محمد القاضي
17-07-2013, 04:28 PM
اتباع سنن التابعين ، follow the Sunnaa
اتباع سبيل المؤمنين والتحذير من الغناء والمغنين
الشيخ عبدالله بن محمد البصري
أمَّا بعد:
فأُوصِيكم - أيُّها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 18 - 20].
أيُّها المسلمون:
روى الدارمي والحاكم وغيرُهما عن عبدالله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: كيف أنتم إذا لبسَتْكم فتنةٌ يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتَّخِذها الناس سنَّة، فإذا غُيِّرت قالوا: غُيِّرت السنَّة؟ قيل: متى ذلك يا أبا عبدالرحمن؟! قال: إذا كَثُرت قُرَّاؤكم وقلَّت فُقَهاؤكم، وكَثُرت أُمَراؤكم وقلَّت أُمَناؤكم، والْتُمِست الدنيا بعمل الآخِرة، وتُفُقِّه لغير الدِّين.
رضي الله عن ابن مسعودٍ وأرضاه، فلم يكن ليقولَ مثلَ هذا من تِلقاء نفسه أو بِمَحْضِ رأيه؛ إذ إنَّه من أمور الغيب التي لا تُدرَك بخالص الرأي، ولا تصل إليها قوَّة العقل، أمَا وقد وقَع ما في كلامه - رضي الله عنه - في زماننا هذا، فتسابَق الناس على المناصب دون أهليَّةٍ لها، وتنافَسُوا في الشهرة ولو بمخالفة الحق، فإنَّ ذلك لممَّا يدلُّ على أنَّ كلام ابن مسعود وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنَّ له حكمَ المرفوع معنًى.
وإنَّ المسلم لَيتذكَّر هذا الكلام ويستَحضِره بشدَّة والأمَّةُ تُصدَم كلَّ يوم بما تُصدَم به من أقوالٍ شاذَّة، وآراء مرجوحة، تستَنكِرها الفِطَر السليمة قبلَ القلوب التقيَّة، ولكنَّ كثيرين قد لا يستَنكِرونها؛ بل يفرَحُون بها، وينتَشُون لظهورها، ويُسارِعون لتلميعها ونشرها والترويج لها، كما تفعَل ذلك في الغالب وسائلُ الإعلام من الجرائد والقنوات، لا لرأيٍ مُعتَبَر اطَّلَعوا عليه فتبنوه، ولا لفقهٍ جديد وجَدُوه فأذاعُوه؛ وإنما لأنَّهم ومَن سار معهم قد تعوَّدوا على بعض المنكَرات، ونبتَتْ عليها لحومُهم، وتشرَّبتْها قلوبهم، وجرَتْ بها دماؤهم، فأراد لهم الشيطان بعد أن آيسَهُم من التوبة منها، أن ينقلهم من مجرَّد الوُقُوع فيما صغر منها وما كبر، إلى أن يقَعُوا في ورطات تَصعُب النجاة منها؛ من القول على الله بغير علم، وتحليل ما حرَّمه الله، وتحريم ما أحلَّه، والافتِئات على الشريعة، والتقدُّم بين يدي أئمَّة الفقه من المتقدِّمين والمتأخِّرين، أو تقويلهم ما لم يقولوا، وتلبيسهم ما لم يلبسوا، والشُّذوذ عن الصِّراط المستقيم، واتِّباع غير سبيل المؤمنين، فلا إله إلا الله!
كيف يفعَل بالمرء ضعفُ انقِياده للشرع وتساهُلُه بالأوامر والنَّواهِي؟ وكيف يَصِير مآلُه حين يَتَّبِع خطوات الشيطان ويَنساق وراءَها؟ فمِن ترْك السُّنَن والوقوع في المكروهات، إلى انتِهاك المحرَّمات والتَّهاوُن بالواجِبات، إلى السُّقوط في شِراك البِدَع والمُحدَثات، ثم يكون بعد ما يكون من زيغٍ وضَلالات، وهكذا لا يُزِيغ الله قلبَ عبدٍ حتى يكون هو الجانِي على نفسه.
قال - سبحانه -: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال - جل وعلا -: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾} [الصف: 5]، وهكذا يُقبَض العلم، وتندَرِس مَعالِم الحق، ويَصِير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ويُصدَّق الكاذب، ويُكذَّب الصادق، ويُؤتَمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، حين تكون وسائل الإعلام هي الرائدةَ لعقول الناس، تتقدَّمهم إلى كلِّ مرعى وَخِيم، وتأخُذ بهم إلى كلِّ مرتَع وَبِيل، فتجعل الصحفي مفتيًا، وتُظهِر الجاهل بمظهر العالم، وتلمع المفتونين ممَّن استهوَتْهم الشبهة، وملَكهم بريق الشهرة، فتُبرِزهم بزيِّ العلماء العارفين، وتغش بهم العامَّة والغافلين، وصَدَق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((إنَّ الله لا يَقبِض العلم انتِزاعًا ينتَزِعه من الناس، ولكن يَقبِض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا، اتَّخَذَ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلوا))؛ رواه الشيخان.
أيُّها المسلمون:
لقد بدَأَتْ تظهر في الآوِنة الأخيرة مقالاتٌ شاذَّة، وآراء مخالفة لسَبِيل المؤمنين، تُسمِّيها وسائل الإعلام فَتاوَى؛ لتَكبِير أمرها، وتُجرِي اللِّقاءات والحوارات حولَها؛ لتعظيم شأنها، وتقلبها على كلِّ جانب؛ لتَمكِينها في قلوب العامَّة، وتالله ما هي بالفتاوى ولا الفتاوى منها في شيء؛ بل هي شذوذات وشبهات، وانحِرافات وسقطات، وورطات وزلاَّت.
وإنَّ من الابتِلاء أن يقع بعضُ الناس في حيرةٍ من أمره حين يَسمَعها، أو تُؤدِّي به إلى أن يحقر العلم وأهله ويتَّهمهم بالتضارُب، ناسِيًا أو متناسِيًا أنَّ الله - جلَّ وعلا - في كتابه قد ذكَر مثل هذا، وأشار إلى ما يجب على المؤمن حِياله؛ قال - سبحانه -: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، فقسم - سبحانه، وله الحكمةُ البالغةُ - كتابَه إلى آياتٍ محكماتٍ واضحاتِ الدلالة، ليس فيها شبهةٌ ولا إشكال، وجعَلَهُنَّ أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وتلك الآيات هي معظمه وأكثره، ثم جعَل منه آيات أُخَر متشابهات، يلتَبِس معناها على كثيرٍ من الأذهان؛ إمَّا لكون دلالتها مجملة، أو لأنَّه يتبادَر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، وقد كان الواجب على المسلم أن يردَّ المتشابه إلى المحكم، والخفيَّ إلى الجلي؛ لأنَّه لا سبيل للوصول إلى الحق إلا هذا المسلك؛ ليصدِّق بعض القرآن بعضًا، ولئلاَّ يحصل فيه مناقَضة ولا معارَضة، ولكنَّ الناس مع هذا انقَسَمُوا إلى فرقتين: فرقة زاغَت قلوبهم ومالَت عن الاستقامة، وانحرَفُوا عن طريق الهدى والرَّشاد؛ بسبب فساد مقاصدهم، وتحرِّيهم الغيَّ والضَّلال، فتركوا المُحكَم الواضِح، وذهبوا إلى المتشابه؛ طلبًا لفتنة مَن أراد الله فتنته، ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾ [المائدة: 41].
وأمَّا القسم الثاني - وهم الراسِخون في العلم - فردُّوا المتشابه إلى المحكَم، وفسَّروا بعض القرآن ببعض، ولم يَضرِبوا بعضه ببعض؛ لعلمهم ويَقِينهم أنَّ كلاًّ من المحكَم والمتشابِه من عند ربهم، وما كان من عنده فليس فيه تعارُض ولا تناقُض بأيِّ وجهٍ من الوجوه؛ بل هو متَّفِق يصدِّق بعضه بعضًا، ويشهَد بعضه لبعض، ومن ثَمَّ صار أولئك هم أولي الألباب الخالصة، وأصحاب العقول الراجحة، وصار مَن سواهم من متَّبِعي المتشابِه هم القشورَ التي لا نفعَ فيها، ولِعلْمِ الله - سبحانه - أنَّ من الناس مَن يَزِيغ والحقُّ بين يديه، أو يضلُّ والقرآن بين جنبيه؛ أخبر عن الراسخين في العلم أنهم يدْعون قائلين: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وهذا الذي جاءَتْ به هذه الآيات - عبادَ الله - قد جاء في المتَّفَق عليه من حديث النعمان بن بشير - رضِي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقَى الشُّبهات استَبرَأ لدينه وعرضه، ومَن وقَع في الشبهات وقَع في الحرام؛ كالرَّاعي يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يَرتَع فيه، ألاَ وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى، ألاَ وإنَّ حِمَى الله محارِمُه، ألاَ وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلَحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسَدَت فسَد الجسد كلُّه، ألاَ وهي القلب)).
ألاَ فاتَّقوا ربَّكم، وتمسَّكوا بدينكم، واعتَصِموا بحبل الله والزَمُوا جماعة المسلمين، وخُذُوا بأقوال العُلَماء الراسخين، وإيَّاكم ومشاقَّةَ الرسول واتِّباع غير سبيل المؤمنين؛ ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
واعلموا أنَّ الأقوال الشاذَّة لن تقف عند حدٍّ ولن تنتهي؛ فقد وُجِدَتْ منذ قرون طويلة، وظهرت منذ آماد بعيدة، وما زالت البلوى بها تُصِيب بين حين وحين، ومَن أحسَنَ الظنَّ عَلِمَ أن كلَّ بني آدم خطَّاء، ولم يزل العلماء يُصِيبون ويُخطِئون، فماذا نحن فاعلون؟ هل سنَنجَرِف وراء كلِّ شذوذ ومخالفة؟ هل سنَقَع في الفتنة عند أوَّل نازلة؟ هل سنُغيِّر قناعاتنا ونَقتَلِع ثوابتنا لأدنى شبهة؟ إن كنَّا كذلك، فبئس القوم نحن! ولو أنَّا أخذنا بزلَّة كلِّ عالِم، وانزلقنا مع كلِّ طالب علم في سقطاته، لاجتَمَع فينا الشرُّ كلُّه، ولَصِرنا عَبِيدًا لأهوائنا لا عابدين لربِّنا، وقد حذَّرنا الناصح الشفيق ممَّن يأتونَنا بالغرائب ويحدِّثون بشواذِّ المسائل؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((يكون في آخِر الزمان دجَّالون كذَّابون، يَأتُونكم من الأحاديث بما لم تَسمَعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم))؛ رواه مسلم.
وحتى مع إحسان الظنِّ ببعض مَن تزلُّ بهم الأقدام ويشذُّون، فإنَّ الموقف الصحيح أن يُحفَظ لهم حقُّهم، ويُعرَف قدرُهم، ولكن لا يُرفَعون فوقَ منزلتهم، ولا يقرون على خطئهم؛ فإنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((مثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثَل الغَيْثِ الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقيَّة قبِلَت الماءَ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادِب أمسَكَت الماء، فنَفَع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قِيعَان لا تُمسِك ماءًَ، ولا تُنبِت كلأ، فذلك مثل مَن فقه في دين الله ونفَعَه ما بعثني الله به، فعَلِم وعلَّم، ومثل مَن لم يَرفَع بذلك رأسًا ولم يقبَل هدى الله الذي أُرسِلت به)).
فليس كلُّ مَن حفظ القرآن صار فقيهًا، وإن كان في الواقع لدَيْه من العلم ما لدَيْه، فلينتَبِه لذلك وليُؤخَذ به، وليُقتَصر في أخْذ الفتوى عن أهلها المعروفين بها؛ فبذلك أمَرَنا ربُّنا - سبحانه - فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 43 - 44].
اتباع سبيل المؤمنين والتحذير من الغناء والمغنين
الشيخ عبدالله بن محمد البصري
أمَّا بعد:
فأُوصِيكم - أيُّها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 18 - 20].
أيُّها المسلمون:
روى الدارمي والحاكم وغيرُهما عن عبدالله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: كيف أنتم إذا لبسَتْكم فتنةٌ يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتَّخِذها الناس سنَّة، فإذا غُيِّرت قالوا: غُيِّرت السنَّة؟ قيل: متى ذلك يا أبا عبدالرحمن؟! قال: إذا كَثُرت قُرَّاؤكم وقلَّت فُقَهاؤكم، وكَثُرت أُمَراؤكم وقلَّت أُمَناؤكم، والْتُمِست الدنيا بعمل الآخِرة، وتُفُقِّه لغير الدِّين.
رضي الله عن ابن مسعودٍ وأرضاه، فلم يكن ليقولَ مثلَ هذا من تِلقاء نفسه أو بِمَحْضِ رأيه؛ إذ إنَّه من أمور الغيب التي لا تُدرَك بخالص الرأي، ولا تصل إليها قوَّة العقل، أمَا وقد وقَع ما في كلامه - رضي الله عنه - في زماننا هذا، فتسابَق الناس على المناصب دون أهليَّةٍ لها، وتنافَسُوا في الشهرة ولو بمخالفة الحق، فإنَّ ذلك لممَّا يدلُّ على أنَّ كلام ابن مسعود وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنَّ له حكمَ المرفوع معنًى.
وإنَّ المسلم لَيتذكَّر هذا الكلام ويستَحضِره بشدَّة والأمَّةُ تُصدَم كلَّ يوم بما تُصدَم به من أقوالٍ شاذَّة، وآراء مرجوحة، تستَنكِرها الفِطَر السليمة قبلَ القلوب التقيَّة، ولكنَّ كثيرين قد لا يستَنكِرونها؛ بل يفرَحُون بها، وينتَشُون لظهورها، ويُسارِعون لتلميعها ونشرها والترويج لها، كما تفعَل ذلك في الغالب وسائلُ الإعلام من الجرائد والقنوات، لا لرأيٍ مُعتَبَر اطَّلَعوا عليه فتبنوه، ولا لفقهٍ جديد وجَدُوه فأذاعُوه؛ وإنما لأنَّهم ومَن سار معهم قد تعوَّدوا على بعض المنكَرات، ونبتَتْ عليها لحومُهم، وتشرَّبتْها قلوبهم، وجرَتْ بها دماؤهم، فأراد لهم الشيطان بعد أن آيسَهُم من التوبة منها، أن ينقلهم من مجرَّد الوُقُوع فيما صغر منها وما كبر، إلى أن يقَعُوا في ورطات تَصعُب النجاة منها؛ من القول على الله بغير علم، وتحليل ما حرَّمه الله، وتحريم ما أحلَّه، والافتِئات على الشريعة، والتقدُّم بين يدي أئمَّة الفقه من المتقدِّمين والمتأخِّرين، أو تقويلهم ما لم يقولوا، وتلبيسهم ما لم يلبسوا، والشُّذوذ عن الصِّراط المستقيم، واتِّباع غير سبيل المؤمنين، فلا إله إلا الله!
كيف يفعَل بالمرء ضعفُ انقِياده للشرع وتساهُلُه بالأوامر والنَّواهِي؟ وكيف يَصِير مآلُه حين يَتَّبِع خطوات الشيطان ويَنساق وراءَها؟ فمِن ترْك السُّنَن والوقوع في المكروهات، إلى انتِهاك المحرَّمات والتَّهاوُن بالواجِبات، إلى السُّقوط في شِراك البِدَع والمُحدَثات، ثم يكون بعد ما يكون من زيغٍ وضَلالات، وهكذا لا يُزِيغ الله قلبَ عبدٍ حتى يكون هو الجانِي على نفسه.
قال - سبحانه -: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال - جل وعلا -: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾} [الصف: 5]، وهكذا يُقبَض العلم، وتندَرِس مَعالِم الحق، ويَصِير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ويُصدَّق الكاذب، ويُكذَّب الصادق، ويُؤتَمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، حين تكون وسائل الإعلام هي الرائدةَ لعقول الناس، تتقدَّمهم إلى كلِّ مرعى وَخِيم، وتأخُذ بهم إلى كلِّ مرتَع وَبِيل، فتجعل الصحفي مفتيًا، وتُظهِر الجاهل بمظهر العالم، وتلمع المفتونين ممَّن استهوَتْهم الشبهة، وملَكهم بريق الشهرة، فتُبرِزهم بزيِّ العلماء العارفين، وتغش بهم العامَّة والغافلين، وصَدَق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((إنَّ الله لا يَقبِض العلم انتِزاعًا ينتَزِعه من الناس، ولكن يَقبِض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا، اتَّخَذَ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلوا))؛ رواه الشيخان.
أيُّها المسلمون:
لقد بدَأَتْ تظهر في الآوِنة الأخيرة مقالاتٌ شاذَّة، وآراء مخالفة لسَبِيل المؤمنين، تُسمِّيها وسائل الإعلام فَتاوَى؛ لتَكبِير أمرها، وتُجرِي اللِّقاءات والحوارات حولَها؛ لتعظيم شأنها، وتقلبها على كلِّ جانب؛ لتَمكِينها في قلوب العامَّة، وتالله ما هي بالفتاوى ولا الفتاوى منها في شيء؛ بل هي شذوذات وشبهات، وانحِرافات وسقطات، وورطات وزلاَّت.
وإنَّ من الابتِلاء أن يقع بعضُ الناس في حيرةٍ من أمره حين يَسمَعها، أو تُؤدِّي به إلى أن يحقر العلم وأهله ويتَّهمهم بالتضارُب، ناسِيًا أو متناسِيًا أنَّ الله - جلَّ وعلا - في كتابه قد ذكَر مثل هذا، وأشار إلى ما يجب على المؤمن حِياله؛ قال - سبحانه -: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، فقسم - سبحانه، وله الحكمةُ البالغةُ - كتابَه إلى آياتٍ محكماتٍ واضحاتِ الدلالة، ليس فيها شبهةٌ ولا إشكال، وجعَلَهُنَّ أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وتلك الآيات هي معظمه وأكثره، ثم جعَل منه آيات أُخَر متشابهات، يلتَبِس معناها على كثيرٍ من الأذهان؛ إمَّا لكون دلالتها مجملة، أو لأنَّه يتبادَر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، وقد كان الواجب على المسلم أن يردَّ المتشابه إلى المحكم، والخفيَّ إلى الجلي؛ لأنَّه لا سبيل للوصول إلى الحق إلا هذا المسلك؛ ليصدِّق بعض القرآن بعضًا، ولئلاَّ يحصل فيه مناقَضة ولا معارَضة، ولكنَّ الناس مع هذا انقَسَمُوا إلى فرقتين: فرقة زاغَت قلوبهم ومالَت عن الاستقامة، وانحرَفُوا عن طريق الهدى والرَّشاد؛ بسبب فساد مقاصدهم، وتحرِّيهم الغيَّ والضَّلال، فتركوا المُحكَم الواضِح، وذهبوا إلى المتشابه؛ طلبًا لفتنة مَن أراد الله فتنته، ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾ [المائدة: 41].
وأمَّا القسم الثاني - وهم الراسِخون في العلم - فردُّوا المتشابه إلى المحكَم، وفسَّروا بعض القرآن ببعض، ولم يَضرِبوا بعضه ببعض؛ لعلمهم ويَقِينهم أنَّ كلاًّ من المحكَم والمتشابِه من عند ربهم، وما كان من عنده فليس فيه تعارُض ولا تناقُض بأيِّ وجهٍ من الوجوه؛ بل هو متَّفِق يصدِّق بعضه بعضًا، ويشهَد بعضه لبعض، ومن ثَمَّ صار أولئك هم أولي الألباب الخالصة، وأصحاب العقول الراجحة، وصار مَن سواهم من متَّبِعي المتشابِه هم القشورَ التي لا نفعَ فيها، ولِعلْمِ الله - سبحانه - أنَّ من الناس مَن يَزِيغ والحقُّ بين يديه، أو يضلُّ والقرآن بين جنبيه؛ أخبر عن الراسخين في العلم أنهم يدْعون قائلين: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وهذا الذي جاءَتْ به هذه الآيات - عبادَ الله - قد جاء في المتَّفَق عليه من حديث النعمان بن بشير - رضِي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقَى الشُّبهات استَبرَأ لدينه وعرضه، ومَن وقَع في الشبهات وقَع في الحرام؛ كالرَّاعي يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يَرتَع فيه، ألاَ وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى، ألاَ وإنَّ حِمَى الله محارِمُه، ألاَ وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلَحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسَدَت فسَد الجسد كلُّه، ألاَ وهي القلب)).
ألاَ فاتَّقوا ربَّكم، وتمسَّكوا بدينكم، واعتَصِموا بحبل الله والزَمُوا جماعة المسلمين، وخُذُوا بأقوال العُلَماء الراسخين، وإيَّاكم ومشاقَّةَ الرسول واتِّباع غير سبيل المؤمنين؛ ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
واعلموا أنَّ الأقوال الشاذَّة لن تقف عند حدٍّ ولن تنتهي؛ فقد وُجِدَتْ منذ قرون طويلة، وظهرت منذ آماد بعيدة، وما زالت البلوى بها تُصِيب بين حين وحين، ومَن أحسَنَ الظنَّ عَلِمَ أن كلَّ بني آدم خطَّاء، ولم يزل العلماء يُصِيبون ويُخطِئون، فماذا نحن فاعلون؟ هل سنَنجَرِف وراء كلِّ شذوذ ومخالفة؟ هل سنَقَع في الفتنة عند أوَّل نازلة؟ هل سنُغيِّر قناعاتنا ونَقتَلِع ثوابتنا لأدنى شبهة؟ إن كنَّا كذلك، فبئس القوم نحن! ولو أنَّا أخذنا بزلَّة كلِّ عالِم، وانزلقنا مع كلِّ طالب علم في سقطاته، لاجتَمَع فينا الشرُّ كلُّه، ولَصِرنا عَبِيدًا لأهوائنا لا عابدين لربِّنا، وقد حذَّرنا الناصح الشفيق ممَّن يأتونَنا بالغرائب ويحدِّثون بشواذِّ المسائل؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((يكون في آخِر الزمان دجَّالون كذَّابون، يَأتُونكم من الأحاديث بما لم تَسمَعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم))؛ رواه مسلم.
وحتى مع إحسان الظنِّ ببعض مَن تزلُّ بهم الأقدام ويشذُّون، فإنَّ الموقف الصحيح أن يُحفَظ لهم حقُّهم، ويُعرَف قدرُهم، ولكن لا يُرفَعون فوقَ منزلتهم، ولا يقرون على خطئهم؛ فإنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((مثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثَل الغَيْثِ الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقيَّة قبِلَت الماءَ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادِب أمسَكَت الماء، فنَفَع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قِيعَان لا تُمسِك ماءًَ، ولا تُنبِت كلأ، فذلك مثل مَن فقه في دين الله ونفَعَه ما بعثني الله به، فعَلِم وعلَّم، ومثل مَن لم يَرفَع بذلك رأسًا ولم يقبَل هدى الله الذي أُرسِلت به)).
فليس كلُّ مَن حفظ القرآن صار فقيهًا، وإن كان في الواقع لدَيْه من العلم ما لدَيْه، فلينتَبِه لذلك وليُؤخَذ به، وليُقتَصر في أخْذ الفتوى عن أهلها المعروفين بها؛ فبذلك أمَرَنا ربُّنا - سبحانه - فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 43 - 44].