوان تستكشف پروتينا يسمى نوريگلين neuregulin يكسو المحاوير، وأنه إذا ما ازدادت كمية هذا الپروتين أو نقصت قامت خلايا شوان بلف ألواح أكثر أو أقل من الميلين حول المحاوير. ومما يثير الاهتمام أن كثيرا من الناس الذين يعانون من الاضطراب الثنائي القطب أو من الفصام، لديهم عيب في الجينة التي تضبط إنتاج هذا الپروتين.
http://imagecache.te3p.com/imgcache/7f473b3dba395f91beaab34d30873401.jpg
قطعة فنية منحوتة تصور منظرا فوقيا (علويا) لقشرة الدماغ (النحاس) ولب المادة البيضاء.
يحدث لف أغلفة الميلين حول المحاوير في أعمار مختلفة، إذ ينتشر الميلين فقط في مناطق قليلة من الدماغ عند الميلاد، ثم يتسع مدى انتشاره في اندلاعات مفاجئة، ولا يكتمل لف الميلين حول المحاوير حتى سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين في بعض الأماكن. يستمر تكوين الميلين على نحو مطرد في موجة تنتشر من مؤخرة القشرة المخية إلى مقدمتها (الجبهة) أثناء نمونا وصولا إلى سن البلوغ. إن الفصين الجبهيين هما آخر الأماكن التي يظهر فيها تكون الميلين، وهما المنطقتان المسؤولتان عن المهارات الأرقى مستوى من التفكير وخاصة الاستنتاج من الوقائع والمقدمات، والتخطيط، وعملية تكوين الرأي عن طريق التمييز والمقارنة، والتي لا تتشكل إلا بالتجربة والخبرة. لقد تفكر الباحثون في هذا وخمنوا أن الكم الضئيل من الميلين في الدماغ المُقَدَّم هو أحد الأسباب لعدم امتلاك المراهقين القدرة على اتخاذ القرار، وهي القدرة التي توجد لدى البالغين. ولقد أوحت مثل تلك الملاحظات إلى أهمية الميلين بالنسبة إلى الذكاء.
من المفترض ألا ينتهي الدماغ من تغليف المحاوير البشرية حتى المرحلة المبكرة من البلوغ، لأنه طوال ذلك الوقت تستمر المحاوير في النماء واكتساب فروع جديدة وتقليم فروع أخرى استجابة للتجارب والخبرات المكتسبة. وبمجرد أن تصبح المحاوير ميلينية، تصير التغيرات التي تخضع لها هذه المحاوير محدودة أكثر. ومع ذلك، بقي سؤال ظل يطرح نفسه إلى زمن طويل وهو: هل عملية تكون الميلين مبرمجة بالكامل، أم إن تجاربنا وخبراتنا الحياتية تعدل بالفعل من درجة التغليف الميليني(8)، التي تؤثر بدورها في مدى جودة تعلمنا؟ وهل يُكوّن الميلين بالفعل القدرة المعرفية(9) تدريجيا، أم إن المعرفة محدودة فقط بالمناطق التي لم يتكون بها الميلين بعد؟
[أساسيات]
ما هي المادة البيضاء(***)
http://imagecache.te3p.com/imgcache/ca12a61690ed4d97a1f154b1293c09c2.jpg
لقد قرر <F. أولين> [عازف الپيانو البارع] أن يكتشف الإجابة، وقد تصادف أن يكون <أولين> أيضا أستاذا مساعدا (مشاركا) في معهد استوكهولم للدماغ بالسويد. وقد قام هو وزملاؤه في عام 2005 باستخدام تقانة جديدة لتفرس الدماغ تسمى تصوير مُوَتِّر انتشاري diffusion tensorimaging (أو DTI اختصارا) لتقصي أدمغة عازفي الپيانو المحترفين. يجري التصوير DTI(10) للماء الذي ينتشر في الأنسجة. فتكون إشارات التصوير DTI ضعيفة في المادة السنجابية، لأن الماء ينتشر خلالها انتشارا متماثلا. ولكن الماء ينتشر على نحو غير متماثل على طول حزم المحاوير، فيضيء هذا النسق غير المنتظم المادة البيضاء كاشفا الطرق الرئيسية العامة التي تتدفق فيها المعلومات فيما بين مناطق الدماغ. فكلما كانت الألياف محشورة في حزم مكتظة ومغلفة بقدر وافر من الميلين، كانت إشارات التصوير DTI أقوى. بنفس نوع ماكينات التصوير بالرنين المغنطيسي الموجود في المستشفيات، ولكنه يتضمن نوعا مختلفا من المجال المغنطيسي ولوغاريتمات مختلفة لتكوين شرائح تصويرية متعددة للدماغ، بحيث تتجمع في صورة ثلاثية الأبعاد. تصور الشرائح الكميات الموَجَّهة (المُعَرَّفة رياضياتيا بالمُوَتّرات أو التنسورات)
يستمر برم الميلين حول المحاوير لتغليفها حتى سن الخامسة والعشرين أو نحو ذلك، وهذا هو أحد الأسباب التي تفسر عدم امتلاك المراهقين القدرة على اتخاذ القرار والموجودة لدى البالغين.
لقد وجد <أولين> كذلك مناطق معينة من المادة البيضاء في أدمغة عازفي الپيانو المحترفين أكثر نماء وتطورا عنها لدى غير الموسيقيين. تربط هذه المناطق أجزاء القشرة المخية البالغة الأهمية بالنسبة إلى الحركات المتناسقة للأصابع مع مناطق تتضمن عمليات معرفية أخرى تؤدي دورها أثناء عزف الموسيقى.
كما وجد <أولين> أيضا أنه كلما زاد، على مر الزمن، عدد الساعات التي يتدرب فيها عازف الموسيقى، ازدادت إشارات التصوير DTI قوة في مسالك المادة البيضاء، هذه التي كانت فيها المحاوير مغلفة بقدر أوفر من الميلين أو محتشدة في حزم مكتظة. بالطبع، يمكن أن تكون المحاوير قد تمددت ليس غير، ولذلك أصبحت في حاجة إلى مزيد من الميلين للحفاظ على نسبة 0.6 المثلى. وسوف يظل هذا الخلاف محل بحث ما لم يُجْرَ تشريح للدماغ بعد الموت. ومع ذلك، يعتبر ذلك اكتشافا مهما؛ لأنه يبين أنه عندما يتعلم الإنسان إحدى المهارات المعقدة، فإن المادة البيضاء تحدث فيها تغيرات ملحوظة، على الرغم من أنها بنية دماغية لا تحوي أية أجسام خلايا عصبونية أو مشابك على الإطلاق، وإنما تحوي محاوير ودبقا عصبيا glia فقط. وتظهر الدراسات التي تُجرى على الحيوانات التي يمكن فحص أدمغتها فحصا ماديا، أن الميلين يمكن أن يتغير استجابةً للخبرات العقلية ولبيئة نماء الحيوان. لقد أكد مؤخرا عالم البيولوجيا العصبية <T.W. گرينوف> [في جامعة إلينوي بإربانا شامپين] أن الجرذان التي تربت في بيئات غنية [تتمتع فيها بحرية الوصول إلى لعب وفيرة واستعمالها وتتعرض فيها إلى تفاعلات اجتماعية نشيطة] كانت لديها كمية أكبر من الألياف الميلينية(11) في الجسم الثفني corpus callosum، الذي هو عبارة عن حزمة ضخمة من المحاوير التي تربط بين نصفي الدماغ.
http://imagecache.te3p.com/imgcache/fb41c8b76902f8419348d88586bd649d.jpg
http://imagecache.te3p.com/imgcache/b430b6bb2f224ae4eee21eef3ac86567.jpg
http://imagecache.te3p.com/imgcache/67fb25438be2e2182fd0cbc8b5e512f6.jpg
يستطيع جهاز التصوير المعهود بالرنين المغنطيسي MRI (الصورة اليسرى) تصوير المادة البيضاء بشكل تقريبي (المناطق البيضاء في الصورة اليمنى). ولكن توجد الآن عملية تصوير جديدة بالرنين المغنطيسي تسمى التصوير المُوَتّّر الانتشاري (DTI) تظهر التركيب بمزيد من التفاصيل (الصورة الوسطى) ويشير الأحمر والأصفر إلى مادة بيضاء متعضية تعضيا بلغ ذروته.
تتفق هذه النتائج فيما يبدو مع دراسات التصوير DTI التي أجراها عالم الأعصاب <J.V. شميتهورست> [من مستشفى سينسيناتي للأطفال]، حيث قام بمقارنة درجة نماء المادة البيضاء في أدمغة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 18 سنة. ووجد أن بنية المادة البيضاء الأكثر تناميا ترتبط بشكل مباشر بدرجة معامل الذكاء الأعلى. وقد كشفت تقارير أخرى أن الأطفال الذين يعانون من الإهمال الشديد تقل المادة البيضاء في الجسم الثفني لديهم حوالي 17% عن الطبيعي.
تَغَيّرُ مُنَبِّه(****)
توحي مثل تلك الاكتشافات بشدة إلى أن الخبرة تؤثر في تكوين الميلين، وأن الميلين الناتج منها يدعم عملية التعلم وتحسين المهارات. ولكي يكون الباحثون مقتنعين تماما بهذا الاستنتاج، فإنهم بحاجة إلى تفسير معقول ومقبول لكيفية تمكن الميلين الوافر من تعزيز المعرفة، وكذلك إلى بعض الأدلة المباشرة على أن عيوب الميلين يمكن أن تضعف القدرات الذهنية.
لقد كشف مختبري النقاب عن عدة طرق تُمكن خبرات الفرد من التأثير في تكوين الميلين. ففي الدماغ تطلق العصبونات دفعات كهربائية في المحاوير. وبإنماء عصبونات من أجنة الجرذان في أطباق زرع مجهزة بمسارٍ كهربائية من الپلاتين، يمكننا فرض طرز من الدفعات عليها. وقد وجدنا أن هذه الدفعات تستطيع التحكم في جينات معينة في العصبونات، إحداها تتسبب في إنتاج پروتين لزج اسمه L1-CAM يؤدي دورا مهما في لصق طبقة الغشاء الأولى حول المحوار عندما يبدأ الميلين بالتكون.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ظل العلماء خلال حقبة من الزمان ينظرون إلى مادة الدماغ البيضاء
على أنها بنية تحتية غير فعالة، لكن بحثا جديدا بيّن أنها تؤثر
تأثيرا فعالا في عملية التعلم(1) وفي الأمراض العقلية(2).
<D.R. فيلدز>
مفاهيم مفتاحية
إن المادة البيضاء، التي ظل يُعْتقد خلال حقبة من الزمان أنها نسيج غير فعال، تؤثر تأثيرا فعالا في الكيفية التي يتعلم بها الدماغ والتي تختل بها وظائفه.
ومع أن المادة السنجابية (المؤلفة من عصبونات) تقوم بوظيفة الدماغ في التفكير والحساب، فإن المادة البيضاء (المؤلفة من محاوير مغلفة بالميلين) تتحكم في الإشارات التي تتشاطرها العصبونات، منسقةً بذلك عمل مناطق الدماغ معا بشكل جيد.
لقد أظهر لأول مرة نوع جديد من تقانة الرنين المغنطيسي، اسمه تصوير مُوَتِّر انتشاري (DTI) (3)المادة البيضاء أثناء قيامها بعملها، كاشفا بذلك النقاب عن دورها الذي لم يقدر حق قدره.
يتكون الميلين جزئيا عند الولادة، ثم يتنامى تدريجيا في مناطق مختلفة طوال العشرينات من عمرنا. ويمكن أن يؤثر توقيت النمو الميليني ودرجة اكتماله في التعلم، وضبط النفس (وسبب احتمال افتقار المراهقين له)، والأمراض العقلية مثل الفصام، والتوحّد (الذاتوية)، بل والكذب المرضي.
إن المادة السنجابية الموجودة فيما بين الأذنين والتي يقرعك بشأنها معلموك، هي المكان الذي تحدث فيه العمليات الحسابية العقلية وتخَزَّن فيه الذكريات. هذه القشرة المخية تكوِّن سطح الدماغ وتتألف من أجسام خلايا عصبونية متراصة على نحو كثيف تمثل الأجزاء الصانعة للقرار من الخلايا العصبية أو العصبونات. من ناحية أخرى، تقع تحت القشرة المخية مباشرة طبقة سفلى من المادة البيضاء تملأ ما يقرب من نصف الدماغ البشري، وهي نسبة أكبر بكثير من تلك الموجودة في أدمغة الحيوانات الأخرى. تتكون المادة البيضاء من الملايين من كبلات الاتصال، ويحتوي كل منها على سلك طويل منفرد مستقل يسمى المحوار axon، مغلف بمادة شحمية بيضاء تسمى مَيَلِيْن (نُخاعِين) myelin. تربط هذه الكبلات البيضاء العصبونات الموجودة في منطقة ما من الدماغ بالعصبونات الموجودة في المناطق الأخرى مثلما تربط الخطوط الرئيسية للشبكة الهاتفية بين الهواتف التي توجد في الأجزاء المختلفة من البلاد.
لعقود من الزمن، ظل علماء الأعصاب يبدون اهتماما قليلا بالمادة البيضاء، وكانوا يعتبرون الميلين مجرد عازل والكبلات الموجودة في داخله ليست أكثر من مسالك غير فعالة. لقد ركزت نظريات التعلم والذاكرة والاضطرابات النفسية على فعل جزيئي يحدث داخل العصبونات وعند المشابك الشهيرة، وهي عبارة عن نقاط اتصال بالغة الصغر بين العصبونات. ولكن العلماء بدؤوا يدركون الآن أننا قد بخسنا المادة البيضاء أهميتها في نقل المعلومات فيما بين مناطق الدماغ على النحو الصحيح. لقد أظهرت الدراسات الجديدة أن حجم المادة البيضاء يختلف باختلاف الأشخاص الذين تتفاوت خبراتهم العقلية أو الذين يعانون من اختلالات وظيفية معينة. كما أنه يتغير أيضا داخل دماغ الشخص الواحد (ذكرا كان أو أنثى) أثناء تعلمه أو ممارسته لإحدى المهارات، مثل العزف على الپيانو. وعلى الرغم من أن العصبونات في المادة السنجابية تُنفّذُ الأنشطة العقلية والبدنية، فإن وظيفة المادة البيضاء يمكن أن يكون لها الأهمية نفسها بالنسبة إلى كيفية تمكن الأشخاص من المهارات العقلية والاجتماعية، وكذلك بالنسبة إلى سبب صعوبة تعلم الكلاب المسنة الحيل الجديدة.
المادة البيضاء مرتبطة
أكثر بالبراعة والتمكن(**)
لقد كان الميلين الذي يعطي المادة البيضاء لونها يشكل دائما لغزا. ولأكثر من قرن من الزمن ظل العلماء يفحصون العصبونات من خلال مجاهرهم ويرون أليافا طويلة، هي المحاوير، يمتد كل منها من جسم خلية عصبونية إلى جسم خلية مجاورة مثل إصبع طويلة ممدودة. لقد وُجِد أن كل محوار مغلف بهلام كثيف. وقد ظن علماء التشريح أن هذا الغلاف الشحمي(6) لابد وأنه يعزل المحاوير، كما يفعل الغمد المطاطي الموجود على طول سلك النحاس. ولكن الغريب أن العديد من المحاوير وخاصة الخيوط الأصغر حجما لم يكن مغلفا على الإطلاق، وحتى الألياف المعزولة كانت تظهر على طول أغلفتها العازلة ثغرات كل مليمتر تقريبا. لقد أصبحت هذه المواضع العارية تعرف بعقد «رانفييه»(7) نسبة إلى عالم التشريح الفرنسي <A.L. رانفييه> الذي كان أول من وصفها.
لقد كشف الاستقصاء الحديث أن السرعة التي تنتقل بها الدفعات العصبية عبر المحاوير تزداد 100 مرة حينما تكون المحاوير مغلفة بالميلين، وأن الميلين يبرم حول المحاوير مثل الشريط الكهربائي إلى حد ما، حيث يلتف نحو 150 مرة حول المحوار فيما بين كل عقدة وأخرى. تصَنع مادة الميلين على هيئة ألواح بواسطة نوعين من الخلايا الدبقية المنتشرة في الدماغ والجهاز العصبي ولكنها ليست عصبونات [انظر: «النصف الآخر من الدماغ»، مجلة العلوم، العددان 2/1 (2005)، ص 46]. تقوم الخلايا الدبقية الأخطبوطية الشكل المسماة بالخلايا الدبقية القليلة التغصن oligodendrocyte بعملية لف الميلين حول المحاوير لتغليفها، وبذلك تصبح الإشارات العصبية غير قادرة على التسرب خلال الغمد، فتنتقل عبر المحوار بالوثب السريع من عقدة إلى أخرى؛ أما في الأعصاب الواقعة خارج الدماغ والنخاع (الحبل) الشوكي، فتوجد خلايا دبقية تشبه النقانق تسمى خلايا شوان Schwan cells (أو الخلايا المغمدة للألياف العصبية) لتكوين الميلين.
ولولا وجود الميلين لتسربت الإشارات الكهربائية وتبددت. وينبغي أن يكون سمك الميلين العازل مناسبا بالضبط لقطر الليف العصبي الموجود داخله لتحقيق سرعة النقل القصوى للدفعات العصبية. تبلغ النسبة الأمثل لقطر المحوار العاري المقسوم على قطر الليف بأكمله (متضمنا الميلين) 0.6. ليست لدينا أية فكرة عن كيفية «معرفة» الخلايا الدبقية القليلة التغصن لعدد طبقات العزل الضرورية لتكوين السمك الصحيح للميلين على المحاوير المختلفة الأقطار، سواء أكان 10 أم 100. ولكن الإخصائي في البيولوجيا (علم الأحياء) <A.K. نيف> [في معهد ماكس پلانك للطب التجريبي في جوتينجن بألمانيا] وجد مؤخرا أن خلايا شوان تستكشف پروتينا يسمى نوريگلين neuregulin يكسو المحاوير، وأنه إذا ما ازدادت كمية هذا الپروتين أو نقصت قامت خلايا شوان بلف ألواح أكثر أو أقل من الميلين حول المحاوير. ومما يثير الاهتمام أن كثيرا من الناس الذين يعانون من الاضطراب الثنائي القطب أو من الفصام، لديهم عيب في الجينة التي تضبط إنتاج هذا الپروتين.
http://imagecache.te3p.com/imgcache/7f473b3dba395f91beaab34d30873401.jpg
قطعة فنية منحوتة تصور منظرا فوقيا (علويا) لقشرة الدماغ (النحاس) ولب المادة البيضاء.
يحدث لف أغلفة الميلين حول المحاوير في أعمار مختلفة، إذ ينتشر الميلين فقط في مناطق قليلة من الدماغ عند الميلاد، ثم يتسع مدى انتشاره في اندلاعات مفاجئة، ولا يكتمل لف الميلين حول المحاوير حتى سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين في بعض الأماكن. يستمر تكوين الميلين على نحو مطرد في موجة تنتشر من مؤخرة القشرة المخية إلى مقدمتها (الجبهة) أثناء نمونا وصولا إلى سن البلوغ. إن الفصين الجبهيين هما آخر الأماكن التي يظهر فيها تكون الميلين، وهما المنطقتان المسؤولتان عن المهارات الأرقى مستوى من التفكير وخاصة الاستنتاج من الوقائع والمقدمات، والتخطيط، وعملية تكوين الرأي عن طريق التمييز والمقارنة، والتي لا تتشكل إلا بالتجربة والخبرة. لقد تفكر الباحثون في هذا وخمنوا أن الكم الضئيل من الميلين في الدماغ المُقَدَّم هو أحد الأسباب لعدم امتلاك المراهقين القدرة على اتخاذ القرار، وهي القدرة التي توجد لدى البالغين. ولقد أوحت مثل تلك الملاحظات إلى أهمية الميلين بالنسبة إلى الذكاء.
من المفترض ألا ينتهي الدماغ من تغليف المحاوير البشرية حتى المرحلة المبكرة من البلوغ، لأنه طوال ذلك الوقت تستمر المحاوير في النماء واكتساب فروع جديدة وتقليم فروع أخرى استجابة للتجارب والخبرات المكتسبة. وبمجرد أن تصبح المحاوير ميلينية، تصير التغيرات التي تخضع لها هذه المحاوير محدودة أكثر. ومع ذلك، بقي سؤال ظل يطرح نفسه إلى زمن طويل وهو: هل عملية تكون الميلين مبرمجة بالكامل، أم إن تجاربنا وخبراتنا الحياتية تعدل بالفعل من درجة التغليف الميليني(8)، التي تؤثر بدورها في مدى جودة تعلمنا؟ وهل يُكوّن الميلين بالفعل القدرة المعرفية(9) تدريجيا، أم إن المعرفة محدودة فقط بالمناطق التي لم يتكون بها الميلين بعد؟
[أساسيات]
ما هي المادة البيضاء(***)
http://imagecache.te3p.com/imgcache/ca12a61690ed4d97a1f154b1293c09c2.jpg
لقد قرر <F. أولين> [عازف الپيانو البارع] أن يكتشف الإجابة، وقد تصادف أن يكون <أولين> أيضا أستاذا مساعدا (مشاركا) في معهد استوكهولم للدماغ بالسويد. وقد قام هو وزملاؤه في عام 2005 باستخدام تقانة جديدة لتفرس الدماغ تسمى تصوير مُوَتِّر انتشاري diffusion tensorimaging (أو DTI اختصارا) لتقصي أدمغة عازفي الپيانو المحترفين. يجري التصوير DTI(10) للماء الذي ينتشر في الأنسجة. فتكون إشارات التصوير DTI ضعيفة في المادة السنجابية، لأن الماء ينتشر خلالها انتشارا متماثلا. ولكن الماء ينتشر على نحو غير متماثل على طول حزم المحاوير، فيضيء هذا النسق غير المنتظم المادة البيضاء كاشفا الطرق الرئيسية العامة التي تتدفق فيها المعلومات فيما بين مناطق الدماغ. فكلما كانت الألياف محشورة في حزم مكتظة ومغلفة بقدر وافر من الميلين، كانت إشارات التصوير DTI أقوى. بنفس نوع ماكينات التصوير بالرنين المغنطيسي الموجود في المستشفيات، ولكنه يتضمن نوعا مختلفا من المجال المغنطيسي ولوغاريتمات مختلفة لتكوين شرائح تصويرية متعددة للدماغ، بحيث تتجمع في صورة ثلاثية الأبعاد. تصور الشرائح الكميات الموَجَّهة (المُعَرَّفة رياضياتيا بالمُوَتّرات أو التنسورات)
يستمر برم الميلين حول المحاوير لتغليفها حتى سن الخامسة والعشرين أو نحو ذلك، وهذا هو أحد الأسباب التي تفسر عدم امتلاك المراهقين القدرة على اتخاذ القرار والموجودة لدى البالغين.
لقد وجد <أولين> كذلك مناطق معينة من المادة البيضاء في أدمغة عازفي الپيانو المحترفين أكثر نماء وتطورا عنها لدى غير الموسيقيين. تربط هذه المناطق أجزاء القشرة المخية البالغة الأهمية بالنسبة إلى الحركات المتناسقة للأصابع مع مناطق تتضمن عمليات معرفية أخرى تؤدي دورها أثناء عزف الموسيقى.
كما وجد <أولين> أيضا أنه كلما زاد، على مر الزمن، عدد الساعات التي يتدرب فيها عازف الموسيقى، ازدادت إشارات التصوير DTI قوة في مسالك المادة البيضاء، هذه التي كانت فيها المحاوير مغلفة بقدر أوفر من الميلين أو محتشدة في حزم مكتظة. بالطبع، يمكن أن تكون المحاوير قد تمددت ليس غير، ولذلك أصبحت في حاجة إلى مزيد من الميلين للحفاظ على نسبة 0.6 المثلى. وسوف يظل هذا الخلاف محل بحث ما لم يُجْرَ تشريح للدماغ بعد الموت. ومع ذلك، يعتبر ذلك اكتشافا مهما؛ لأنه يبين أنه عندما يتعلم الإنسان إحدى المهارات المعقدة، فإن المادة البيضاء تحدث فيها تغيرات ملحوظة، على الرغم من أنها بنية دماغية لا تحوي أية أجسام خلايا عصبونية أو مشابك على الإطلاق، وإنما تحوي محاوير ودبقا عصبيا glia فقط. وتظهر الدراسات التي تُجرى على الحيوانات التي يمكن فحص أدمغتها فحصا ماديا، أن الميلين يمكن أن يتغير استجابةً للخبرات العقلية ولبيئة نماء الحيوان. لقد أكد مؤخرا عالم البيولوجيا العصبية <T.W. گرينوف> [في جامعة إلينوي بإربانا شامپين] أن الجرذان التي تربت في بيئات غنية [تتمتع فيها بحرية الوصول إلى لعب وفيرة واستعمالها وتتعرض فيها إلى تفاعلات اجتماعية نشيطة] كانت لديها كمية أكبر من الألياف الميلينية(11) في الجسم الثفني corpus callosum، الذي هو عبارة عن حزمة ضخمة من المحاوير التي تربط بين نصفي الدماغ.
http://imagecache.te3p.com/imgcache/fb41c8b76902f8419348d88586bd649d.jpg
http://imagecache.te3p.com/imgcache/b430b6bb2f224ae4eee21eef3ac86567.jpg
http://imagecache.te3p.com/imgcache/67fb25438be2e2182fd0cbc8b5e512f6.jpg
يستطيع جهاز التصوير المعهود بالرنين المغنطيسي MRI (الصورة اليسرى) تصوير المادة البيضاء بشكل تقريبي (المناطق البيضاء في الصورة اليمنى). ولكن توجد الآن عملية تصوير جديدة بالرنين المغنطيسي تسمى التصوير المُوَتّّر الانتشاري (DTI) تظهر التركيب بمزيد من التفاصيل (الصورة الوسطى) ويشير الأحمر والأصفر إلى مادة بيضاء متعضية تعضيا بلغ ذروته.
تتفق هذه النتائج فيما يبدو مع دراسات التصوير DTI التي أجراها عالم الأعصاب <J.V. شميتهورست> [من مستشفى سينسيناتي للأطفال]، حيث قام بمقارنة درجة نماء المادة البيضاء في أدمغة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 18 سنة. ووجد أن بنية المادة البيضاء الأكثر تناميا ترتبط بشكل مباشر بدرجة معامل الذكاء الأعلى. وقد كشفت تقارير أخرى أن الأطفال الذين يعانون من الإهمال الشديد تقل المادة البيضاء في الجسم الثفني لديهم حوالي 17% عن الطبيعي.
تَغَيّرُ مُنَبِّه(****)
توحي مثل تلك الاكتشافات بشدة إلى أن الخبرة تؤثر في تكوين الميلين، وأن الميلين الناتج منها يدعم عملية التعلم وتحسين المهارات. ولكي يكون الباحثون مقتنعين تماما بهذا الاستنتاج، فإنهم بحاجة إلى تفسير معقول ومقبول لكيفية تمكن الميلين الوافر من تعزيز المعرفة، وكذلك إلى بعض الأدلة المباشرة على أن عيوب الميلين يمكن أن تضعف القدرات الذهنية.
لقد كشف مختبري النقاب عن عدة طرق تُمكن خبرات الفرد من التأثير في تكوين الميلين. ففي الدماغ تطلق العصبونات دفعات كهربائية في المحاوير. وبإنماء عصبونات من أجنة الجرذان في أطباق زرع مجهزة بمسارٍ كهربائية من الپلاتين، يمكننا فرض طرز من الدفعات عليها. وقد وجدنا أن هذه الدفعات تستطيع التحكم في جينات معينة في العصبونات، إحداها تتسبب في إنتاج پروتين لزج اسمه L1-CAM يؤدي دورا مهما في لصق طبقة الغشاء الأولى حول المحوار عندما يبدأ الميلين بالتكون.