المونديالي
21-09-2012, 07:34 PM
الإعلام كمقياس للرقي المجتمعي والحضاري
الوسائل الإعلامية ليست محدودة. إنما تعوم على بحر هائل من الأفاق الإعلامية. ولا أعني بالبحر الهائل مجرد العمل على نشر الأخبار الجاهزة التي توزعها المؤسسات بل صناعة الأخبار وتحريك الرأي العام.
ولا بد من سؤال رئيسي: هل صحافة بلا تفكير وبلا تنوير تستطيع ان تكون مرآة لمجتمعها؟
ويطرح السؤال المضاد : هل الإعلام مجرد نقل أخبار وإعلانات.. وتغطية كل الزوايا بكل ما تتضمنه من أحداث، ام أن للإعلام وظيفة أكثر اتساعاً وخطورة، وأكثر امتداداً من التماثل مع ما هو قائم ومرئي؟
ونصل إلى سؤال افتراضي: هل القاعدة الصحفية التي تقول: "لسنا مع أحد ولسنا ضد أحد"، تصلح لتكون المعبّر عن واقع وتطلعات مجتمع بشري ما؟
في المجتمع العربي في إسرائيل عدة وسائل إعلامية. الصحافة المطبوعة، صحافة الانترنت والراديو، وما زلنا نفتقد للإعلام التلفزيوني... ومع ذلك الصورة التي يعكسها الواقع الإعلامي المحلي تبدو بائسة جداً على كافة الأصعدة.
حتى اليوم لا يوجد إعلام يمثل مصالح وتطلعات المجتمع العربي المدني في إسرائيل - هناك إعلام حزبي مباشر. وهو اقرب للنشرات الحزبية الداخلية، ويتركز معظمه بالحياة والنشاطات الحزبية وأخببار القيادات الحزبية والدعاية للحزب، وهو أمر طيعي، هكذا كان ويتواصل.. ولكن بمستوى وقوة اهتمام وشد للقارئ تضعف باستمرار، لدرجة من الصعب اعتباره إعلاماً اجتماعياً وسياسياً عاماً، إنما أخبار ونشاطات الأحزاب وممثليها في البرلمان والسلطات المحلية، أحيانا مقابل دفع رسمي أو دفع مستتر من تحت الطاولة لنشر المادة الحزبية كخبر وليس كإعلان في الصحافة المستقلة - التجارية.
الصحافة المستقلة يحكمها نهج السوق وليس نهج التفكير والتنوير، ولا أقول ذلك من منطلق الهجوم، إنما من واقع أليم قائم قد تسميه إدارات الصحف المستقلة بالعمل التجاري، الذي لا بد منه لاستمرار صدور الصحيفة، وأعترف ان هذا صحيح تماماً، والى مدى بعيد جداً يتحكّم بسياسة النشر في الصحف المستقلة - التجارية. أي ان مساحة الحرية الصحفية محددة سلفاً بالعلاقة مع سوق الإعلانات.. والخوف من نشر ما يسيء لهذه العلاقة.
ليس عاراً ان تكون وسيلة الإعلام تجارية، هذا أمر طبيعي، أما غير الطبيعي فهو الركود الإعلامي للصحف المستقلة ولهذا الركود أسباب مختلفة أبرزها:
1- شح الميزانيات الذي يفرض على الصحيفة نهجاً صحفياً محافظاً في النشر، لدرجة ان اكثر من 90% من الأخبار المنشورة بعيدة عن اهتمامات القارئ، وتتميز بكونها أخبار مؤسسات (أحياناً إعلانات بشكل خبر ) وعلاقات عامة ( مقابل إعلانات فيما بعد )،وكل ما يحرك صحافتنا محسوب في الحصول على إعلانات.
2- المستوى المهنى الضعيف للصحفيين، أكاد أجزم ان خريجي معاهد الاتصالات، او الجامعات في مواضيع العلوم السياسية، الاجتماعية، القانونية، الاقتصاد، الفنون والآداب وغيرها، لا يجدون الدوافع، الذاتية والمادية، للإنخراط في عالم الصحافة، بسبب فقر وسائل الإعلام، وتبعاً لذلك المعاشات التي بالكاد تسد الرمق. وغياب التحقيقات الميدانية المكلفة، وسياسة الحفاظ على علاقة مع أوسع الأوساط، طمعاً في الحصول على إعلانات، والتي بدونها لا حياة للصحيفة... مما يجعل التفكير بالعمل الصحفي، يعني الاستعداد لحياة الإملاق والفقر، وهذة الظاهرة أيضاً تحد من الحوافز لدى الصحفيين لأعطاء مجهود صحفي اكبر. وتحد من التفكير بامتهان مهنة الصحافة!
3- النشر حسب ما يتلاءم وسياسة الإعلانات، المهمة العظمى بالنسبة للصحيفة هو الإعلان وليس الاحتياجات الحقيقية للقارئ، وليس التنوير الثقافي والاجتماعي، كل شئ يخضع للإعلان.. حتى أعمدة الرأي والثقافة والإبداع الأدبي وما شئتم!!
4 - أسلوب إدارة وسائل الإعلام، بصفتها مزرعة خاصة لمالك الصحيفة، لا تنشر الا ما يتمشّى مع حساباته الإعلانية، وليس الإعلامية، ونفتقد في وسائل إعلامنا لسياسة إعلامية، لمضمون فكري، لنهج اجتماعي، ولا أعني التمترس وراء فكر معين، انما رؤية إنسانية عامة وشاملة، تتضمن حرية الرأي والتعددية الفكرية وحق الاختلاف، ربما مواقع الانترنت أكثر تحرراً وحرية نسبية في هذا النهج.
من المؤكد ان الواقع الاقتصادي للعرب في إسرائيل، يلعب دوراً سلبياً في تطوير الإعلام العربي في إسرائيل... وحتى اليوم لم نشهد رجال أعمال عرب يعطون الإعلام اية قيمة، وما عدا استعدادهم لنشر بعض الإعلانات وبأسعار بخسة، لم تنشأ في مجتمعنا ظاهرة الارتباط بين الإعلام والمشاريع الاقتصادية بين الإعلام ورجال الأعمال. وهذا أيضا معيار لحالة الاقتصاد العربي الضعيفة.
لا يمكن أيضا ان نتجاهل السياسة الرسمية المعادية للإعلام العربي في إسرائيل، الى جانب أن شركات الإعلان الإسرائيلية ( اليهودية ) تمارس تقريباً نفس السياسة. وحسب مصادر مختلفة، لا تزيد حصة الإعلام العربي في إسرائيل من كعكة الإعلانات الحكومية والخاصة، عن 1% - 1,5 % من ميزانياتها، مع ان العرب يشكلون 20 % تقريبا من السكان.
هناك ضرورة لمواجهة هذا الواقع عبر سياسة مدروسة ولا تتعلق بوسائل الإعلام العربية فقط، انما ايضاً بالمؤسسات الجماهرية والعامة للعرب في إسرائيل، وللأسف حتى الأن لم يصل مجتمعنا العربي الى المستوى الذي يعطي لنفسه الأدوات الملائمة للتعامل مع الشركات (اليهودية بالأساس) التي تسوّق منتوجاتها في الوسط العربي بنسبة تنخفض او تزيد عن نسبة العرب السكانية، وبنفس الوقت لا تعطي لوسائل الإعلام العربية، نفس النسبة من الإعلانات. ان وضع سياسة للأقلية القومية العربية تنهج على أساس الربط بين التسويق والإعلان، بات قضية ملحة، ليس لقيمتها الاقتصادية فقط، انما أيضاً لتحرير صحافتنا بعض الشيء من التبعية (العبودية) للإعلان، لعلها تعود الى المفاهيم البديهية للصحافة في المجتمعات الحديثة. والأهم ان نرى تدفق دماء جديدة للإعلام العربي في إسرائيل.
إن "ثقافة الفقر" التي تسيطر على وسائل إعلامنا، خاصة المطبوعة منها.. تنعكس سلبياً على دور هذه الوسائل، وعلى مستوى المنتوج الإعلامي الذي يقدم للمتلقى (المواطن) العربي.
هناك شبه غياب للتعددية الفكرية والحوار والنقاش في وسائل إعلامنا المطبوعة، ومستوى المقالات الصحفية متدنية جداً، وأكاد أقول معظمها غير صالح للنشر.. وتمر على رقابة شبه عسكرية من أصحاب الصحف لضمان علاقات لا تضر بالإعلانات، واستطيع القول بلا تردد أن صحافتنا المطبوعة تكاد تكون فارغة نسبياً من المواضيع التي تهم القارئ الجاد، وما عدا نجاح بعض المواقع والصحف بتغطية الأحداث المحلية، وطابعها غير سياسي بأكثريته، مثل حوادث طرق وسرقات وقتل وفضائح جنسية وصراع على رئاسة السلطات المحلية وما يجره من عنف وانقسامات عائلية، تكاد تخلو الصحيفة من الرؤية المستقبلية، ومن كونها أداة لخدمة المجتمع المدني، وإثراء المواطن بالمواضيع المتنوعة، وبكشف الواقع بدون مواربة وتدليس.. ونقد فكري وثقافي، واهتمام بالحياة الثقافية وليس بزرع الفوضى الثقافية كما هو سائد اليوم.
الظاهرة المسيطرة في الإعلام المطبوع هو الاستسلام للأمر الواقع، أيضاً في النشر، فهل بالصدفة هذا التدني في المستوى الفكري والتنويري للنشر الإعلامي؟! إن حرية النقد وحرية الفكر والتعددية الثقافية وتنوع الآراء تتحول الى مهمة عسيرة.. وأحياناً شبه مستحيلة، أولاً، لأن الرأي المخالف للمحرر مرفوض وثانياً، لأن المحرر غير مستعد لتحمل تبعة تعدد الآراء، ويخاف من الآراء الجريئة، وثالثاً، لأن المساحة في الصحيفة لا تتسع الا للإعلانات وبعض الأخبار التي هي مجرد تعبئة فراغات بين الإعلانات، وأكثرها أخبار تافهة لا يقرأها أحد. ورابعاً، لأن اهتمامات سياسة التحرير لا تقع "جغرافياً" في الناحية الفكرية والتنويرية، لانها قد تسبب زعل مؤسسة ما أو شخصية ما.. قد ينعكس سلباً على الإعلانات (البخسة الثمن اصلاً). لذلك يفقد إعلامنا قيمة أساسية من قيمه، بأن يكون "منبرَ من لا منبرَ له"، ومنتدىً حضارياً للحوار والتعددية الفكرية والسياسية.
هذا الواقع انعكس سلباً على توزيع الصحف التي تباع. القارئ المثقف والواعي.. غير مستعد لشراء كيلوغرام من ورق الإعلانات.. بالكاد يجد بينها مادة تستحق القراءة. وبالمقابل نجد ان الصحف المجانية تنتشر بشكل أوسع.. وأحياناً مواضيعها ذات قيمة أفضل.
في تارخ الصحافة تطورت نظرية هامة في عصر النهضة الأوروبية، تعرف بنظرية الحرية أو النظرية الليبرالية، وذلك رداً على النظرية السابقة التي سادت، نظرية السلطة، أو النظرية السلطوية والتي تمنع أي انتقاد حتى لموظف حكومي اذا فسد. النظرية الليبرالية، بُلورت كما ذكرنا في عصر النهضة الأوروبية، وبالتحديد، القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كتحد للسيطرة السلطوية على الصحافة، وكان، من أبرز مروجي النظرية الليبرالية، المفكر الإنجليزي جون ميلتون، الذي كتب، عام 1664، يقول: "إن حرية النشر، بأي واسطة، ومن قبل أي شخص، مهما كان اتجاهه الفكري، حق من الحقوق الطبيعية، لجميع البشر، ولانستطيع أن نقلل من حرية النشر، بأي شكل، وتحت أي عذر".
ونحن اليوم في صحافة تقيد حرية النشر. ليس خوفاً من نقد السلطة الصهيونية مثلاً.. العكس هو الصحيح.. ننتقد بعنف، ونهاجم بدون تردد وبدون قيود.. الا ما يفرضه القانون حول اللسان السيء. وهناك "إجماع قومي" للصحافة العربية اذا صح هذا التعبير، وتنافس من هي الصحيفة الأكثر "قومية" وشطارة في صياغة الشعارات الرنانة.. لم يعد فرق بين صحيفة حزبية أو تجارية.. كلها تشارك بمهرجان الحرية الصحفية.. والسؤال، أين المواطن وقضاياه الحقيقية؟ أين مشاكلنا الاجتماعية؟ أين قضايا الفساد في الكثير من سلطاتنا المحلية؟ أين علاج مشكل العودة الى العائلية في بلداتنا العربية وما تولده هذه الظاهرة من تناقضات وصدامات دموية، وتفسخ اجتماعي، حتى داخل العائلة الواحدة أحيانا؟ أين النقد لتفشي الطائفية والوقوف الإعلامي ضد هذه الظاهرة الفتاكة بكل الطوائف؟ أين تدني المستوى التعليمي المقلق لمدارسنا؟ أين قضايا الفئات الاجتماعية المسحوقة؟ أين مشاكل الفقر والبطالة في الوسط العربي؟ أين مشاكل الأكاديميين العرب وقضية استيعابهم؟ أين قضية الأرض الحارقة للبلدات العربية، لتطوير مناطق صناعية، وتخصيص مساحات للإسكان، وتوسيع مسطحات البلدات العربية؟
حقا ننشر أخباراً رسمية عن هذا الواقع.. ولكن هل نشر الخبر ينفي دور الصحيفة في ملاحقة المواضيع وعلاجها وتحويلها الى قضية وطنية لا تنزل عن أجندتنا الصحفية وننساها فوراً بعد النشر؟
بالتلخيص، لدينا وسائل إعلام غير قليلة، والمؤسف أن مفاهيم الفكر والتنوير والاستقلال والشجاعة في التعامل مع المواضيع المختلفة، ووجود طواقم صحفية متخصصة في مختلف المواضيع، هي الغائب الكبير عن إعلامنا كله. وبالمقابل هناك ظاهرة مهمة، بظهور إعلام الكتروني أكثر استجابة وفهما لأهمية تعدد الآراء والحوار الفكري والثقافي.. ولكنه لا يفي بكل المطلوب من قصورات مجمل وسائل الإعلام.
ربما المشكلة أيضا في مؤسساتنا الجماهيرية التي لا تعطي للصحافة مكانتها المرجوة وتنقذها من واقع العوز الذي يميز معظم الصحف.
أعرف من تجربتي الشخصية، أنه من الصعب ان تكون صحفياً مستقلاً حراً في نقاشه للطروحات والآراء التي تنتقد بصراحة وجرأة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي، أسوة بالصحافة العبرية مثلاً، التي نجد فيها أحياناً قضايا مجتمعنا بطروحات مشوهة، ولكن أحياناً بطرح جريء نتمنى مثله في إعلامنا...
عدا الواقع الإعلامي الفقير ثقافياً نعيش واقعاً اجتماعياً وسياسياً متهافتاً، ومسكوت عنه إعلامياً بشكل نسبي كبير، وما يشد إعلامنا للأسف هي الظواهر وليست المضامين غير السليمة التي تقود الى نشوء الظواهر السلبية. وإعلامنا في معظم الحالات غير مستعد (للأسف) للانطلاق نحو آفاق التنوير، كما أنه غير مستعد للمواجهة والصراحة. ويمكن القول انه تعبير أيضا، عن واقعنا الاجتماعي والاقتصادي المتدني في سلم المقاييس الإسرائيلية نفسها
الوسائل الإعلامية ليست محدودة. إنما تعوم على بحر هائل من الأفاق الإعلامية. ولا أعني بالبحر الهائل مجرد العمل على نشر الأخبار الجاهزة التي توزعها المؤسسات بل صناعة الأخبار وتحريك الرأي العام.
ولا بد من سؤال رئيسي: هل صحافة بلا تفكير وبلا تنوير تستطيع ان تكون مرآة لمجتمعها؟
ويطرح السؤال المضاد : هل الإعلام مجرد نقل أخبار وإعلانات.. وتغطية كل الزوايا بكل ما تتضمنه من أحداث، ام أن للإعلام وظيفة أكثر اتساعاً وخطورة، وأكثر امتداداً من التماثل مع ما هو قائم ومرئي؟
ونصل إلى سؤال افتراضي: هل القاعدة الصحفية التي تقول: "لسنا مع أحد ولسنا ضد أحد"، تصلح لتكون المعبّر عن واقع وتطلعات مجتمع بشري ما؟
في المجتمع العربي في إسرائيل عدة وسائل إعلامية. الصحافة المطبوعة، صحافة الانترنت والراديو، وما زلنا نفتقد للإعلام التلفزيوني... ومع ذلك الصورة التي يعكسها الواقع الإعلامي المحلي تبدو بائسة جداً على كافة الأصعدة.
حتى اليوم لا يوجد إعلام يمثل مصالح وتطلعات المجتمع العربي المدني في إسرائيل - هناك إعلام حزبي مباشر. وهو اقرب للنشرات الحزبية الداخلية، ويتركز معظمه بالحياة والنشاطات الحزبية وأخببار القيادات الحزبية والدعاية للحزب، وهو أمر طيعي، هكذا كان ويتواصل.. ولكن بمستوى وقوة اهتمام وشد للقارئ تضعف باستمرار، لدرجة من الصعب اعتباره إعلاماً اجتماعياً وسياسياً عاماً، إنما أخبار ونشاطات الأحزاب وممثليها في البرلمان والسلطات المحلية، أحيانا مقابل دفع رسمي أو دفع مستتر من تحت الطاولة لنشر المادة الحزبية كخبر وليس كإعلان في الصحافة المستقلة - التجارية.
الصحافة المستقلة يحكمها نهج السوق وليس نهج التفكير والتنوير، ولا أقول ذلك من منطلق الهجوم، إنما من واقع أليم قائم قد تسميه إدارات الصحف المستقلة بالعمل التجاري، الذي لا بد منه لاستمرار صدور الصحيفة، وأعترف ان هذا صحيح تماماً، والى مدى بعيد جداً يتحكّم بسياسة النشر في الصحف المستقلة - التجارية. أي ان مساحة الحرية الصحفية محددة سلفاً بالعلاقة مع سوق الإعلانات.. والخوف من نشر ما يسيء لهذه العلاقة.
ليس عاراً ان تكون وسيلة الإعلام تجارية، هذا أمر طبيعي، أما غير الطبيعي فهو الركود الإعلامي للصحف المستقلة ولهذا الركود أسباب مختلفة أبرزها:
1- شح الميزانيات الذي يفرض على الصحيفة نهجاً صحفياً محافظاً في النشر، لدرجة ان اكثر من 90% من الأخبار المنشورة بعيدة عن اهتمامات القارئ، وتتميز بكونها أخبار مؤسسات (أحياناً إعلانات بشكل خبر ) وعلاقات عامة ( مقابل إعلانات فيما بعد )،وكل ما يحرك صحافتنا محسوب في الحصول على إعلانات.
2- المستوى المهنى الضعيف للصحفيين، أكاد أجزم ان خريجي معاهد الاتصالات، او الجامعات في مواضيع العلوم السياسية، الاجتماعية، القانونية، الاقتصاد، الفنون والآداب وغيرها، لا يجدون الدوافع، الذاتية والمادية، للإنخراط في عالم الصحافة، بسبب فقر وسائل الإعلام، وتبعاً لذلك المعاشات التي بالكاد تسد الرمق. وغياب التحقيقات الميدانية المكلفة، وسياسة الحفاظ على علاقة مع أوسع الأوساط، طمعاً في الحصول على إعلانات، والتي بدونها لا حياة للصحيفة... مما يجعل التفكير بالعمل الصحفي، يعني الاستعداد لحياة الإملاق والفقر، وهذة الظاهرة أيضاً تحد من الحوافز لدى الصحفيين لأعطاء مجهود صحفي اكبر. وتحد من التفكير بامتهان مهنة الصحافة!
3- النشر حسب ما يتلاءم وسياسة الإعلانات، المهمة العظمى بالنسبة للصحيفة هو الإعلان وليس الاحتياجات الحقيقية للقارئ، وليس التنوير الثقافي والاجتماعي، كل شئ يخضع للإعلان.. حتى أعمدة الرأي والثقافة والإبداع الأدبي وما شئتم!!
4 - أسلوب إدارة وسائل الإعلام، بصفتها مزرعة خاصة لمالك الصحيفة، لا تنشر الا ما يتمشّى مع حساباته الإعلانية، وليس الإعلامية، ونفتقد في وسائل إعلامنا لسياسة إعلامية، لمضمون فكري، لنهج اجتماعي، ولا أعني التمترس وراء فكر معين، انما رؤية إنسانية عامة وشاملة، تتضمن حرية الرأي والتعددية الفكرية وحق الاختلاف، ربما مواقع الانترنت أكثر تحرراً وحرية نسبية في هذا النهج.
من المؤكد ان الواقع الاقتصادي للعرب في إسرائيل، يلعب دوراً سلبياً في تطوير الإعلام العربي في إسرائيل... وحتى اليوم لم نشهد رجال أعمال عرب يعطون الإعلام اية قيمة، وما عدا استعدادهم لنشر بعض الإعلانات وبأسعار بخسة، لم تنشأ في مجتمعنا ظاهرة الارتباط بين الإعلام والمشاريع الاقتصادية بين الإعلام ورجال الأعمال. وهذا أيضا معيار لحالة الاقتصاد العربي الضعيفة.
لا يمكن أيضا ان نتجاهل السياسة الرسمية المعادية للإعلام العربي في إسرائيل، الى جانب أن شركات الإعلان الإسرائيلية ( اليهودية ) تمارس تقريباً نفس السياسة. وحسب مصادر مختلفة، لا تزيد حصة الإعلام العربي في إسرائيل من كعكة الإعلانات الحكومية والخاصة، عن 1% - 1,5 % من ميزانياتها، مع ان العرب يشكلون 20 % تقريبا من السكان.
هناك ضرورة لمواجهة هذا الواقع عبر سياسة مدروسة ولا تتعلق بوسائل الإعلام العربية فقط، انما ايضاً بالمؤسسات الجماهرية والعامة للعرب في إسرائيل، وللأسف حتى الأن لم يصل مجتمعنا العربي الى المستوى الذي يعطي لنفسه الأدوات الملائمة للتعامل مع الشركات (اليهودية بالأساس) التي تسوّق منتوجاتها في الوسط العربي بنسبة تنخفض او تزيد عن نسبة العرب السكانية، وبنفس الوقت لا تعطي لوسائل الإعلام العربية، نفس النسبة من الإعلانات. ان وضع سياسة للأقلية القومية العربية تنهج على أساس الربط بين التسويق والإعلان، بات قضية ملحة، ليس لقيمتها الاقتصادية فقط، انما أيضاً لتحرير صحافتنا بعض الشيء من التبعية (العبودية) للإعلان، لعلها تعود الى المفاهيم البديهية للصحافة في المجتمعات الحديثة. والأهم ان نرى تدفق دماء جديدة للإعلام العربي في إسرائيل.
إن "ثقافة الفقر" التي تسيطر على وسائل إعلامنا، خاصة المطبوعة منها.. تنعكس سلبياً على دور هذه الوسائل، وعلى مستوى المنتوج الإعلامي الذي يقدم للمتلقى (المواطن) العربي.
هناك شبه غياب للتعددية الفكرية والحوار والنقاش في وسائل إعلامنا المطبوعة، ومستوى المقالات الصحفية متدنية جداً، وأكاد أقول معظمها غير صالح للنشر.. وتمر على رقابة شبه عسكرية من أصحاب الصحف لضمان علاقات لا تضر بالإعلانات، واستطيع القول بلا تردد أن صحافتنا المطبوعة تكاد تكون فارغة نسبياً من المواضيع التي تهم القارئ الجاد، وما عدا نجاح بعض المواقع والصحف بتغطية الأحداث المحلية، وطابعها غير سياسي بأكثريته، مثل حوادث طرق وسرقات وقتل وفضائح جنسية وصراع على رئاسة السلطات المحلية وما يجره من عنف وانقسامات عائلية، تكاد تخلو الصحيفة من الرؤية المستقبلية، ومن كونها أداة لخدمة المجتمع المدني، وإثراء المواطن بالمواضيع المتنوعة، وبكشف الواقع بدون مواربة وتدليس.. ونقد فكري وثقافي، واهتمام بالحياة الثقافية وليس بزرع الفوضى الثقافية كما هو سائد اليوم.
الظاهرة المسيطرة في الإعلام المطبوع هو الاستسلام للأمر الواقع، أيضاً في النشر، فهل بالصدفة هذا التدني في المستوى الفكري والتنويري للنشر الإعلامي؟! إن حرية النقد وحرية الفكر والتعددية الثقافية وتنوع الآراء تتحول الى مهمة عسيرة.. وأحياناً شبه مستحيلة، أولاً، لأن الرأي المخالف للمحرر مرفوض وثانياً، لأن المحرر غير مستعد لتحمل تبعة تعدد الآراء، ويخاف من الآراء الجريئة، وثالثاً، لأن المساحة في الصحيفة لا تتسع الا للإعلانات وبعض الأخبار التي هي مجرد تعبئة فراغات بين الإعلانات، وأكثرها أخبار تافهة لا يقرأها أحد. ورابعاً، لأن اهتمامات سياسة التحرير لا تقع "جغرافياً" في الناحية الفكرية والتنويرية، لانها قد تسبب زعل مؤسسة ما أو شخصية ما.. قد ينعكس سلباً على الإعلانات (البخسة الثمن اصلاً). لذلك يفقد إعلامنا قيمة أساسية من قيمه، بأن يكون "منبرَ من لا منبرَ له"، ومنتدىً حضارياً للحوار والتعددية الفكرية والسياسية.
هذا الواقع انعكس سلباً على توزيع الصحف التي تباع. القارئ المثقف والواعي.. غير مستعد لشراء كيلوغرام من ورق الإعلانات.. بالكاد يجد بينها مادة تستحق القراءة. وبالمقابل نجد ان الصحف المجانية تنتشر بشكل أوسع.. وأحياناً مواضيعها ذات قيمة أفضل.
في تارخ الصحافة تطورت نظرية هامة في عصر النهضة الأوروبية، تعرف بنظرية الحرية أو النظرية الليبرالية، وذلك رداً على النظرية السابقة التي سادت، نظرية السلطة، أو النظرية السلطوية والتي تمنع أي انتقاد حتى لموظف حكومي اذا فسد. النظرية الليبرالية، بُلورت كما ذكرنا في عصر النهضة الأوروبية، وبالتحديد، القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كتحد للسيطرة السلطوية على الصحافة، وكان، من أبرز مروجي النظرية الليبرالية، المفكر الإنجليزي جون ميلتون، الذي كتب، عام 1664، يقول: "إن حرية النشر، بأي واسطة، ومن قبل أي شخص، مهما كان اتجاهه الفكري، حق من الحقوق الطبيعية، لجميع البشر، ولانستطيع أن نقلل من حرية النشر، بأي شكل، وتحت أي عذر".
ونحن اليوم في صحافة تقيد حرية النشر. ليس خوفاً من نقد السلطة الصهيونية مثلاً.. العكس هو الصحيح.. ننتقد بعنف، ونهاجم بدون تردد وبدون قيود.. الا ما يفرضه القانون حول اللسان السيء. وهناك "إجماع قومي" للصحافة العربية اذا صح هذا التعبير، وتنافس من هي الصحيفة الأكثر "قومية" وشطارة في صياغة الشعارات الرنانة.. لم يعد فرق بين صحيفة حزبية أو تجارية.. كلها تشارك بمهرجان الحرية الصحفية.. والسؤال، أين المواطن وقضاياه الحقيقية؟ أين مشاكلنا الاجتماعية؟ أين قضايا الفساد في الكثير من سلطاتنا المحلية؟ أين علاج مشكل العودة الى العائلية في بلداتنا العربية وما تولده هذه الظاهرة من تناقضات وصدامات دموية، وتفسخ اجتماعي، حتى داخل العائلة الواحدة أحيانا؟ أين النقد لتفشي الطائفية والوقوف الإعلامي ضد هذه الظاهرة الفتاكة بكل الطوائف؟ أين تدني المستوى التعليمي المقلق لمدارسنا؟ أين قضايا الفئات الاجتماعية المسحوقة؟ أين مشاكل الفقر والبطالة في الوسط العربي؟ أين مشاكل الأكاديميين العرب وقضية استيعابهم؟ أين قضية الأرض الحارقة للبلدات العربية، لتطوير مناطق صناعية، وتخصيص مساحات للإسكان، وتوسيع مسطحات البلدات العربية؟
حقا ننشر أخباراً رسمية عن هذا الواقع.. ولكن هل نشر الخبر ينفي دور الصحيفة في ملاحقة المواضيع وعلاجها وتحويلها الى قضية وطنية لا تنزل عن أجندتنا الصحفية وننساها فوراً بعد النشر؟
بالتلخيص، لدينا وسائل إعلام غير قليلة، والمؤسف أن مفاهيم الفكر والتنوير والاستقلال والشجاعة في التعامل مع المواضيع المختلفة، ووجود طواقم صحفية متخصصة في مختلف المواضيع، هي الغائب الكبير عن إعلامنا كله. وبالمقابل هناك ظاهرة مهمة، بظهور إعلام الكتروني أكثر استجابة وفهما لأهمية تعدد الآراء والحوار الفكري والثقافي.. ولكنه لا يفي بكل المطلوب من قصورات مجمل وسائل الإعلام.
ربما المشكلة أيضا في مؤسساتنا الجماهيرية التي لا تعطي للصحافة مكانتها المرجوة وتنقذها من واقع العوز الذي يميز معظم الصحف.
أعرف من تجربتي الشخصية، أنه من الصعب ان تكون صحفياً مستقلاً حراً في نقاشه للطروحات والآراء التي تنتقد بصراحة وجرأة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي، أسوة بالصحافة العبرية مثلاً، التي نجد فيها أحياناً قضايا مجتمعنا بطروحات مشوهة، ولكن أحياناً بطرح جريء نتمنى مثله في إعلامنا...
عدا الواقع الإعلامي الفقير ثقافياً نعيش واقعاً اجتماعياً وسياسياً متهافتاً، ومسكوت عنه إعلامياً بشكل نسبي كبير، وما يشد إعلامنا للأسف هي الظواهر وليست المضامين غير السليمة التي تقود الى نشوء الظواهر السلبية. وإعلامنا في معظم الحالات غير مستعد (للأسف) للانطلاق نحو آفاق التنوير، كما أنه غير مستعد للمواجهة والصراحة. ويمكن القول انه تعبير أيضا، عن واقعنا الاجتماعي والاقتصادي المتدني في سلم المقاييس الإسرائيلية نفسها