صدام فكراوي
01-06-2015, 04:23 AM
صراع الأسواق والأخلاق (http://edara.com/WeeklyArticles/The_clash_between_markets_and_ethics.aspx)
حول "الفيفا" وشراء الشهادات وبيع القِيَم والذِمَم
مع تحول "اقتصاد التوفيق" إلى "اقتصاد تلفيق" يمكن لأي أحد أن يأخذ أي شيء لا يستحقه. وبالمقابل يمكن لكثير من المستحقين أن يفقدوا حقوقهم لأن الفساد الذي يسود العالم يكاد يطال كُلَّ شيء.
بما أنكم تملكون بريداً إلكترونياً، فربما أنكم تلقيتم رسائل من أشخاص تتكرر أسماؤهم بجرأة وغباء وبلا حياء. فمن المرجح أن أسماء مثل: د. "الصافي المهدي"، و"هاني عبد الله حجي"، و"جاكوب كارتر"، هي أسماء وهمية ينتحلها هؤلاء ليحققوا أرباحاً طائلة بفعل تصرفاتنا اللاعقلانية التي تصنع لهؤلاء الأدعياء أسواقاً وهميةً.
لأن اسم كل منهما يبدو عربياً؛ يُرسل كل من "المهدي" و"حجي" رسائل عشوائية بصفتهما مديرين لما يُسَمَّى "مجلس الهندسة الخليجي GEB" و"جمعية الخليج لإدارة المشاريع Gulf PMA" و"مجلس التعاون الخليجي لإدارة المشاريع" و"اللجنة الخليجية لإدارة المشاريع"، يعرضان فيها على كل من هَبَّ ودَبَّ دَفْع 399 دولاراً بدلاً من 2500 دولار للحصول على شهادة خبير إدارة مشاريع PME. أما المدعو "د. كارتر" فيدَّعي بأنه مدير "الاتحاد الأمريكي لخبراء الهندسة"، وأحياناً "المجلس الأمريكي للمهندسين المحترفين"، فيقدم نفس العرض وبنفس الصيغة، ولكن منسوباً إلى هيئات أمريكية وهمية. ولفرط سذاجة العروض التي يصدقها كثيرون، فإنهم يستخدمون "جوجل" في ترجمة العروض فتأتي ترجماتهم مُضْحكة. فهم مثلاً يترجمون "الاتحاد الأمريكي لإدارة المشاريع" إلى "أمريكا مشروع كونسورتيوم الإدارة" دون وعي منهم ومن الأغبياء الباحثين عن صكوك الشهادات المزورة.
إحدى الرسائل التي دعتني مؤخراً لأحصل على شهادة خبير في الهندسة نظراً إلى خبراتي العظيمة في هذا المجال؛ خاطبتني على أنني "م. نسيم الصمادي" وأنا أعرف أنني لست مهندساً. وفي اليوم التالي وصلتني ذات الرسالة موجهة إلى "إدارة.كوم"، أي موقعنا الإلكتروني حاملةً نفس الدعوة لـEng. Edara.com ليستثمر خبراتِه الهندسية وينتهز الفرصة ويحصل على شهادة خبير مهندس معتمد من "أمريكا مشروع كونسورتيوم الإدارة".
في يوم كتابة هذا المقال، أعاد أعضاء "الفيفا" انتخاب "بلاتر" رئيساً للاتحاد الدولي لكرة القدم رغم الفضيحة التي طالت إدارته، وهذا أمر غير منطقي ولا يقل غرابة عن كشف الستار عن الفضيحة قبل الانتخابات بيومين. فكما أن نشر غسيل "الفيفا" الوسخ قبل التصويت بساعات لا يمكن أن يكون مصادفةً، فإن إعادة انتخاب رئيس يدَّعي "الشرف الشخصي" وأن "نظامه فقط فاسد" ليس مصادفةً أيضاً. فالأسواق كما يرى علماء الاقتصاد السلوكي تعرف كيف تتعامل مع المنطق اللاعقلاني لبني البشر؛ فتستثمره وتنتهز الفُرص وتُواصل التوَّسُع حتى تدمر نفسها. وهذا ما يحدث في كرة القدم والسياسة والإعلام والتعليم وأسواق المال والأعمال: تحقيق المنفعة والربح السريع على حساب المستقبل والأخلاق والمدى الطويل.
هناك آليتان تحكمان عمل الأسواق في البيع والشراء وتحقيق المكاسب وانتهاز الفرص: الأولى هي العرض والطلب لكل منتج أو خدمة يمكن تسعيرها. فأي ملياردير يستطيع شراء طائرة أو باخرة أو بناء مدينة أو برج عملاق أو شراء نادٍ رياضي أو طرح مبادرة إنشاء جائزة علمية أو ثقافية، أو تأسيس جامعة واستقطاب أفضل الأكاديميين للتدريس فيها، فكل ما يمكن تحديد سعره وعرضه للبيع وشراؤه يخضع لآليات العرض والطلب.
أما الآلية الثانية فهي "التوفيق" أو التوافق والتطابق و"الإيجاب والقبول"، مثل (توفيق رأسين بالحلال). فالملياردير صاحب الجامعة لا يستطيع أن يمنح نفسه درجة الدكتوراه من الجامعة التي يملكها من دون أن يجلس على مقاعدها نفس عدد الساعات المعتمدة ويدرس ذات المناهج مثل بقية طلابها. كما لا يستطيع أن يمنح الجائزة العلمية من مؤسسته المانحة لذويه، ولا أن يشتري لناديه بطولة في كرة القدم مهما دفع من أموال، ما لم يُحْضِر أفضل اللاعبين والمدربين ويلعب كل المباريات المفروضة في جداول المسابقات المعلنة. فالقيم المادية يمكن شراؤها بالمال، والقيم المعنوية تحتفظ بقيمتها داخلها وتحتاج إلى نُظُم وآليات غير مادية للمنافسة عليها واستحقاقها. فلأنه لا يمكن تحويل كل قيمة إلى سلعة، ولا يمكن لكل قيمة ومعنى أن يخضع للعرض والطلب، ستبقى تلك المعاني اللاشيئية مستقلة عن آليات وقوى السوق الميكانيكية.
المفروض أخلاقياً ومنطقياً ألا يُمكَّن الملياردير من الزواج بامرأة جميلة يريدها من دون موافقتها لأنه لا يستطيع أن يشتريها. والمفروض قِيَميَّاً ألا يستطيع من يملك أكبر دار نشر في العالم من تأليف كتاب عظيم ما لم يكن موهوباً. والمفروض نظرياً وعقلانياً ألا يستطيع أي شخص الفوز في الانتخابات وتقَلُّد منصب رئيس وزراء أو نائب في البرلمان لمجرد أنه يملك المال والسلطة. ولكن كل هذا يحدث اليوم. فتوريث المناصب والمواقع السياسية والأكاديمية والفنية والقضائية والرياضية والعلمية صار ظاهرةً شائعةً ومقبولةً أيضاً، رغم منافاتِه للمنطق الأخلاقي والفلسفي ومجافاته للذوق الاجتماعي والشخصي، ولمنطق السوق والربح والخسارة أيضاً.
لقد تحَوَّلت آلياتُ التوفيق التي تستخدمها أسواق العالم اليوم إلى آليات للتلفيق، وما انتشار الواسطة وإلغاء مبادئ تكافؤ الفرص، ومنح الجوائز والشهادات للمشهورين على حساب المستحقين، واقتصار المناصب والمكاسب على المحاسيب من طبقات اجتماعية وسياسية واقتصادية متنفذة، وإعادة تدوير الفساد في القرارات والتصرفات، إلا تعبير عن انعدام التوازن المطلوب لاستقرار الأسواق. وسيؤدي كل هذا إلى مزيد من الأزمات والاحتجاجات، وإلى عدم الاستقرار. آليات التوفيق والمطابقة بين الفرص ومستحقيها، وقوانين العرض والطلب التي تعطي السلع لمشتريها، تؤدي إلى استقرار الأسواق واستقرار العالم. وما لم تعمل هذه الآليات بعدالة أخلاقية، فسيبقى بإمكان كل من يملك 399 دولاراً أن يشتري شهادة مهندس معتمد، ومن يملك 399 ألف دولار أن يصبح مؤلفاً، ومن يملك 399 مليون دولار أن يصبح نائباً في البرلمان أو رئيساً لاتحاد كرة قدم، ومن يملك 399 مليار دولار أن يصبح ملكاً للعالم!
بقلم: نسيم الصمادي
المصدر www.edara.com (http://edara.com/)
حول "الفيفا" وشراء الشهادات وبيع القِيَم والذِمَم
مع تحول "اقتصاد التوفيق" إلى "اقتصاد تلفيق" يمكن لأي أحد أن يأخذ أي شيء لا يستحقه. وبالمقابل يمكن لكثير من المستحقين أن يفقدوا حقوقهم لأن الفساد الذي يسود العالم يكاد يطال كُلَّ شيء.
بما أنكم تملكون بريداً إلكترونياً، فربما أنكم تلقيتم رسائل من أشخاص تتكرر أسماؤهم بجرأة وغباء وبلا حياء. فمن المرجح أن أسماء مثل: د. "الصافي المهدي"، و"هاني عبد الله حجي"، و"جاكوب كارتر"، هي أسماء وهمية ينتحلها هؤلاء ليحققوا أرباحاً طائلة بفعل تصرفاتنا اللاعقلانية التي تصنع لهؤلاء الأدعياء أسواقاً وهميةً.
لأن اسم كل منهما يبدو عربياً؛ يُرسل كل من "المهدي" و"حجي" رسائل عشوائية بصفتهما مديرين لما يُسَمَّى "مجلس الهندسة الخليجي GEB" و"جمعية الخليج لإدارة المشاريع Gulf PMA" و"مجلس التعاون الخليجي لإدارة المشاريع" و"اللجنة الخليجية لإدارة المشاريع"، يعرضان فيها على كل من هَبَّ ودَبَّ دَفْع 399 دولاراً بدلاً من 2500 دولار للحصول على شهادة خبير إدارة مشاريع PME. أما المدعو "د. كارتر" فيدَّعي بأنه مدير "الاتحاد الأمريكي لخبراء الهندسة"، وأحياناً "المجلس الأمريكي للمهندسين المحترفين"، فيقدم نفس العرض وبنفس الصيغة، ولكن منسوباً إلى هيئات أمريكية وهمية. ولفرط سذاجة العروض التي يصدقها كثيرون، فإنهم يستخدمون "جوجل" في ترجمة العروض فتأتي ترجماتهم مُضْحكة. فهم مثلاً يترجمون "الاتحاد الأمريكي لإدارة المشاريع" إلى "أمريكا مشروع كونسورتيوم الإدارة" دون وعي منهم ومن الأغبياء الباحثين عن صكوك الشهادات المزورة.
إحدى الرسائل التي دعتني مؤخراً لأحصل على شهادة خبير في الهندسة نظراً إلى خبراتي العظيمة في هذا المجال؛ خاطبتني على أنني "م. نسيم الصمادي" وأنا أعرف أنني لست مهندساً. وفي اليوم التالي وصلتني ذات الرسالة موجهة إلى "إدارة.كوم"، أي موقعنا الإلكتروني حاملةً نفس الدعوة لـEng. Edara.com ليستثمر خبراتِه الهندسية وينتهز الفرصة ويحصل على شهادة خبير مهندس معتمد من "أمريكا مشروع كونسورتيوم الإدارة".
في يوم كتابة هذا المقال، أعاد أعضاء "الفيفا" انتخاب "بلاتر" رئيساً للاتحاد الدولي لكرة القدم رغم الفضيحة التي طالت إدارته، وهذا أمر غير منطقي ولا يقل غرابة عن كشف الستار عن الفضيحة قبل الانتخابات بيومين. فكما أن نشر غسيل "الفيفا" الوسخ قبل التصويت بساعات لا يمكن أن يكون مصادفةً، فإن إعادة انتخاب رئيس يدَّعي "الشرف الشخصي" وأن "نظامه فقط فاسد" ليس مصادفةً أيضاً. فالأسواق كما يرى علماء الاقتصاد السلوكي تعرف كيف تتعامل مع المنطق اللاعقلاني لبني البشر؛ فتستثمره وتنتهز الفُرص وتُواصل التوَّسُع حتى تدمر نفسها. وهذا ما يحدث في كرة القدم والسياسة والإعلام والتعليم وأسواق المال والأعمال: تحقيق المنفعة والربح السريع على حساب المستقبل والأخلاق والمدى الطويل.
هناك آليتان تحكمان عمل الأسواق في البيع والشراء وتحقيق المكاسب وانتهاز الفرص: الأولى هي العرض والطلب لكل منتج أو خدمة يمكن تسعيرها. فأي ملياردير يستطيع شراء طائرة أو باخرة أو بناء مدينة أو برج عملاق أو شراء نادٍ رياضي أو طرح مبادرة إنشاء جائزة علمية أو ثقافية، أو تأسيس جامعة واستقطاب أفضل الأكاديميين للتدريس فيها، فكل ما يمكن تحديد سعره وعرضه للبيع وشراؤه يخضع لآليات العرض والطلب.
أما الآلية الثانية فهي "التوفيق" أو التوافق والتطابق و"الإيجاب والقبول"، مثل (توفيق رأسين بالحلال). فالملياردير صاحب الجامعة لا يستطيع أن يمنح نفسه درجة الدكتوراه من الجامعة التي يملكها من دون أن يجلس على مقاعدها نفس عدد الساعات المعتمدة ويدرس ذات المناهج مثل بقية طلابها. كما لا يستطيع أن يمنح الجائزة العلمية من مؤسسته المانحة لذويه، ولا أن يشتري لناديه بطولة في كرة القدم مهما دفع من أموال، ما لم يُحْضِر أفضل اللاعبين والمدربين ويلعب كل المباريات المفروضة في جداول المسابقات المعلنة. فالقيم المادية يمكن شراؤها بالمال، والقيم المعنوية تحتفظ بقيمتها داخلها وتحتاج إلى نُظُم وآليات غير مادية للمنافسة عليها واستحقاقها. فلأنه لا يمكن تحويل كل قيمة إلى سلعة، ولا يمكن لكل قيمة ومعنى أن يخضع للعرض والطلب، ستبقى تلك المعاني اللاشيئية مستقلة عن آليات وقوى السوق الميكانيكية.
المفروض أخلاقياً ومنطقياً ألا يُمكَّن الملياردير من الزواج بامرأة جميلة يريدها من دون موافقتها لأنه لا يستطيع أن يشتريها. والمفروض قِيَميَّاً ألا يستطيع من يملك أكبر دار نشر في العالم من تأليف كتاب عظيم ما لم يكن موهوباً. والمفروض نظرياً وعقلانياً ألا يستطيع أي شخص الفوز في الانتخابات وتقَلُّد منصب رئيس وزراء أو نائب في البرلمان لمجرد أنه يملك المال والسلطة. ولكن كل هذا يحدث اليوم. فتوريث المناصب والمواقع السياسية والأكاديمية والفنية والقضائية والرياضية والعلمية صار ظاهرةً شائعةً ومقبولةً أيضاً، رغم منافاتِه للمنطق الأخلاقي والفلسفي ومجافاته للذوق الاجتماعي والشخصي، ولمنطق السوق والربح والخسارة أيضاً.
لقد تحَوَّلت آلياتُ التوفيق التي تستخدمها أسواق العالم اليوم إلى آليات للتلفيق، وما انتشار الواسطة وإلغاء مبادئ تكافؤ الفرص، ومنح الجوائز والشهادات للمشهورين على حساب المستحقين، واقتصار المناصب والمكاسب على المحاسيب من طبقات اجتماعية وسياسية واقتصادية متنفذة، وإعادة تدوير الفساد في القرارات والتصرفات، إلا تعبير عن انعدام التوازن المطلوب لاستقرار الأسواق. وسيؤدي كل هذا إلى مزيد من الأزمات والاحتجاجات، وإلى عدم الاستقرار. آليات التوفيق والمطابقة بين الفرص ومستحقيها، وقوانين العرض والطلب التي تعطي السلع لمشتريها، تؤدي إلى استقرار الأسواق واستقرار العالم. وما لم تعمل هذه الآليات بعدالة أخلاقية، فسيبقى بإمكان كل من يملك 399 دولاراً أن يشتري شهادة مهندس معتمد، ومن يملك 399 ألف دولار أن يصبح مؤلفاً، ومن يملك 399 مليون دولار أن يصبح نائباً في البرلمان أو رئيساً لاتحاد كرة قدم، ومن يملك 399 مليار دولار أن يصبح ملكاً للعالم!
بقلم: نسيم الصمادي
المصدر www.edara.com (http://edara.com/)