أم الرواد
29-07-2013, 08:22 PM
:101::101::101::101::101::101::101::101::101::101: :101::101::101::101::101::101:
من خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بمَا تَعمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ)، (يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ * مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مَضَى لَيلَةٌ مِن خَيرِ لَيَالي رَمَضَانَ، وَبَقِيَ في عِلمِ اللهِ تِسعُ لَيَالٍ أَو ثَمَانٍ، وَيَا للهِ كَم لَهُ فيهَا مِن عَتِيقٍ مِنَ النِّيرَانِ! وَكَم فِيهَا مِن قَتِيلٍ لِلشَّيطَانِ خَسَرَانَ! وَالمُوَفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ وَأَعَانَهُ، وَالمَخذُولُ مَن وُكِلَ إِلى نَفسِهِ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَشَيطَانَهُ.
أَلا وَإِنَّ ممَّا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ -لِقِلَّةِ الفِقهِ وَسُوءِ الفَهمِ- أَن يَنشَطُوا في أَوَّلِ الشَّهرِ مُدَّةً قَد تَستَغرِقُ العَشرَ الأَوَّلَ، وَقَد تَمتَدُّ إِلى أَكثَرِ العَشرِ الأَوسَطِ، وَمَا إِن تَأتي العَشرُ الأَوَاخِرُ المُبَارَكَةُ، عَشرُ الرَّحمَةِ والخَيرَاتِ وَالحَسَنَاتِ المُضَاعَفَاتِ، حَتى تَكُونَ طَاقَتُهُم قَد نَفِدَت وَوَقُودُهُم قَدِ انتَهَى، فَيَستَسلِمُوا لِلعَجزِ وَيركَنُوا إِلى الكَسَلِ، وَيُخلُوا المَسَاجِدَ بَعدَ عِمَارَتِهَا، وَيَهجُرُوا المَصَاحِفَ بَعدَ وَصلِهَا، وَيَزهَدُوا في الصَّدَقَاتِ بَعدَ حِرصٍ عَلَيهَا، وَيُقصِرُوا عَنِ الخَيرِ بَعدَ بَذلِهِ، وَيَتَرَاجَعُوا بَعدَ تَقَدُّمٍ وَانتِظَامٍ، وَيَفتُرُوا بَعدَ شِرَّةٍ وَاجتِهَادٍ، في حِينِ أَنَّ المُتَقَرِّرَ مِن فِعلِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يُضَاعِفُ العَمَلَ في العَشرِ الأَخِيرَةِ وَيَجتَهِدُ فِيهَا مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهَا، في صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ".
وَفي الصَّحِيحَينِ وَغَيرِهِمَا عَنهَا -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشرُ شَدَّ مِئزَرَهُ وَأَحيَا لَيلَهُ وَأَيقَظَ أَهلَهُ".
هَكَذَا كَانَ نَبيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ وَصَفوَةُ خَلقِهِ، هَكَذَا كَانَ إِمَامُ المُتَّقِينَ وَسَيِّدُ العَابِدِينَ، هَكَذَا كَانَ المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، يَخلِطُ العِشرِينَ بِصَلاةٍ وَنَومٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ العَشرُ شَمَّرَ وَشَدَّ المِئزَرَ؛ وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَعلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِ وَأَفقَهُهُم بما يَنزِلُ مِن لَدُنْهُ مِنَ الخَيرِ، فَكَانَ لِعِلمِهِ بما في هَذِهِ العَشرِ مِنَ الأُجُورِ المُضَاعَفَةِ وَالحَسَنَاتِ المُتَكَاثِرَةِ يَجتَهِدُ اجتِهَادًا عَظِيمًا وَيَتَفَرَّغُ لِلطَّاعَةِ تَفَرُّغًا تَامًّا، حَتى إِنَّهُ كَانَ يَعتَكِفُ فِيهَا فَيَلزَمُ المَسجِدَ وَيَقطَعُ العَلائِقَ بِالخَلائِقِ، كُلَّ هَذَا مِن أَجلِ أَن يُوَافِقَ لَيلَةَ القَدرِ، تِلكَ اللَّيلَةُ الشَّرِيفَةُ المُنِيفَةُ، الَّتي يَعدِلُ العَمَلُ فِيهَا عَمَلَ ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَنَيِّفٍ، في الصَّحِيحَينِ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا - قَالَت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعتَكِفُ العَشرَ الأَوَاخِرَ مِن رَمضَانَ حَتى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثم اعتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِن بَعدِهِ.
وفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اعتَكَفَ العَشرَ الأَوَّلَ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ في قُبَّةٍ تُركِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا في نَاحِيَةِ القُبَّةِ ثُمَّ أَطلَعَ رَأسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوا مِنهُ فَقَالَ: ((إِنِّي اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوَّلَ أَلتَمِسُ هَذِهِ اللَّيلَةَ، ثُمَّ اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لي إِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ، فَمَن أَحَبَّ مِنكُم أَن يَعتَكِفَ فَليَعتَكِفْ))، فَاعتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ" الحَدِيثَ.
وَقَد أَرشَدَ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَهُ إِلى تَحَرِّي لَيلَةِ القَدرِ وَالتِمَاسِهَا وَطَلَبِ مُوَافَقَتِهَا، في البُخَارِيِّ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((تَحَرَّوا لَيلَةَ القَدرِ في الوِترِ مِنَ العَشرِ الأَوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ)).
وَفي مُسلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((التَمِسُوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ -يَعنِي لَيلَةَ القَدرِ- فَإِن ضَعُفَ أَحَدُكُم أَو عَجَزَ فَلا يُغلَبَنَّ عَلَى السَّبعِ البَوَاقِي)).
وَقَد وَرَدَت أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأَقوَالٌ عَنِ الصَّحَابَةِ في تَعيِينِ لَيلَةِ القَدرِ، غَيرَ أَنَّهَا لا تَخرُجُ عَنِ العَشرِ الأَوَاخِرِ، وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ لِذَلِكَ في تَعيِينِهَا، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِنَ الحَزمِ وَالعَقلِ بَل وَمِن حُسنِ التَّوفِيقِ، أَن يَحرِصَ المُؤمِنُ الحَصِيفُ عَلَى أَلاَّ يُفَوِّتَ مِنَ العَشرِ لَيلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ إِن فَعَلَ ذَلِكَ مُتَحَرِّيًّا لِلخَيرِ مُتَلَمِّسًا لِلأَجرِ، فَسَيُوَافِقُ لَيلَةَ القَدرِ، فَلَيسَ مِن شَرطِ إِدرَاكِهَا وَنَيلِ أَجرِهَا أَن يَعلَمَ بها، بَل إِنَّ في إِخفَائِهَا عَنِ العِبَادِ حِكَمًا عَظِيمَةً وَلا شَكَّ، وَمِن أَعظَمِهَا أَن يَجتَهِدَ المُسلِمُونَ في طَلَبِهَا وَيَجِدُّوا في تَحَرِّيهَا فَتَكثُرَ أَعمَالُهُم وَتَتَضَاعَفَ أُجُورُهُم.
أَلا فَلْنَجتَهِدْ في هَذِهِ العَشرِ طَلَبًا لِلَيلَةِ القَدرِ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- يَفعَلُ، وَلْنُضَاعِفِ العَمَلَ وَلْنَستَكثِرْ مِنَ الخَيرِ، وَلْنَتَقَرَّبْ إِلى الله وَلْنُكثِرْ مِنَ دُّعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيهِ، وَلاسِيَّمَا بما وَرَدَ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ إِن وَافَقتُ لَيلَةَ القَدرِ مَا أَقُولُ"؟ قَالَ: ((قُولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ * وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ * لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ).
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: رَوَى البُخَارِيُّ عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يُخبِرُ بِلَيلَةِ القَدرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسلِمِينَ، فَقَالَ: ((إِنِّي خَرَجتُ لأُخبِرَكُم بِلَيلَةِ القَدرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَت، وَعَسَى أَن يَكُونَ خَيرًا لَكُم، التَمِسُوهَا في السَّبعِ وَالتِّسعِ وَالخَمسِ))".
هَذَا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-حَرِيٌّ أَن يَقِفَ كُلُّ مُسلِمٍ عِندَهُ وَقفَةَ تَأَمُّلٍ طَوِيلَةً، وَأَن يُنعِمَ النَّظرَ فِيهِ وَيَتَفَكَّرَ في مَضمُونِهِ، فَبِسَبَبِ رَجُلَينِ تَخَاصَمَا في المَسجِدِ حُرِمَتِ الأُمَّةُ العِلمَ بِلَيلَةِ القَدرِ، نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- بِسَبَبِ رَجُلَينِ فَقَطْ حُرِمَتِ الأُمَّةُ هَذَا الخَيرَ؛ فَمَا الحَالُ وَقَد كَثُرَ في المُجتَمَعِ المُتَلاحُونَ حَتى لا يَكَادُ يَخلُو مِنهُم مَسجِدٌ وَلا بَيتٌ وَلا سُوقٌ؟ أَلا يَخشَى أُولَئِكَ المُتَخَاصِمُونَ المُتَقَاطِعُونَ أَن يُمنَعُوا التَّوفِيقَ لِقِيَامِ هَذِهِ اللَّيلَةِ وَيُحرَمُوا إِدرَاكَهَا، ثم أَلا يَخشَونَ إِن أَدرَكُوهَا أَلاَّ يُرفَعَ عَمَلُهُم كَمَا وَرَدَت بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ الأُخرَى؟ أَفَلا يَجعَلُونَ هَذِهِ العَشرَ بِدَايَةً لِلتَّصَالُحِ وَالتَّوَاصُلِ ونِهَايَةً لِلتَّلاحِي وَالتَّخَاصُمِ؟ فَلْنُصلِحْ قُلُوبَنَا وَلْنَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَلْنَسأَلْهُ التَّوفِيقَ وَالإِعَانَةَ، وَلْنَستَعِذْ بِاللهِ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ، وَلْنَحذَرْ عَدُوَّنَا اللَّدُودَ الشَّيطَانَ؛ فـ(إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّونَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشرِكُونَ)، وَلْنَتَجَنَّبِ المَعَاصِيَ كُلَّهَا صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، فَإِنَّهَا سَبَبُ كُلِّ بَلاءٍ وَجَالِبَةُ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَمَانِعَةٌ مِنَ كُلِّ خَيرٍ وَحَارِمَةٌ مِنَ التَّوفِيقِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: هَلْ فِينَا مَن لا يُرِيدُ العِتقَ مِنَ النَّارِ؟ هَل فِينَا مَن لا يَطمَعُ في الجَنَّةِ؟ أَلا نُحِبُّ أَن يَغفِرَ اللهُ لَنَا؟ أَيَدَّعِي العَقلَ امرؤٌ ثم يُفَرِّطَ في قِيَامِ لَيلَةٍ ثَوَابُهَا أَكثَرُ مِن عَمَلِ ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً؟
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ التَّوفِيقَ يَا رَحمَنُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الخِذلانِ وَالحِرمَانِ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ.
الكـاتب : عبد اللّه بن محمد البصري
:101::101::101::101::101::101::101::101::101::101: :101::101::101::101::101::101::101:
من خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بمَا تَعمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ)، (يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ * مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مَضَى لَيلَةٌ مِن خَيرِ لَيَالي رَمَضَانَ، وَبَقِيَ في عِلمِ اللهِ تِسعُ لَيَالٍ أَو ثَمَانٍ، وَيَا للهِ كَم لَهُ فيهَا مِن عَتِيقٍ مِنَ النِّيرَانِ! وَكَم فِيهَا مِن قَتِيلٍ لِلشَّيطَانِ خَسَرَانَ! وَالمُوَفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ وَأَعَانَهُ، وَالمَخذُولُ مَن وُكِلَ إِلى نَفسِهِ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَشَيطَانَهُ.
أَلا وَإِنَّ ممَّا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ -لِقِلَّةِ الفِقهِ وَسُوءِ الفَهمِ- أَن يَنشَطُوا في أَوَّلِ الشَّهرِ مُدَّةً قَد تَستَغرِقُ العَشرَ الأَوَّلَ، وَقَد تَمتَدُّ إِلى أَكثَرِ العَشرِ الأَوسَطِ، وَمَا إِن تَأتي العَشرُ الأَوَاخِرُ المُبَارَكَةُ، عَشرُ الرَّحمَةِ والخَيرَاتِ وَالحَسَنَاتِ المُضَاعَفَاتِ، حَتى تَكُونَ طَاقَتُهُم قَد نَفِدَت وَوَقُودُهُم قَدِ انتَهَى، فَيَستَسلِمُوا لِلعَجزِ وَيركَنُوا إِلى الكَسَلِ، وَيُخلُوا المَسَاجِدَ بَعدَ عِمَارَتِهَا، وَيَهجُرُوا المَصَاحِفَ بَعدَ وَصلِهَا، وَيَزهَدُوا في الصَّدَقَاتِ بَعدَ حِرصٍ عَلَيهَا، وَيُقصِرُوا عَنِ الخَيرِ بَعدَ بَذلِهِ، وَيَتَرَاجَعُوا بَعدَ تَقَدُّمٍ وَانتِظَامٍ، وَيَفتُرُوا بَعدَ شِرَّةٍ وَاجتِهَادٍ، في حِينِ أَنَّ المُتَقَرِّرَ مِن فِعلِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يُضَاعِفُ العَمَلَ في العَشرِ الأَخِيرَةِ وَيَجتَهِدُ فِيهَا مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهَا، في صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ".
وَفي الصَّحِيحَينِ وَغَيرِهِمَا عَنهَا -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشرُ شَدَّ مِئزَرَهُ وَأَحيَا لَيلَهُ وَأَيقَظَ أَهلَهُ".
هَكَذَا كَانَ نَبيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ وَصَفوَةُ خَلقِهِ، هَكَذَا كَانَ إِمَامُ المُتَّقِينَ وَسَيِّدُ العَابِدِينَ، هَكَذَا كَانَ المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، يَخلِطُ العِشرِينَ بِصَلاةٍ وَنَومٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ العَشرُ شَمَّرَ وَشَدَّ المِئزَرَ؛ وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَعلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِ وَأَفقَهُهُم بما يَنزِلُ مِن لَدُنْهُ مِنَ الخَيرِ، فَكَانَ لِعِلمِهِ بما في هَذِهِ العَشرِ مِنَ الأُجُورِ المُضَاعَفَةِ وَالحَسَنَاتِ المُتَكَاثِرَةِ يَجتَهِدُ اجتِهَادًا عَظِيمًا وَيَتَفَرَّغُ لِلطَّاعَةِ تَفَرُّغًا تَامًّا، حَتى إِنَّهُ كَانَ يَعتَكِفُ فِيهَا فَيَلزَمُ المَسجِدَ وَيَقطَعُ العَلائِقَ بِالخَلائِقِ، كُلَّ هَذَا مِن أَجلِ أَن يُوَافِقَ لَيلَةَ القَدرِ، تِلكَ اللَّيلَةُ الشَّرِيفَةُ المُنِيفَةُ، الَّتي يَعدِلُ العَمَلُ فِيهَا عَمَلَ ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَنَيِّفٍ، في الصَّحِيحَينِ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا - قَالَت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعتَكِفُ العَشرَ الأَوَاخِرَ مِن رَمضَانَ حَتى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثم اعتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِن بَعدِهِ.
وفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اعتَكَفَ العَشرَ الأَوَّلَ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ في قُبَّةٍ تُركِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا في نَاحِيَةِ القُبَّةِ ثُمَّ أَطلَعَ رَأسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوا مِنهُ فَقَالَ: ((إِنِّي اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوَّلَ أَلتَمِسُ هَذِهِ اللَّيلَةَ، ثُمَّ اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لي إِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ، فَمَن أَحَبَّ مِنكُم أَن يَعتَكِفَ فَليَعتَكِفْ))، فَاعتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ" الحَدِيثَ.
وَقَد أَرشَدَ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَهُ إِلى تَحَرِّي لَيلَةِ القَدرِ وَالتِمَاسِهَا وَطَلَبِ مُوَافَقَتِهَا، في البُخَارِيِّ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((تَحَرَّوا لَيلَةَ القَدرِ في الوِترِ مِنَ العَشرِ الأَوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ)).
وَفي مُسلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((التَمِسُوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ -يَعنِي لَيلَةَ القَدرِ- فَإِن ضَعُفَ أَحَدُكُم أَو عَجَزَ فَلا يُغلَبَنَّ عَلَى السَّبعِ البَوَاقِي)).
وَقَد وَرَدَت أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأَقوَالٌ عَنِ الصَّحَابَةِ في تَعيِينِ لَيلَةِ القَدرِ، غَيرَ أَنَّهَا لا تَخرُجُ عَنِ العَشرِ الأَوَاخِرِ، وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ لِذَلِكَ في تَعيِينِهَا، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِنَ الحَزمِ وَالعَقلِ بَل وَمِن حُسنِ التَّوفِيقِ، أَن يَحرِصَ المُؤمِنُ الحَصِيفُ عَلَى أَلاَّ يُفَوِّتَ مِنَ العَشرِ لَيلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ إِن فَعَلَ ذَلِكَ مُتَحَرِّيًّا لِلخَيرِ مُتَلَمِّسًا لِلأَجرِ، فَسَيُوَافِقُ لَيلَةَ القَدرِ، فَلَيسَ مِن شَرطِ إِدرَاكِهَا وَنَيلِ أَجرِهَا أَن يَعلَمَ بها، بَل إِنَّ في إِخفَائِهَا عَنِ العِبَادِ حِكَمًا عَظِيمَةً وَلا شَكَّ، وَمِن أَعظَمِهَا أَن يَجتَهِدَ المُسلِمُونَ في طَلَبِهَا وَيَجِدُّوا في تَحَرِّيهَا فَتَكثُرَ أَعمَالُهُم وَتَتَضَاعَفَ أُجُورُهُم.
أَلا فَلْنَجتَهِدْ في هَذِهِ العَشرِ طَلَبًا لِلَيلَةِ القَدرِ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- يَفعَلُ، وَلْنُضَاعِفِ العَمَلَ وَلْنَستَكثِرْ مِنَ الخَيرِ، وَلْنَتَقَرَّبْ إِلى الله وَلْنُكثِرْ مِنَ دُّعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيهِ، وَلاسِيَّمَا بما وَرَدَ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ إِن وَافَقتُ لَيلَةَ القَدرِ مَا أَقُولُ"؟ قَالَ: ((قُولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي)).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ * وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ * لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ).
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: رَوَى البُخَارِيُّ عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يُخبِرُ بِلَيلَةِ القَدرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسلِمِينَ، فَقَالَ: ((إِنِّي خَرَجتُ لأُخبِرَكُم بِلَيلَةِ القَدرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَت، وَعَسَى أَن يَكُونَ خَيرًا لَكُم، التَمِسُوهَا في السَّبعِ وَالتِّسعِ وَالخَمسِ))".
هَذَا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-حَرِيٌّ أَن يَقِفَ كُلُّ مُسلِمٍ عِندَهُ وَقفَةَ تَأَمُّلٍ طَوِيلَةً، وَأَن يُنعِمَ النَّظرَ فِيهِ وَيَتَفَكَّرَ في مَضمُونِهِ، فَبِسَبَبِ رَجُلَينِ تَخَاصَمَا في المَسجِدِ حُرِمَتِ الأُمَّةُ العِلمَ بِلَيلَةِ القَدرِ، نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- بِسَبَبِ رَجُلَينِ فَقَطْ حُرِمَتِ الأُمَّةُ هَذَا الخَيرَ؛ فَمَا الحَالُ وَقَد كَثُرَ في المُجتَمَعِ المُتَلاحُونَ حَتى لا يَكَادُ يَخلُو مِنهُم مَسجِدٌ وَلا بَيتٌ وَلا سُوقٌ؟ أَلا يَخشَى أُولَئِكَ المُتَخَاصِمُونَ المُتَقَاطِعُونَ أَن يُمنَعُوا التَّوفِيقَ لِقِيَامِ هَذِهِ اللَّيلَةِ وَيُحرَمُوا إِدرَاكَهَا، ثم أَلا يَخشَونَ إِن أَدرَكُوهَا أَلاَّ يُرفَعَ عَمَلُهُم كَمَا وَرَدَت بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ الأُخرَى؟ أَفَلا يَجعَلُونَ هَذِهِ العَشرَ بِدَايَةً لِلتَّصَالُحِ وَالتَّوَاصُلِ ونِهَايَةً لِلتَّلاحِي وَالتَّخَاصُمِ؟ فَلْنُصلِحْ قُلُوبَنَا وَلْنَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَلْنَسأَلْهُ التَّوفِيقَ وَالإِعَانَةَ، وَلْنَستَعِذْ بِاللهِ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ، وَلْنَحذَرْ عَدُوَّنَا اللَّدُودَ الشَّيطَانَ؛ فـ(إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّونَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشرِكُونَ)، وَلْنَتَجَنَّبِ المَعَاصِيَ كُلَّهَا صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، فَإِنَّهَا سَبَبُ كُلِّ بَلاءٍ وَجَالِبَةُ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَمَانِعَةٌ مِنَ كُلِّ خَيرٍ وَحَارِمَةٌ مِنَ التَّوفِيقِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: هَلْ فِينَا مَن لا يُرِيدُ العِتقَ مِنَ النَّارِ؟ هَل فِينَا مَن لا يَطمَعُ في الجَنَّةِ؟ أَلا نُحِبُّ أَن يَغفِرَ اللهُ لَنَا؟ أَيَدَّعِي العَقلَ امرؤٌ ثم يُفَرِّطَ في قِيَامِ لَيلَةٍ ثَوَابُهَا أَكثَرُ مِن عَمَلِ ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً؟
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ التَّوفِيقَ يَا رَحمَنُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الخِذلانِ وَالحِرمَانِ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ.
الكـاتب : عبد اللّه بن محمد البصري
:101::101::101::101::101::101::101::101::101::101: :101::101::101::101::101::101::101: