محمد القاضي
25-09-2013, 04:36 PM
هل ننفر الناس عن دعوتنا بأخلاقنا؟
الدكتور إياد قنيبي
اليوم كنت في إحدى الدوائر لمعاملة، فبينما أحد الموظفين يوقع معاملة تكلم بألم عن تجربته مع اللغة الإنجليزية. قال أنه، وحتى الصف الثالث الإعدادي، أي عندما كان في حوالي الخامسة عشرة من عمره، كان مستواه في اللغة الإنجليزية جيدا وينجح فيها كل مرحلة. لكن موقفا حصل معه في هذه المرحلة غير المسار تماما...
كان في مدرسة من مدارس وكالة الغوث، حيث توزَّع على الطلاب كتب جديدة وأخرى مستعملة. وكان نصيبه هذه المرة كتابا مستعملا. دخل أستاذ اللغة الإنجليزية في الحصة الأولى فقال للطلاب: افتحوا على الصفحة الأولى من الكتاب...
صاحبنا اكتشف أن الصفحة الأولى منزوعة من محلها فجعل يقلب صفحات الكتاب بحثا عنها...رآه الأستاذ فلم يدرك أنه يبحث عن الصفحة المنزوعة فقال أمام الطلاب بأسلوب فيه ازدراء: (طالب صف ثالث إعدادي ولا يفهم معنى الصفحة الأولى؟!).
صاحبنا لم يمتلك الجرأة ليبين لأستاذه السبب، فسكت، لكنه كره الأستاذ ولم يعد يتحمل رؤيته أو السماع منه، وكره معه اللغة الإنجليزية! وبدأ يرسب في اختباراتها مع أن الأستاذ كان يشرح باستفاضة، لكن سوء تعامله حرم هذا الطالب من الانتفاع بشرحه.
في أحد اختبارات الإملاء نجح صاحبنا، فاستغرب الأستاذ، فقبل أن يسلم صاحبنا ورقته أعطاء طبشورة وقال له: (اطلع على اللوح-السبورة) وأملى عليه الكلمات ليتأكد أنه لم يغش، فكتبها صاحبنا بالفعل. لم يُثنِ عليه الأستاذ بكلمة واحدة بل أعطاه ورقته وأمره بالجلوس!
مر على هذا الموقف حوالي الثلاثين عاما، لكن صاحبنا لم ينسَه، ويتكلم عن أستاذه بطريقة تنم عن أنه لا يحمل له أي ود أو احترام، بل صرح بأنه لا يستطيع مسامحته.
وصل مرحلة الثانوية العامة (التوجيهي) وقد أُحكم إغلاق أبواب قلبه أمام تعلم الإنجليزية، حتى أنه اعتاد أن ينام في حصتها. فرسب في الإنجليزية ونجح في المواد الأخرى، وكان النظام آنذاك يتطلب إعادة السنة كلها مع رسوب مادة واحدة.
أعاد السنة، وهذه المرة رُزق بأستاذ لغة إنجليزية حسن الأخلاق. لاحظ نوم صاحبنا أناء حصته فجاءه وقال له بلطف: (لماذا تعاملني بهذه الطريقة؟ لا تحترمني وتنام في حصتي، هل فيَّ شيء غلط؟ بماذا أسأت إليك؟).
فقال له صاحبنا: (يا أستاذ أنت على رأسي لكني لا أستوعب الإنجليزية ولا أفهمها). قال له الأستاذ: (كيف تقول هذا كتابي بالإنجليزية؟) قال صاحبنا: (This is a book). فقال الأستاذ: (والله إنك شاطر! ممتاز...أنا كنت اعرف أنك تعرف الإنجليزية. هي كما قلت لكن بدقة أكثر: This is my book) وبدأ يشجعه.
أصبح صاحبنا يتيقظ في الحصة وينتبه للأستاذ احتراما له حتى لا يخيب ظنه فيه، ونجح هذه المرة في الإنجليزية.
إخوتي، الحقيقة التي ننساها كثيرا: أننا مهما امتلأنا بالعلم وتسلحنا بالحجة وحفظنا الأدلة عن ظهر قلب، فإن الناس لن ينتفعوا بهذا كله إن كرهونا!
إن كان الله تعالى قد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك))، وهو...رسول الله، المؤيد المعجزات الباهرات الدالات على صدقه، والذي لا ينطق بــ(رأيه) أو (اجتهاده) بل بالحق المبين ((وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) )).
ومع ذلك كله، لو كان رسول الله فظا لانفض الناس من حوله، فكيف بنا نحن البشر الذين ليس لدينا معجزات، ولا نحن معصومون ؟!
في الحديث الذي حسنه الألباني وحسن إسنادَه ابن حجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم ، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ ، وحُسْنُ الخُلُقِ)).
فلنتواصَ إخوتي بأن نعتني بحسن الخلق والرحمة بالناس ما لا يقل عن اعتنائنا بإقامة الحجة والامتلاء بالعلم، وإلا حرمنا الناس من الخير الذي نريد إيصاله إليهم وأصبح ما لدنا من علم كنوزا مدفونة خلف أسوار الجفاء.
الدكتور إياد قنيبي
اليوم كنت في إحدى الدوائر لمعاملة، فبينما أحد الموظفين يوقع معاملة تكلم بألم عن تجربته مع اللغة الإنجليزية. قال أنه، وحتى الصف الثالث الإعدادي، أي عندما كان في حوالي الخامسة عشرة من عمره، كان مستواه في اللغة الإنجليزية جيدا وينجح فيها كل مرحلة. لكن موقفا حصل معه في هذه المرحلة غير المسار تماما...
كان في مدرسة من مدارس وكالة الغوث، حيث توزَّع على الطلاب كتب جديدة وأخرى مستعملة. وكان نصيبه هذه المرة كتابا مستعملا. دخل أستاذ اللغة الإنجليزية في الحصة الأولى فقال للطلاب: افتحوا على الصفحة الأولى من الكتاب...
صاحبنا اكتشف أن الصفحة الأولى منزوعة من محلها فجعل يقلب صفحات الكتاب بحثا عنها...رآه الأستاذ فلم يدرك أنه يبحث عن الصفحة المنزوعة فقال أمام الطلاب بأسلوب فيه ازدراء: (طالب صف ثالث إعدادي ولا يفهم معنى الصفحة الأولى؟!).
صاحبنا لم يمتلك الجرأة ليبين لأستاذه السبب، فسكت، لكنه كره الأستاذ ولم يعد يتحمل رؤيته أو السماع منه، وكره معه اللغة الإنجليزية! وبدأ يرسب في اختباراتها مع أن الأستاذ كان يشرح باستفاضة، لكن سوء تعامله حرم هذا الطالب من الانتفاع بشرحه.
في أحد اختبارات الإملاء نجح صاحبنا، فاستغرب الأستاذ، فقبل أن يسلم صاحبنا ورقته أعطاء طبشورة وقال له: (اطلع على اللوح-السبورة) وأملى عليه الكلمات ليتأكد أنه لم يغش، فكتبها صاحبنا بالفعل. لم يُثنِ عليه الأستاذ بكلمة واحدة بل أعطاه ورقته وأمره بالجلوس!
مر على هذا الموقف حوالي الثلاثين عاما، لكن صاحبنا لم ينسَه، ويتكلم عن أستاذه بطريقة تنم عن أنه لا يحمل له أي ود أو احترام، بل صرح بأنه لا يستطيع مسامحته.
وصل مرحلة الثانوية العامة (التوجيهي) وقد أُحكم إغلاق أبواب قلبه أمام تعلم الإنجليزية، حتى أنه اعتاد أن ينام في حصتها. فرسب في الإنجليزية ونجح في المواد الأخرى، وكان النظام آنذاك يتطلب إعادة السنة كلها مع رسوب مادة واحدة.
أعاد السنة، وهذه المرة رُزق بأستاذ لغة إنجليزية حسن الأخلاق. لاحظ نوم صاحبنا أناء حصته فجاءه وقال له بلطف: (لماذا تعاملني بهذه الطريقة؟ لا تحترمني وتنام في حصتي، هل فيَّ شيء غلط؟ بماذا أسأت إليك؟).
فقال له صاحبنا: (يا أستاذ أنت على رأسي لكني لا أستوعب الإنجليزية ولا أفهمها). قال له الأستاذ: (كيف تقول هذا كتابي بالإنجليزية؟) قال صاحبنا: (This is a book). فقال الأستاذ: (والله إنك شاطر! ممتاز...أنا كنت اعرف أنك تعرف الإنجليزية. هي كما قلت لكن بدقة أكثر: This is my book) وبدأ يشجعه.
أصبح صاحبنا يتيقظ في الحصة وينتبه للأستاذ احتراما له حتى لا يخيب ظنه فيه، ونجح هذه المرة في الإنجليزية.
إخوتي، الحقيقة التي ننساها كثيرا: أننا مهما امتلأنا بالعلم وتسلحنا بالحجة وحفظنا الأدلة عن ظهر قلب، فإن الناس لن ينتفعوا بهذا كله إن كرهونا!
إن كان الله تعالى قد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك))، وهو...رسول الله، المؤيد المعجزات الباهرات الدالات على صدقه، والذي لا ينطق بــ(رأيه) أو (اجتهاده) بل بالحق المبين ((وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) )).
ومع ذلك كله، لو كان رسول الله فظا لانفض الناس من حوله، فكيف بنا نحن البشر الذين ليس لدينا معجزات، ولا نحن معصومون ؟!
في الحديث الذي حسنه الألباني وحسن إسنادَه ابن حجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم ، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ ، وحُسْنُ الخُلُقِ)).
فلنتواصَ إخوتي بأن نعتني بحسن الخلق والرحمة بالناس ما لا يقل عن اعتنائنا بإقامة الحجة والامتلاء بالعلم، وإلا حرمنا الناس من الخير الذي نريد إيصاله إليهم وأصبح ما لدنا من علم كنوزا مدفونة خلف أسوار الجفاء.