iyq
05-11-2005, 07:53 AM
أشياء عمر ....قصة حزينة
كان البيت هادئا و ساكنا تماما .. كل شيء يوحي بالحزن ..
الستائر مغلقة .. و الأنوار خافتة .. و الجو بارد ..
حتى أخوتي الصغار كانوا هادئين .. لم يكن هناك صوت يوحي بالحياة ..
فتحت ستارة نافذتي على بصيص من الضوء يدخل إلى بيتنا الكئيب ..
لكن السماء كانت ملبدة بالغيوم .. و لم يظهر من الشمس سوى أشعة ضئيلة تسللت على استحياء بين أكوام الغيوم ..
حتى الشارع .. كان هادئا .. ساكنا .. خاليا من المرة ..
هبت ريح باردة من النافذة .. أغلقتها ..
هذا الجو يخنقني .. لا أكاد أطيقه ..
لم أشعر بهذا الشعور من قبل .. إنني أفتقد شيئا ما ..
خرجت من غرفتي ..
ذهبت إلى غرفة جدتي .. وقفت عند الباب ..
سمعت أنينا خافتا .. صوت بكاء ..
طرقت الباب و دخلت .. كانت جدتي تصلي .. جلست على سريرها .. كانت غرفتها دافئة .. يزيدها دفئا موقد الفحم الذي لا تستغني عنه .. و عندما انتهت من الصلاة .. أخذت تمسح دموعها ..
ثم التفتت إلي و هي تصطنع ابتسامة باهتة .. ألم يأت والداك يا أحمد .. لا يزالان في المستشفى عند عمر .. جدتي لماذا لم يخرج عمر من المستشفى حتى الآن ؟..
تنهدت جدتي .. و أطلقت زفرة حارة .. و اغرورقت عيناها بالدموع ..
أحسست فعلا بمقدار الحزن الذي تخفيه .. إنها أكثر من يفتقد عمر .. لقد كان يعتني بها كثيرا .. يؤنسها يحادثها .. و طالما سهر و نام عندها في الليالي الباردة ..
فجأة .. سمعت صوت ضجة في الطابق السفلي .. نزلت مسرعا .. إنه أبي و معه بعض العمال .. كانوا ينقلون الأثاث من غرفة الضيوف الصغرى .. و عيناه محاطتان بهالات سوداء .. سألته مالذي يجري .. لكنه لم يسمعني .. بل إنه حتى لم يرني .. عرفت حينها أن ذهنه مشغول تماما .. أشعر بأنه تعرض لصدمة أو شيء ما .. خرجت إلى الحديقة أتتبع العمال و هم ينقلون الأثاث إلى المرآب في زاوية الحديقة المطلة على الشارع .. لم أدخله منذ مدة طويلة .. دخلت معهم .. كانت سيارة عمر هناك .. إنها مغطاة بالغبار .. بدت و كأنها تبكيه في ذلك المكان المظلم .. حتى السيارة تفتقده .. مسحت الغبار بيدي عن زجاج نوافذها .. كانت على المقعد الخلفي بعض الأوراق .. و هناك مصحفه الصغير الذي يجعله معه أينما ذهب ..
حقا .. لقد مضى وقت طويل .. لم أره منذ شهرين ..
أخشى أن أكون قد بدأت أنسى ملامحه ..
فيما بعد .. عرفت بصعوبة من أبي أن عمر سوف يرجع إلى البيت ، لذا يجب أن ننقل أثاث غرفته إلى غرفة الضيوف في الطابق السفلي لأنه لا يستطيع صعود الدرج أو نزوله بسهوله .. كدت أطير من الفرح .. أخيرا سوف أرى عمرا ..
دخلت مع والدي إلى غرفته .. لم يدخلها أحد منذ مدة .. الجميع كان يتحاشاها .. كل شيء كما هو .. كتبه و أقلامه على المكتب .. سريره المرتب دائما كما هو .. شهادة تخرجه التي لم يمض على تعليقها على الجدار أكثر مما أمضى في المستشفى حتى الآن .. و على المنضدة الصغيرة .. كانت لوحة زيتية جميلة رسمها عمر و لم يكملها .. أمسكها أبي و أخذ يتأملها .. و في هدوء رفعها بعيدا فوق الدولاب .. لماذا يا أبي ؟.. دعها هنا .. سكت والدي تماما .. نظرت إليه .. كانت نظراته تائهة و مشتتة .. و في عينيه .. كان هناك بريق غريب .. بريق لشيء أشبه بالدموع .. أما أمي فلم تخرج من غرفتها منذ ليلة أمس ..
و في الصباح .. ذهب والدي لإحضاره .. أسرعت جدتي تبخر البيت .. و ارتديت ثوبا نظيفا .. بينما كان أخوتي الصغار يتقافزون فرحا .. رأيت أمي في المطبخ تبكي .. كانت جدتي تهدئها .. و تقول أنه يجب أن نسعده قدر الإمكان ..
لقد تعودت على منظر أمي و هي تبكي .. لم أعد أهتم بمعرفة السبب .. المهم أن عمر سيرجع .. هاهو أبي يدخل .. نتدافع أنا و أخوتي نحوه .. كان يسند شخصا ما بذراعه .. اقتربت أكثر .. إنه أخي عمر ..
يا إلهي .. لم أكد أعرفه لقد فقد نصف وزنه .. و غارت عيناه .. و برزت عظامه .. لم أعرفه إلا بتلك الابتسامة العذبة التي تميز بها حتى في أحلك الظروف ..
ضممته و أنا أبكي .. و لأول مرة أعرف لماذا كانت أمي تبكي ..
طوال تلك الليلة بقينا مع عمر .. طلب منا أن نحدثه عن كل شيء طوال فترة غيابه .. عن مدارسنا .. أقاربنا .. جيراننا .. لم ينس أحدا ..
قال إنه اشتاق كثيرا لسماع أخباري أنا بالذات .. و ظللت أتحدث معه حتى غلبه النعاس .. في الصباح .. جاءت عمتي .. لكن عمر لا يزال نائما .. كانت تتحدث مع جدتي عنه .. سمعتها تذكر شيئا عن سرطان الأمعاء .. الموت .. الأيام الأخيرة .. و أشياء أخرى مخيفة .. لم أتأثر بما سمعت .. فأنا لم أصدق يوما كلام الأطباء .. إنهم دائما يضخمون الأمور .. كنت أدرك أن عمر سوف يتشافى بإذن الله .. و يعود كما كان .. ليروي قصصه المشوقة .. و يخرج مع رفاقه إلى البحر ..
و .. يكمل لوحته الزيتية ..
لا أعرف لماذا لم أتأثر بكلام عمتي .. و لم أصدقه .. لم أكن أتصور أنه قابل للتصديق ..
و فجأة .. سمعنا صراخا من غرفة عمر .. صراخ قوي .. فزعت و خفت من أن أدخل غرفته .. أسرعت أمي تدخلها .. فدخلت خلفها ..
كان عمر يمسك بطنه و يصرخ بكل قوة .. و هو يتلوى على الأرض و الدموع تنهمر من عينيه .. لم أر عمر هكذا في حياتي .. و لن أنسى هذا المشهد ما حييت ..
لم تكن أمي تعرف ماذا تفعل .. كنا نشاهده و هو يتلوى دون أن نملك عمل شيء .. دخل أبي و بسرعة تناول حقنة و عبأها بمادة مهدئة .. و حقنه في ذراعه .. ثم حمله و وضعه على السرير ..
أصبت بصدمة .. و بدأت أشعر فعلا أن ما قالته عمتي قد يكون صحيحا .. هرولت مسرعا إلى غرفتي .. و أخذت أفرغ بكائي على مكتبي الصغير .. و لم أستطع النوم طوال تلك الليلة .
في اليوم التالي .. كان وجهه أكثر ذبولا من قبل .. و لكن تلك الابتسامة المميزة .. لا تزال تجد لها مكانا على وجهه الشاحب .. كانت جدتي تجلس بقربه .. بينما أمي التي تورمت عيناها من البكاء كانت تجلس بصمت تنظر إلى ابنها الذي تفقده أمام عينيها .. كان الصمت يطغى على المكان .. و لا شيء سوى تلك النظرات الحزينة و الدموع ..
فجأة .. التفت عمر إلى أمي .. أمي .. منذ شهرين و أنا أتغذى عبر الأوردة .. كم أشتهي أن أتذوق طعامك اللذيذ ..
قامت أمي من فورها .. فزع أبي و أمسك يدها .. سوف يموت إذا أكل طعاما .. أمعاءه ممزقة ..
التفتت أمي بغضب إلى أبي و عيناها تفيض بالدموع .. و سحبت يدها و مضت نحو المطبخ .. لقد فهمت تماما ما الذي كانت تعنيه أمي ...
و في ذلك المساء .. دخلت عليه .. كان يقف بجانب النافذة .. و ينظر بعيدا .. نظراته غريبة .. لم يكن ينظر إلى الشمس التي تتلاشى خلف الأفق .. و لا إلى الغيوم التي تلبدت في السماء .. و لا إلى أسراب الطيور البعيدة .. كان ينظر إلى شيء بعيد .. بعيد جدا ..
أشار إلي أن أقترب .. وقفت بقربه .. تنهد قليلا ثم قال : ليلة أمس .. رأيت حلما جميلا .. كانت السماء صافية .. و أمواج البحر تتهادى على رمال الشاطئ الذهبية .. و الحقول الخضراء تغطي التلال .. كنا معا .. كلنا سعداء .. أبي و أمي و جدتي .. أنا .. أنت .. أخوتي الصغار .. رأيت رفاقي و أصدقائي القدامى ..الجميع كانوا سعداء .. و فجأة .. تفرقوا و ذهبوا بعيدا ..و بقيت أنا وحدي .. لكنك كنت تجلس فوق أحد التلال و تنظر إليّ من بعيد ... لم تذهب معهم .. فقط بقيت تنظر إليّ ..
مرر يده الواهنة على شعري .. و أخذ ينظر إلي و كأنه يراني لأول و آخر مرة .. ثم قال بصوت ضعيف : أحمد .. أريد أن أوصيك بشيء خاص .. هل تنفذه ؟
أومأت برأسي .. فصوتي المتهدج بالبكاء لم يكن ليساعدني ..
تابع كلامه .. أريدك أن تجمع كل كتبي و ملابسي و أشيائي الخاصة و تتخلص منها بعد وفاتي .. قبل أن تراها أمي .. هل تعدني ؟..
أومأت برأسي مرة أخرى ..
ضمني إليه و كأنه يودعني .. دفنت رأسي في صدره .. أحسست فعلا بأنها المرة الأخيرة ..
يبدو أنه شعر بارتياح كبير .. استلقى على السرير .. و الآن .. هلا قرأت علي بعض الآيات .. كم كنت دوما أحب صوتك في تلاوة القرآن ..
كم كان طلبه في ذلك الوقت صعبا .. و كم كان تنفيذه أصعب .. لم أستطع أن أتحكم بدموعي ..
إنني أفقد اخي أمام عيني .. تحولت الدموع إلى نشيج ..
لكني حاولت المستحيل حتى استطعت أن أقرأ عليه كأجمل ما تكون القراءة .. و استمررت في القراءة و علامات الارتياح تبدو على وجهه ..
و فجأة ..
صرخ بقوة .. و أمسك بطنه و أخذ يصرخ و يصرخ ..
ناديت أبي بسرعة .. و حضر أبي فزعا و حقنه بالمهدئ .. و لكن الصراخ استمر .. الصراخ استمر .. و الألم يشتد .. بدت آلامه قاتلة ..
أخذ يتلوى .. و بدأ الدم ينزف من فمه ..
انهارت أمي فور دخولها الغرفة و وقعت على الأرض .. بينما جدتي التي كانت دائما صامتة .. أخذت تبكي أمامنا ..
أسرع أبي يحمله بين ذراعيه .. و انطلق بالسيارة نحو المستشفى ..
كانت ليلة شديدة البرودة ..
و الريح قوية ..
أمي كانت صامتة .. فقط تلك الدموع التي تنساب على وجنتيها في هدوء تام .. لم تكن تعي ما يدور حولها تماما ..
وجدتي كانت تصلي طوال الليل و تدعو الله ..
انتظرنا طويلا .. بدت دقات الساعة رعبة ..
لا أصدق أني أفقد أخي الحبيب ..
لا أكاد أصدق أن عمر الذي كان يشع قوة و شبابا ..
و يملأ أرجاء البيت حيوية و مرحا ..
لن يعود ..
أذن الفجر ..
ذهبت إلى المسجد .. و عدت .. لم يأت أبي ..
ظللت عند النافذة أتطلع قدوم السيارة ..
كانت السماء لا تزال ملبدة بالغيوم ..
و الظلام ما زال يسود المكان ..
و بدت الرياح و كأنها تعزف لحنا حزينا ..
بدأ المطر الخفيف بالتساقط ..
وصلت السيارة .. نظرت إلى أبي و هو صامت للحظات ..
ثم وضع رأسه بين كفيه على المقود .. و بدأ في البكاء كما لم يبك من قبل ..
عندها ..
تركت النافذة ..
و بدأت أجمع أشياء عمر ..
منقول
كان البيت هادئا و ساكنا تماما .. كل شيء يوحي بالحزن ..
الستائر مغلقة .. و الأنوار خافتة .. و الجو بارد ..
حتى أخوتي الصغار كانوا هادئين .. لم يكن هناك صوت يوحي بالحياة ..
فتحت ستارة نافذتي على بصيص من الضوء يدخل إلى بيتنا الكئيب ..
لكن السماء كانت ملبدة بالغيوم .. و لم يظهر من الشمس سوى أشعة ضئيلة تسللت على استحياء بين أكوام الغيوم ..
حتى الشارع .. كان هادئا .. ساكنا .. خاليا من المرة ..
هبت ريح باردة من النافذة .. أغلقتها ..
هذا الجو يخنقني .. لا أكاد أطيقه ..
لم أشعر بهذا الشعور من قبل .. إنني أفتقد شيئا ما ..
خرجت من غرفتي ..
ذهبت إلى غرفة جدتي .. وقفت عند الباب ..
سمعت أنينا خافتا .. صوت بكاء ..
طرقت الباب و دخلت .. كانت جدتي تصلي .. جلست على سريرها .. كانت غرفتها دافئة .. يزيدها دفئا موقد الفحم الذي لا تستغني عنه .. و عندما انتهت من الصلاة .. أخذت تمسح دموعها ..
ثم التفتت إلي و هي تصطنع ابتسامة باهتة .. ألم يأت والداك يا أحمد .. لا يزالان في المستشفى عند عمر .. جدتي لماذا لم يخرج عمر من المستشفى حتى الآن ؟..
تنهدت جدتي .. و أطلقت زفرة حارة .. و اغرورقت عيناها بالدموع ..
أحسست فعلا بمقدار الحزن الذي تخفيه .. إنها أكثر من يفتقد عمر .. لقد كان يعتني بها كثيرا .. يؤنسها يحادثها .. و طالما سهر و نام عندها في الليالي الباردة ..
فجأة .. سمعت صوت ضجة في الطابق السفلي .. نزلت مسرعا .. إنه أبي و معه بعض العمال .. كانوا ينقلون الأثاث من غرفة الضيوف الصغرى .. و عيناه محاطتان بهالات سوداء .. سألته مالذي يجري .. لكنه لم يسمعني .. بل إنه حتى لم يرني .. عرفت حينها أن ذهنه مشغول تماما .. أشعر بأنه تعرض لصدمة أو شيء ما .. خرجت إلى الحديقة أتتبع العمال و هم ينقلون الأثاث إلى المرآب في زاوية الحديقة المطلة على الشارع .. لم أدخله منذ مدة طويلة .. دخلت معهم .. كانت سيارة عمر هناك .. إنها مغطاة بالغبار .. بدت و كأنها تبكيه في ذلك المكان المظلم .. حتى السيارة تفتقده .. مسحت الغبار بيدي عن زجاج نوافذها .. كانت على المقعد الخلفي بعض الأوراق .. و هناك مصحفه الصغير الذي يجعله معه أينما ذهب ..
حقا .. لقد مضى وقت طويل .. لم أره منذ شهرين ..
أخشى أن أكون قد بدأت أنسى ملامحه ..
فيما بعد .. عرفت بصعوبة من أبي أن عمر سوف يرجع إلى البيت ، لذا يجب أن ننقل أثاث غرفته إلى غرفة الضيوف في الطابق السفلي لأنه لا يستطيع صعود الدرج أو نزوله بسهوله .. كدت أطير من الفرح .. أخيرا سوف أرى عمرا ..
دخلت مع والدي إلى غرفته .. لم يدخلها أحد منذ مدة .. الجميع كان يتحاشاها .. كل شيء كما هو .. كتبه و أقلامه على المكتب .. سريره المرتب دائما كما هو .. شهادة تخرجه التي لم يمض على تعليقها على الجدار أكثر مما أمضى في المستشفى حتى الآن .. و على المنضدة الصغيرة .. كانت لوحة زيتية جميلة رسمها عمر و لم يكملها .. أمسكها أبي و أخذ يتأملها .. و في هدوء رفعها بعيدا فوق الدولاب .. لماذا يا أبي ؟.. دعها هنا .. سكت والدي تماما .. نظرت إليه .. كانت نظراته تائهة و مشتتة .. و في عينيه .. كان هناك بريق غريب .. بريق لشيء أشبه بالدموع .. أما أمي فلم تخرج من غرفتها منذ ليلة أمس ..
و في الصباح .. ذهب والدي لإحضاره .. أسرعت جدتي تبخر البيت .. و ارتديت ثوبا نظيفا .. بينما كان أخوتي الصغار يتقافزون فرحا .. رأيت أمي في المطبخ تبكي .. كانت جدتي تهدئها .. و تقول أنه يجب أن نسعده قدر الإمكان ..
لقد تعودت على منظر أمي و هي تبكي .. لم أعد أهتم بمعرفة السبب .. المهم أن عمر سيرجع .. هاهو أبي يدخل .. نتدافع أنا و أخوتي نحوه .. كان يسند شخصا ما بذراعه .. اقتربت أكثر .. إنه أخي عمر ..
يا إلهي .. لم أكد أعرفه لقد فقد نصف وزنه .. و غارت عيناه .. و برزت عظامه .. لم أعرفه إلا بتلك الابتسامة العذبة التي تميز بها حتى في أحلك الظروف ..
ضممته و أنا أبكي .. و لأول مرة أعرف لماذا كانت أمي تبكي ..
طوال تلك الليلة بقينا مع عمر .. طلب منا أن نحدثه عن كل شيء طوال فترة غيابه .. عن مدارسنا .. أقاربنا .. جيراننا .. لم ينس أحدا ..
قال إنه اشتاق كثيرا لسماع أخباري أنا بالذات .. و ظللت أتحدث معه حتى غلبه النعاس .. في الصباح .. جاءت عمتي .. لكن عمر لا يزال نائما .. كانت تتحدث مع جدتي عنه .. سمعتها تذكر شيئا عن سرطان الأمعاء .. الموت .. الأيام الأخيرة .. و أشياء أخرى مخيفة .. لم أتأثر بما سمعت .. فأنا لم أصدق يوما كلام الأطباء .. إنهم دائما يضخمون الأمور .. كنت أدرك أن عمر سوف يتشافى بإذن الله .. و يعود كما كان .. ليروي قصصه المشوقة .. و يخرج مع رفاقه إلى البحر ..
و .. يكمل لوحته الزيتية ..
لا أعرف لماذا لم أتأثر بكلام عمتي .. و لم أصدقه .. لم أكن أتصور أنه قابل للتصديق ..
و فجأة .. سمعنا صراخا من غرفة عمر .. صراخ قوي .. فزعت و خفت من أن أدخل غرفته .. أسرعت أمي تدخلها .. فدخلت خلفها ..
كان عمر يمسك بطنه و يصرخ بكل قوة .. و هو يتلوى على الأرض و الدموع تنهمر من عينيه .. لم أر عمر هكذا في حياتي .. و لن أنسى هذا المشهد ما حييت ..
لم تكن أمي تعرف ماذا تفعل .. كنا نشاهده و هو يتلوى دون أن نملك عمل شيء .. دخل أبي و بسرعة تناول حقنة و عبأها بمادة مهدئة .. و حقنه في ذراعه .. ثم حمله و وضعه على السرير ..
أصبت بصدمة .. و بدأت أشعر فعلا أن ما قالته عمتي قد يكون صحيحا .. هرولت مسرعا إلى غرفتي .. و أخذت أفرغ بكائي على مكتبي الصغير .. و لم أستطع النوم طوال تلك الليلة .
في اليوم التالي .. كان وجهه أكثر ذبولا من قبل .. و لكن تلك الابتسامة المميزة .. لا تزال تجد لها مكانا على وجهه الشاحب .. كانت جدتي تجلس بقربه .. بينما أمي التي تورمت عيناها من البكاء كانت تجلس بصمت تنظر إلى ابنها الذي تفقده أمام عينيها .. كان الصمت يطغى على المكان .. و لا شيء سوى تلك النظرات الحزينة و الدموع ..
فجأة .. التفت عمر إلى أمي .. أمي .. منذ شهرين و أنا أتغذى عبر الأوردة .. كم أشتهي أن أتذوق طعامك اللذيذ ..
قامت أمي من فورها .. فزع أبي و أمسك يدها .. سوف يموت إذا أكل طعاما .. أمعاءه ممزقة ..
التفتت أمي بغضب إلى أبي و عيناها تفيض بالدموع .. و سحبت يدها و مضت نحو المطبخ .. لقد فهمت تماما ما الذي كانت تعنيه أمي ...
و في ذلك المساء .. دخلت عليه .. كان يقف بجانب النافذة .. و ينظر بعيدا .. نظراته غريبة .. لم يكن ينظر إلى الشمس التي تتلاشى خلف الأفق .. و لا إلى الغيوم التي تلبدت في السماء .. و لا إلى أسراب الطيور البعيدة .. كان ينظر إلى شيء بعيد .. بعيد جدا ..
أشار إلي أن أقترب .. وقفت بقربه .. تنهد قليلا ثم قال : ليلة أمس .. رأيت حلما جميلا .. كانت السماء صافية .. و أمواج البحر تتهادى على رمال الشاطئ الذهبية .. و الحقول الخضراء تغطي التلال .. كنا معا .. كلنا سعداء .. أبي و أمي و جدتي .. أنا .. أنت .. أخوتي الصغار .. رأيت رفاقي و أصدقائي القدامى ..الجميع كانوا سعداء .. و فجأة .. تفرقوا و ذهبوا بعيدا ..و بقيت أنا وحدي .. لكنك كنت تجلس فوق أحد التلال و تنظر إليّ من بعيد ... لم تذهب معهم .. فقط بقيت تنظر إليّ ..
مرر يده الواهنة على شعري .. و أخذ ينظر إلي و كأنه يراني لأول و آخر مرة .. ثم قال بصوت ضعيف : أحمد .. أريد أن أوصيك بشيء خاص .. هل تنفذه ؟
أومأت برأسي .. فصوتي المتهدج بالبكاء لم يكن ليساعدني ..
تابع كلامه .. أريدك أن تجمع كل كتبي و ملابسي و أشيائي الخاصة و تتخلص منها بعد وفاتي .. قبل أن تراها أمي .. هل تعدني ؟..
أومأت برأسي مرة أخرى ..
ضمني إليه و كأنه يودعني .. دفنت رأسي في صدره .. أحسست فعلا بأنها المرة الأخيرة ..
يبدو أنه شعر بارتياح كبير .. استلقى على السرير .. و الآن .. هلا قرأت علي بعض الآيات .. كم كنت دوما أحب صوتك في تلاوة القرآن ..
كم كان طلبه في ذلك الوقت صعبا .. و كم كان تنفيذه أصعب .. لم أستطع أن أتحكم بدموعي ..
إنني أفقد اخي أمام عيني .. تحولت الدموع إلى نشيج ..
لكني حاولت المستحيل حتى استطعت أن أقرأ عليه كأجمل ما تكون القراءة .. و استمررت في القراءة و علامات الارتياح تبدو على وجهه ..
و فجأة ..
صرخ بقوة .. و أمسك بطنه و أخذ يصرخ و يصرخ ..
ناديت أبي بسرعة .. و حضر أبي فزعا و حقنه بالمهدئ .. و لكن الصراخ استمر .. الصراخ استمر .. و الألم يشتد .. بدت آلامه قاتلة ..
أخذ يتلوى .. و بدأ الدم ينزف من فمه ..
انهارت أمي فور دخولها الغرفة و وقعت على الأرض .. بينما جدتي التي كانت دائما صامتة .. أخذت تبكي أمامنا ..
أسرع أبي يحمله بين ذراعيه .. و انطلق بالسيارة نحو المستشفى ..
كانت ليلة شديدة البرودة ..
و الريح قوية ..
أمي كانت صامتة .. فقط تلك الدموع التي تنساب على وجنتيها في هدوء تام .. لم تكن تعي ما يدور حولها تماما ..
وجدتي كانت تصلي طوال الليل و تدعو الله ..
انتظرنا طويلا .. بدت دقات الساعة رعبة ..
لا أصدق أني أفقد أخي الحبيب ..
لا أكاد أصدق أن عمر الذي كان يشع قوة و شبابا ..
و يملأ أرجاء البيت حيوية و مرحا ..
لن يعود ..
أذن الفجر ..
ذهبت إلى المسجد .. و عدت .. لم يأت أبي ..
ظللت عند النافذة أتطلع قدوم السيارة ..
كانت السماء لا تزال ملبدة بالغيوم ..
و الظلام ما زال يسود المكان ..
و بدت الرياح و كأنها تعزف لحنا حزينا ..
بدأ المطر الخفيف بالتساقط ..
وصلت السيارة .. نظرت إلى أبي و هو صامت للحظات ..
ثم وضع رأسه بين كفيه على المقود .. و بدأ في البكاء كما لم يبك من قبل ..
عندها ..
تركت النافذة ..
و بدأت أجمع أشياء عمر ..
منقول