Power Speak
08-07-2003, 10:36 PM
عدي بن حاتم الطائي ، والده حاتم الطائي كان مضرب المثل بالكرم ، وعدي بن حاتم له قصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ففي السنة التاسعة للهجرة دان للإسلام ملِكٌ من ملوك العرب بعد نفور شديد ، ولان للإيمان بعد إعراض و صدٍّ ، وأعطى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد طول إباء ، إنه عدي بن حاتم كان ملكًا من ملوك الجزيرة العربية
ورث عدي الرئاسة عن أبيه ، فكان ملكاً في الجزيرة ، ملَّكته قبيلة طيِّئ ، وفرضت له الربع في غنائمها ، وأسلمت له القيادة ، ولما صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الهدى والحق ، ودانت له الجزيرة العربية حيًّا بعد حي ، رأى عدي في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم زعامة واسعة النفوذ ، يوشك أن تقضي على زعامته ، وستفضي إلى إزالة رياسته ، فعادى النبيَّ
ظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قرابة عشرين عاماً ثم أسلم ، ولإسلام عدي قصة لا تنسى ، فلنترك للرجل نفسه يحدثنا عن قصته ، وأروع ما في قصص الصحابة حينما يتولى الصحابي نفسه الحديث عن نفسه .
يقول عدي بن حاتم : ما من رجل من العرب كان أشدَّ مني كراهةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعت به ، فقد كنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، معه أموال طائلة ، ربع أموال قومه ، وله زعامة وملك وشرف ، ووالده أكرم العرب وربع دخلهم له وحده ، فماذا يريد من الإسلام ؟ بالمنطق المادي هو وصل إلى قمة الدنيا.
فقد كنت امرأ شريفاً وكنت نصرانياً وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فأخذ الربع من غنائمهم ، كما كان يفعل غيري من ملوك العرب ، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرِهتُه ، ولما عظم أمره ، وامتدت شوكته ، وجعلتْ جيوشُه وسراياه تشرِّق وتغرِّب في أرض العرب ، قلت لغلام لي يرعى إبلي : لا أبا لك ، أعدد لي من إبلي نوقاً سماناً سهلة القياد، واربطها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد أو بسرية من سراياه قد وطئت هذه البلاد فأعلِمْني، وفي ذات غداة أقبل علي غلامي ، وقال : يا مولاي ما كنت تنوي أن تصنعه إذا وطئت أرضَك خيلُ محمد فاصنعه الآن ، فقلت : ولِمَ ثكلتك أمك ؟ فقال : إني رأيت رايات تجوس خلال الديار ، فسألت عنها فقيل لي : هذه جيوش محمد قد قدمت ، فقلت له : أعدد لي النوق التي أمرتك بها ، وقربها مني ، ثم نهضت من ساعتي ، فودعت أهلي وأولادي إلى الرحيل عن أرضي التي أحبها ، وجعلت أعد السير نحو بلاد الشام للِّحاق بأهل ديني من النصارى ، وأنزل بينهم ، لكنه وقع في غلطة كبيرة ارتكبها ، فكانت سببَ إسلامه ، وقد أعجلني الأمر عن استقصاء أهلي كلهم ، فلما اجتزت مواقع الخطر ، تفقدت أهلي فإذا لي أن تركت أختًا لي في مواطننا بنجد ، مع من بقي هناك من طيِّء ، ولم يكن مِن سبيل إلى الرجوع إليها ، فمضيت بمَن معي حتى بلغت الشام ، وأقمت فيها بين أبناء ديني ، أما أختي فقد نزل بها ما كنت أتوقعه وأخشاه ، أخته سفانة من أذكى نساء العرب ، ولها قصة مع رسول الله في كتاب آخر .
ولقد بلغني وأنا في ديار الشام أن خيل محمد صلى الله عليه وسلم أغارت على ديارنا ، وأخذت أختي في جملة من أخذته من السبايا ، وسيقت إلى يثرب ، وهناك وضعت مع السبايا في حظيرة عند باب المسجد ، فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقفت ، وكانت ذكية جداً ، وقالت : يا رسول الله ، خاطبته بالرسالة وهذا عقل راجح ، وهي لم تسلم ، وقالت له : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ومَن وافدُك ؟ الوالد معروف حاتم الطائي ، الوافد من ؟ قالت : عدي بن حاتم ، الوافد الذي يمكن أن يأتي إليك ليفتديني ، هرب ، فقال عليه الصلاة والسلام : الفار من الله ورسوله ، ثم مضى ، وتركها صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم بشيء ، فلما كان الغد مر بها ، فقالت له مثل قولها بالأمس ، وقفت ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، قال : من الوافد ؟ قالت : عدي بن حاتم ، قال : الفار من الله ورسوله ، ثم تركها ومضى ، فلما كان بعد الغد مرَّ بها ، وقد يئست فلم تقل شيئاً ، وكان وراء النبي رجلٌ أشار لها من خلفه أن قومي وكلميه كما كلمته بالأمس ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، وفي رواية أخرى أوسع قالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، لأنها شريفة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أكرموا عزيزَ قومٍ ذلَّ ، وغنيًّا افتقر ، وعالماً ضاع بين الجهال .
قالت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تُخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردَّه خائب ، أنا بنت حاتم طيِّء .
هناك تعليق للنبي عميق جداً ، فقالت له : فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردّه خائبًا ، أنا بنت حاتم طيِّء، فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أيْ يا امرأة ، هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترَحمْنا عليه وامتن عليها بقومها ، فأطلقهم جميعاً تكريماً لها فاستأذنته بالدعاء ، فأذن لها ، وقال لأصحابه : اسمعوا ، وعوا، فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمةً عن كريم إلا جعلك سبباً في ردِّها عليه .
فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي ، وهو بدومة الجندل ، قالت له : يا أخي ايتِ هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله ، فإني قد رأيت هدياً ورأياً يغلب أهل الغلبة ، ورأيت خصالاً تعجبني، رأيته يحب الفقير ، ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير ، ولا رأيت أجود ولا أكرم منه ، فإن يكن نبياً فلسَابِقِ فضله ، ألحقْ نفسك ، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه ، لقد أقنعت أخاها عدي بن حاتم أن يذهب إلى النبي ، هو نسيها ، ولولا أنه نسيها لبقي على عداوته للنبي طوال حياته ، لكن نسيها ، وما أنساه إياها إلا الله لحكمة أرادها .
لما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام : خلوا سبيلها فإنّ أباها يحب مكارم الأخلاق ، والآن اسمعوا دقة موقف النبي ، قال لها : يا جارية إلى أين تريدين أن تذهبي ؟ قالت : أريد اللحاق بأهلي في الشام ، فقال : ولكن لا تعجلي بالخروج حتى تجدي من تثقين به من قومك ، ليبلغك بلاد الشام ، فإذا وجدت الثقة فأعلميني ، وكأنها ابنته لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام سألت عن الرجل الذي أشار إليها أن تكلمه فقيل لها إنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، ثم أقامت حتى قدم ركب فيهم من تثق به ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : يا رسول الله لقد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ ، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنحها ناقة تحملها ، وأعطاها نفقة تكفيها ، وأطلق سراح قومها كلهم إكراماً لها ، ولم يسمح لها بالخروج إلا مع من تثق به ، كي يبلغها أهلها بسلام ، فخرجت مع الركب .
فلْنعُدْ إلى عدي بن حاتم في بلاد الشام ، وهو هارب ، قال عدي : ثم جعلنا بعد ذلك نتنسم أخبارها ، ونترقب قدومها ، ونحن لا نكاد نصدق ما روي لنا من خبرها مع محمد ، لقد كان يتوقَّع قتلها ، وعلمتُ إحسانه إليها كل ذلك الإحسان ، على ما كان مني اتجاهه ، فوالله إني لقاعد في أهلي إذ أبصرت امرأة في هودجها تتجه نحونا ، فقلت : ابنة حاتم ، فإذا هي هي ، فلما وقفت علينا بادرتني بقولها القاطع الظالم ، لقد احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك وعورتك ، فقلت : أيْ أُخَيَّة لا تقولي إلا أنْ تقولي خيراً ، وجعلتُ أسترضيها حتى رضيت ، وقصَّتْ علي خبرها ، فإذا هو كما تناهى إليَّ ، فقلت لها وكانت امرأة حازمة عاقلة : ما ترين في هذا الرجل ، يعني محمداً ، قالت : أرى والله أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن نبياً فلسابق فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل عنده ، وأنت أنت ، وعلى الحالتين الذهاب إليه غنيمة ، فإذا كان نبياً فأنت من السابقين ، وإذا كان ملكًا فلن تذلَّ عنده .
قال عدي : فهيأتُ جَهازي ، ومضيتُ حتى قدمتُ إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير كتاب ولا أمان ، وكان عديّ بن حاتم يتصور أن يقتله النبي ، فلما سمع من أخته ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم قال : ذهبت إليه بلا كتاب ولا أمان ، وكان بلغني أنه قال : "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي" ، نتعاون ، وقد بعث له بهذا الخبر ، "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي"، فدخلت عليه وهو في المسجد ، فسلمت عليه ، قال : من الرجل ؟ قلت : عدي بن حاتم ، فقام إلي ، وأخذ بيدي ، وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لماضٍ بي إلى البيت إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة ، ومعها صبي صغير ، فاستوقفته ، وجعلت تكلمه في حاجة لها ، فظل معها حتى قضى حاجتها ، وأنا واقف ، وكانت أخته قد خاطبته : يا نبي ، ولم تقل : يا ملِك ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بملِك ، ثم أخذ بيدي حتى أتينا منزله ، منزل من ؟ منزل النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن تأخذه إلى بيتك فهذا منتهى الإكرام
وفي البيت فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً ، فألقاها إليَّ ، وقال : اجلس على هذه ، فاستحييت منه ، وقلت : بل أنت تجلس عليها ، قال: بل أنت ، فجلستُ عليها ، وجلس رسول الله على الأرض ، إذْ لم يكن في بيته سواها ، سوى وسادة واحدة من أدم محشوة ليفًا ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم التفتَ إليَّ وقال : إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تكن ركوسياً تدين بدين بين النصرانية والصابئة ؟! قلت بلى ؛ قال : ألم تكن تسير في قومك بالمرباع ، تأخذ ربع أموالهم ، فتأخذ منهم ما لا يحل لك في دينك ، فقلت: بلى ، وعرفت عندئذٍ أنه نبي مرسل ، يعلم ما نجهل ، ثم قال لي - الآن دققوا ، الآن الوضع نحن في أمس الحاجة إليه - لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من قلة المسلمين وكثرة عدوهم ، فأينما ذهبتم فأعداء المسلمون شرسون .
فوالله لتوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله ، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن المُلْك والسلطان في غيرهم ، فهم ضعاف ، والقوة بيد أعدائهم ، وايمُ الله لتوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، وإن كنوز كسرى قد صارت إليهم ، فقلت : كنوز كسرى، قلت : كنوز كسرى ؟! قال : نعم كنوز كسرى ، قال عدي : عندئذ شهدت شهادة الحق ، وأسلمت .
عُمِّرَ عدي طويلاً ، وكان يقول : لقد تحققت اثنتان ، وبقيت الثالثة ، وإنها والله لا بد كائنة ، فقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً ، حتى تبلغ البيت ، وكنتُ في أول خيل أغارت على كنوز كسرى ، هو نفسه وأخذتها ، وأحلف بالله لتجيئَن الثالثة ، ولقد شاء الله أن يحقق قول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فجاءت الثالثة في عهد الخليفة الزاهد العابد عمر بن عبد العزيز ، حيث فاضت الأموال على المسلمين حتى جعل مناديه ينادي : من يأخذ أموال الزكاة ، من فقراء المسلمين ، فلا يجد أحداً ، سيدنا عمر بن عبد العزيز لا يجد فقيرًا يعطيه الزكاة ، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، وبرّ عدي بن حاتم بقسمه .
ففي السنة التاسعة للهجرة دان للإسلام ملِكٌ من ملوك العرب بعد نفور شديد ، ولان للإيمان بعد إعراض و صدٍّ ، وأعطى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد طول إباء ، إنه عدي بن حاتم كان ملكًا من ملوك الجزيرة العربية
ورث عدي الرئاسة عن أبيه ، فكان ملكاً في الجزيرة ، ملَّكته قبيلة طيِّئ ، وفرضت له الربع في غنائمها ، وأسلمت له القيادة ، ولما صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الهدى والحق ، ودانت له الجزيرة العربية حيًّا بعد حي ، رأى عدي في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم زعامة واسعة النفوذ ، يوشك أن تقضي على زعامته ، وستفضي إلى إزالة رياسته ، فعادى النبيَّ
ظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قرابة عشرين عاماً ثم أسلم ، ولإسلام عدي قصة لا تنسى ، فلنترك للرجل نفسه يحدثنا عن قصته ، وأروع ما في قصص الصحابة حينما يتولى الصحابي نفسه الحديث عن نفسه .
يقول عدي بن حاتم : ما من رجل من العرب كان أشدَّ مني كراهةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعت به ، فقد كنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، معه أموال طائلة ، ربع أموال قومه ، وله زعامة وملك وشرف ، ووالده أكرم العرب وربع دخلهم له وحده ، فماذا يريد من الإسلام ؟ بالمنطق المادي هو وصل إلى قمة الدنيا.
فقد كنت امرأ شريفاً وكنت نصرانياً وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فأخذ الربع من غنائمهم ، كما كان يفعل غيري من ملوك العرب ، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرِهتُه ، ولما عظم أمره ، وامتدت شوكته ، وجعلتْ جيوشُه وسراياه تشرِّق وتغرِّب في أرض العرب ، قلت لغلام لي يرعى إبلي : لا أبا لك ، أعدد لي من إبلي نوقاً سماناً سهلة القياد، واربطها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد أو بسرية من سراياه قد وطئت هذه البلاد فأعلِمْني، وفي ذات غداة أقبل علي غلامي ، وقال : يا مولاي ما كنت تنوي أن تصنعه إذا وطئت أرضَك خيلُ محمد فاصنعه الآن ، فقلت : ولِمَ ثكلتك أمك ؟ فقال : إني رأيت رايات تجوس خلال الديار ، فسألت عنها فقيل لي : هذه جيوش محمد قد قدمت ، فقلت له : أعدد لي النوق التي أمرتك بها ، وقربها مني ، ثم نهضت من ساعتي ، فودعت أهلي وأولادي إلى الرحيل عن أرضي التي أحبها ، وجعلت أعد السير نحو بلاد الشام للِّحاق بأهل ديني من النصارى ، وأنزل بينهم ، لكنه وقع في غلطة كبيرة ارتكبها ، فكانت سببَ إسلامه ، وقد أعجلني الأمر عن استقصاء أهلي كلهم ، فلما اجتزت مواقع الخطر ، تفقدت أهلي فإذا لي أن تركت أختًا لي في مواطننا بنجد ، مع من بقي هناك من طيِّء ، ولم يكن مِن سبيل إلى الرجوع إليها ، فمضيت بمَن معي حتى بلغت الشام ، وأقمت فيها بين أبناء ديني ، أما أختي فقد نزل بها ما كنت أتوقعه وأخشاه ، أخته سفانة من أذكى نساء العرب ، ولها قصة مع رسول الله في كتاب آخر .
ولقد بلغني وأنا في ديار الشام أن خيل محمد صلى الله عليه وسلم أغارت على ديارنا ، وأخذت أختي في جملة من أخذته من السبايا ، وسيقت إلى يثرب ، وهناك وضعت مع السبايا في حظيرة عند باب المسجد ، فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقفت ، وكانت ذكية جداً ، وقالت : يا رسول الله ، خاطبته بالرسالة وهذا عقل راجح ، وهي لم تسلم ، وقالت له : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ومَن وافدُك ؟ الوالد معروف حاتم الطائي ، الوافد من ؟ قالت : عدي بن حاتم ، الوافد الذي يمكن أن يأتي إليك ليفتديني ، هرب ، فقال عليه الصلاة والسلام : الفار من الله ورسوله ، ثم مضى ، وتركها صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم بشيء ، فلما كان الغد مر بها ، فقالت له مثل قولها بالأمس ، وقفت ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، قال : من الوافد ؟ قالت : عدي بن حاتم ، قال : الفار من الله ورسوله ، ثم تركها ومضى ، فلما كان بعد الغد مرَّ بها ، وقد يئست فلم تقل شيئاً ، وكان وراء النبي رجلٌ أشار لها من خلفه أن قومي وكلميه كما كلمته بالأمس ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك ، وفي رواية أخرى أوسع قالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، لأنها شريفة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أكرموا عزيزَ قومٍ ذلَّ ، وغنيًّا افتقر ، وعالماً ضاع بين الجهال .
قالت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تُخلِّيَ عني ، ولا تشمت بي أحياء العرب ، فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردَّه خائب ، أنا بنت حاتم طيِّء .
هناك تعليق للنبي عميق جداً ، فقالت له : فإن أبي كان سيد قومه ، يفكّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام، ويحمل الكَلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فردّه خائبًا ، أنا بنت حاتم طيِّء، فقال عليه الصلاة والسلام : يا جارية ، أيْ يا امرأة ، هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترَحمْنا عليه وامتن عليها بقومها ، فأطلقهم جميعاً تكريماً لها فاستأذنته بالدعاء ، فأذن لها ، وقال لأصحابه : اسمعوا ، وعوا، فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمةً عن كريم إلا جعلك سبباً في ردِّها عليه .
فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي ، وهو بدومة الجندل ، قالت له : يا أخي ايتِ هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله ، فإني قد رأيت هدياً ورأياً يغلب أهل الغلبة ، ورأيت خصالاً تعجبني، رأيته يحب الفقير ، ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير ، ولا رأيت أجود ولا أكرم منه ، فإن يكن نبياً فلسَابِقِ فضله ، ألحقْ نفسك ، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه ، لقد أقنعت أخاها عدي بن حاتم أن يذهب إلى النبي ، هو نسيها ، ولولا أنه نسيها لبقي على عداوته للنبي طوال حياته ، لكن نسيها ، وما أنساه إياها إلا الله لحكمة أرادها .
لما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام : خلوا سبيلها فإنّ أباها يحب مكارم الأخلاق ، والآن اسمعوا دقة موقف النبي ، قال لها : يا جارية إلى أين تريدين أن تذهبي ؟ قالت : أريد اللحاق بأهلي في الشام ، فقال : ولكن لا تعجلي بالخروج حتى تجدي من تثقين به من قومك ، ليبلغك بلاد الشام ، فإذا وجدت الثقة فأعلميني ، وكأنها ابنته لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام سألت عن الرجل الذي أشار إليها أن تكلمه فقيل لها إنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، ثم أقامت حتى قدم ركب فيهم من تثق به ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : يا رسول الله لقد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ ، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنحها ناقة تحملها ، وأعطاها نفقة تكفيها ، وأطلق سراح قومها كلهم إكراماً لها ، ولم يسمح لها بالخروج إلا مع من تثق به ، كي يبلغها أهلها بسلام ، فخرجت مع الركب .
فلْنعُدْ إلى عدي بن حاتم في بلاد الشام ، وهو هارب ، قال عدي : ثم جعلنا بعد ذلك نتنسم أخبارها ، ونترقب قدومها ، ونحن لا نكاد نصدق ما روي لنا من خبرها مع محمد ، لقد كان يتوقَّع قتلها ، وعلمتُ إحسانه إليها كل ذلك الإحسان ، على ما كان مني اتجاهه ، فوالله إني لقاعد في أهلي إذ أبصرت امرأة في هودجها تتجه نحونا ، فقلت : ابنة حاتم ، فإذا هي هي ، فلما وقفت علينا بادرتني بقولها القاطع الظالم ، لقد احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك وعورتك ، فقلت : أيْ أُخَيَّة لا تقولي إلا أنْ تقولي خيراً ، وجعلتُ أسترضيها حتى رضيت ، وقصَّتْ علي خبرها ، فإذا هو كما تناهى إليَّ ، فقلت لها وكانت امرأة حازمة عاقلة : ما ترين في هذا الرجل ، يعني محمداً ، قالت : أرى والله أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن نبياً فلسابق فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل عنده ، وأنت أنت ، وعلى الحالتين الذهاب إليه غنيمة ، فإذا كان نبياً فأنت من السابقين ، وإذا كان ملكًا فلن تذلَّ عنده .
قال عدي : فهيأتُ جَهازي ، ومضيتُ حتى قدمتُ إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير كتاب ولا أمان ، وكان عديّ بن حاتم يتصور أن يقتله النبي ، فلما سمع من أخته ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم قال : ذهبت إليه بلا كتاب ولا أمان ، وكان بلغني أنه قال : "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي" ، نتعاون ، وقد بعث له بهذا الخبر ، "إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي"، فدخلت عليه وهو في المسجد ، فسلمت عليه ، قال : من الرجل ؟ قلت : عدي بن حاتم ، فقام إلي ، وأخذ بيدي ، وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لماضٍ بي إلى البيت إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة ، ومعها صبي صغير ، فاستوقفته ، وجعلت تكلمه في حاجة لها ، فظل معها حتى قضى حاجتها ، وأنا واقف ، وكانت أخته قد خاطبته : يا نبي ، ولم تقل : يا ملِك ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بملِك ، ثم أخذ بيدي حتى أتينا منزله ، منزل من ؟ منزل النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن تأخذه إلى بيتك فهذا منتهى الإكرام
وفي البيت فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً ، فألقاها إليَّ ، وقال : اجلس على هذه ، فاستحييت منه ، وقلت : بل أنت تجلس عليها ، قال: بل أنت ، فجلستُ عليها ، وجلس رسول الله على الأرض ، إذْ لم يكن في بيته سواها ، سوى وسادة واحدة من أدم محشوة ليفًا ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم التفتَ إليَّ وقال : إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تكن ركوسياً تدين بدين بين النصرانية والصابئة ؟! قلت بلى ؛ قال : ألم تكن تسير في قومك بالمرباع ، تأخذ ربع أموالهم ، فتأخذ منهم ما لا يحل لك في دينك ، فقلت: بلى ، وعرفت عندئذٍ أنه نبي مرسل ، يعلم ما نجهل ، ثم قال لي - الآن دققوا ، الآن الوضع نحن في أمس الحاجة إليه - لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من قلة المسلمين وكثرة عدوهم ، فأينما ذهبتم فأعداء المسلمون شرسون .
فوالله لتوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله ، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن المُلْك والسلطان في غيرهم ، فهم ضعاف ، والقوة بيد أعدائهم ، وايمُ الله لتوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، وإن كنوز كسرى قد صارت إليهم ، فقلت : كنوز كسرى، قلت : كنوز كسرى ؟! قال : نعم كنوز كسرى ، قال عدي : عندئذ شهدت شهادة الحق ، وأسلمت .
عُمِّرَ عدي طويلاً ، وكان يقول : لقد تحققت اثنتان ، وبقيت الثالثة ، وإنها والله لا بد كائنة ، فقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً ، حتى تبلغ البيت ، وكنتُ في أول خيل أغارت على كنوز كسرى ، هو نفسه وأخذتها ، وأحلف بالله لتجيئَن الثالثة ، ولقد شاء الله أن يحقق قول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فجاءت الثالثة في عهد الخليفة الزاهد العابد عمر بن عبد العزيز ، حيث فاضت الأموال على المسلمين حتى جعل مناديه ينادي : من يأخذ أموال الزكاة ، من فقراء المسلمين ، فلا يجد أحداً ، سيدنا عمر بن عبد العزيز لا يجد فقيرًا يعطيه الزكاة ، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، وبرّ عدي بن حاتم بقسمه .