.. أبو ناريز !
07-11-2005, 11:27 AM
ركبتُ سيّارتي حيثُ منزل عمّتي غايتي، وأُختي وزوجها.
وآهٍ من عمّتي هذه، كم من الأجساد تتمنى لو تنتمي لروحها؟. تموت ألف مرةٍ فتسكنها هذه الروح الطاهرة مرةً واحدة، تعبث - تُبعث بها.
واقفاً تحت رحمة الإشارة المرورية الحمقاء، أُقلب أوراقاً هممت بكتابتها قبل ساعتين في مكتبي بالعمل.
فتاةٌ صغيرةٌ أكادُ أُثبت لكم بأنّ عُمرها لم يتجاوز السابعة من عقدها الثاني، يتراوح بين همّها والسعادة، - لا لشيء وإنّما حدسي وتنبُؤي بالأشياء من خلال معرفتي واِحتكاكي الكثير بالنساء، وأيضاً لبُروز صدرها الطُفولي كُلُ الفضل بتوقعاتي تلك بعد الله.
تقدمتْ، - وكأنّها تعرفني - نحو باب سيّارتي الأمامي الذي بجانبي، ركبتْ وحتّى بلا استئذانٍ مني.
حقيقةً في بداية الأمر كُنتُ أعتقدُ أنّها لقيطةٌ ليس لها أبٌ أو أم.
:
لهذه السن المُتقدمة للفهم والإدراك ما جعلني أصطبر، وأُوعِزُ أيضاً سبباً آخراً لعدمِ وُجودِ من تكون تحت اِمرته أو لنقُل أهليته أو حُرمته، وهو أنّها مُتسولة لم تعُد تُبطر الوقوف تحت قُرص الشمس الحارقة ولم تجد من تتوّسم به الخير غيري، رُغم أنّني لا أرى ذلك بي، حيثُ أنّني أميل للشر أكثر من ميلي إلى الخير وهذا اعترافٌ مني أُسجله على نفسي فدّوّنوهُ لديكم.
بادرتها : لستُ بسائقِ أُجرة، ماذا تُريدين؟.
لم تُجبني، وذلكَ ما زادني حيرةً إلى جانب قلقي منها - وعليها.
لا أُخفيكم، كان لديها وجهٌ يسّرُ الناظرين إليه، - وأنا أنظُرُ إليها، إذ بأبواق السيّارات خلفي كمزامير الحُروب، مشيتُ قليلاً مُستعيناً بالله ثُم وقفتُ بعد نصف الميل.
ما أمرُكِ يا فتاة؟. قائلاً إيّاها.
أنا فتاةٌ صغيرةٌ بالسن رُبما يكون ذلكَ صحيحاً وتراني ويراني غيرُكَ الكثير هكذا. ولكنّني أُحسُ بغير هذا، فأنا عشتُ السبعةَ عشرَ عاماً ولم أرَ منها ما يُسعدني كطفلة نشأت بلا أُم ترعاها، أعذُرنا ودُموعي التي ذرفت برغبةٍ منّي لا غير ذلك، فأبي لا أراه إلا مرتين في الشهر الواحد.
قاطعتها حيثُ كانت تود الإسترسال :
إنّني مُنسابُ كما كُل ذرةٍ في جسدي مع حديثكِ ومُنسجمٌ للغاية - لا لغرض المُتعة أو الشفقة على النقيض، بل لإنّني أحبُ أن أرى مشاكل ومصائب غيري كي تهون عليّ مشاكلي ومصائبي.
ولماذا، أهو كثير السفر؟. قصدتُ بذلك أباها.
نعم إنّه كثير السفر من جدارٍ إلى جدارٍ آخر، ولا يملؤ نظر عينيه للأعلى سوى السقف الذي يُطأطئُ رأسه من أجله فلا يرى إلا القاع التي تتثاقل عليها حمل قدميه، إنّه مسجونٌ بقضية قتل، ولا تعجب إن قُلتُ لكَ أنّه كان فاقداً لعقله حينها فقد كان مُعاقراً للخمرة.
وأُمُكِ؟. كيف ماتت؟.
فقالت شاحبة الملامح والبُؤسُ صاحبها :
ماتت لأنّ الله كتب عليها ذلكَ وأُولدَ أنا، لأحيى أنا، ماتت لأنّها أنجبتني.
والآنَ أشعُر بأنّني وكعاء بين حرائر. فقط لأنّني لا أستطيع أن أقول يوماً ما : أعشقُكِ أُمي، أُحِبُكَ أبي، هلّا تنطقُها لي كي أتعلم كيف تنطقونها، أو بماذا تُحسون حينما تقولونها؟.
أم هل تشعرون بشيءٍ يجعلكم تشمُون رائحة الجنّة؟. أم ماذا يحلُ بكم حينها؟.
:
رُحتُ بعيداً أجول بفكري - مُستغرباً سردها للكلام هكذا وكأنّها تعرفُني مُنّذُ زمنٍ طويل - والدمع اِغرورق من عينيها وشفتيها لا حراك لهما، سوى بلع الريق مثلي.
وقُلتُ : ما أشبه اليوم بالأمس - هذا ما قُلته أنا.
بل ما أتعس الأيّام كلها، وهذا ما ذكرته هي.
قُلتُ والحُمقُ يملئني :
إذن!.
ما المطلوب؟.
ما الّذي يتوّجب عليّ فعله؟.
فراحت تمُدُ يدها لتفتح الباب كي تخرج من السيّارة وهي تتّذمر من قولي لها وتقول كلماتٍ أشبهَ بالندمِ على ركوبها معي. فقُلتُ مُسرعاً : لا تفعلي وإلا ستندمي!.
علامَ ستندمُ فتاةٌ مثلي إن هي بقت معكَ أو تركتكَ وحيداً؟. هي قالت ذلك.
على الأقل لن تجدي من سيحتويكِ مثلي.
وكيف؟.
لا أعلم ولكن الآن، أركبي وأجلسي حيثُ كُنتِ.
أوَبعدَ ما ذكرته لكَ عنّي تقول لي : ما الّذي يتوّجب عليكَ فعله؟.
أوَهكذا يفعل الأحرار؟.
فرددتُ عليها : بل هكذا يفعل المُحتار، وأيُّ ثقة بيننا تُريدين بها منّي أن أُصدّقَكِ؟. وحتّى لمّا تكونين صادقةً بكل كلمةٍ ذكرتها، أوَليسَ من حقي السؤال عمّا يتوجب عليّ فعله؟. لرُبما لديكِ ما تقولينه حيال هذا الأمر وبدوري أنا أتحتُ لكِ الفُرصة للبوح بالإجابة إن كانت موجودة.
فأخذت ترفعُ رأسها لأعلى ويدها على شعرها وهي تقول : قد علمتَ أيّ مُتكئٍ اِتكأت عليهِ مُشكلتي، فأين الأثر منها والإنفعال لديكَ إن كان لها وقعٌ في اِستجدائك لحلّها؟.
هـه. أسمعي إذن ما لديّ من حل. أغاضني كلامُكِ حقاً بسردكِ للكلام وكأنّكِ تعلمين ما بيَ من مُحاولةٍ لمُساعدتكِ، يكفيني أنّني أود حلّ مشاكلكِ وأنتِ ترمين بتُهمةِ اللامُبالاة على عاتقي.
الحلُ الذي يُراودني الآنَ، أنّنا سنذهب إلى منزل عمّتي وأُختي وزوجها وسآخذكِ معي إليهم. وهُنالِكَ نُفكّرُ بما سنفعله معكِ، فما رأيُكِ؟.
أفعل ما تشاء وتراه صواباً. ليس لي قرارٌ في هذه الحالة. لقد تعلمتُ ألا أصنع قراراً أو أفتح نقاشاً أو حواراً أبداً ما حييت ما دام الطرف الآخر رجُل.
وفجأةً قالت : ولكن ما يضمنُ لي أنّكَ لن تفعل بي شيئاً أو تغدر بي؟.
كُنتُ سأفعل ذلكَ وأغدر بكِ حينما سنحت ليَ الفُرصة مُذ ركبتِ معي، أليسَ كذلك؟.
أو فلنقُل أنّ الذي جعلكِ تركبين معي في سيّارتي من البداية سيدعكِ تثقين بي.
فابتسمت وكأنّي أرى وجهها بدراً غطتِ الأرضُ نور الشمس عنه بعد لحظات، تلك كانت اِبتسامتها. كانت كعَقدٍ وميثاقٍ بيننا بأن نكون أحرص من بعضنا على بعضنا.
كانت الساعة حينئذٍ تقتاتُ منها الدقائق. ذهبتُ بها إلى منزل عمّتي. ونحنُ بالطريق سألتني : ألست مُتزوجاً؟.
يكفي النساء ركل الأسئلة على حِيطانِ الحماقة. وما يعنيكِ من الأمر أنتِ؟. تلك الشفاه، لتسترح قليلاً من عناء الحديث ( قُلتُ ذلك ).
فهزّت برأسها وهي تُتمتم : ما بالُ الرجال لا يُحبون؟ وإن فعلوا، بالحُب لا يصدقون؟.
وما دخلُ الحُب هُنا؟. شرعتُ أنا بقول ذلك فقالت :
الحُبُ أولُ صوتٍ تُنادي بهِ الروحُ العقل. وكان سؤالي لكَ عن الزواج الذي هو بدايته ونهايته روحاً وعقلاً. هُنالِكَ من يكونُ مُتيّماً بهِ ويزيدُ ولعاً، وأيضاً من لا يفعل. إنّه محطةٌ من محطاتِ الجُنونِ المحمود.
فقُلتُ أنا : حسناً. وهلِ الحُبُ جنّةٌ أم نار؟. وأبوابه ثمانية أم سبعة؟. والزواج! هل نحنُ بِهِ مُسيّرون أم مُخيّرون؟.
فضحكت حتّى قالت ساخرةً مني : لعلكَ تودُ رنق خاطري بعدم جدّيتكَ في الحديث معي.
على العكس ممّ تقولين، إنّني جادٌ فيما قُلته.
:
فراحت تقول : الحُبُ بُستانٌ لا فلاحون له، عدا البُسطاءُ لعدم اِنشغالهم بغيره فهو الباعثُ الوحيد لهم على الحياة. فغالباً ما تجد الأثرياء لا يعرفونه إلا بثرائهم الفاحش. لإنّهم لا يفرغون له لا يعرفونه، لإنّهم لا يرونه محسوساً كالمال لا يطرقون بابَه. إنّني أراه حدائقَ غنّاءَ وحقولاً تسكُنُها النساءُ بيوتُها وأكواخها بها الورودُ، والرجالُ لا يدخلون هذه الأماكن إلا من ليسَ لديهم عقول.
أوَلستَ ترى الجنّة الخضراءَ؟. مَن جعلها هكذا بعد الله؟.
إنّه الحُبُ من فعل ذلك بها كما يفعلُ بالنساء. وإلا لرأيتها صعيداً زلقاً خاويةً على عُروشها.
:
فسكتنا قليلاً.
عُذراً، ما اسمُكِ؟
إسمي، كدر.
أسمعيني جيّداً يا كدر.
الحديثُ عن العشق والحُب والزواج حديثٌ يجلبُ لي الضنك. هلّا نتحدثُ عن غيره؟.
فقالت : شريطة أن تقولَ ليَ رأيَكَ بما ذكرتهُ لكَ قبل قليل.
حسناً. كلامُكِ جميلٌ ولكنّكِ بالغتِ بهِ. إنّ ثمَّةَ تعليقٌ لديّ حياله وهو أنّه كيف بالحُبِ لا يعرفونه الأثرياء؟. أو كيف بالرجال لا يعرفونه إلا عندما يستقيل العقل من رؤوسهم؟ ألكِ أن تشرحي لي ما ذكرتِهِ في قولِكِ عن النساء حينما قُلتِ : إنّني أراه حدائقَ غنّاءَ وحقولاً تسكُنُها النساءُ بيوتُها وأكواخها بها الورودُ، والرجالُ لا يدخلون هذه الأماكن إلا من ليسَ لديهم عقول!.
هل من هذا الكلام تعترفين بأنّ حال النساء دائماً بلا عُقول؟ فلهذا السبب هُنّ اللواتي يقطُنَ الحُبَ ليلَ نهار لا يخرُجن منه على حدِّ ما ذكرتِهِ!.
إنّ عجبي ليسَ يتوقف عند هذا فقط، بل يزداد عند إزدرائكِ للعقل وكيف أنّه لا يتوافقُ مع الحُب!.
فقالت : دعني أشرحُ لكَ ذلك، قُلتُ ما قُلتُهُ عن الرجال وعدم مصداقيتهم في الحُب بعقولهم ذلك لإنّهم كثيرو الخيانةِ به. ألا ترى أنّ المرأة تُحِبُ بقلبها ومشاعرها وتنسى عقلها تماماً؟. فلماذا كُلُ يومٍ نسمعُ أو نقرأُ عن فتاةٍ ذهبت عفتُها فقط لأنّها أحبّت بلا عقل؟. بل فقط بقلبٍ تحمله وهبها إيّاه الرحمن تحكم به كُلَ شُؤونِ حياتها؟. على العكس من الرجُل فعيبُه - إن خان امرأةً ولعب دور حمار أحلامها حتّى تكتشف أنّهُ كاذبٌ أشّر - تحملُه فُحولتُه ورُجولتُه التي يتذّرعُ بها الرجال دائماً، أتعجبُ واللهِ لِمَ الرجُلُ لا يُحِبُ بصدق؟!.
ولا خلاف على أنّ أغلب الرجال إن أحبوا كانت شرعيتهم لهذا الحُبِ ومرجعهم الوحيد هو العقل فقط. إلا من رحم ربي - وهُم قليل، - أوَتعرفُ إن قطفتَ وردةً من حقلٍ بلا أحقيةٍ لكَ بذلك، ما يحلُ بتلك الوردة؟.
تموت، وتِلكَ امرأةٌ ذبُلت، فماتت.
يبدو أنّكَ لم تقتنع بكُلِ كلمةٍ ذكرتُها لكَ؟. ( وختمت قولها بذلك ).
بل أنصّتُ كثيراً لكِ وحان دوري في الكلام.
حسناً. قُل ما لديكَ فها أنا أُنصِتُ جيّداً.
حكايتي طويلةٌ جداً مع الحُبِ فهي مُؤرّقة أكثر من كونها تُمزّقني عندما تلوحُ لي ذكرياتها. لا تتّعجبي إن قُلتُ لكِ أنّني ممّن ذكرتِهم فأنا أحببتُ بلا عقلٍ منّي وكان الجُنونُ رفيقي عوضاً عن عقلي حينها. أحببتُ على عكس تيّارات القبلية الغثّة بالعاداتِ الممقوتة. إنّني حينما أحببتُ تغيّرتْ لديّ كُلُ مفاهيمِ الحياة، فرُحتُ أقيسُ كُلَ شيءٍ عن طريقِ هذا الحُب، لا أُخفيكِ أيضاً أنّني بالحُبِ عرفتُ كيف كان عنترةُ يُحِبُ عبلةَ وهو لا يزالُ يذكُرها حتّى في قتاله قائلاً :
ولقــــد ذكرتُكِ والسيـوف نواهــل .. مني وبيض الهند تقطر من دمي
فـوددتُ تقبيــل الســيــوف لأنّهــا .. لمعـــت كبــارق ثغركِ المُتبســم
:
طفقتُ أقولُ دائماً سأُحِبُ أكثر من قيس. سأقولُ في الحُبِ أجمل ممّا قاله عنترةُ بعبلة. وأيضاً سأُراهن على ذلك أبي وأُمي وأتحداهم جميعاً، وحتّى حبيبتي سأتحداها أن تُحِبَني أكثر مِنْ حُبي لها. سأعتزل قبيلتي كُلَّها لو نالني من ذلكَ ما يجعلهم يحتقرونني، إنّهم لا يعرفون ما قيمة أن يُحِبَ شخصٌ شخصاً آخر، فقد تعوّدوا على أن يكرهوا بعضهم البعض يدُسُون لبعضهم البعض سُمّاً بكؤوسِ أحقادهم.
أرتكبتُ حُبَ فتاةٍ كانت تقولُ عنّي دائماً بأنّني أُحِبُها للعبث واللعب واللهو. أستغرب شدة الإستغراب أن يهتمَ بِكَ إنسانٌ أشّدَ الإهتمام ويُراعيكِ أشّدّ المُراعاة وكأنّ رُوحَهُ لصيقةُ بجسدِكَ لا تكادُ تُفارقُه، ومع كُلِ هذا يسألُكَ ألا تُحِبَه! ذلكَ ما كان منها دائماً صداً لمشاعري، لا ترضى ببوحي لها بهِ حتّى ولو كان تلميحاً.
وحينَ لا أقولُ لها أُحِبُكِ تغضب.
وحينَ أرتكب إثمَ الإهتمام بغيرها من جنسها وأنشُدَهُا أحوالها، أبداً لا تغضبُ وتُؤثرُ اللامُبالاة واللإهتمام فتصمُتُ ولا تثور لها ثائرة.
عشرة من السنينِ كأنّها مائة قرن - وبدت تسيلُ بناتُ عينيّ منها - أو سبعون خريفاً إلا قليلاً،أحببتُها يا كدر. حاولتُ الإرتباط بها ولكنّ القُيود الإجتماعية والعُرفية الهمجية والقبلية اللعينة الرجعّيّة هي ما منعنا من ذلك. آهٍ يا كدرُ حينما أتتني تسألُني الرحيلَ آهٍ آهْ. أوَأحسستي يوماً ما برغبةٍ بالبُكاء مع عدم القُدرة عليه فتهيمين بقفارِ الحَيرةِ من أمرِكِ فتسكُتين طويلاً وتضحكين جُنوناً قليلاً؟.
أُقسمُ لكِ يا كدرُ إنّني حينها قُمتُ باِسترجاعِ كُلِ ذكرياتي معها - حتّى بُكائي حينما أفتقدها في تِلكَ السنين - ، كان إحتراقاً داخلياً يجعلُني أُمّشطُ حيطانَ وأسقُفَ وقِيعان الشوقِ والتوقِ إليها. فقط كُنتُ أوّدُ رؤيتها حتّى لو كان حديثُنا الصمت - وغالباً ما يكونُ كذلكَ إن اِجتمعنا ولا تنسِ فهو أبلغ.
وها هي حياتي الآن- بعيداً عن مضمون خلقي للعبادة - لم يعُد لها أيةُ قيمة. أشعُر أنّني أعيشُ فقط بلا غاية.
وبدى واضحاً الإنسجامُ الكاملُ من كدر لي وأنا أتحدث إليها.
فأكملتُ حديثي :
وفي يومٍ من الأيّام البائسة في حياتي - تلك التي أحسبُها كذلك - حدّثتني حبيبتي فقالت لي : هل رأيتَ القمرَ ليلة البارحة؟.
فقُلتُ : لا. ولكنّني على يقينٍ وثِقةٍ بأنّه كان جميلاً، لأنّكِ رأيتِهِ وهو رآكِ. وعلى ثِقةٍ أكبرُ بأنّه قد دوّن على جبينهِ قصيدة بعينيكِ.
فطفقت تضحكُ ويدها بظفيرةٍ من ظفائرها المسدولةِ على صدرها.
ثُمّ حلّقتْ بعيداً بالنظر فقالت : حبيبي، هذا آخرُ لقاءِ بيننا، لأنّني لم أقُل لكَ يوماً في حياتي أُحِبُكَ، فلهذا سيكون اليوم هذا هو آخر يومٍ يجمعنا. فاستدارت ومشتْ وأنا أتبعها - وأكملت حديثها - إنّكَ تعلمُ أنّنا نعيشُ في هذهِ الحياةِ - وخاصةً نحنُ الّذين بيئتُنا بيئةٌ تتمادى بنا إلى أهوائها وشرائعها البالية كُرهاً لا طوعاً - كالدُمى. ومع أنّني لا أفقهُ - مثقال ذرّة -في حياةِ الحيواناتِ وكيف تعيشُ، إلا أنّني أثقُ بأنّها كواقعنا.
واستمرت في الحديث وأنا حائرٌ كمن هو يحلُمُ بأن يُفيق من حُلمٍ مُزعج :
لم أقُل لكَ مالّذي حدثَ للقمر ليلة البارحة، لقد خُسِف.
وعاد كما كان.
وأنا مثله في حياتكَ، ستخسفُني منها أُمي وأبي. وأمُكَ وأبوك.
ولن أعُود.
فلم أستطِع الردّ عليها سوى أن قُلت :
مُحمدٌ - صلّى الله عليه وسلّم - وعدني بكِ في الجنّة، وسأخطبكِ لا من أبيكِ أو أُمِكِ، ولا أبي أو أُمِي. بل سأخطبكِ من الله.
وعلى ذلكَ اتفقنا، فافترقنا.
فرغبتُ عن الحديثِ ونظرتُ إلى كدر.
وإذ هي ساكتة، سألتُها : ما بالُكِ تسكُتين؟.
لا أعلم، ولكن، وددتُ لو كان بيدي شيءٌ فأقومَ بالمُساعدة. حتى الكلامُ هربَ منّي.
فقُلتُ لها : لا عليكِ، فالحياة ستستمر. بي أم لا.
فسكتنا قليلاً.
:
وقبل وُصولنا إلى المنزل قالت :
ولكنّكَ قد عرفتَ اسمي حيثُ لم أعرف إسمَكَ حتّى الآن.
إسمي. إسمي. وما الفرقُ بين معرفته وجهله لديكِ؟. أولستِ تفتقدين أباً لكِ؟ وأخاً لكِ. إذن فنادِني بأبتِز وأخي أيضاً.
لم تنبُس ببنت شفةٍ مُذ قُلتُ ذلكَ الكلام فأحسستُ بقيمة ما قُلتُه. قد كان قولي قاسياً رُبما ( هذا ما رُحتُ أُفكرُ به ) فقطعتُ حبال صمتي حيثُ قُلت :
ما بالُكِ تسكُتين؟.
لا يُعجبني الغُموضُ جزاءً وثواباً للوُضوح.
عرفتُ إذن. إسمي خالد.
فقالت : كُنتَ خالداً وأصبحتَ خالداً. هل تغيّر شيءٌ عندما ذكرتَ لي اسمَكَ يا خالد؟.
حدّثي نفسَكِ عن هذا فماذا استفدتِ أنتِ من معرفةِ اسمي؟.
فجاوبتْ : أن تُناديني بكدر وأُناديكَ بخالد، فتأُخذ الأشياءُ أسمائَها.
حسناً. حسناً. لا تجزعي ولا تنزعجي.
ها قد وصلنا إلى المنزل.
قبل الولوج لمنزلنا أودُ قولَ أنّ عمّتي عمياء البصر، نافذة البصيرة.
وبدى وكأنّها تتحسر على ما ذكرتُهُ لها.
فهممت بالنزول وأنا أتحدث :
لا عليكِ إنّها تعوّدت على ذلك. وكأنّما النظرُ بات بالنسبة لها عدواً لدوداً.
فقالت : خالد، أوتظُن أنّه بإمكاني النزول معكَ هكذا أمام أهلك، إنّ لديّ رأياً آخر.
فلماذا لا تقومَ بإرجاعي إلى مكاني وأنا سأقوم بالتصرُف؟. ولا أُخفيك أعتبرها ما ستعتبرها. ليس معي مالٌ أو ما أسُدُ به حاجاتي.
لعلكِ توّدين الصمت قليلاً حالما ندخل المنزل.
فمشينا سويةً حتّى فتحتُ الباب وهممتُ بنداء عمّتي ياسمين لولا أن رأيتُ بُرهاناً يردعُني بعدم التمادي بالكذب.
والتفتُ لكدر : أوتغفرين لي كذبي حينما قُلتُ لكِ أنّ لديّ بالمنزل عمةً وأُختاً وزوجها؟
ماذا؟. كأنّكَ تقول أن ليس أحدٌ بالمنزل سوانا؟.
لو لم أكذب لم تأتِ معي، صدّقيني.
هل تسمح لي بالخروج الآن فأغفر لكَ كذبكَ؟.
نعم ولكن!.
ماذا؟. هل ستكذب كذبةً أُخرى؟. حدّثني عنها. هيّا الآن. فأنا قد تعوّدت على مثل هذا.
لا، لا. بل فقط وددتُ وأحببتُ الحديثَ معكِ ووددتُ مُساعدتكِ فقط لا غير ذلك.
حسناً. فها أنا هُنا فماذا أنتَ فاعلٌ أو قائل؟.
فابتسمتُ فرحاً وقُلتُ لها : أجلسي هُنا. وركضتُ مُسرعاً لحُجرة طهي الطعام.
وبعد ساعةٍ ونصفها أتيتُ بالأكل فوجدتُها نائمةً على الأريكة.
فليهنأ النومُ ولتهنأَ بكِ الأرآئك. أشعُر بالغيرة نحوهم. ( هذا ما تمتمتُ به ).
أخذتُ أُناديها كي تصحو من نومها العميق.
قامت من نومها وقالت وهي مُبتسمةً تكادُ تطير : حلُمتُ يا خالدُ أنّني أطير في السماء ومعي أُناسٌ لا أعرفهم فوق بحرٍ في أعماقه مدينةٌ أضوائها تُشع وتبرق.
فقُلت : ليتكِ تسكُتين. فتفسيرُ حُلمكِ هو أنّك بداء العُروبة الحالمة أُصبتِ، وقريباً ستموتين. ليسَ بالضرورة تعيشين.
دعي عنكِ السماءَ واَهتمي الآنَ بما هو أهم من ذلك فمعدتي تتّضور جوعاً.
الغُسلُ هُنالك خلف تلك الغُرفة. ( أشرتُ لها بذلك ).
اِغتسلتْ وعادتْ كي تُجيب نداءات الجُوعِ لها.
ونحنُ نأكُل :
كدر : هل لكَ أحدٌ من أقاربكَ قريبٌ هُنا؟. أينَ أهلُكَ؟.
جاوبتها : سِواكِ، لا.
وكيف سِوايَ لا؟.
وأنا أبتسم : أي، أنتِ الآنَ أبعد النّاس عني وكُلُ قريباتي، وكُلُ أُناسي واهتماماتي.
أيضاً كيف هذِه؟. لم أفهمكَ ولم أعرف ما تقوله.
لا أعلم وإنّما هو شُعورٌ بُحتُ بهِ فأقبليهِ أو أرفُضيه. أجمل ما بي الآن، أنّني أراني إنساناً آخر. حتّى أنا لا أعلمُ كيف خرجتْ تلكَ الكلماتُ من شفتيّ والله؟. المُهم هو أنّني بُحتُ لكِ بما خالج صدري.
إنّهُم يعرضون كهذا بشاشات التلفزة. أوتسخرُ مني به؟.
إنّني أودُكِ أُختاً لِي، ليسَ إلا.
قبلت.
مِن الآنَ فصاعداً، أصبحتِ لِي أُختاً، وحبيبةً، وسعادةً وكدرا.
وفجأة تدخُل عمّتي يا سمين وبيدِها الجريدة. وتنجلي بدخُولها كذبتان.
خبرٌ مكتوبٌ بأول الجريدة.
( هُروبُ امرأةٍ مِن السجنِ محكومةٍ بالقتلِ بتُهمةِ الحُب ).
:
:
:
كانت القصّة مُستوحاة من حلمٍ حلمته في الثامن من رمضان
كل عيدٍ وأنتم بعزةٍ ورِفعة
فــهــد
وآهٍ من عمّتي هذه، كم من الأجساد تتمنى لو تنتمي لروحها؟. تموت ألف مرةٍ فتسكنها هذه الروح الطاهرة مرةً واحدة، تعبث - تُبعث بها.
واقفاً تحت رحمة الإشارة المرورية الحمقاء، أُقلب أوراقاً هممت بكتابتها قبل ساعتين في مكتبي بالعمل.
فتاةٌ صغيرةٌ أكادُ أُثبت لكم بأنّ عُمرها لم يتجاوز السابعة من عقدها الثاني، يتراوح بين همّها والسعادة، - لا لشيء وإنّما حدسي وتنبُؤي بالأشياء من خلال معرفتي واِحتكاكي الكثير بالنساء، وأيضاً لبُروز صدرها الطُفولي كُلُ الفضل بتوقعاتي تلك بعد الله.
تقدمتْ، - وكأنّها تعرفني - نحو باب سيّارتي الأمامي الذي بجانبي، ركبتْ وحتّى بلا استئذانٍ مني.
حقيقةً في بداية الأمر كُنتُ أعتقدُ أنّها لقيطةٌ ليس لها أبٌ أو أم.
:
لهذه السن المُتقدمة للفهم والإدراك ما جعلني أصطبر، وأُوعِزُ أيضاً سبباً آخراً لعدمِ وُجودِ من تكون تحت اِمرته أو لنقُل أهليته أو حُرمته، وهو أنّها مُتسولة لم تعُد تُبطر الوقوف تحت قُرص الشمس الحارقة ولم تجد من تتوّسم به الخير غيري، رُغم أنّني لا أرى ذلك بي، حيثُ أنّني أميل للشر أكثر من ميلي إلى الخير وهذا اعترافٌ مني أُسجله على نفسي فدّوّنوهُ لديكم.
بادرتها : لستُ بسائقِ أُجرة، ماذا تُريدين؟.
لم تُجبني، وذلكَ ما زادني حيرةً إلى جانب قلقي منها - وعليها.
لا أُخفيكم، كان لديها وجهٌ يسّرُ الناظرين إليه، - وأنا أنظُرُ إليها، إذ بأبواق السيّارات خلفي كمزامير الحُروب، مشيتُ قليلاً مُستعيناً بالله ثُم وقفتُ بعد نصف الميل.
ما أمرُكِ يا فتاة؟. قائلاً إيّاها.
أنا فتاةٌ صغيرةٌ بالسن رُبما يكون ذلكَ صحيحاً وتراني ويراني غيرُكَ الكثير هكذا. ولكنّني أُحسُ بغير هذا، فأنا عشتُ السبعةَ عشرَ عاماً ولم أرَ منها ما يُسعدني كطفلة نشأت بلا أُم ترعاها، أعذُرنا ودُموعي التي ذرفت برغبةٍ منّي لا غير ذلك، فأبي لا أراه إلا مرتين في الشهر الواحد.
قاطعتها حيثُ كانت تود الإسترسال :
إنّني مُنسابُ كما كُل ذرةٍ في جسدي مع حديثكِ ومُنسجمٌ للغاية - لا لغرض المُتعة أو الشفقة على النقيض، بل لإنّني أحبُ أن أرى مشاكل ومصائب غيري كي تهون عليّ مشاكلي ومصائبي.
ولماذا، أهو كثير السفر؟. قصدتُ بذلك أباها.
نعم إنّه كثير السفر من جدارٍ إلى جدارٍ آخر، ولا يملؤ نظر عينيه للأعلى سوى السقف الذي يُطأطئُ رأسه من أجله فلا يرى إلا القاع التي تتثاقل عليها حمل قدميه، إنّه مسجونٌ بقضية قتل، ولا تعجب إن قُلتُ لكَ أنّه كان فاقداً لعقله حينها فقد كان مُعاقراً للخمرة.
وأُمُكِ؟. كيف ماتت؟.
فقالت شاحبة الملامح والبُؤسُ صاحبها :
ماتت لأنّ الله كتب عليها ذلكَ وأُولدَ أنا، لأحيى أنا، ماتت لأنّها أنجبتني.
والآنَ أشعُر بأنّني وكعاء بين حرائر. فقط لأنّني لا أستطيع أن أقول يوماً ما : أعشقُكِ أُمي، أُحِبُكَ أبي، هلّا تنطقُها لي كي أتعلم كيف تنطقونها، أو بماذا تُحسون حينما تقولونها؟.
أم هل تشعرون بشيءٍ يجعلكم تشمُون رائحة الجنّة؟. أم ماذا يحلُ بكم حينها؟.
:
رُحتُ بعيداً أجول بفكري - مُستغرباً سردها للكلام هكذا وكأنّها تعرفُني مُنّذُ زمنٍ طويل - والدمع اِغرورق من عينيها وشفتيها لا حراك لهما، سوى بلع الريق مثلي.
وقُلتُ : ما أشبه اليوم بالأمس - هذا ما قُلته أنا.
بل ما أتعس الأيّام كلها، وهذا ما ذكرته هي.
قُلتُ والحُمقُ يملئني :
إذن!.
ما المطلوب؟.
ما الّذي يتوّجب عليّ فعله؟.
فراحت تمُدُ يدها لتفتح الباب كي تخرج من السيّارة وهي تتّذمر من قولي لها وتقول كلماتٍ أشبهَ بالندمِ على ركوبها معي. فقُلتُ مُسرعاً : لا تفعلي وإلا ستندمي!.
علامَ ستندمُ فتاةٌ مثلي إن هي بقت معكَ أو تركتكَ وحيداً؟. هي قالت ذلك.
على الأقل لن تجدي من سيحتويكِ مثلي.
وكيف؟.
لا أعلم ولكن الآن، أركبي وأجلسي حيثُ كُنتِ.
أوَبعدَ ما ذكرته لكَ عنّي تقول لي : ما الّذي يتوّجب عليكَ فعله؟.
أوَهكذا يفعل الأحرار؟.
فرددتُ عليها : بل هكذا يفعل المُحتار، وأيُّ ثقة بيننا تُريدين بها منّي أن أُصدّقَكِ؟. وحتّى لمّا تكونين صادقةً بكل كلمةٍ ذكرتها، أوَليسَ من حقي السؤال عمّا يتوجب عليّ فعله؟. لرُبما لديكِ ما تقولينه حيال هذا الأمر وبدوري أنا أتحتُ لكِ الفُرصة للبوح بالإجابة إن كانت موجودة.
فأخذت ترفعُ رأسها لأعلى ويدها على شعرها وهي تقول : قد علمتَ أيّ مُتكئٍ اِتكأت عليهِ مُشكلتي، فأين الأثر منها والإنفعال لديكَ إن كان لها وقعٌ في اِستجدائك لحلّها؟.
هـه. أسمعي إذن ما لديّ من حل. أغاضني كلامُكِ حقاً بسردكِ للكلام وكأنّكِ تعلمين ما بيَ من مُحاولةٍ لمُساعدتكِ، يكفيني أنّني أود حلّ مشاكلكِ وأنتِ ترمين بتُهمةِ اللامُبالاة على عاتقي.
الحلُ الذي يُراودني الآنَ، أنّنا سنذهب إلى منزل عمّتي وأُختي وزوجها وسآخذكِ معي إليهم. وهُنالِكَ نُفكّرُ بما سنفعله معكِ، فما رأيُكِ؟.
أفعل ما تشاء وتراه صواباً. ليس لي قرارٌ في هذه الحالة. لقد تعلمتُ ألا أصنع قراراً أو أفتح نقاشاً أو حواراً أبداً ما حييت ما دام الطرف الآخر رجُل.
وفجأةً قالت : ولكن ما يضمنُ لي أنّكَ لن تفعل بي شيئاً أو تغدر بي؟.
كُنتُ سأفعل ذلكَ وأغدر بكِ حينما سنحت ليَ الفُرصة مُذ ركبتِ معي، أليسَ كذلك؟.
أو فلنقُل أنّ الذي جعلكِ تركبين معي في سيّارتي من البداية سيدعكِ تثقين بي.
فابتسمت وكأنّي أرى وجهها بدراً غطتِ الأرضُ نور الشمس عنه بعد لحظات، تلك كانت اِبتسامتها. كانت كعَقدٍ وميثاقٍ بيننا بأن نكون أحرص من بعضنا على بعضنا.
كانت الساعة حينئذٍ تقتاتُ منها الدقائق. ذهبتُ بها إلى منزل عمّتي. ونحنُ بالطريق سألتني : ألست مُتزوجاً؟.
يكفي النساء ركل الأسئلة على حِيطانِ الحماقة. وما يعنيكِ من الأمر أنتِ؟. تلك الشفاه، لتسترح قليلاً من عناء الحديث ( قُلتُ ذلك ).
فهزّت برأسها وهي تُتمتم : ما بالُ الرجال لا يُحبون؟ وإن فعلوا، بالحُب لا يصدقون؟.
وما دخلُ الحُب هُنا؟. شرعتُ أنا بقول ذلك فقالت :
الحُبُ أولُ صوتٍ تُنادي بهِ الروحُ العقل. وكان سؤالي لكَ عن الزواج الذي هو بدايته ونهايته روحاً وعقلاً. هُنالِكَ من يكونُ مُتيّماً بهِ ويزيدُ ولعاً، وأيضاً من لا يفعل. إنّه محطةٌ من محطاتِ الجُنونِ المحمود.
فقُلتُ أنا : حسناً. وهلِ الحُبُ جنّةٌ أم نار؟. وأبوابه ثمانية أم سبعة؟. والزواج! هل نحنُ بِهِ مُسيّرون أم مُخيّرون؟.
فضحكت حتّى قالت ساخرةً مني : لعلكَ تودُ رنق خاطري بعدم جدّيتكَ في الحديث معي.
على العكس ممّ تقولين، إنّني جادٌ فيما قُلته.
:
فراحت تقول : الحُبُ بُستانٌ لا فلاحون له، عدا البُسطاءُ لعدم اِنشغالهم بغيره فهو الباعثُ الوحيد لهم على الحياة. فغالباً ما تجد الأثرياء لا يعرفونه إلا بثرائهم الفاحش. لإنّهم لا يفرغون له لا يعرفونه، لإنّهم لا يرونه محسوساً كالمال لا يطرقون بابَه. إنّني أراه حدائقَ غنّاءَ وحقولاً تسكُنُها النساءُ بيوتُها وأكواخها بها الورودُ، والرجالُ لا يدخلون هذه الأماكن إلا من ليسَ لديهم عقول.
أوَلستَ ترى الجنّة الخضراءَ؟. مَن جعلها هكذا بعد الله؟.
إنّه الحُبُ من فعل ذلك بها كما يفعلُ بالنساء. وإلا لرأيتها صعيداً زلقاً خاويةً على عُروشها.
:
فسكتنا قليلاً.
عُذراً، ما اسمُكِ؟
إسمي، كدر.
أسمعيني جيّداً يا كدر.
الحديثُ عن العشق والحُب والزواج حديثٌ يجلبُ لي الضنك. هلّا نتحدثُ عن غيره؟.
فقالت : شريطة أن تقولَ ليَ رأيَكَ بما ذكرتهُ لكَ قبل قليل.
حسناً. كلامُكِ جميلٌ ولكنّكِ بالغتِ بهِ. إنّ ثمَّةَ تعليقٌ لديّ حياله وهو أنّه كيف بالحُبِ لا يعرفونه الأثرياء؟. أو كيف بالرجال لا يعرفونه إلا عندما يستقيل العقل من رؤوسهم؟ ألكِ أن تشرحي لي ما ذكرتِهِ في قولِكِ عن النساء حينما قُلتِ : إنّني أراه حدائقَ غنّاءَ وحقولاً تسكُنُها النساءُ بيوتُها وأكواخها بها الورودُ، والرجالُ لا يدخلون هذه الأماكن إلا من ليسَ لديهم عقول!.
هل من هذا الكلام تعترفين بأنّ حال النساء دائماً بلا عُقول؟ فلهذا السبب هُنّ اللواتي يقطُنَ الحُبَ ليلَ نهار لا يخرُجن منه على حدِّ ما ذكرتِهِ!.
إنّ عجبي ليسَ يتوقف عند هذا فقط، بل يزداد عند إزدرائكِ للعقل وكيف أنّه لا يتوافقُ مع الحُب!.
فقالت : دعني أشرحُ لكَ ذلك، قُلتُ ما قُلتُهُ عن الرجال وعدم مصداقيتهم في الحُب بعقولهم ذلك لإنّهم كثيرو الخيانةِ به. ألا ترى أنّ المرأة تُحِبُ بقلبها ومشاعرها وتنسى عقلها تماماً؟. فلماذا كُلُ يومٍ نسمعُ أو نقرأُ عن فتاةٍ ذهبت عفتُها فقط لأنّها أحبّت بلا عقل؟. بل فقط بقلبٍ تحمله وهبها إيّاه الرحمن تحكم به كُلَ شُؤونِ حياتها؟. على العكس من الرجُل فعيبُه - إن خان امرأةً ولعب دور حمار أحلامها حتّى تكتشف أنّهُ كاذبٌ أشّر - تحملُه فُحولتُه ورُجولتُه التي يتذّرعُ بها الرجال دائماً، أتعجبُ واللهِ لِمَ الرجُلُ لا يُحِبُ بصدق؟!.
ولا خلاف على أنّ أغلب الرجال إن أحبوا كانت شرعيتهم لهذا الحُبِ ومرجعهم الوحيد هو العقل فقط. إلا من رحم ربي - وهُم قليل، - أوَتعرفُ إن قطفتَ وردةً من حقلٍ بلا أحقيةٍ لكَ بذلك، ما يحلُ بتلك الوردة؟.
تموت، وتِلكَ امرأةٌ ذبُلت، فماتت.
يبدو أنّكَ لم تقتنع بكُلِ كلمةٍ ذكرتُها لكَ؟. ( وختمت قولها بذلك ).
بل أنصّتُ كثيراً لكِ وحان دوري في الكلام.
حسناً. قُل ما لديكَ فها أنا أُنصِتُ جيّداً.
حكايتي طويلةٌ جداً مع الحُبِ فهي مُؤرّقة أكثر من كونها تُمزّقني عندما تلوحُ لي ذكرياتها. لا تتّعجبي إن قُلتُ لكِ أنّني ممّن ذكرتِهم فأنا أحببتُ بلا عقلٍ منّي وكان الجُنونُ رفيقي عوضاً عن عقلي حينها. أحببتُ على عكس تيّارات القبلية الغثّة بالعاداتِ الممقوتة. إنّني حينما أحببتُ تغيّرتْ لديّ كُلُ مفاهيمِ الحياة، فرُحتُ أقيسُ كُلَ شيءٍ عن طريقِ هذا الحُب، لا أُخفيكِ أيضاً أنّني بالحُبِ عرفتُ كيف كان عنترةُ يُحِبُ عبلةَ وهو لا يزالُ يذكُرها حتّى في قتاله قائلاً :
ولقــــد ذكرتُكِ والسيـوف نواهــل .. مني وبيض الهند تقطر من دمي
فـوددتُ تقبيــل الســيــوف لأنّهــا .. لمعـــت كبــارق ثغركِ المُتبســم
:
طفقتُ أقولُ دائماً سأُحِبُ أكثر من قيس. سأقولُ في الحُبِ أجمل ممّا قاله عنترةُ بعبلة. وأيضاً سأُراهن على ذلك أبي وأُمي وأتحداهم جميعاً، وحتّى حبيبتي سأتحداها أن تُحِبَني أكثر مِنْ حُبي لها. سأعتزل قبيلتي كُلَّها لو نالني من ذلكَ ما يجعلهم يحتقرونني، إنّهم لا يعرفون ما قيمة أن يُحِبَ شخصٌ شخصاً آخر، فقد تعوّدوا على أن يكرهوا بعضهم البعض يدُسُون لبعضهم البعض سُمّاً بكؤوسِ أحقادهم.
أرتكبتُ حُبَ فتاةٍ كانت تقولُ عنّي دائماً بأنّني أُحِبُها للعبث واللعب واللهو. أستغرب شدة الإستغراب أن يهتمَ بِكَ إنسانٌ أشّدَ الإهتمام ويُراعيكِ أشّدّ المُراعاة وكأنّ رُوحَهُ لصيقةُ بجسدِكَ لا تكادُ تُفارقُه، ومع كُلِ هذا يسألُكَ ألا تُحِبَه! ذلكَ ما كان منها دائماً صداً لمشاعري، لا ترضى ببوحي لها بهِ حتّى ولو كان تلميحاً.
وحينَ لا أقولُ لها أُحِبُكِ تغضب.
وحينَ أرتكب إثمَ الإهتمام بغيرها من جنسها وأنشُدَهُا أحوالها، أبداً لا تغضبُ وتُؤثرُ اللامُبالاة واللإهتمام فتصمُتُ ولا تثور لها ثائرة.
عشرة من السنينِ كأنّها مائة قرن - وبدت تسيلُ بناتُ عينيّ منها - أو سبعون خريفاً إلا قليلاً،أحببتُها يا كدر. حاولتُ الإرتباط بها ولكنّ القُيود الإجتماعية والعُرفية الهمجية والقبلية اللعينة الرجعّيّة هي ما منعنا من ذلك. آهٍ يا كدرُ حينما أتتني تسألُني الرحيلَ آهٍ آهْ. أوَأحسستي يوماً ما برغبةٍ بالبُكاء مع عدم القُدرة عليه فتهيمين بقفارِ الحَيرةِ من أمرِكِ فتسكُتين طويلاً وتضحكين جُنوناً قليلاً؟.
أُقسمُ لكِ يا كدرُ إنّني حينها قُمتُ باِسترجاعِ كُلِ ذكرياتي معها - حتّى بُكائي حينما أفتقدها في تِلكَ السنين - ، كان إحتراقاً داخلياً يجعلُني أُمّشطُ حيطانَ وأسقُفَ وقِيعان الشوقِ والتوقِ إليها. فقط كُنتُ أوّدُ رؤيتها حتّى لو كان حديثُنا الصمت - وغالباً ما يكونُ كذلكَ إن اِجتمعنا ولا تنسِ فهو أبلغ.
وها هي حياتي الآن- بعيداً عن مضمون خلقي للعبادة - لم يعُد لها أيةُ قيمة. أشعُر أنّني أعيشُ فقط بلا غاية.
وبدى واضحاً الإنسجامُ الكاملُ من كدر لي وأنا أتحدث إليها.
فأكملتُ حديثي :
وفي يومٍ من الأيّام البائسة في حياتي - تلك التي أحسبُها كذلك - حدّثتني حبيبتي فقالت لي : هل رأيتَ القمرَ ليلة البارحة؟.
فقُلتُ : لا. ولكنّني على يقينٍ وثِقةٍ بأنّه كان جميلاً، لأنّكِ رأيتِهِ وهو رآكِ. وعلى ثِقةٍ أكبرُ بأنّه قد دوّن على جبينهِ قصيدة بعينيكِ.
فطفقت تضحكُ ويدها بظفيرةٍ من ظفائرها المسدولةِ على صدرها.
ثُمّ حلّقتْ بعيداً بالنظر فقالت : حبيبي، هذا آخرُ لقاءِ بيننا، لأنّني لم أقُل لكَ يوماً في حياتي أُحِبُكَ، فلهذا سيكون اليوم هذا هو آخر يومٍ يجمعنا. فاستدارت ومشتْ وأنا أتبعها - وأكملت حديثها - إنّكَ تعلمُ أنّنا نعيشُ في هذهِ الحياةِ - وخاصةً نحنُ الّذين بيئتُنا بيئةٌ تتمادى بنا إلى أهوائها وشرائعها البالية كُرهاً لا طوعاً - كالدُمى. ومع أنّني لا أفقهُ - مثقال ذرّة -في حياةِ الحيواناتِ وكيف تعيشُ، إلا أنّني أثقُ بأنّها كواقعنا.
واستمرت في الحديث وأنا حائرٌ كمن هو يحلُمُ بأن يُفيق من حُلمٍ مُزعج :
لم أقُل لكَ مالّذي حدثَ للقمر ليلة البارحة، لقد خُسِف.
وعاد كما كان.
وأنا مثله في حياتكَ، ستخسفُني منها أُمي وأبي. وأمُكَ وأبوك.
ولن أعُود.
فلم أستطِع الردّ عليها سوى أن قُلت :
مُحمدٌ - صلّى الله عليه وسلّم - وعدني بكِ في الجنّة، وسأخطبكِ لا من أبيكِ أو أُمِكِ، ولا أبي أو أُمِي. بل سأخطبكِ من الله.
وعلى ذلكَ اتفقنا، فافترقنا.
فرغبتُ عن الحديثِ ونظرتُ إلى كدر.
وإذ هي ساكتة، سألتُها : ما بالُكِ تسكُتين؟.
لا أعلم، ولكن، وددتُ لو كان بيدي شيءٌ فأقومَ بالمُساعدة. حتى الكلامُ هربَ منّي.
فقُلتُ لها : لا عليكِ، فالحياة ستستمر. بي أم لا.
فسكتنا قليلاً.
:
وقبل وُصولنا إلى المنزل قالت :
ولكنّكَ قد عرفتَ اسمي حيثُ لم أعرف إسمَكَ حتّى الآن.
إسمي. إسمي. وما الفرقُ بين معرفته وجهله لديكِ؟. أولستِ تفتقدين أباً لكِ؟ وأخاً لكِ. إذن فنادِني بأبتِز وأخي أيضاً.
لم تنبُس ببنت شفةٍ مُذ قُلتُ ذلكَ الكلام فأحسستُ بقيمة ما قُلتُه. قد كان قولي قاسياً رُبما ( هذا ما رُحتُ أُفكرُ به ) فقطعتُ حبال صمتي حيثُ قُلت :
ما بالُكِ تسكُتين؟.
لا يُعجبني الغُموضُ جزاءً وثواباً للوُضوح.
عرفتُ إذن. إسمي خالد.
فقالت : كُنتَ خالداً وأصبحتَ خالداً. هل تغيّر شيءٌ عندما ذكرتَ لي اسمَكَ يا خالد؟.
حدّثي نفسَكِ عن هذا فماذا استفدتِ أنتِ من معرفةِ اسمي؟.
فجاوبتْ : أن تُناديني بكدر وأُناديكَ بخالد، فتأُخذ الأشياءُ أسمائَها.
حسناً. حسناً. لا تجزعي ولا تنزعجي.
ها قد وصلنا إلى المنزل.
قبل الولوج لمنزلنا أودُ قولَ أنّ عمّتي عمياء البصر، نافذة البصيرة.
وبدى وكأنّها تتحسر على ما ذكرتُهُ لها.
فهممت بالنزول وأنا أتحدث :
لا عليكِ إنّها تعوّدت على ذلك. وكأنّما النظرُ بات بالنسبة لها عدواً لدوداً.
فقالت : خالد، أوتظُن أنّه بإمكاني النزول معكَ هكذا أمام أهلك، إنّ لديّ رأياً آخر.
فلماذا لا تقومَ بإرجاعي إلى مكاني وأنا سأقوم بالتصرُف؟. ولا أُخفيك أعتبرها ما ستعتبرها. ليس معي مالٌ أو ما أسُدُ به حاجاتي.
لعلكِ توّدين الصمت قليلاً حالما ندخل المنزل.
فمشينا سويةً حتّى فتحتُ الباب وهممتُ بنداء عمّتي ياسمين لولا أن رأيتُ بُرهاناً يردعُني بعدم التمادي بالكذب.
والتفتُ لكدر : أوتغفرين لي كذبي حينما قُلتُ لكِ أنّ لديّ بالمنزل عمةً وأُختاً وزوجها؟
ماذا؟. كأنّكَ تقول أن ليس أحدٌ بالمنزل سوانا؟.
لو لم أكذب لم تأتِ معي، صدّقيني.
هل تسمح لي بالخروج الآن فأغفر لكَ كذبكَ؟.
نعم ولكن!.
ماذا؟. هل ستكذب كذبةً أُخرى؟. حدّثني عنها. هيّا الآن. فأنا قد تعوّدت على مثل هذا.
لا، لا. بل فقط وددتُ وأحببتُ الحديثَ معكِ ووددتُ مُساعدتكِ فقط لا غير ذلك.
حسناً. فها أنا هُنا فماذا أنتَ فاعلٌ أو قائل؟.
فابتسمتُ فرحاً وقُلتُ لها : أجلسي هُنا. وركضتُ مُسرعاً لحُجرة طهي الطعام.
وبعد ساعةٍ ونصفها أتيتُ بالأكل فوجدتُها نائمةً على الأريكة.
فليهنأ النومُ ولتهنأَ بكِ الأرآئك. أشعُر بالغيرة نحوهم. ( هذا ما تمتمتُ به ).
أخذتُ أُناديها كي تصحو من نومها العميق.
قامت من نومها وقالت وهي مُبتسمةً تكادُ تطير : حلُمتُ يا خالدُ أنّني أطير في السماء ومعي أُناسٌ لا أعرفهم فوق بحرٍ في أعماقه مدينةٌ أضوائها تُشع وتبرق.
فقُلت : ليتكِ تسكُتين. فتفسيرُ حُلمكِ هو أنّك بداء العُروبة الحالمة أُصبتِ، وقريباً ستموتين. ليسَ بالضرورة تعيشين.
دعي عنكِ السماءَ واَهتمي الآنَ بما هو أهم من ذلك فمعدتي تتّضور جوعاً.
الغُسلُ هُنالك خلف تلك الغُرفة. ( أشرتُ لها بذلك ).
اِغتسلتْ وعادتْ كي تُجيب نداءات الجُوعِ لها.
ونحنُ نأكُل :
كدر : هل لكَ أحدٌ من أقاربكَ قريبٌ هُنا؟. أينَ أهلُكَ؟.
جاوبتها : سِواكِ، لا.
وكيف سِوايَ لا؟.
وأنا أبتسم : أي، أنتِ الآنَ أبعد النّاس عني وكُلُ قريباتي، وكُلُ أُناسي واهتماماتي.
أيضاً كيف هذِه؟. لم أفهمكَ ولم أعرف ما تقوله.
لا أعلم وإنّما هو شُعورٌ بُحتُ بهِ فأقبليهِ أو أرفُضيه. أجمل ما بي الآن، أنّني أراني إنساناً آخر. حتّى أنا لا أعلمُ كيف خرجتْ تلكَ الكلماتُ من شفتيّ والله؟. المُهم هو أنّني بُحتُ لكِ بما خالج صدري.
إنّهُم يعرضون كهذا بشاشات التلفزة. أوتسخرُ مني به؟.
إنّني أودُكِ أُختاً لِي، ليسَ إلا.
قبلت.
مِن الآنَ فصاعداً، أصبحتِ لِي أُختاً، وحبيبةً، وسعادةً وكدرا.
وفجأة تدخُل عمّتي يا سمين وبيدِها الجريدة. وتنجلي بدخُولها كذبتان.
خبرٌ مكتوبٌ بأول الجريدة.
( هُروبُ امرأةٍ مِن السجنِ محكومةٍ بالقتلِ بتُهمةِ الحُب ).
:
:
:
كانت القصّة مُستوحاة من حلمٍ حلمته في الثامن من رمضان
كل عيدٍ وأنتم بعزةٍ ورِفعة
فــهــد