رباب
28-03-2013, 06:07 PM
http://www.iraqna1.com/vb/storeimg/Iraqna1_1343028886_109.gif
بسم الله الرحمن الرحيم
جنة الخلد أم جنة في الأرض ؟
لم يقف الأمر على الاختلاف في دخول آدم عليه السلام جنة الجلد أم كان في جنة في الأرض ... بل تعداه إلى أن جنة الخلد خلقت أم لم تخلق بعد.... وساند كل رأي جماعة من العلماء ... وتحزب لبعض الآراء بعض أهل الفرق والمذاهب ... وهالني أن أصحاب الحق الذي مع دخول آدم جنة الجلد حجتهم في الدفاع عنها أضعف من الفريق الآخر ... ولا أرجع سبب ضعف ردودهم ... إلا لأن الأمة لم تطرق باب فقه الجذور أولاً ... وثانيًا أنه بدل المزيد من دراسة وتدبر القرآن لاستخراج الإجابات منه تذهب الجهود في جمع الآراء المختلفة وترديدها، والانشغال بها.
وكانت أسباب ذلك الاختلاف عديدة ... وقبل الانتقال إلى أسباب الاختلاف والرد عليها .. لا بد من الحديث عن سبب تسمية الجنة بالجنة ... ففي بيان ذلك بعض الإجابة.
الجنة من الجذر "جنن" وهي مادة لغوية تدور على ستر شيء معلوم لأجل قصير أو طويل .. ومن هذه المادة:
الجنين: ومكانه البطن، وهو مستور فيه، ويدل عليه كبر البطن وانتفاخه، ولا يرى حتى يخرج منه عندما تضعه أمه.
والجن: جنس من خلق الله، مستور عن العيون في الحياة الدنيا، معلوم بالأدلة الشرعية، ومشاهدات نوادر من الناس.
والجنون: حالة تصيب العاقل فتغلب على عقله وتستره، وهي خلاف من يولد معاقًا لا عقل له.
وجن عليه الليل: ستره الليل بظلامه، وأصبح كل ما كان معلومًا ويرى في النهار مستورًا عنه.
وجنة الخلد: جنة خلقها الله تعالى وأسكن فيها آدم ابتداء، فهي معلومة لدينا، وهي مستورة عنا في الحياة الدنيا إلى أن تقوم الساعة ويبعث الله الناس فيعرفها من ينعم الله عليه بها، وتظل مستورة عن أهل النار ... فهم يطلبون من أهل الجنة الماء، أو مما رزقهم الله، ولم يسموا من الرزق شيئًا، لأنهم لم يطلعوا على شيء منه، أما الماء فعلى التقدير أنهم لن يحرموا منه، ولا يصلح مقامهم في الجنة دونه، وهم يطلبونه في النار ويسقونه حميمًا.
الجنة من جنات الأرض: بستان من أشجار مثمرة، ومحلها المنخفضات وبواطن الأودية والأنهار.
مستورة فيها لارتفاع ما حولها.
وللنظر في حال الجنات في الأرض في الحياة الدنيا لمعرفة سبب تسميتها بهذا الاسم حتى نفرق بينهما وبين جنة الخلد:
- أنها أشجاره مثمرة في فصول محددة، ونضج الثمار وصلاحها للأكل في أوقات محددة، وليس ذلك طوال العام.
أما جنة الآخرة فلا مثيل لها على الأرض، أكلها دائم وظلها؛ قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(35) الرعد، وجنات لا أكلها ولا ظلها دائم، وقال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) طه. وهذا يتنافى مع صفة الجنات في الأرض.
- أنها محتاجة إلى الماء فتسقى بانتظام واستمرار.
- تنشأ على ضفاف الأنهار، وفي الواحات، وبطون الأودية الجارية، وحيث يتوفر الماء بكثرة.
- أوراق أشجارها تسقط في فصل الشتاء فينكشف ما تحتها وما يمر فيها، وفي ذلك صلاح لتربتها، بوصول ضوء الشمس والهواء والحرارة إلى تربتها. والذي لا يسقط ورقه كالنخيل يعلوا على ساقه ويرتفع كثيرًا فينكشف أسفله، وما يمر تحته.
- تحتاج إلى الرعاية بالحراثة. والتسميد. والتعشيب، والتقنيب، وغير ذلك.
- التفاف أشجار الجنة ليس شرطًا فيها. ويجعل تباعد بين أشجارها من أجل صلاحها وتهويتها.
- يمكن الزراعة بينها ... (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) الكهف
- وقع السمع بالجنة يجلب الطمأنينة لما تدل على النعيم واليسر وعلى كثرة الخير وتنوع الفاكهة وليس مكانًا متشابكًا تخشى فيه المفاجآت، وما يكون على رؤوس الجبال هي أدغال وليست جنات.
- الجنة في الدنيا بستان يلحق بمالكها وليست مكانًا لسكناه (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) القلم، أما جنة الخلد فسكنى أهلها في داخلها.
هذه حال الجنات في الدنيا فهي مما يخرج شجره في بطون الأودية وفي المنخفضات على جوانب الأنهار الجارية والأودية أو حول مستنقعات المياه في الواحات.
وهذه الجنات لوجودها في الأماكن المنخفضة وفي الشعاب سترت بارتفاع ما حولها عنها ولا تعرف حتى يقف عليها من يصلها؛
فسترها جاء من طبيعة المكان الذي تنشأ به .
هذا هو سبب تسمية الجنة في الأرض، وليس لأنها تستر من يدخلها، وإن سترت من يدخلها فيكون ذلك في أوقات محددة من العام، وليس في جميعه.
هذه أماكن نشأة الجنات في المنخفضات وليس في المرتفعات، وفي بطون الأودية على جوانبها؛ قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) عن يمين الوادي وشماله.
ثم استطاع الإنسان بعد ذلك حفر الآبار، واستخدام الدواب والسواقي في رفع المياه.
وأقام السدود فساق الماء إلى السهول المكشوفة فأنشأ جنات في أماكن مرتفعة.
ولما استطاع ضخ الماء بالآلات إلى مناطق مرتفعة، استطاع الزراعة في أماكن أكثر ارتفاعًا لم يكن يصلها المياه من قبل.
لقد لازم ذكر الجنات ذكر الأشجار المثمرة والأنهار التي تجري من تحتها في عشرات الآيات، فالجنات في الدنيا ليست على رؤوس الجبال، والغابات والأدغال لا تسمى بالجنات حتى تكون مثمرة، وهي موحشة مخيفة في الغالب، تخيف من يدخلها، والجنة كلها أمان.
والجنة في الأرض: هي البستان المثمر، ومكان معظمها في منخفضات من الأرض أو مما حولها.
فمن ظن أن آدم اسكن في جنة في رأس جبل في الأرض ثم أهبط إلى سهل من السهول؛ فاسم الجنة لا يوافق هذا الرأي، وهذا الخروج لو صح لكان معظم البشر قادرين على أن يعودوا إليها ولا يعجزهم ذلك...
بل يعد الهبوط من غابات وأدغال إلى جنات في المنخفضات تكريمًا لا عقابًا،
وتعد الجبال جزءًا من الأرض، وليست خارج الأرض، وهي في معظمها إن توفر الماء قابلة للإنبات، فتتكون عليها الغابات والأدغال.
لن تكون الجنات في رؤوس الجبال أفضل من مثيلاتها في المنخفضات، حيث يكثر الماء وتشتد الحرارة، وانظر إلى قول أبي جهل: "أيعدكم محمد أن تكون لكم جنات مثل جنات الأردن " وكانت مضرب المثل، وهي في غور الأردن، حيث تتوفر المياه الغزيرة والحرارة والدفء، في أخفض مناطق الأرض في العالم.
لو صح وجود هذه الجنة في الأرض ... فأين هي؟ .... لم يبق في الأرض مكان مجهول.!!!
وإن قيل بأنها كانت موجودة وزالت ... فما الأسف إذن على فراقها؟! وأي عقاب لآدم وزوجه بفراقها إذا لم يدم بقاؤها بدوام بقائه فيها لو لم يقدر له الخروج منها؟!
وقد حذر تعالى آدم من الشقاء بالخروج من الجنة وعندما خرج قال له: لأجعلن عيشًا كدًا، كل ذلك لا يتوافق أن تكون الجنة التي سكنها آدم على الأرض.
بل جعلها كالصريم هو انسب في عقابه؛ لأنه كان في الأرض على زعمهم وبقي فيها.
ولو كانت الجنة في الأرض لكان الخروج منها هو الخروج من أرض إلى أرض؛ والله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)البقرة، فدلت هذه الآية على أن الجنة لم تكن في الأرض، وقد كان آدم مستقرًا في الجنة قبل ذلك، وبين أن الاستقرار في الأرض إلى أجل محدد وليس استقرار يخلد فيها.
وقال تعالى: (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) الأعراف، فبينت هذه الآية، أن في الأرض التي أخرجوا إليها حياة بعده موت وبعد الموت إخراج وبعث، فهذا ما لا يحدث لأصحاب الجنة.
من الأمور التي أدت إلى القول بأن الجنة التي دخلها آدم في الأرض وليست جنة الخلد؟
1- أن سبب تسمية الجنة بالجنة غير واضح عندهم، لغياب منهج فقه الجذور الذي يعرف به سبب تسمية المسميات بأسمائها، فمنه نعرف أن شروط قيام الجنات في الأرض وسبب تسمياتها يخالف وصف الجنة التي دخلها آدم عليه السلام.
2- أن الشجرة التي أكل منها آدم لم تكن داخل الجنة، بل كانت خارج حدودها، وأن آدم خرج إليها ليأكل منها .. وقد بينا في المبحث الأول سبعة عشر مسألة تشير إلى ذلك. فعد إليها، وفي ذلك رفع اللبس الذي حصل .... كيف يعصي آدم ربه في الجنة؟..... فآدم وزوجه عصيا الله بالأكل من الشجرة خارج الجنة وليس داخلها.
3- أن معنى الهبوط كما بيناه في المبحث الثاني هو: انتهاء المقام في مكان محصور، والتحول إلى غيره لينتشر فيه وتطلق يده فيه؛
• ومن ذلك هبوط نوح عليه السلام من انحصاره ومن معه في السفينة إلى الانتشار في الأرض واستعمارها،
• وهبوط بني إسرائيل من عزلتهم التي أمنهم الله تعالى فيها بغذائهم من المن والسلوى، إلى الانتشار في الأمصار والعمل في الأرض للحصول على ما سألوا موسى عليه السلام، ولم يراد به الهبوط من مكان أعلى إلى أدنى، والفارق بينهما إن وجد ليس ذا شأن، وإن أريد به من طعام أنفع وأطيب إلى طعام أدنى، فقد كانت رغبتهم في الأدنى وتحقيقه لهم، يدخل السرور في قلوبهم أكثر من المن والسلوى.
• وهبوط الحجارة من أعلى إلى أسفل يسبب تفتتها وانتشارها، وإحداث أثر على كل ما تمر به أو تسقط عليه.
• والهبوط من أعلى إلى أسفل يسمى هبوطًا ليس بسبب العلو والانخفاض بل لأن المكان العالي المرتفع كالجبال يحصر توجه وحركة من فيه، والمناطق السهلة والمنخفضة تطلق حرية الحركة فيها في كل الاتجاهات، فربط لذلك الهبوط بالتحول من أعلى إلى أسفل وابتعدوا عن سبب الحقيقي للهبوط وسر تسميته ،
• وهبوط آدم وإبليس من الجنة التي كان أمِّن لهما فيها رزقهما بلا عمل ولا كد ولا عبادة، تحولاً إلى الأرض وأطلقت أيدهما فيها باستعمارها، والتكاثر فيها وانتشار الذرية.
4- أنه يفهم من الآيات أنه كان هناك هبوطان: هبوط إلى خارج الجنة أسفل منها، ثم هبوط إلى الأرض بعد ذلك، وكان الهبوط الأول لإبليس إلى أسفل الجنة حيث توجد الشجرة، ومنها أطلقت يده في إغواء آدم عليه السلام وزوجه حتى أخرجهما إليها، فلما أرادا الرجوع ودخول الجنة، طلب منهما الهبوط إليها، ثم أهبط الجميع إلى الأرض التي نحن فيها بعد ذلك.... وكان في تفصيل الهبوط رفع اللبس في كيفية إغواء إبليس لآدم ... إذ كيف يغوي إبليس المبعد في الأرض وآدم في داخل جنة الخلد.... لقد كان الإغواء قبل الهبوط الثاني... وقد وضحنا ذلك في المبحث الثاني.
5- قولهم أن جنة الخلد ليست دار خوف ولا حزن وقد حصل للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل، وصار فيها آدم هاربا فارًا، وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه، ... هذا صحيح لو حدث داخل الجنة، لكنة آدم خرج منها إلى الشجرة، وحدث له كل ذلك خارج حدود الجنة.
6- قولهم لا يسمع فيها لغوًا ولا كذابًا، وقد سمع فيها آدم عليه السلام كذب إبليس، لا يسمع فيها لغو من أهلها، وإبليس ليس من أهلها، وما بدا من إبليس ليس لغوًا، لأن اللغو كلام فاسد لا منفعة فيه ولا خير، وهذا تدبير بالمكر والخديعة، وإن كان كل ما يسمع من غير أهلها لغوًا، فمخاطبة أهل النار والرد عليهم سيكون من هذا الباب، وهو يجري في الآخرة.
7- أما قولهم كيف يفتن آدم بوسوسة إبليس؟، والجنة ليست دار فتنة؛ فقد رفعت الوسوسة همته بطلب رفع منزلته لينال الخلود وملك لا يبلى... فخرج منها لذلك، فحرم الرجوع إليها وخسر كل شيء، والفتنة وقعت بخروجه من الجنة وبقائه فيها هي السلامة له.
8- وقالوا الجنة ليست دار عبادة فيؤمر آدم فيها وينهى .... والصحيح أن الأمر كان له وهو خارج الجنة قبل أن يدخلها، والنهي عن شيء خارجها وليس داخلها... ولما دخلها نسي فقال تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)طه.
9- أما قوله عليه الصلاة والسلام: "فيها ما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ... وهذا الأمر أثير حديثًا... فهل كانت مدة مكث آدم عليه السلام كافيه للاطلاع على كل نعيم الجنة؟... والله تعالى يقول: (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً(25) البقرة، فحتى يتكرر النعيم عليهم يتذكروا أنهم نالوا مثله منذ زمن بعيد، لكثرة النعيم، وما يذكرونه فيشتهونه فيؤتى بهم لهم، ... والحديث هو في حق من لم يطلعه الله على هذا النعيم، فقد أطلع تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام على كثير من نعيم الجنة في ليلة المعراج.
فالجنة هي جنة الخلد التي سكنها آدم عليه السلام من قبل ونعود إليها برحمة الله .. جنة لا يجوز التكبر فيها وقد طرد إبليس منها لتكبره، والمستكبرين في الأرض توعدهم الله بالعذاب وحرمان الجنة.
أما قول القائلين من أهل الرأي الفاسد بأن الجنة لم تخلق بعد لأن خلقها وعدم استعمالها من باب العبث؛ فيكفي الرد عليهم بإثبات وجودها قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) النجم
هذا وصلى الله على محمد وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
جنة الخلد أم جنة في الأرض ؟
لم يقف الأمر على الاختلاف في دخول آدم عليه السلام جنة الجلد أم كان في جنة في الأرض ... بل تعداه إلى أن جنة الخلد خلقت أم لم تخلق بعد.... وساند كل رأي جماعة من العلماء ... وتحزب لبعض الآراء بعض أهل الفرق والمذاهب ... وهالني أن أصحاب الحق الذي مع دخول آدم جنة الجلد حجتهم في الدفاع عنها أضعف من الفريق الآخر ... ولا أرجع سبب ضعف ردودهم ... إلا لأن الأمة لم تطرق باب فقه الجذور أولاً ... وثانيًا أنه بدل المزيد من دراسة وتدبر القرآن لاستخراج الإجابات منه تذهب الجهود في جمع الآراء المختلفة وترديدها، والانشغال بها.
وكانت أسباب ذلك الاختلاف عديدة ... وقبل الانتقال إلى أسباب الاختلاف والرد عليها .. لا بد من الحديث عن سبب تسمية الجنة بالجنة ... ففي بيان ذلك بعض الإجابة.
الجنة من الجذر "جنن" وهي مادة لغوية تدور على ستر شيء معلوم لأجل قصير أو طويل .. ومن هذه المادة:
الجنين: ومكانه البطن، وهو مستور فيه، ويدل عليه كبر البطن وانتفاخه، ولا يرى حتى يخرج منه عندما تضعه أمه.
والجن: جنس من خلق الله، مستور عن العيون في الحياة الدنيا، معلوم بالأدلة الشرعية، ومشاهدات نوادر من الناس.
والجنون: حالة تصيب العاقل فتغلب على عقله وتستره، وهي خلاف من يولد معاقًا لا عقل له.
وجن عليه الليل: ستره الليل بظلامه، وأصبح كل ما كان معلومًا ويرى في النهار مستورًا عنه.
وجنة الخلد: جنة خلقها الله تعالى وأسكن فيها آدم ابتداء، فهي معلومة لدينا، وهي مستورة عنا في الحياة الدنيا إلى أن تقوم الساعة ويبعث الله الناس فيعرفها من ينعم الله عليه بها، وتظل مستورة عن أهل النار ... فهم يطلبون من أهل الجنة الماء، أو مما رزقهم الله، ولم يسموا من الرزق شيئًا، لأنهم لم يطلعوا على شيء منه، أما الماء فعلى التقدير أنهم لن يحرموا منه، ولا يصلح مقامهم في الجنة دونه، وهم يطلبونه في النار ويسقونه حميمًا.
الجنة من جنات الأرض: بستان من أشجار مثمرة، ومحلها المنخفضات وبواطن الأودية والأنهار.
مستورة فيها لارتفاع ما حولها.
وللنظر في حال الجنات في الأرض في الحياة الدنيا لمعرفة سبب تسميتها بهذا الاسم حتى نفرق بينهما وبين جنة الخلد:
- أنها أشجاره مثمرة في فصول محددة، ونضج الثمار وصلاحها للأكل في أوقات محددة، وليس ذلك طوال العام.
أما جنة الآخرة فلا مثيل لها على الأرض، أكلها دائم وظلها؛ قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(35) الرعد، وجنات لا أكلها ولا ظلها دائم، وقال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) طه. وهذا يتنافى مع صفة الجنات في الأرض.
- أنها محتاجة إلى الماء فتسقى بانتظام واستمرار.
- تنشأ على ضفاف الأنهار، وفي الواحات، وبطون الأودية الجارية، وحيث يتوفر الماء بكثرة.
- أوراق أشجارها تسقط في فصل الشتاء فينكشف ما تحتها وما يمر فيها، وفي ذلك صلاح لتربتها، بوصول ضوء الشمس والهواء والحرارة إلى تربتها. والذي لا يسقط ورقه كالنخيل يعلوا على ساقه ويرتفع كثيرًا فينكشف أسفله، وما يمر تحته.
- تحتاج إلى الرعاية بالحراثة. والتسميد. والتعشيب، والتقنيب، وغير ذلك.
- التفاف أشجار الجنة ليس شرطًا فيها. ويجعل تباعد بين أشجارها من أجل صلاحها وتهويتها.
- يمكن الزراعة بينها ... (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) الكهف
- وقع السمع بالجنة يجلب الطمأنينة لما تدل على النعيم واليسر وعلى كثرة الخير وتنوع الفاكهة وليس مكانًا متشابكًا تخشى فيه المفاجآت، وما يكون على رؤوس الجبال هي أدغال وليست جنات.
- الجنة في الدنيا بستان يلحق بمالكها وليست مكانًا لسكناه (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) القلم، أما جنة الخلد فسكنى أهلها في داخلها.
هذه حال الجنات في الدنيا فهي مما يخرج شجره في بطون الأودية وفي المنخفضات على جوانب الأنهار الجارية والأودية أو حول مستنقعات المياه في الواحات.
وهذه الجنات لوجودها في الأماكن المنخفضة وفي الشعاب سترت بارتفاع ما حولها عنها ولا تعرف حتى يقف عليها من يصلها؛
فسترها جاء من طبيعة المكان الذي تنشأ به .
هذا هو سبب تسمية الجنة في الأرض، وليس لأنها تستر من يدخلها، وإن سترت من يدخلها فيكون ذلك في أوقات محددة من العام، وليس في جميعه.
هذه أماكن نشأة الجنات في المنخفضات وليس في المرتفعات، وفي بطون الأودية على جوانبها؛ قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) عن يمين الوادي وشماله.
ثم استطاع الإنسان بعد ذلك حفر الآبار، واستخدام الدواب والسواقي في رفع المياه.
وأقام السدود فساق الماء إلى السهول المكشوفة فأنشأ جنات في أماكن مرتفعة.
ولما استطاع ضخ الماء بالآلات إلى مناطق مرتفعة، استطاع الزراعة في أماكن أكثر ارتفاعًا لم يكن يصلها المياه من قبل.
لقد لازم ذكر الجنات ذكر الأشجار المثمرة والأنهار التي تجري من تحتها في عشرات الآيات، فالجنات في الدنيا ليست على رؤوس الجبال، والغابات والأدغال لا تسمى بالجنات حتى تكون مثمرة، وهي موحشة مخيفة في الغالب، تخيف من يدخلها، والجنة كلها أمان.
والجنة في الأرض: هي البستان المثمر، ومكان معظمها في منخفضات من الأرض أو مما حولها.
فمن ظن أن آدم اسكن في جنة في رأس جبل في الأرض ثم أهبط إلى سهل من السهول؛ فاسم الجنة لا يوافق هذا الرأي، وهذا الخروج لو صح لكان معظم البشر قادرين على أن يعودوا إليها ولا يعجزهم ذلك...
بل يعد الهبوط من غابات وأدغال إلى جنات في المنخفضات تكريمًا لا عقابًا،
وتعد الجبال جزءًا من الأرض، وليست خارج الأرض، وهي في معظمها إن توفر الماء قابلة للإنبات، فتتكون عليها الغابات والأدغال.
لن تكون الجنات في رؤوس الجبال أفضل من مثيلاتها في المنخفضات، حيث يكثر الماء وتشتد الحرارة، وانظر إلى قول أبي جهل: "أيعدكم محمد أن تكون لكم جنات مثل جنات الأردن " وكانت مضرب المثل، وهي في غور الأردن، حيث تتوفر المياه الغزيرة والحرارة والدفء، في أخفض مناطق الأرض في العالم.
لو صح وجود هذه الجنة في الأرض ... فأين هي؟ .... لم يبق في الأرض مكان مجهول.!!!
وإن قيل بأنها كانت موجودة وزالت ... فما الأسف إذن على فراقها؟! وأي عقاب لآدم وزوجه بفراقها إذا لم يدم بقاؤها بدوام بقائه فيها لو لم يقدر له الخروج منها؟!
وقد حذر تعالى آدم من الشقاء بالخروج من الجنة وعندما خرج قال له: لأجعلن عيشًا كدًا، كل ذلك لا يتوافق أن تكون الجنة التي سكنها آدم على الأرض.
بل جعلها كالصريم هو انسب في عقابه؛ لأنه كان في الأرض على زعمهم وبقي فيها.
ولو كانت الجنة في الأرض لكان الخروج منها هو الخروج من أرض إلى أرض؛ والله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)البقرة، فدلت هذه الآية على أن الجنة لم تكن في الأرض، وقد كان آدم مستقرًا في الجنة قبل ذلك، وبين أن الاستقرار في الأرض إلى أجل محدد وليس استقرار يخلد فيها.
وقال تعالى: (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) الأعراف، فبينت هذه الآية، أن في الأرض التي أخرجوا إليها حياة بعده موت وبعد الموت إخراج وبعث، فهذا ما لا يحدث لأصحاب الجنة.
من الأمور التي أدت إلى القول بأن الجنة التي دخلها آدم في الأرض وليست جنة الخلد؟
1- أن سبب تسمية الجنة بالجنة غير واضح عندهم، لغياب منهج فقه الجذور الذي يعرف به سبب تسمية المسميات بأسمائها، فمنه نعرف أن شروط قيام الجنات في الأرض وسبب تسمياتها يخالف وصف الجنة التي دخلها آدم عليه السلام.
2- أن الشجرة التي أكل منها آدم لم تكن داخل الجنة، بل كانت خارج حدودها، وأن آدم خرج إليها ليأكل منها .. وقد بينا في المبحث الأول سبعة عشر مسألة تشير إلى ذلك. فعد إليها، وفي ذلك رفع اللبس الذي حصل .... كيف يعصي آدم ربه في الجنة؟..... فآدم وزوجه عصيا الله بالأكل من الشجرة خارج الجنة وليس داخلها.
3- أن معنى الهبوط كما بيناه في المبحث الثاني هو: انتهاء المقام في مكان محصور، والتحول إلى غيره لينتشر فيه وتطلق يده فيه؛
• ومن ذلك هبوط نوح عليه السلام من انحصاره ومن معه في السفينة إلى الانتشار في الأرض واستعمارها،
• وهبوط بني إسرائيل من عزلتهم التي أمنهم الله تعالى فيها بغذائهم من المن والسلوى، إلى الانتشار في الأمصار والعمل في الأرض للحصول على ما سألوا موسى عليه السلام، ولم يراد به الهبوط من مكان أعلى إلى أدنى، والفارق بينهما إن وجد ليس ذا شأن، وإن أريد به من طعام أنفع وأطيب إلى طعام أدنى، فقد كانت رغبتهم في الأدنى وتحقيقه لهم، يدخل السرور في قلوبهم أكثر من المن والسلوى.
• وهبوط الحجارة من أعلى إلى أسفل يسبب تفتتها وانتشارها، وإحداث أثر على كل ما تمر به أو تسقط عليه.
• والهبوط من أعلى إلى أسفل يسمى هبوطًا ليس بسبب العلو والانخفاض بل لأن المكان العالي المرتفع كالجبال يحصر توجه وحركة من فيه، والمناطق السهلة والمنخفضة تطلق حرية الحركة فيها في كل الاتجاهات، فربط لذلك الهبوط بالتحول من أعلى إلى أسفل وابتعدوا عن سبب الحقيقي للهبوط وسر تسميته ،
• وهبوط آدم وإبليس من الجنة التي كان أمِّن لهما فيها رزقهما بلا عمل ولا كد ولا عبادة، تحولاً إلى الأرض وأطلقت أيدهما فيها باستعمارها، والتكاثر فيها وانتشار الذرية.
4- أنه يفهم من الآيات أنه كان هناك هبوطان: هبوط إلى خارج الجنة أسفل منها، ثم هبوط إلى الأرض بعد ذلك، وكان الهبوط الأول لإبليس إلى أسفل الجنة حيث توجد الشجرة، ومنها أطلقت يده في إغواء آدم عليه السلام وزوجه حتى أخرجهما إليها، فلما أرادا الرجوع ودخول الجنة، طلب منهما الهبوط إليها، ثم أهبط الجميع إلى الأرض التي نحن فيها بعد ذلك.... وكان في تفصيل الهبوط رفع اللبس في كيفية إغواء إبليس لآدم ... إذ كيف يغوي إبليس المبعد في الأرض وآدم في داخل جنة الخلد.... لقد كان الإغواء قبل الهبوط الثاني... وقد وضحنا ذلك في المبحث الثاني.
5- قولهم أن جنة الخلد ليست دار خوف ولا حزن وقد حصل للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل، وصار فيها آدم هاربا فارًا، وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه، ... هذا صحيح لو حدث داخل الجنة، لكنة آدم خرج منها إلى الشجرة، وحدث له كل ذلك خارج حدود الجنة.
6- قولهم لا يسمع فيها لغوًا ولا كذابًا، وقد سمع فيها آدم عليه السلام كذب إبليس، لا يسمع فيها لغو من أهلها، وإبليس ليس من أهلها، وما بدا من إبليس ليس لغوًا، لأن اللغو كلام فاسد لا منفعة فيه ولا خير، وهذا تدبير بالمكر والخديعة، وإن كان كل ما يسمع من غير أهلها لغوًا، فمخاطبة أهل النار والرد عليهم سيكون من هذا الباب، وهو يجري في الآخرة.
7- أما قولهم كيف يفتن آدم بوسوسة إبليس؟، والجنة ليست دار فتنة؛ فقد رفعت الوسوسة همته بطلب رفع منزلته لينال الخلود وملك لا يبلى... فخرج منها لذلك، فحرم الرجوع إليها وخسر كل شيء، والفتنة وقعت بخروجه من الجنة وبقائه فيها هي السلامة له.
8- وقالوا الجنة ليست دار عبادة فيؤمر آدم فيها وينهى .... والصحيح أن الأمر كان له وهو خارج الجنة قبل أن يدخلها، والنهي عن شيء خارجها وليس داخلها... ولما دخلها نسي فقال تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)طه.
9- أما قوله عليه الصلاة والسلام: "فيها ما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ... وهذا الأمر أثير حديثًا... فهل كانت مدة مكث آدم عليه السلام كافيه للاطلاع على كل نعيم الجنة؟... والله تعالى يقول: (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً(25) البقرة، فحتى يتكرر النعيم عليهم يتذكروا أنهم نالوا مثله منذ زمن بعيد، لكثرة النعيم، وما يذكرونه فيشتهونه فيؤتى بهم لهم، ... والحديث هو في حق من لم يطلعه الله على هذا النعيم، فقد أطلع تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام على كثير من نعيم الجنة في ليلة المعراج.
فالجنة هي جنة الخلد التي سكنها آدم عليه السلام من قبل ونعود إليها برحمة الله .. جنة لا يجوز التكبر فيها وقد طرد إبليس منها لتكبره، والمستكبرين في الأرض توعدهم الله بالعذاب وحرمان الجنة.
أما قول القائلين من أهل الرأي الفاسد بأن الجنة لم تخلق بعد لأن خلقها وعدم استعمالها من باب العبث؛ فيكفي الرد عليهم بإثبات وجودها قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) النجم
هذا وصلى الله على محمد وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم