بسمه
17-01-2014, 09:31 PM
أسطورة البدايات.. والحياة على الأرض
http://www.alqabas.com.kw/sites/default/files/imagecache/3columns/article/original/2014/01/13/517213.jpg
تظل الأسطورة هي الجمال الأبرز في مخيلة الأدباء، كثير منهم يسعى لاستلهامها، وبعضهم يقوم على خلق افتراضات كبرى بموازاتها، وأغلبهم ينتج عالماً مشبعاً بالغواية على غرارها، عالماً يطغى أحياناً على الفكرة والأهداف فيصبح متاهة لا تضيف إلى قارئه بقدر ما تقف عند حدود تفسير نشأة العالم وآلية ديمومة الصراع به.
في أسطورته الخاصة «حجر الخلفة» الصادرة أخيراً عن سلسلة إبداعات الثورة في قصور الثقافة، قدّم الكاتب أسامة حبشي مزجاً ما بين الواقع والتاريخ والفنتازيا، ناسجاً من العناصر الثلاثة أسطورة عن بداية العالم ونهايته، حيث «نون» رمز الماء والمحيط الأزلي في الثقافة الفرعونية، وحيث «ألف» رمز التصحر والرمل، وحيث الصراع الأبدي بينهما للسيطرة على العالم، ومن بين احتدام الصراع وقرب نهاية الوجود تتكشف الحقيقة الأزلية، حيث لا نهاية ولا وجود من الأساس، فالعالم محض فكرة في جوف نون وألف، العالم لم يخرج بعد عن كونه صوراً في مخيلة الخالق في أسطورة الفرعونية هيمنت على الكثيرين.
معتقدات الشعوب
في هذه الرواية استعرض حبشي عدداً من أساطير الخلق لدى المصريين القدامى واليابانيين القدماء وبعض القبائل الهندية شبه المنقرضة، استعرض البدايات الدافعة لسير الحياة على الأرض، البدايات التي خلقت القوانين الحاكمة للعمران البشري بحسب منطوق ابن خلدون، حيث القبائل التي تعلي من سطوة الأم، والشعوب التي تؤمن بسيرورة الوجود عبر تغير الأشكال، وحيث المصريون الذين تركوا بصماتهم على المناطق المحيطة بهم، والأفكار اللاهوتية الناشئة لديها، وما نتج عن ذلك من صراع وتلاقح على هيئة وتصوف مغرق في الفناء بالذات الإلهية.
الحياة اليومية
من الأرض بدأ حبشي نصه، حيث الحياة الريفية البسيطة، وحيث القرى والحقول وتفاصيل الحياة اليومية لدى القرويين، وبالصراع السماوي انتهى، حيث الآلهة الكبرى وصراعها الذي قد يفني العالم أو يعيد إنتاجه من جديد، هكذا نشأت أسطورة «نون» التي قالت كل النبوءات إنها مصدر شؤم على من تعرفهم، فمات والدها في يوم ميلادها، وماتت أمها واحترقت بيوت قريتها، وقام جمل بتربيتها لتبتلعه في النهاية على هيئة بخار.
الفناء في الاسطورة
ماتت كاميليا التي آوتها بعدما رأتها تبتلع المجذوب، بعدها تحول النص من الطرح والتحليل وبناء العالم على هامش الأسطورة إلى الفناء في الأسطورة والسقوط في لذتها، هذا الإغواء المحيل إلى عدمية لا يساويها سوى فناء الصوفي في الذات الكلية وتجلياتها، فتحول النص إلى قصة صراع بين آلهة الأوليمب، ألف ونون، وهو الصراع الدائم بين الخير والشر.
انحاز الكاتب الحكيم والساحرة العرافة لنون، وكلهم ساعدوها وكلهم قدموا لها أنفسهم راضين للذوبان في جوفها، بينما ألف، رمز الرجولة والذكورة والتصحر فلم يكن يبتلع سوى الرجال.
اللقاء المنتظر
ومثلما اختفت النساء في جنوب العالم في جوف نون، فقد اختفى الرجال في شماله بجوف ألف، ولم يبق سوى اللقاء المنتظر بين إلهي الذكورة والأنوثة.
ربما كان الجزء الأول من النص هو الأكثر أهمية لارتباطه بالحياة، واستفادته من أسطورة اخترعها حبشي لتضيف إلى نصه، وهي حجر الخلفة المنسي، منذ فكر «تحت» في خلق الوجود من حوله، حجر الخلفة الذي عرفته نون القديمة فأنجبت منه عشرات البطون، وسلبت كل الرجال قدرتهم، حجر الخلفة الذي انتبهت نساء القرى إلى فعله السحر وطقوسه المازجة ما بين الدم والألم ومنح الحياة، هذا الحجر الذي خدمته نبوية لسنين عدة، وشاهدت كيف حملت النساء منه دون أن تستطيع هي الاحتفظ بأي من أبناء زوجها قاطع الطريق، حتى تحققت النبوءة وأنجبت نون ذات الفأل السيئ، ولكن الكاتب لم يخلص لفكرته التي ظلت طريقها، فبعدما بدت نون رمز الشر بحرائقها أصبحت رمز الخير وساعدها في رحلتها كل ما هو معرفي ومقدس كالكتابة والسحر، بينما ظل ألف مجهولاً وجافاً وغير متاح إنسانياً، لنجد في النهاية قصة حب خفي بينهما، قصة صراع دائم بالأسلحة يفتح كل منهما فيها جوف الآخر، فيخرج منه العالم المختفي إلى الوجود.
أساطير معاونة
ثمة أساطير معاونة في النص، كالجنية زوجة قاطع الطريق التي كانت تملأ الوجود عطراً آن جماعه اليومي لها، وأساطير الخلق لدى اليونانيين والمصريين والهنود، ولكننا لا نعرف الهدف من الأسطورة، ولا قانون عملها، لنصبح أمام فكرة الخلق من الفناء وكأنها المبتغى في حد ذاته، فضلاً عن تدخلات الكاتب غير المتفق عليها منذ بدء النص، وكأنه سعى لقول انتبه- لقارئه- إنني أكتب أسطورة على غرار أساطير العالم القديم، وإنه حدث في هذه الأساطير ما يبرر وجود أسطورتي.
ولكن ذلك بدا كاستعراض معرفي دون توظيف له في إطار الأسطورة ذاتها.
خيال جامح
يتمتع الكاتب بلغة تتناسب مع فعل الأسطورة في النفس، لغة هادئة بسيطة أميل إلى المجاز الشعري عن الرصد اليومي، وبأسلوب محكم، وإيقاع ناعم، وخيال جامح، وقدرة على بناء عالم افتراضي مواز للعالم الواقعي، ثقافة متنوعة، ورغبة في تحليل الفعل الأسطوري وأهميته في النفس البشرية وقدراته القديمة في تفسير الكون وديمومة الصراع، مذكراً لنا بأعمال لمحمد ناجي في «خافية قمر»، وإبراهيم الكوني في «السحرة» وياسوناري كاواباتا في «منزل الجميلات النائمات» وخوان رولفو في «بدرو بارامو»، ولكنه لم تكن لديه الجرأة الكافية لإكمال أسطورته مثلهم، فلم يستطع ربطها بالواقع ولا تنتميتها في إطار اتفاقه الضمني مع القارئ، وظل الحجر الخلفة هو المفصل الأهم في هذه الأسطورة، حيث استفادته من الريف بخياله الخصب، وربطه بالثقافة الفرعونية والإسلامية واليونانية، مقدماً التحية للماء وقدرته على منح الحياة في مجتمع يقوم على هبة النيل
http://www.alqabas.com.kw/sites/default/files/imagecache/3columns/article/original/2014/01/13/517213.jpg
تظل الأسطورة هي الجمال الأبرز في مخيلة الأدباء، كثير منهم يسعى لاستلهامها، وبعضهم يقوم على خلق افتراضات كبرى بموازاتها، وأغلبهم ينتج عالماً مشبعاً بالغواية على غرارها، عالماً يطغى أحياناً على الفكرة والأهداف فيصبح متاهة لا تضيف إلى قارئه بقدر ما تقف عند حدود تفسير نشأة العالم وآلية ديمومة الصراع به.
في أسطورته الخاصة «حجر الخلفة» الصادرة أخيراً عن سلسلة إبداعات الثورة في قصور الثقافة، قدّم الكاتب أسامة حبشي مزجاً ما بين الواقع والتاريخ والفنتازيا، ناسجاً من العناصر الثلاثة أسطورة عن بداية العالم ونهايته، حيث «نون» رمز الماء والمحيط الأزلي في الثقافة الفرعونية، وحيث «ألف» رمز التصحر والرمل، وحيث الصراع الأبدي بينهما للسيطرة على العالم، ومن بين احتدام الصراع وقرب نهاية الوجود تتكشف الحقيقة الأزلية، حيث لا نهاية ولا وجود من الأساس، فالعالم محض فكرة في جوف نون وألف، العالم لم يخرج بعد عن كونه صوراً في مخيلة الخالق في أسطورة الفرعونية هيمنت على الكثيرين.
معتقدات الشعوب
في هذه الرواية استعرض حبشي عدداً من أساطير الخلق لدى المصريين القدامى واليابانيين القدماء وبعض القبائل الهندية شبه المنقرضة، استعرض البدايات الدافعة لسير الحياة على الأرض، البدايات التي خلقت القوانين الحاكمة للعمران البشري بحسب منطوق ابن خلدون، حيث القبائل التي تعلي من سطوة الأم، والشعوب التي تؤمن بسيرورة الوجود عبر تغير الأشكال، وحيث المصريون الذين تركوا بصماتهم على المناطق المحيطة بهم، والأفكار اللاهوتية الناشئة لديها، وما نتج عن ذلك من صراع وتلاقح على هيئة وتصوف مغرق في الفناء بالذات الإلهية.
الحياة اليومية
من الأرض بدأ حبشي نصه، حيث الحياة الريفية البسيطة، وحيث القرى والحقول وتفاصيل الحياة اليومية لدى القرويين، وبالصراع السماوي انتهى، حيث الآلهة الكبرى وصراعها الذي قد يفني العالم أو يعيد إنتاجه من جديد، هكذا نشأت أسطورة «نون» التي قالت كل النبوءات إنها مصدر شؤم على من تعرفهم، فمات والدها في يوم ميلادها، وماتت أمها واحترقت بيوت قريتها، وقام جمل بتربيتها لتبتلعه في النهاية على هيئة بخار.
الفناء في الاسطورة
ماتت كاميليا التي آوتها بعدما رأتها تبتلع المجذوب، بعدها تحول النص من الطرح والتحليل وبناء العالم على هامش الأسطورة إلى الفناء في الأسطورة والسقوط في لذتها، هذا الإغواء المحيل إلى عدمية لا يساويها سوى فناء الصوفي في الذات الكلية وتجلياتها، فتحول النص إلى قصة صراع بين آلهة الأوليمب، ألف ونون، وهو الصراع الدائم بين الخير والشر.
انحاز الكاتب الحكيم والساحرة العرافة لنون، وكلهم ساعدوها وكلهم قدموا لها أنفسهم راضين للذوبان في جوفها، بينما ألف، رمز الرجولة والذكورة والتصحر فلم يكن يبتلع سوى الرجال.
اللقاء المنتظر
ومثلما اختفت النساء في جنوب العالم في جوف نون، فقد اختفى الرجال في شماله بجوف ألف، ولم يبق سوى اللقاء المنتظر بين إلهي الذكورة والأنوثة.
ربما كان الجزء الأول من النص هو الأكثر أهمية لارتباطه بالحياة، واستفادته من أسطورة اخترعها حبشي لتضيف إلى نصه، وهي حجر الخلفة المنسي، منذ فكر «تحت» في خلق الوجود من حوله، حجر الخلفة الذي عرفته نون القديمة فأنجبت منه عشرات البطون، وسلبت كل الرجال قدرتهم، حجر الخلفة الذي انتبهت نساء القرى إلى فعله السحر وطقوسه المازجة ما بين الدم والألم ومنح الحياة، هذا الحجر الذي خدمته نبوية لسنين عدة، وشاهدت كيف حملت النساء منه دون أن تستطيع هي الاحتفظ بأي من أبناء زوجها قاطع الطريق، حتى تحققت النبوءة وأنجبت نون ذات الفأل السيئ، ولكن الكاتب لم يخلص لفكرته التي ظلت طريقها، فبعدما بدت نون رمز الشر بحرائقها أصبحت رمز الخير وساعدها في رحلتها كل ما هو معرفي ومقدس كالكتابة والسحر، بينما ظل ألف مجهولاً وجافاً وغير متاح إنسانياً، لنجد في النهاية قصة حب خفي بينهما، قصة صراع دائم بالأسلحة يفتح كل منهما فيها جوف الآخر، فيخرج منه العالم المختفي إلى الوجود.
أساطير معاونة
ثمة أساطير معاونة في النص، كالجنية زوجة قاطع الطريق التي كانت تملأ الوجود عطراً آن جماعه اليومي لها، وأساطير الخلق لدى اليونانيين والمصريين والهنود، ولكننا لا نعرف الهدف من الأسطورة، ولا قانون عملها، لنصبح أمام فكرة الخلق من الفناء وكأنها المبتغى في حد ذاته، فضلاً عن تدخلات الكاتب غير المتفق عليها منذ بدء النص، وكأنه سعى لقول انتبه- لقارئه- إنني أكتب أسطورة على غرار أساطير العالم القديم، وإنه حدث في هذه الأساطير ما يبرر وجود أسطورتي.
ولكن ذلك بدا كاستعراض معرفي دون توظيف له في إطار الأسطورة ذاتها.
خيال جامح
يتمتع الكاتب بلغة تتناسب مع فعل الأسطورة في النفس، لغة هادئة بسيطة أميل إلى المجاز الشعري عن الرصد اليومي، وبأسلوب محكم، وإيقاع ناعم، وخيال جامح، وقدرة على بناء عالم افتراضي مواز للعالم الواقعي، ثقافة متنوعة، ورغبة في تحليل الفعل الأسطوري وأهميته في النفس البشرية وقدراته القديمة في تفسير الكون وديمومة الصراع، مذكراً لنا بأعمال لمحمد ناجي في «خافية قمر»، وإبراهيم الكوني في «السحرة» وياسوناري كاواباتا في «منزل الجميلات النائمات» وخوان رولفو في «بدرو بارامو»، ولكنه لم تكن لديه الجرأة الكافية لإكمال أسطورته مثلهم، فلم يستطع ربطها بالواقع ولا تنتميتها في إطار اتفاقه الضمني مع القارئ، وظل الحجر الخلفة هو المفصل الأهم في هذه الأسطورة، حيث استفادته من الريف بخياله الخصب، وربطه بالثقافة الفرعونية والإسلامية واليونانية، مقدماً التحية للماء وقدرته على منح الحياة في مجتمع يقوم على هبة النيل