مصعب الأحمد
03-02-2014, 08:48 PM
المبالغة في حياتنا
انني وأنا أكتب هذا المقال اشعر بأنه المقال الذي لا مثل له في الأدب العربي والعصر الحديث انه يحاكي ما كتبه أكابر اللغة والبيان في معناه وسبكه وصياغة ألفاظه وجذولتها وفن تركيب المعاني والتعبير عن الصورة، اعتصرت به مخزون الفكر وملتقى العقل والمنطق ، ولعل هذا المقال ان لم يغير مجرى التاريخ لا بد ان يغير فكر القارئ فيخرج بغير النفس التي دخل بها .....إلخ إلخ ....
انه وبمثل هذه العبارات نرى المبالغة في حياتنا اليومية إلى حد يثير السخط والاشمئزاز والسخف في بعض الأحيان وتضخيم الأمور ليجعلوا كما يقال ( من الحبة قبة ) وهي عادة الناس انهم يبالغون بحسن أو بسوء نية ، بقصد أو بغيره إلى إسبال صيغ وأوصاف من المبالغة لا تتفق مع الواقع وأحيانا مع المنطق والعقل .والغريب أنها على حد سواء ربما توجد عند العالم والجاهل .
كانت العرب قديما وحديثا لا تخلوا حياتهم من المبالغات
من ذلك قول أبي العتاهية يمدح الخليفة :
أتته الخلافة منقادة.... إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ....ولم يك يصلح إلا لها
ولو سامها أحد غيره ....لزلزلت الأرض زلزالها
فقال بشار بن برد الأعمى انظر لي الخليفة وهو يسمع هذا الكلام هل طار من فوق كرسيه أم لا ؟
وقول الشاعر الأندلسي وهو يمدح خليفته :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار .... فاحكم فأنت الواحد القهار
وبالغ العرب في الحب والعشق فرأيت قائلهم يقول :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ..... مالذة العيش إلا للمجانين
وآخر يقول :
ولكنه الحب الذي لو تعلقت ... شرارته بالجمر لاحترق الجمر
,آخر :
وما زاد ماء النيل إلا لأنني .... وقفت به أبكي فراق الحبائب
ولو أنه قال ماء جدول صغير لربما استسيغ له !!
وآخر :
تواريت بدمعي عن عيون الرقباء
وقول آخر :
وكففت دمعا لو أسلت شؤونه ... ما شك أمرؤ أنه البحر
وقولي وأنا أصف جنازة :
وجاء الناس من شرق وغرب... بأعداد يضيق بها الفضاء
وخال الناس ان الحشر هذا ... وذا يوم التغابن والفناء
فوا عجبا ما هذا الذي نقوله ، وما ذاك الذي يصفون ، ولعل من الواجب على علماء اللغة ان يتوسعوا في شرح معاني الهذيان ليشمل مثل هذا الكلام ..
والناس في كل العصور تسري فيهم هذه الخصلة الذميمة في شتى مفاصل الحياة ونحن اذ نتكلم لا نتكلم عم يصف الواقع على حقيقته بل على المغالي والمبالغ فيه .
فتراهم في تقديس الأشخاص يقولون وحيد زمانه ، فريد عصره ، حجة الدين ، فخر الأولياء العارفين ، العالم العلامة ، البحر الفهامة ، رجل عظيم ما عرف التاريخ شبيها ، عقمت الأرحام ان يلدن مثله ، الفرد الأوحد ،أعجوبة الزمان ، ونادرة الأيام ، وكأن الألقاب صدقة يتصدق بها أو وسام شرف فخري يعطي لأي إنسان .
فيقولون عن المشتغل بالفقه فقيه ومجتهد ، وعن المشتغل بالتفسير والحديث المدرس لهما مفسر محدث ، وعن موظف الفتوى مفتي وقاض ، دون واقعية تناط بالعلماء والشيوخ والمشتغلين بالعلم ، وما كانت هذه الألقاب فيما مضى تطلق جزافا وإنما تطلق على من يستحقها وهو حقيق بها في مجتمع العلماء على الأقل .فلا يقولون لكل صاحب سند محدث ، ولا لكل حافظ كتاب أصول مجتهد ولا لكل عارف باللغة لغوي متفنن ولا لكل حافظ مقرئ جامع ، ولا لكل خطيب مفوه ، ولا لكل متعالم عالم .
وفي النساء يقولون سيدة النساء وملكة جمال الكون ، ورائعة الروائع وحورية الجنان وفائقة الجميع ومرآة القمر ..
وفي الزعماء يقولون قائد الأمة وحامل لواء المقاومة وملك الملوك وسيد العالم ومدبر الأمر وصاحب الغبطة والنيافة والسماحة والفخامة . مما جعل بعض المعتوهين من الحكام ينتشون ويتيهون عجبا وصلفا وكبرا ، ويتمسكون بالحكم إلى آخر قطرة من دمهم ، وجعلهم ظلمة مجرمين مستبدين مستكبرين ، لا يتخيلون حياتهم دون هذا المنصب ولو حازوا مال الدنيا ، وسرت سراية في بعض الجهال من الدهماء ممن لا ثقافة عنده فصار لا يتخيل حياته بدون هذا القائد مصدقا ما يشاع ومؤمنا بما يقال من تلك الترهات .
وعند وصف العدو تراهم يكبرون شأن العدو فيجعلونه الجيش الذي لا يقهر والقوة التي لا تهزم وأنه صاحب القدرات الاستثنائية وهو القادر على معرفة دواخل كل أمر وكل ما يجري في الكون من أمور بتدبيره وتخطيطه وتآمره والقادر على ان يطلع على أسرار الدول واغتيال من يريد والوصول إلى حيث يشاء مما أوهن العزيمة في نفوس الأمة فكان أحدهم في بغداد يوم دخول المغول يقول له المغولي اجلس مكانك ولا تتحرك سأرجع وأذبحك فيرجع بعد يوم أو أكثر فيراه جالسا مستكينا ينتظر حتفه ـ وهي مما جعل الناس يعتبرون أن العدو أمر الله الذي لا مرد له وقضاءه المبرم الذي لا يتغير ، فعطلوا فريضة الجهاد وخنعوا لحكامهم ولعدوهم
وفي الكتب والأشعار والمؤلفات يقولون هذا الكتاب لا مثل له في التاريخ ، لم يؤلف ولن يؤلف شبيه له ، وهو الكتاب الذي وضع النقاط على الحروف ، وبين الحقائق وأكد الشواهد لم يأت قلم بأحسن مما جاء به ولن يأت !! وتلك قصيدة جمعت وفرقت وباعدت وأزلفت وهي منسوجة من الخيال لا يكون لأحد أن يأتي بنحو منها على أن يأتي بمثلها .
وقولهم في أقوال بعض الرجال لو جازت الصلاة بغير القرآن لجازت بأقوال فلان وحكمه .
وفي العبادة والعلاقة مع الخالق سبحانه يبالغ البعض فينتابهم تشدد وتعنت وتعذيب ورهبنة وأفراط وتفريط ، فيتواكل بدعوى التوكل ، ويخنع ويتذلل بدعوى التواضع ، ويترك العمل بدعوى الزهد والانقطاع عن الدنيا ، ويهمل حقوق الآخرين لأن حق الله أوجب من حقهم ولا يعلم ان من حقوق الله ان تقوم بحقوق الناس .وفي الوضوء في والغسل والنظافة لدرجة المرض النفسي والوسوسة وما دعينا إلى هذا بل إلى التوسط والاعتدال ..
ويبالغ البعض بالحب والاهتمام والغيرة مبالغة تجعل منه هذيانا لا يطاق فتراها تقول لا استطيع العيش من دونه ، واخرى تلقى بنفسها من شاهق لأن خطيبها تركها ، وآخر يصاب بنوبة قلبية لأن حبيبته لم ترد على هاتفها ،
ومنه ما يقول ذلك الدعي :
آتي إلى الأبواب من غير حاجة ... لعلي أراكم أو أرى من يراكموا
ولا أدري ما حاجته فيمن يراكموا ؟
وامرأة تمرض وتذهب إلى المستشفى لأنها رأت زوجها يتكلم مع امرأة أجنبية .
ويبلغ بعض الدعاة في تصوير الأمور التي تتعلق بتحريم بعض المنكرات ليثنوا الناس عنها بحسن نية أو جهل فيتيهون بأدلة واثباتات ودراسات واستنباطات إلى ان هذه المنكرات هي سبب الدمار والتلف والهلاك والخرف وهي وان كان فيها بعض ما يقولون ولكنه قدر لا يستدعي كل تلك المبالغات مما يجعل المستمع يستغرب مما يقولون وهو يعلم قدر المبالغة والتضخيم فيه فيعرض عن كلامهم جملة واحدة وينكره ..
ويبالغ البعض في انكار الآخر حتى انه لا يكتفي بإبطال رأيه وهدم حجته بل يدعوا الى حمل السيف عليه وقتاله ويصفه بالمارق والكافر والزنديق والفاجر وما الأمر إلا انه لا يرى رأيه ولا يوافقه في بعض مسألة لا تصل حد التكفير!
والمبالغة في تربية الأبناء والاعتناء بهم يسئ لهم أكثر ربما من تركهم والتخلي عنهم فينشئ جيلا مهزوم الشخصية ضحل الثقة بالنفس اتكاليا بكل شؤونه على غيره .
فيا لله ما يفعل هؤلاء وما يقولون ؟ انهم يسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون . انهم لا يدركون توابع مبالغاتهم على أنفسهم ومجتمعاتهم . والبعض منهم ولكي يتحرروا من مغبة المبالغة والانكار يستخدمون مخففاتها من الأدوات كمثل " لعله ، ربما ، لو ...ألخ إلى ان ذالك لا يلغي تلك التبعات وان كان يخفف سطوتها .
إن المبالغة بالثقة بالنفس غرور أو نرجسية ، وهي بالحب جنون أو سفه ، وهي ردة الأفعال مدعاة للخسران وفقد الأصحاب والأحباب ونقص المنزلة وفقد الحكمة ، و بالمدح ذم ونفاق ، وفي بالتجارة مدعاة للفشل والخسران ، و في الحزن مفسدة للعقل والقلب وفي الكره مدعاة للحقد والحسد والكيد ، و في اللبس والتجمل مرض اجتماعي وفي المظاهر نقص في النفس استوجب أن يرفعها ويدفعها ليعلوا بها فتعلوا به وهي مدعاة للغرور والأنا ، وفي الألقاب كذب وافتراء ، وفي الإعلام فقدان للمصداقية ، وبالشجاعة تهور وهلكة وفي تأييد الرأي مدعاة لفساده من أصله وانكاره ، وفي وصف الغير ظلم وعدم انصاف ، وفي النظر إلى المشاكل تعقيد للمشاكل .وفي الانفاق اسراف وتبذير وفي عدمه شح وتقتير .والمبالغة في الخوف من العين كأنهم وصلوا درجة الكمال والناس لم يعد لها هم الا ان تصيبهم بالعين مع ان احدا لا يراهم ! وان فشلوا في الدراسة يقولون العين والحسد لا الكسل والجهل ، ويجعلون كل طلاق بين زوجين سببه سحر من احدى الطرفين كأنه لا مسير لهذا الكون الا السحر والشعبذة ..
والمبالغة في الوصف كالمبالغة في الفعل أمر مذموم ،وهي إن كانت مخالفة للحقيقة تكون بهتان أو كذبا أو تضليلا أو استهانة واستخفاف استخفاف لان من مدحك بما ليس فيك فقد ذمك ، تضليل لأن المستمع جاهل للوصف متلق للعلم يأخذ ما يملى عليه ، وكذب لأنها حقيقة بشرط مخالفة الواقع لمقتضى الحال
فالإسلام نهى عن الكذب والتنطع ، وادعاء ما لم يكن ، وحب المرء أن يحمد بما لم يفعل ، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تبرأ من المغالين حتى في العبادة بقوله عن رجال سألوا عن عبادته فكأنهم تقالوها ، فقال: " أما أنا فأصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "
ونهى عن والبهتان والظلم والغلو والتهور والنفاق والغرور والكيد والحسد وكل ما هو من نتائج الغلو وتبعاته
وقد نهى عن المبالغة في الحب والكره فجاء في الحديث الذي رواه الترمذي " أحبب حبيبك هونا ما عسى يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى يكون حبيبك يوما ما "
والنصارى ما ضلوا حين ضلوا إلا لما سرت فيهم خصلة المبالغة بالتقديس فأطرو سيدنا عيسى ليجعلوا منه وأمه إلهين مع الله وكذا اليهود أيضا حينما تذللوا لفرعون وأناخوا له قيادهم وبلاغوا في التصاغر له فاستعلى فيهم علوا كبيرا وعتى حتى قال " ما أريكم إلا ما أرى "
فذمهم الله تعالى قبل أن يذم فرعون وألقى باللائمة عليهم بقوله " فاستخف قومه فأطاعوه أنهم كانوا قوما فاسقين "
ونهى عن الرهبانية والتنطع بالعبادة والشق على الأمة وتحميلها ما لا تطاق ..
اننا عندما نضع الأمور في موازينها ونعطي الأشياء أحجامها الطبيعية نتخلص من تبعات المبالغة التي هي مفسدو كبيرة للنفس البشرية والمجتمع الانساني قد تصل بالأمر إلى تفكك الأسر وفساد الدين والعلم وشرخ كبير في بنية المجتمع الانساني ..
الكاتب مصعب الأحمد بن أحمد :101:
انني وأنا أكتب هذا المقال اشعر بأنه المقال الذي لا مثل له في الأدب العربي والعصر الحديث انه يحاكي ما كتبه أكابر اللغة والبيان في معناه وسبكه وصياغة ألفاظه وجذولتها وفن تركيب المعاني والتعبير عن الصورة، اعتصرت به مخزون الفكر وملتقى العقل والمنطق ، ولعل هذا المقال ان لم يغير مجرى التاريخ لا بد ان يغير فكر القارئ فيخرج بغير النفس التي دخل بها .....إلخ إلخ ....
انه وبمثل هذه العبارات نرى المبالغة في حياتنا اليومية إلى حد يثير السخط والاشمئزاز والسخف في بعض الأحيان وتضخيم الأمور ليجعلوا كما يقال ( من الحبة قبة ) وهي عادة الناس انهم يبالغون بحسن أو بسوء نية ، بقصد أو بغيره إلى إسبال صيغ وأوصاف من المبالغة لا تتفق مع الواقع وأحيانا مع المنطق والعقل .والغريب أنها على حد سواء ربما توجد عند العالم والجاهل .
كانت العرب قديما وحديثا لا تخلوا حياتهم من المبالغات
من ذلك قول أبي العتاهية يمدح الخليفة :
أتته الخلافة منقادة.... إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ....ولم يك يصلح إلا لها
ولو سامها أحد غيره ....لزلزلت الأرض زلزالها
فقال بشار بن برد الأعمى انظر لي الخليفة وهو يسمع هذا الكلام هل طار من فوق كرسيه أم لا ؟
وقول الشاعر الأندلسي وهو يمدح خليفته :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار .... فاحكم فأنت الواحد القهار
وبالغ العرب في الحب والعشق فرأيت قائلهم يقول :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ..... مالذة العيش إلا للمجانين
وآخر يقول :
ولكنه الحب الذي لو تعلقت ... شرارته بالجمر لاحترق الجمر
,آخر :
وما زاد ماء النيل إلا لأنني .... وقفت به أبكي فراق الحبائب
ولو أنه قال ماء جدول صغير لربما استسيغ له !!
وآخر :
تواريت بدمعي عن عيون الرقباء
وقول آخر :
وكففت دمعا لو أسلت شؤونه ... ما شك أمرؤ أنه البحر
وقولي وأنا أصف جنازة :
وجاء الناس من شرق وغرب... بأعداد يضيق بها الفضاء
وخال الناس ان الحشر هذا ... وذا يوم التغابن والفناء
فوا عجبا ما هذا الذي نقوله ، وما ذاك الذي يصفون ، ولعل من الواجب على علماء اللغة ان يتوسعوا في شرح معاني الهذيان ليشمل مثل هذا الكلام ..
والناس في كل العصور تسري فيهم هذه الخصلة الذميمة في شتى مفاصل الحياة ونحن اذ نتكلم لا نتكلم عم يصف الواقع على حقيقته بل على المغالي والمبالغ فيه .
فتراهم في تقديس الأشخاص يقولون وحيد زمانه ، فريد عصره ، حجة الدين ، فخر الأولياء العارفين ، العالم العلامة ، البحر الفهامة ، رجل عظيم ما عرف التاريخ شبيها ، عقمت الأرحام ان يلدن مثله ، الفرد الأوحد ،أعجوبة الزمان ، ونادرة الأيام ، وكأن الألقاب صدقة يتصدق بها أو وسام شرف فخري يعطي لأي إنسان .
فيقولون عن المشتغل بالفقه فقيه ومجتهد ، وعن المشتغل بالتفسير والحديث المدرس لهما مفسر محدث ، وعن موظف الفتوى مفتي وقاض ، دون واقعية تناط بالعلماء والشيوخ والمشتغلين بالعلم ، وما كانت هذه الألقاب فيما مضى تطلق جزافا وإنما تطلق على من يستحقها وهو حقيق بها في مجتمع العلماء على الأقل .فلا يقولون لكل صاحب سند محدث ، ولا لكل حافظ كتاب أصول مجتهد ولا لكل عارف باللغة لغوي متفنن ولا لكل حافظ مقرئ جامع ، ولا لكل خطيب مفوه ، ولا لكل متعالم عالم .
وفي النساء يقولون سيدة النساء وملكة جمال الكون ، ورائعة الروائع وحورية الجنان وفائقة الجميع ومرآة القمر ..
وفي الزعماء يقولون قائد الأمة وحامل لواء المقاومة وملك الملوك وسيد العالم ومدبر الأمر وصاحب الغبطة والنيافة والسماحة والفخامة . مما جعل بعض المعتوهين من الحكام ينتشون ويتيهون عجبا وصلفا وكبرا ، ويتمسكون بالحكم إلى آخر قطرة من دمهم ، وجعلهم ظلمة مجرمين مستبدين مستكبرين ، لا يتخيلون حياتهم دون هذا المنصب ولو حازوا مال الدنيا ، وسرت سراية في بعض الجهال من الدهماء ممن لا ثقافة عنده فصار لا يتخيل حياته بدون هذا القائد مصدقا ما يشاع ومؤمنا بما يقال من تلك الترهات .
وعند وصف العدو تراهم يكبرون شأن العدو فيجعلونه الجيش الذي لا يقهر والقوة التي لا تهزم وأنه صاحب القدرات الاستثنائية وهو القادر على معرفة دواخل كل أمر وكل ما يجري في الكون من أمور بتدبيره وتخطيطه وتآمره والقادر على ان يطلع على أسرار الدول واغتيال من يريد والوصول إلى حيث يشاء مما أوهن العزيمة في نفوس الأمة فكان أحدهم في بغداد يوم دخول المغول يقول له المغولي اجلس مكانك ولا تتحرك سأرجع وأذبحك فيرجع بعد يوم أو أكثر فيراه جالسا مستكينا ينتظر حتفه ـ وهي مما جعل الناس يعتبرون أن العدو أمر الله الذي لا مرد له وقضاءه المبرم الذي لا يتغير ، فعطلوا فريضة الجهاد وخنعوا لحكامهم ولعدوهم
وفي الكتب والأشعار والمؤلفات يقولون هذا الكتاب لا مثل له في التاريخ ، لم يؤلف ولن يؤلف شبيه له ، وهو الكتاب الذي وضع النقاط على الحروف ، وبين الحقائق وأكد الشواهد لم يأت قلم بأحسن مما جاء به ولن يأت !! وتلك قصيدة جمعت وفرقت وباعدت وأزلفت وهي منسوجة من الخيال لا يكون لأحد أن يأتي بنحو منها على أن يأتي بمثلها .
وقولهم في أقوال بعض الرجال لو جازت الصلاة بغير القرآن لجازت بأقوال فلان وحكمه .
وفي العبادة والعلاقة مع الخالق سبحانه يبالغ البعض فينتابهم تشدد وتعنت وتعذيب ورهبنة وأفراط وتفريط ، فيتواكل بدعوى التوكل ، ويخنع ويتذلل بدعوى التواضع ، ويترك العمل بدعوى الزهد والانقطاع عن الدنيا ، ويهمل حقوق الآخرين لأن حق الله أوجب من حقهم ولا يعلم ان من حقوق الله ان تقوم بحقوق الناس .وفي الوضوء في والغسل والنظافة لدرجة المرض النفسي والوسوسة وما دعينا إلى هذا بل إلى التوسط والاعتدال ..
ويبالغ البعض بالحب والاهتمام والغيرة مبالغة تجعل منه هذيانا لا يطاق فتراها تقول لا استطيع العيش من دونه ، واخرى تلقى بنفسها من شاهق لأن خطيبها تركها ، وآخر يصاب بنوبة قلبية لأن حبيبته لم ترد على هاتفها ،
ومنه ما يقول ذلك الدعي :
آتي إلى الأبواب من غير حاجة ... لعلي أراكم أو أرى من يراكموا
ولا أدري ما حاجته فيمن يراكموا ؟
وامرأة تمرض وتذهب إلى المستشفى لأنها رأت زوجها يتكلم مع امرأة أجنبية .
ويبلغ بعض الدعاة في تصوير الأمور التي تتعلق بتحريم بعض المنكرات ليثنوا الناس عنها بحسن نية أو جهل فيتيهون بأدلة واثباتات ودراسات واستنباطات إلى ان هذه المنكرات هي سبب الدمار والتلف والهلاك والخرف وهي وان كان فيها بعض ما يقولون ولكنه قدر لا يستدعي كل تلك المبالغات مما يجعل المستمع يستغرب مما يقولون وهو يعلم قدر المبالغة والتضخيم فيه فيعرض عن كلامهم جملة واحدة وينكره ..
ويبالغ البعض في انكار الآخر حتى انه لا يكتفي بإبطال رأيه وهدم حجته بل يدعوا الى حمل السيف عليه وقتاله ويصفه بالمارق والكافر والزنديق والفاجر وما الأمر إلا انه لا يرى رأيه ولا يوافقه في بعض مسألة لا تصل حد التكفير!
والمبالغة في تربية الأبناء والاعتناء بهم يسئ لهم أكثر ربما من تركهم والتخلي عنهم فينشئ جيلا مهزوم الشخصية ضحل الثقة بالنفس اتكاليا بكل شؤونه على غيره .
فيا لله ما يفعل هؤلاء وما يقولون ؟ انهم يسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون . انهم لا يدركون توابع مبالغاتهم على أنفسهم ومجتمعاتهم . والبعض منهم ولكي يتحرروا من مغبة المبالغة والانكار يستخدمون مخففاتها من الأدوات كمثل " لعله ، ربما ، لو ...ألخ إلى ان ذالك لا يلغي تلك التبعات وان كان يخفف سطوتها .
إن المبالغة بالثقة بالنفس غرور أو نرجسية ، وهي بالحب جنون أو سفه ، وهي ردة الأفعال مدعاة للخسران وفقد الأصحاب والأحباب ونقص المنزلة وفقد الحكمة ، و بالمدح ذم ونفاق ، وفي بالتجارة مدعاة للفشل والخسران ، و في الحزن مفسدة للعقل والقلب وفي الكره مدعاة للحقد والحسد والكيد ، و في اللبس والتجمل مرض اجتماعي وفي المظاهر نقص في النفس استوجب أن يرفعها ويدفعها ليعلوا بها فتعلوا به وهي مدعاة للغرور والأنا ، وفي الألقاب كذب وافتراء ، وفي الإعلام فقدان للمصداقية ، وبالشجاعة تهور وهلكة وفي تأييد الرأي مدعاة لفساده من أصله وانكاره ، وفي وصف الغير ظلم وعدم انصاف ، وفي النظر إلى المشاكل تعقيد للمشاكل .وفي الانفاق اسراف وتبذير وفي عدمه شح وتقتير .والمبالغة في الخوف من العين كأنهم وصلوا درجة الكمال والناس لم يعد لها هم الا ان تصيبهم بالعين مع ان احدا لا يراهم ! وان فشلوا في الدراسة يقولون العين والحسد لا الكسل والجهل ، ويجعلون كل طلاق بين زوجين سببه سحر من احدى الطرفين كأنه لا مسير لهذا الكون الا السحر والشعبذة ..
والمبالغة في الوصف كالمبالغة في الفعل أمر مذموم ،وهي إن كانت مخالفة للحقيقة تكون بهتان أو كذبا أو تضليلا أو استهانة واستخفاف استخفاف لان من مدحك بما ليس فيك فقد ذمك ، تضليل لأن المستمع جاهل للوصف متلق للعلم يأخذ ما يملى عليه ، وكذب لأنها حقيقة بشرط مخالفة الواقع لمقتضى الحال
فالإسلام نهى عن الكذب والتنطع ، وادعاء ما لم يكن ، وحب المرء أن يحمد بما لم يفعل ، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تبرأ من المغالين حتى في العبادة بقوله عن رجال سألوا عن عبادته فكأنهم تقالوها ، فقال: " أما أنا فأصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "
ونهى عن والبهتان والظلم والغلو والتهور والنفاق والغرور والكيد والحسد وكل ما هو من نتائج الغلو وتبعاته
وقد نهى عن المبالغة في الحب والكره فجاء في الحديث الذي رواه الترمذي " أحبب حبيبك هونا ما عسى يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى يكون حبيبك يوما ما "
والنصارى ما ضلوا حين ضلوا إلا لما سرت فيهم خصلة المبالغة بالتقديس فأطرو سيدنا عيسى ليجعلوا منه وأمه إلهين مع الله وكذا اليهود أيضا حينما تذللوا لفرعون وأناخوا له قيادهم وبلاغوا في التصاغر له فاستعلى فيهم علوا كبيرا وعتى حتى قال " ما أريكم إلا ما أرى "
فذمهم الله تعالى قبل أن يذم فرعون وألقى باللائمة عليهم بقوله " فاستخف قومه فأطاعوه أنهم كانوا قوما فاسقين "
ونهى عن الرهبانية والتنطع بالعبادة والشق على الأمة وتحميلها ما لا تطاق ..
اننا عندما نضع الأمور في موازينها ونعطي الأشياء أحجامها الطبيعية نتخلص من تبعات المبالغة التي هي مفسدو كبيرة للنفس البشرية والمجتمع الانساني قد تصل بالأمر إلى تفكك الأسر وفساد الدين والعلم وشرخ كبير في بنية المجتمع الانساني ..
الكاتب مصعب الأحمد بن أحمد :101: