محمد دغيدى
26-11-2005, 12:11 PM
اليهود والنصارى؛ طائفتان مسلمتان؟؟!
وهل كان المهاجرون والأنصار الأمة البديلة لليهود والنصارى؟
صلاح الدين إبراهيم أبوعرفة
لعل هذا السؤال وهذه المادة, من أكثر الطروح أصالة. وارتباطها بالركن الأساس للمصطلح الديني يُحمّلها كل معاني الأهمية ودواعي الاهتمام.
ولا يكاد الباحث عن جواب مؤصل مرض, يضع الأسماء والدلالات في مواضعها, لا يكاد يجد من هذا شيئاً. فعامة ما كتب أن كل النبيين اُرسلوا بالإسلام وسمّوا به, من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام. ولكن ما يسمعه الناس من مصطلحات "زائغة" غير مقعدة, تعود وتهز هذه الأفهام.
فإن كان الإسلام ديناً واحداً اُرسل به كل الرسل والنبيين, فلم نقول: "الأديان الثلاثة"؟.
وإن كان موسى مسلماً فما اليهودية؟.
وإن كان عيسى مسلماً فما النصرانية؟.
والأصل في كل مسلم أن يكون على بينة من دينه وربه ونبيه, {أفمن كان على بينة من ربه كمن هو أعمى}, {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}.
والله لا يأبه بعبد غير آبه ساخر متعامٍ, وليس من اتبع هدى الله على بينة كمن اتبع هواه, وورث دين أبيه, لا يعلم إن كان هدياً هذا أو ضلالاً, {قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟}.
{إن الدين عند الله الإسلام}, فلم يبدل الله دينه ولا يبدل كلامه, و"الأديان الثلاثة" مصطلح معتد متعد لا يليق بحق الله, فنرى العبد الواحد السوي يأبى أن يكون بأكثر من دين, فيكف نرضاها لله, {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى, لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون}, هذا إفراط بالغ وزيغ مفرط.
{إن الدين عند الله الإسلام, وما اختلف الذين اُوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم, ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب}.
هذه آية اُم, تحق الحق وتبطل الباطل, أن الدين عند الله الإسلام, وما الذي عليه أهل الكتاب إلا اختلاف على دينهم الأول الاُم, {ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب}, فما سوى الإسلام كفر {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}.
عود على بدء..
موسى كان مسلماً, فما اليهودية, وعيسى كان مسلماً فما النصرانية؟!.
ليس موسى وعيسى وحسب, إنما كل الرسل والنبيين, وتعالى الله الواحد أن يكون له أكثر من دين, فنوح كان مسلماً بنص القرآن الصريح على لسان نوح, {فإن توليتم فما سألتكم عليه من أجر, إن أجري إلا على الله واُمرت أن أكون من المسلمين}, ثم إبراهيم أبو الأنبياء وأبو اسماعيل وإسحق ويعقوب, ومن بعهدهم كل بني إسرائيل وموسى وعيسى ويوسف وداود وسليمان, واقرأوا آية البقرة الدامغة الداحضة لكل ملة غير ملة يعقوب, ملة أبيه إبراهيم, {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين, إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين, ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون, أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي, قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحق إلها واحداً ونحن له مسلمون}.
فها هو إبراهيم مسلماً قبل أن يكون موسى وعيسى, وها هو يعقوب –أصل بني إسرائيل-يحملها عنه ويوصي بها سائر بنيه , ويمليها عليهم ملة إملاء {ما تعبدون من بعدي؟}.
ثم اقراُوا صراحة على لسان موسى, {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}. ولم يمت فرعون إلا وهو يشهد بالإسلام, {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}, فمن أين له بالإسلام إن لم تكن دعوة موسى؟!, وما اليهودية إذن؟.
ثم اقراُوا شهادة الإسلام على لسان كلمة الله عيسى بن مريم, {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله, قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}.
وعلى لسان يوسف شهادة اُخرى {أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}.
فليس بعد هذا في القرآن كله ولا في حديث المعصوم عليه الصلاة والسلام, نص صريح يقرّ الله به ديناً غير الإسلام, {أفغير دين الله يبغون, وله أسلم من في السموات والأرض}؟. وما نقرأه من لفظ "الدين" منسوباً إلى أهل الكتاب من مثل {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}, لا يرد ما نقول, فالآية لا تذكر اليهودية ولا النصرانية كما لا تقرهما, فالغلو هو الزيادة والإفراط بغير حق, و"الدين" قد تطلق ويراد بها غير المفهوم العام, فقد ترد ويراد بها "الحساب" كآية {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}. أي ذلك الحساب الصحيح القويم, ويشهد له قول لابن عباس رضي الله عنهما.
ثم لو كان دين النصارى مما يدعون من الشرك والتثليث, من عند الله وأقرهم عليه, فلم يغلظ عليهم في الإنكار والنهي والتثريب, فدين النصارى الحق هو الإسلام, ثم غلوا فيه, فأكبر الله عليهم حسابهم ودينهم, {لا تقولوا ثلاثة إنتهوا خيراً لكم, إنما الله إله واحد}, فيا أهل الكتاب لا تغلوا في إسلامكم ولا تقولوا على الله إلا الحق!.
والنصرانية اليوم لا تجد مشكلة في "الله الواحد", إنما مشكلتها في "الإله الواحد", وقل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً.
وآية آل عمران {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}, مثل اُختها لا تقرّ أبداً أن الله جعل لهم ديناً غير الإسلام, وإنما ذلك إفكهم وما كانوا يفترون, وهذا اختلافهم وفسقهم وزيغهم جعلوه ديناً مفروضاً, وشهدوا على الله بالزور والكذب, {وإن الذين اُورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب}.
وما زال السؤال حاضراً..
ما اليهودية وما النصرانية؟!.
كان موسى مسلماً, وكان عيسى مسلماً, وكان أهل الكتاب على عهد أنبيائهم مستمسكين به, {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون, وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا, إنا كنا من قبله مسلمين}.
قبل أن نجيب, يجب أن نفرق بين المصطلحات الثلاثة..
"الملة" و"الشريعة" و"الدين".
فكلها تذكر في القرآن, ويراد بكل واحدة منها مراداً ومعنى خاصاً, لا يصح أن يبدل بكلمة غيرها, فلا يصح أن نقول: إن الملة هي الدين!. وليس في كلام الله كلمة تصلح غيرها بدلاً لها, ولو اُعربت بدلاً, كما يقول النحويون, فكما نعرب "أمير المؤمنين عمر", فنقول: عمر بدل من أمير المؤمنين, فهذا في الإعراب فقط, أما في الدلالات والوظائف فلا يصح, فالذي يجلس في دار الحكم هو "أمير المؤمنين", والذي ينام ويأكل مع أهله فهو "عمر"!.
"الملة"
عامة ما وردت فيه في القرآن كانت بدلالة العقيدة, وعامتها لإبراهيم عليه السلام, ويراد بها الحنيفية والتوحيد كعقيدة لدين المسلمين, فهي جزء خاص من عموم الدين, وبعض من كل.
ويشرح هذا آية سورة البقرة, بما تركّز فيه على "العقيدة" {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين, إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين, ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون, أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي, قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحق إلها واحداً ونحن له مسلمون}.
"الشريعة"
وهي أحكام الكتاب للنبي, التي تُنزل أوامر الله ونواهيه منزل التطبيق والأداء, فهي في سورة الجاثية هكذا {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة, ....... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها}, فالشريعة ما يحكم به النبي من كتاب الله.
فالتوراة كتاب بني إسرائيل التي يحكم بها أنبياؤهم, فهي بهذا لهم شريعة {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}.
"الدين"
وهو الملة والشريعة معاً, أي العقيدة الحنيفية, والأحكام المنزلة المفروضة مما شرعه الله وأمر به ونهى عنه, فهذا بمجموعه هو الدين, {وما اُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين, حنفاء –فهذه الملة- ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة –وهذه الشريعة- وذلك دين القيمة}, وهذا هو الدين الكامل, فلا يخلص الدين كله لله إلا أن تكون الملة لله وتكون الشريعة لله, {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
ومن تدبر آية الأنعام بانت له بيضاء, {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم, ديناً قيماً؛ (الملة) ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين, (والشريعة) قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين, لا شريك له (فالملة له والشريعة له) وبذلك اُمرت وأنا أول المسلمين}.
فمن اعتقد ألا إله إلا الله فقد وافق ملة الإسلام.
ومن احتكم لشرع الله فاتبع أوامره ونواهيه على لسان نبي قومه المرسل إليه, فقد وافق شريعة الإسلام.
ومن جمع ملة الإسلام وشريعة الإسلام فصار أمره كله لله فذلك المسلم, {وذلك دين القيمة}.
ومن وافق ملة المسلمين وخالف شريعة الله فليس بمسلم, كذلك من وافق شريعة الله وخالف ملته {حتى يكون الدين كله لله}.
فالملة لم يبدلها الله, ولا ينسخها البتة, {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا نوحي إليه ألا إله إلا أنا فاعبدون}, والشريعة تُنسخ ويزاد فيها وتُفصّل {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}, فيزاد في الشريعة الواحدة وينسخ منها.
والدين الواحد المجتمع بالملة والشريعة لا يتبدل, ملته قائمة متصلة, تُملى من نبي إلى نبي, ويوصى بها من عهد إلى عهد, {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب}, وأركان الشريعة ثابتة, من الصلاة والصيام والزكاة, في كل الكتب وعند كل النبيين, فهذا عيسى بن مريم {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}, وكما اُمر بها بنو إسرائيل من قبل, {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}, و{كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}, ثم يفصل الله ما يشاء وينسخ ما يشاء, {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}.
فبهذه الملة القائمة المملاة المتصلة, وهذه الشريعة القائمة بأركانها الموسعة بتفاصيلها كما يشاء الله, بهذا كله يبقى الدين كله خالصاً لله واصباً لا ينقطع, {وله ما في السموات والأرض وله الدين واصباً, أفغير الله تتقون}.
الآن نعرف..
فكان موسى مسلماً يأمر قومه بكلمة الله ودينه, وكان قومه يذكرون وصية أبيهم يعقوب "إسرائيل" وكانوا مسلمين, ثم نجاهم الله من فرعون, وخرجوا مع موسى متابعين له على أمر الله, راجعين إلى بيت المقدس, فسُموا "اليهود", وهذا –والله أعلم- دلالة ومعنى "هدنا" إليك, {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك}, فالهود هو الرجوع, وهو ما أشكل على أئمتنا المفسرين, فحملوها على التوبة, بشيء من التكلف, فالهائد إلى الله, هو الراجع, كالمهاجر إلى الله الخارج إليه, {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}, واقرأوا آية الأعراف لتعرفوا مقصدنا, {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة, إنا هدنا إليك} فهذا المقابل الذي طلبه موسى من الله لا يكون جزاء التوبة والاستغفار, إذ جزاؤهما عند الله التوبة والمغفرة, ثم لم يكن هو المذنب ليتوب, وقبلها ببضع آيات استغفر موسى لنفسه ولأخيه, سائلا الله الرحمة, لا المبوء الحسن في الدنيا والآ خرة, {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك}, أما مطلب موسى فهو جزاء على خروجهم ورجوعهم إلى الله وهجرتهم إليه, فكما تركنا ديارنا وأموالنا, أبدلنا مكانها غيرها وخيرا منها!, ويصدق ظننا هذا الآية التي في سورة النحل {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوأنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر}, فهي بذلك سنة عند الله في الجزاء, يقابل الله بها من خرجوا إليه بحسنة الدنيا والآخرة, وموسى من خيرة من يعلم سنن الله وأجوره عليها.
ثم يصدق هذا المعنى قراءة أخرى من غير المتواتر, ولكن لها سند لرسول الله {إنا هِدنا إليك}, بكسر الهاء بدلاً من ضمها, أي تحركنا إليك, وهذا ما يبرر افتتاح التوراة التي بين أيديهم ثانياً بسفر "الخروج", وتكثر بينهم هذه التسمية تيمناً واستذكاراً وإكباراً لهذا المعنى, فيقولون للمهاجرين من شتى أقطار الأرض إلى بيت المقدس: "الخارجين من مصر", تبركا وتيمنا بما كانوا عليه!.
بهذا نعزم أن "اليهود": هم "الخارجون والمهاجرون", لا التائبون ولا غيرها, وهم أنفسهم لا يعرفون لها أصلاً, والقرآن أصدق قيلاً وأحسن تفسيراً.
فصارت هذه الطائفة من بني إسرائيل التي "هادت" إلى الله وخرجت مع موسى راجعة إلى بيت المقدس, تعرف بهذا "الهَوْد", إذ لم يخرج كل بني إسرائيل, ولم يكن زمنها كل بني إسرائيل من الذين هادوا و"خرجوا", ولا جرم لم يكن عيسى ابن مريم يخص اليهود في دعوته, ولكن عامة بني إسرائيل, من خرج ومن لم يخرج, فغلبت هذه الصفة وشاع ذكر طائفتها وظهرت في الناس, فعرف العامة بصفة الخاصة.
فاليهود بهذا طائفة مسلمة من بني إسرائيل, "خرجوا" مع موسى, فغلب اسم الطائفة الخاصة "اليهود" على تسمية دين العامة "الإسلام", فصارت عامة بني إسرائيل يعرف باسم هذه الطائفة, وكانوا مقبولين ما أقاموا على ملة أنبيائهم وشرائعهم, {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم والآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}, حتى إذا بعث عيسى ابن مريم فاُمروا باتباعه, كفروا به فكفروا بالله الذي أرسل ابن مريم.
{يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله, قال الحواريون نحن أنصار الله, فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة}.
فهذه الآية حجة أن اليهود والنصارى إنما هم طائفتان من بني إسرائيل "المسلمين", هادت طائفة من قبل مع موسى فقبلهم الله, ثم كفرت هذه الطائفة بعيسى بن مريم فرفضها الله, وقبل طائفة النصارى التي ناصرت عيسى وآمنت به, ثم جاء الرسول الخاتم أحمد عليه الصلاة والسلام, فكفر به من كفر من الطائفتين فكفروا بالله, {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد, فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين}.
{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به}, فالطائفتان كانتا على الحق, ثم زاغوا وفسقوا وبدلوا ملة أنبيائهم, فتبدلت ملتهم وبقي اسم طائفتهم. ودعيت الملة العوجاء باسم الطائفة الأولى ولازمتها {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة, ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}.
فهما بهذا طائفتان من بني إسرائيل وكانوا "مسلمين" ليس إلا, من آمن بنبيه وأقام على دينه وعهده, ثم آمن بمحمد يؤته الله أجره مرتين, ومن كفر ارتد على عقبه, والله لا يهدي القوم الكافرين. وفي حديث النبي الخاتم أحمد عليه الصلاة والسلام مصداق هذا: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين.. وذكر منهم "ورجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد". وحديثه الصحيح الآخر: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الاُمة, ولا يهودي ولا نصراني, ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار".
فكان على الطائفة المسلمة الاُولى الخارجة مع موسى "اليهود", أن يؤمنوا بعيسى كما آمنوا بموسى, فآمنت طائفة وكفرت طائفة, ثم كان على الطائفة المؤمنة بعيسى أن تؤمن بمحمد كما آمنت بعيسى, فآمنت طائفة وكفرت طائفة, فالذين آمنوا بموسى وعيسى ومحمد فهم المسلمون القائمون على عهدهم ودينهم, {قولوا آمنا بالله وما اُنزل إلينا وما اُنزل من قبل, وما اُنزل إلى ابراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط, وما اُوتي موسى وعيسى وما اُوتي النبيون من ربهم, لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}.
وليقرأ من شاء أن يقرأ آية الأنعام {أن تقولوا إنما اُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا}, فليس في كتاب الله دين غير الإسلام إنما هي طوائف في زمن ما في مكان ما لأمر ما.
ومثل هذا شائع فينا نحن أصحاب الملة المتصلة القائمة, فالشيعة –من غير غلو-طائفة مسلمة من طوائف المسلمين, وليست ديناً بمعزل, وكذلك المعتزلة والصوفيين, فهم مسلمون أولاً, -ما لم يغلوا-, غلب اسم طائفتهم وخاصتهم على اسم دينهم المشهور.
فإن غلت طائفة مسلمة في دينها, فاعتقدت غير ما عليه جماعة المؤمنين, أو أحلت حراماً, أو حرمت حلالاً, فقد اعتدت وتعدت ووقعت في المحظور, وحق فيها قول الله للاُمة الأولى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}.
وليقرأ من شاء آيات "النساء", {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً, وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليما, لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر, أولئك سنؤتيهم أجراًعظيماً}.
ومن يتدبر في هذه الآيات يجد فيها شيئاً عظيماً, أن كيف كان اليهود اُمة مقبولة, ثم بدلوا وكفروا فغضب الله عليهم, ومنهم من ثبت وآمن بمحمد واستمسك بالكتاب فآتاه الله أجراً عظيماً.
بهذا, فاليهودية ابتداء طائفة مسلمة من بني اسرائيل, من مات منهم قائماً على ملة النبيين وشريعة الله حنيفاً مسلماً, قبل مبعث عيسى فهو على الحق, ومن أدرك عيسى فكفر به حبط عمله وإيمانه, ومن "ناصر" عيسى وآمن به وصل عهده وأثبت إيمانه, وهم النصارى.
والنصارى طائفة مسلمة من بني اسرائيل ابتداء, من مات منهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام ولم يغل في دينه ولم يشرك بالله, حنيفاً مسلماً فهو على الحق, ومن أدرك محمداً منهم فكفر به حبط عمله وإيمانه, ومن آمن بمحمد وصل عهده وأثبت إيمانه وآتاه الله أجره مرتين أن الدين عند الله الإسلام.
{وقل للذين اُوتوا الكتاب والاُميين أأسلمتم, فإن أسلموا فقد اهتدوا, وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
ولمتدبر أن يسأل: لم أصر النبي في بيعة العقبة على أن يُخرج الأوس والخزرج له "إثني عشر نقيباً" على قومهم, وفي بعض الروايات: "يكونوا كحواريي عيسى بن مريم"؟!. ألعلها سنة الله في إقامة الدين؟.
فالخارجون -الذين هادوا- والنصارى, هم مجمل بني إسرائيل وعامتهم, عليهم أسس الدين وأنزل الكتاب وأرسل الرسل, فلم يقوموا بأمر الله ولم يحملوه, وتولوا وبدلوا, فبدلهم الله بأمة خير منهم تؤمن به ولا تفرق بين أحد من رسله {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.
ويظهر لنا بأن يقوم الدين على طائفتين, طائفة تخرج وطائفة تنصر, أنما هي سنة الله, وهذا ما يفسر إصرار النبي عليه الصلاة والسلام على "إثني عشر نقيباً", وهذا ما يفسر أمر الله لنا بالمناصرة مثل عيسى عليه السلام, {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله}. ثم {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}.
فالخارجون والمناصرون هم لبنة الدين ومادته, كالمهاجرين والأنصار, فقعدت عنها الأمة الاولى وقصروا عنها, فأتى الله بخير منهم مهاجرين وأنصاراً فحملوا أمانته, وحمل رسول الله أحمد حمل أنبياء بني إسرائيل ورسلهم جميعاً.
من أجل هذا يعطينا الله أجرنا وأجر الأمة الاولى من اليهود والنصارى..
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يؤتكم كفلين من رحمته, ويجعل لكم نورا تمشون به, ويغفر لكم والله غفور رحيم, لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله, وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
ربنا تقبل منا الهدى والصواب, واغفر لنا الخطأ والنسيان.
{ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}.
وهل كان المهاجرون والأنصار الأمة البديلة لليهود والنصارى؟
صلاح الدين إبراهيم أبوعرفة
لعل هذا السؤال وهذه المادة, من أكثر الطروح أصالة. وارتباطها بالركن الأساس للمصطلح الديني يُحمّلها كل معاني الأهمية ودواعي الاهتمام.
ولا يكاد الباحث عن جواب مؤصل مرض, يضع الأسماء والدلالات في مواضعها, لا يكاد يجد من هذا شيئاً. فعامة ما كتب أن كل النبيين اُرسلوا بالإسلام وسمّوا به, من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام. ولكن ما يسمعه الناس من مصطلحات "زائغة" غير مقعدة, تعود وتهز هذه الأفهام.
فإن كان الإسلام ديناً واحداً اُرسل به كل الرسل والنبيين, فلم نقول: "الأديان الثلاثة"؟.
وإن كان موسى مسلماً فما اليهودية؟.
وإن كان عيسى مسلماً فما النصرانية؟.
والأصل في كل مسلم أن يكون على بينة من دينه وربه ونبيه, {أفمن كان على بينة من ربه كمن هو أعمى}, {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}.
والله لا يأبه بعبد غير آبه ساخر متعامٍ, وليس من اتبع هدى الله على بينة كمن اتبع هواه, وورث دين أبيه, لا يعلم إن كان هدياً هذا أو ضلالاً, {قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟}.
{إن الدين عند الله الإسلام}, فلم يبدل الله دينه ولا يبدل كلامه, و"الأديان الثلاثة" مصطلح معتد متعد لا يليق بحق الله, فنرى العبد الواحد السوي يأبى أن يكون بأكثر من دين, فيكف نرضاها لله, {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى, لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون}, هذا إفراط بالغ وزيغ مفرط.
{إن الدين عند الله الإسلام, وما اختلف الذين اُوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم, ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب}.
هذه آية اُم, تحق الحق وتبطل الباطل, أن الدين عند الله الإسلام, وما الذي عليه أهل الكتاب إلا اختلاف على دينهم الأول الاُم, {ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب}, فما سوى الإسلام كفر {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}.
عود على بدء..
موسى كان مسلماً, فما اليهودية, وعيسى كان مسلماً فما النصرانية؟!.
ليس موسى وعيسى وحسب, إنما كل الرسل والنبيين, وتعالى الله الواحد أن يكون له أكثر من دين, فنوح كان مسلماً بنص القرآن الصريح على لسان نوح, {فإن توليتم فما سألتكم عليه من أجر, إن أجري إلا على الله واُمرت أن أكون من المسلمين}, ثم إبراهيم أبو الأنبياء وأبو اسماعيل وإسحق ويعقوب, ومن بعهدهم كل بني إسرائيل وموسى وعيسى ويوسف وداود وسليمان, واقرأوا آية البقرة الدامغة الداحضة لكل ملة غير ملة يعقوب, ملة أبيه إبراهيم, {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين, إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين, ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون, أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي, قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحق إلها واحداً ونحن له مسلمون}.
فها هو إبراهيم مسلماً قبل أن يكون موسى وعيسى, وها هو يعقوب –أصل بني إسرائيل-يحملها عنه ويوصي بها سائر بنيه , ويمليها عليهم ملة إملاء {ما تعبدون من بعدي؟}.
ثم اقراُوا صراحة على لسان موسى, {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}. ولم يمت فرعون إلا وهو يشهد بالإسلام, {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}, فمن أين له بالإسلام إن لم تكن دعوة موسى؟!, وما اليهودية إذن؟.
ثم اقراُوا شهادة الإسلام على لسان كلمة الله عيسى بن مريم, {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله, قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}.
وعلى لسان يوسف شهادة اُخرى {أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}.
فليس بعد هذا في القرآن كله ولا في حديث المعصوم عليه الصلاة والسلام, نص صريح يقرّ الله به ديناً غير الإسلام, {أفغير دين الله يبغون, وله أسلم من في السموات والأرض}؟. وما نقرأه من لفظ "الدين" منسوباً إلى أهل الكتاب من مثل {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}, لا يرد ما نقول, فالآية لا تذكر اليهودية ولا النصرانية كما لا تقرهما, فالغلو هو الزيادة والإفراط بغير حق, و"الدين" قد تطلق ويراد بها غير المفهوم العام, فقد ترد ويراد بها "الحساب" كآية {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}. أي ذلك الحساب الصحيح القويم, ويشهد له قول لابن عباس رضي الله عنهما.
ثم لو كان دين النصارى مما يدعون من الشرك والتثليث, من عند الله وأقرهم عليه, فلم يغلظ عليهم في الإنكار والنهي والتثريب, فدين النصارى الحق هو الإسلام, ثم غلوا فيه, فأكبر الله عليهم حسابهم ودينهم, {لا تقولوا ثلاثة إنتهوا خيراً لكم, إنما الله إله واحد}, فيا أهل الكتاب لا تغلوا في إسلامكم ولا تقولوا على الله إلا الحق!.
والنصرانية اليوم لا تجد مشكلة في "الله الواحد", إنما مشكلتها في "الإله الواحد", وقل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً.
وآية آل عمران {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}, مثل اُختها لا تقرّ أبداً أن الله جعل لهم ديناً غير الإسلام, وإنما ذلك إفكهم وما كانوا يفترون, وهذا اختلافهم وفسقهم وزيغهم جعلوه ديناً مفروضاً, وشهدوا على الله بالزور والكذب, {وإن الذين اُورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب}.
وما زال السؤال حاضراً..
ما اليهودية وما النصرانية؟!.
كان موسى مسلماً, وكان عيسى مسلماً, وكان أهل الكتاب على عهد أنبيائهم مستمسكين به, {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون, وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا, إنا كنا من قبله مسلمين}.
قبل أن نجيب, يجب أن نفرق بين المصطلحات الثلاثة..
"الملة" و"الشريعة" و"الدين".
فكلها تذكر في القرآن, ويراد بكل واحدة منها مراداً ومعنى خاصاً, لا يصح أن يبدل بكلمة غيرها, فلا يصح أن نقول: إن الملة هي الدين!. وليس في كلام الله كلمة تصلح غيرها بدلاً لها, ولو اُعربت بدلاً, كما يقول النحويون, فكما نعرب "أمير المؤمنين عمر", فنقول: عمر بدل من أمير المؤمنين, فهذا في الإعراب فقط, أما في الدلالات والوظائف فلا يصح, فالذي يجلس في دار الحكم هو "أمير المؤمنين", والذي ينام ويأكل مع أهله فهو "عمر"!.
"الملة"
عامة ما وردت فيه في القرآن كانت بدلالة العقيدة, وعامتها لإبراهيم عليه السلام, ويراد بها الحنيفية والتوحيد كعقيدة لدين المسلمين, فهي جزء خاص من عموم الدين, وبعض من كل.
ويشرح هذا آية سورة البقرة, بما تركّز فيه على "العقيدة" {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين, إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين, ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون, أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي, قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحق إلها واحداً ونحن له مسلمون}.
"الشريعة"
وهي أحكام الكتاب للنبي, التي تُنزل أوامر الله ونواهيه منزل التطبيق والأداء, فهي في سورة الجاثية هكذا {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة, ....... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها}, فالشريعة ما يحكم به النبي من كتاب الله.
فالتوراة كتاب بني إسرائيل التي يحكم بها أنبياؤهم, فهي بهذا لهم شريعة {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}.
"الدين"
وهو الملة والشريعة معاً, أي العقيدة الحنيفية, والأحكام المنزلة المفروضة مما شرعه الله وأمر به ونهى عنه, فهذا بمجموعه هو الدين, {وما اُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين, حنفاء –فهذه الملة- ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة –وهذه الشريعة- وذلك دين القيمة}, وهذا هو الدين الكامل, فلا يخلص الدين كله لله إلا أن تكون الملة لله وتكون الشريعة لله, {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
ومن تدبر آية الأنعام بانت له بيضاء, {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم, ديناً قيماً؛ (الملة) ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين, (والشريعة) قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين, لا شريك له (فالملة له والشريعة له) وبذلك اُمرت وأنا أول المسلمين}.
فمن اعتقد ألا إله إلا الله فقد وافق ملة الإسلام.
ومن احتكم لشرع الله فاتبع أوامره ونواهيه على لسان نبي قومه المرسل إليه, فقد وافق شريعة الإسلام.
ومن جمع ملة الإسلام وشريعة الإسلام فصار أمره كله لله فذلك المسلم, {وذلك دين القيمة}.
ومن وافق ملة المسلمين وخالف شريعة الله فليس بمسلم, كذلك من وافق شريعة الله وخالف ملته {حتى يكون الدين كله لله}.
فالملة لم يبدلها الله, ولا ينسخها البتة, {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا نوحي إليه ألا إله إلا أنا فاعبدون}, والشريعة تُنسخ ويزاد فيها وتُفصّل {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}, فيزاد في الشريعة الواحدة وينسخ منها.
والدين الواحد المجتمع بالملة والشريعة لا يتبدل, ملته قائمة متصلة, تُملى من نبي إلى نبي, ويوصى بها من عهد إلى عهد, {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب}, وأركان الشريعة ثابتة, من الصلاة والصيام والزكاة, في كل الكتب وعند كل النبيين, فهذا عيسى بن مريم {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}, وكما اُمر بها بنو إسرائيل من قبل, {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}, و{كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}, ثم يفصل الله ما يشاء وينسخ ما يشاء, {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}.
فبهذه الملة القائمة المملاة المتصلة, وهذه الشريعة القائمة بأركانها الموسعة بتفاصيلها كما يشاء الله, بهذا كله يبقى الدين كله خالصاً لله واصباً لا ينقطع, {وله ما في السموات والأرض وله الدين واصباً, أفغير الله تتقون}.
الآن نعرف..
فكان موسى مسلماً يأمر قومه بكلمة الله ودينه, وكان قومه يذكرون وصية أبيهم يعقوب "إسرائيل" وكانوا مسلمين, ثم نجاهم الله من فرعون, وخرجوا مع موسى متابعين له على أمر الله, راجعين إلى بيت المقدس, فسُموا "اليهود", وهذا –والله أعلم- دلالة ومعنى "هدنا" إليك, {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك}, فالهود هو الرجوع, وهو ما أشكل على أئمتنا المفسرين, فحملوها على التوبة, بشيء من التكلف, فالهائد إلى الله, هو الراجع, كالمهاجر إلى الله الخارج إليه, {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}, واقرأوا آية الأعراف لتعرفوا مقصدنا, {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة, إنا هدنا إليك} فهذا المقابل الذي طلبه موسى من الله لا يكون جزاء التوبة والاستغفار, إذ جزاؤهما عند الله التوبة والمغفرة, ثم لم يكن هو المذنب ليتوب, وقبلها ببضع آيات استغفر موسى لنفسه ولأخيه, سائلا الله الرحمة, لا المبوء الحسن في الدنيا والآ خرة, {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك}, أما مطلب موسى فهو جزاء على خروجهم ورجوعهم إلى الله وهجرتهم إليه, فكما تركنا ديارنا وأموالنا, أبدلنا مكانها غيرها وخيرا منها!, ويصدق ظننا هذا الآية التي في سورة النحل {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوأنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر}, فهي بذلك سنة عند الله في الجزاء, يقابل الله بها من خرجوا إليه بحسنة الدنيا والآخرة, وموسى من خيرة من يعلم سنن الله وأجوره عليها.
ثم يصدق هذا المعنى قراءة أخرى من غير المتواتر, ولكن لها سند لرسول الله {إنا هِدنا إليك}, بكسر الهاء بدلاً من ضمها, أي تحركنا إليك, وهذا ما يبرر افتتاح التوراة التي بين أيديهم ثانياً بسفر "الخروج", وتكثر بينهم هذه التسمية تيمناً واستذكاراً وإكباراً لهذا المعنى, فيقولون للمهاجرين من شتى أقطار الأرض إلى بيت المقدس: "الخارجين من مصر", تبركا وتيمنا بما كانوا عليه!.
بهذا نعزم أن "اليهود": هم "الخارجون والمهاجرون", لا التائبون ولا غيرها, وهم أنفسهم لا يعرفون لها أصلاً, والقرآن أصدق قيلاً وأحسن تفسيراً.
فصارت هذه الطائفة من بني إسرائيل التي "هادت" إلى الله وخرجت مع موسى راجعة إلى بيت المقدس, تعرف بهذا "الهَوْد", إذ لم يخرج كل بني إسرائيل, ولم يكن زمنها كل بني إسرائيل من الذين هادوا و"خرجوا", ولا جرم لم يكن عيسى ابن مريم يخص اليهود في دعوته, ولكن عامة بني إسرائيل, من خرج ومن لم يخرج, فغلبت هذه الصفة وشاع ذكر طائفتها وظهرت في الناس, فعرف العامة بصفة الخاصة.
فاليهود بهذا طائفة مسلمة من بني إسرائيل, "خرجوا" مع موسى, فغلب اسم الطائفة الخاصة "اليهود" على تسمية دين العامة "الإسلام", فصارت عامة بني إسرائيل يعرف باسم هذه الطائفة, وكانوا مقبولين ما أقاموا على ملة أنبيائهم وشرائعهم, {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم والآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}, حتى إذا بعث عيسى ابن مريم فاُمروا باتباعه, كفروا به فكفروا بالله الذي أرسل ابن مريم.
{يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله, قال الحواريون نحن أنصار الله, فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة}.
فهذه الآية حجة أن اليهود والنصارى إنما هم طائفتان من بني إسرائيل "المسلمين", هادت طائفة من قبل مع موسى فقبلهم الله, ثم كفرت هذه الطائفة بعيسى بن مريم فرفضها الله, وقبل طائفة النصارى التي ناصرت عيسى وآمنت به, ثم جاء الرسول الخاتم أحمد عليه الصلاة والسلام, فكفر به من كفر من الطائفتين فكفروا بالله, {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد, فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين}.
{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به}, فالطائفتان كانتا على الحق, ثم زاغوا وفسقوا وبدلوا ملة أنبيائهم, فتبدلت ملتهم وبقي اسم طائفتهم. ودعيت الملة العوجاء باسم الطائفة الأولى ولازمتها {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة, ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}.
فهما بهذا طائفتان من بني إسرائيل وكانوا "مسلمين" ليس إلا, من آمن بنبيه وأقام على دينه وعهده, ثم آمن بمحمد يؤته الله أجره مرتين, ومن كفر ارتد على عقبه, والله لا يهدي القوم الكافرين. وفي حديث النبي الخاتم أحمد عليه الصلاة والسلام مصداق هذا: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين.. وذكر منهم "ورجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد". وحديثه الصحيح الآخر: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الاُمة, ولا يهودي ولا نصراني, ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار".
فكان على الطائفة المسلمة الاُولى الخارجة مع موسى "اليهود", أن يؤمنوا بعيسى كما آمنوا بموسى, فآمنت طائفة وكفرت طائفة, ثم كان على الطائفة المؤمنة بعيسى أن تؤمن بمحمد كما آمنت بعيسى, فآمنت طائفة وكفرت طائفة, فالذين آمنوا بموسى وعيسى ومحمد فهم المسلمون القائمون على عهدهم ودينهم, {قولوا آمنا بالله وما اُنزل إلينا وما اُنزل من قبل, وما اُنزل إلى ابراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط, وما اُوتي موسى وعيسى وما اُوتي النبيون من ربهم, لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}.
وليقرأ من شاء أن يقرأ آية الأنعام {أن تقولوا إنما اُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا}, فليس في كتاب الله دين غير الإسلام إنما هي طوائف في زمن ما في مكان ما لأمر ما.
ومثل هذا شائع فينا نحن أصحاب الملة المتصلة القائمة, فالشيعة –من غير غلو-طائفة مسلمة من طوائف المسلمين, وليست ديناً بمعزل, وكذلك المعتزلة والصوفيين, فهم مسلمون أولاً, -ما لم يغلوا-, غلب اسم طائفتهم وخاصتهم على اسم دينهم المشهور.
فإن غلت طائفة مسلمة في دينها, فاعتقدت غير ما عليه جماعة المؤمنين, أو أحلت حراماً, أو حرمت حلالاً, فقد اعتدت وتعدت ووقعت في المحظور, وحق فيها قول الله للاُمة الأولى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}.
وليقرأ من شاء آيات "النساء", {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً, وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليما, لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر, أولئك سنؤتيهم أجراًعظيماً}.
ومن يتدبر في هذه الآيات يجد فيها شيئاً عظيماً, أن كيف كان اليهود اُمة مقبولة, ثم بدلوا وكفروا فغضب الله عليهم, ومنهم من ثبت وآمن بمحمد واستمسك بالكتاب فآتاه الله أجراً عظيماً.
بهذا, فاليهودية ابتداء طائفة مسلمة من بني اسرائيل, من مات منهم قائماً على ملة النبيين وشريعة الله حنيفاً مسلماً, قبل مبعث عيسى فهو على الحق, ومن أدرك عيسى فكفر به حبط عمله وإيمانه, ومن "ناصر" عيسى وآمن به وصل عهده وأثبت إيمانه, وهم النصارى.
والنصارى طائفة مسلمة من بني اسرائيل ابتداء, من مات منهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام ولم يغل في دينه ولم يشرك بالله, حنيفاً مسلماً فهو على الحق, ومن أدرك محمداً منهم فكفر به حبط عمله وإيمانه, ومن آمن بمحمد وصل عهده وأثبت إيمانه وآتاه الله أجره مرتين أن الدين عند الله الإسلام.
{وقل للذين اُوتوا الكتاب والاُميين أأسلمتم, فإن أسلموا فقد اهتدوا, وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
ولمتدبر أن يسأل: لم أصر النبي في بيعة العقبة على أن يُخرج الأوس والخزرج له "إثني عشر نقيباً" على قومهم, وفي بعض الروايات: "يكونوا كحواريي عيسى بن مريم"؟!. ألعلها سنة الله في إقامة الدين؟.
فالخارجون -الذين هادوا- والنصارى, هم مجمل بني إسرائيل وعامتهم, عليهم أسس الدين وأنزل الكتاب وأرسل الرسل, فلم يقوموا بأمر الله ولم يحملوه, وتولوا وبدلوا, فبدلهم الله بأمة خير منهم تؤمن به ولا تفرق بين أحد من رسله {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.
ويظهر لنا بأن يقوم الدين على طائفتين, طائفة تخرج وطائفة تنصر, أنما هي سنة الله, وهذا ما يفسر إصرار النبي عليه الصلاة والسلام على "إثني عشر نقيباً", وهذا ما يفسر أمر الله لنا بالمناصرة مثل عيسى عليه السلام, {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله}. ثم {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}.
فالخارجون والمناصرون هم لبنة الدين ومادته, كالمهاجرين والأنصار, فقعدت عنها الأمة الاولى وقصروا عنها, فأتى الله بخير منهم مهاجرين وأنصاراً فحملوا أمانته, وحمل رسول الله أحمد حمل أنبياء بني إسرائيل ورسلهم جميعاً.
من أجل هذا يعطينا الله أجرنا وأجر الأمة الاولى من اليهود والنصارى..
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يؤتكم كفلين من رحمته, ويجعل لكم نورا تمشون به, ويغفر لكم والله غفور رحيم, لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله, وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
ربنا تقبل منا الهدى والصواب, واغفر لنا الخطأ والنسيان.
{ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}.