رضا البطاوى
14-08-2019, 08:13 AM
ثم ذكر بابا اسمه الخلق المركب وهو تركيب البغل من الحمار والفرس فقال:
"باب الخلق المركب:
وقال أصحاب البغال: لا نعلم شيئاً من الحيوان ركب بين شيئين نزع إليهما نزعاً سواءً لا يغادر شيئاً غير البغل، فإن شبه أبويه عليه بقسمة عدل، وقد ذكر ذلك محمد بن يسير في شعره طلب فيه من مويس بن عمران بغلة لرحلة فقال:
اضمم علي مآربا قد أصبحت شتى بداد شتيتة الأوطان
بزفوف ساعات الكلال دليقة سفواء أبدع خلقها أبوان
لم يعتدل في المنصبين كلاهما عند التناسب منهما الجنسان
إلا تكن لأب أغر فإنها تنمي إلى خال أغر هجان
نزعت عن الخيل العتاق نجاءها منها، وعتق سوالف ولبان
ولها من الأعيار عند مسيرها جد وطول صبارة ومران
قال ذلك لأن حافر العير أوقح الحوافر، فأعطاه أبوه من الخصلة التي بها من سائر الحوافر ومثل الجمازات التي تجيء بين فوالج البخت وقلاص العراب، ومثل البرذون الشهري من الرمكة والفرس العتيق
قالوا: فليس يعتدل في شيء من ذلك الشبه، كما يعتدل في البغل ولذلك قال الشاعر السواق، وهو إبراهيم مولى المهالبة:
تساهم فيه الخال والعم مثلما تساهم في البغل الحمارة والطرف
فزعم في هذا الشعر أن هذا البغل أبوه فرس وأمه أتان وهذا خلاف ما رواه أبو عبيدة وأنشد أبو عبيدة:
وشاركها في خيمها وهو راغم كما شاركت في البغل عيراً حجورها
لأنهم يقولون: إذا كانت الأم رمكةً، خرج البغل وثيجاً قوياً عريضاً، وإذا كانت الأم حجراً خرج البغل مسلكاً، طويل العنق، وفيه دقة"
وهو هنا ينقل كلاما على ألسنة الناس فى تركيب البغال وفى كون أصلها نتيجة جماع ذكر الخيل وأنثى الحمار أو ذكر الحمير وأنثى الخيل وأن فى تركيب جسمها بعض من هذا وبعض من ذاك ومع كون الباب مخصص للتركيب فإن لرجل ذكر أمورا لا علاقة لها بالموضوع فى الباب فقال ذاكرا الأيور :
وقال مسلم بن الوليد:
تركت الخيل والخيل معقل وأصبحت في وصف البغال الكوادن
حننت إليها رغبة في أيورها فدونك أير البغل يا عبد مازن"
وفى باب أعمال البغال والحيوانات قال :
"باب عمر البغل وسائر المخلوقات:
قال أهل التجربة: ليس في جميع الحيوان الذي يعايش الناس، أطول عمراً من البغل، ولا أقصر عمراً من العصفور، وظنوا ذلك لكثرة سفاد العصفور، وقلة ذلك من البغل"
وذكر قول أحدهم فى عمر البغال:
عزمت على ذم البعير موفقاً وأن ليس في المركوب أجمع من بغل
وأن اقتناء الإبل موق وحرفة يبيت على يسر ويغدو على ثكل
وبين المنايا والبراذين نسبة وكل نتاج الناس خير من الإبل
وقلت وشاهدت البغال وغيرها فأحمدتها في العمر والهرم المبلي"
وحكاية طول عمر البغال عن الحيوانات الأخرى لا أصل لها فالله جعل لكل مخلوق عمرا طال او قصر وإن كان هناك علاقة علمية بين قصر فترة الحمل أو وضع البيض وبين قصر العمر فالأنواع التى تلد بعد فترات قصيرة أو تبيض عمرها أقصر والأنواع التى فترات حملها طويلة أعمارها أطول
ثم ذكر بابا فى العلاقة بين ركوب البغال والقضاء فقال :
"باب ركوب البغلة والطمع في القضاء:
ونحن بالبصرة إذ رأينا الرجل يطلب الرأي، ويركب بغلاً، ويردف خلفه غلاماً قضينا بأنه يطمع في القضاء قال ابن الممزق:
إذا ركب الشيخ الشريف بغيلة وناظر أهل الرأي عند هلال
فذاك الذي يبغي القضاء بسمته الذئب أم غزال
فإن أردف العبد الصغير وراءه فويل لأيتام وإرث رجال
وإن ركب البرذون واشتد خلفه فصاحب أشراط وحمل إلال"
وهى ملاحظة اجتماعية وكانت منذ عقود تشبهها علاقة التجار بركوب البغال والحمير فى مصر ومن المؤكد وجود أشباهها فى بقية البلاد
وذكر فى الباب ما لا علاقة له بموضوعه وهو القضاء وهو تشبيه الأسد بالبغل وهو قوله:
"قالوا: ويشبهون الأسد بالبغل، إذا كان الأسد تام الخلق قال نهشل بن حري:
وما سبق الحوادث ليث غاب يجر لعرسه جزر الرفاق
كميت تعجز الخلعاء عنه كبغل السرج خط من الوثاق
ثم تحت عنوان تأثير البيئة فى الحيوانات قال:
"باب تأثير البيئة في الحيوانات
وزعم ناس من العلماء أن الحمير الأخدرية، وهي أعظم حمير الوحش وأتمها، زعموا أن أصل ذلك النتاج أن خيلاً لكسرى توحشت، وضربتفي العانات، فكان نتاجها هذه الحمير التي لها هذا التمام وقال آخرون: الأخدرية هي الحمر التي تكون بكاظمة ونواحيها، فهي كأنها برية بحرية قالوا: ولا يجيء، فيما بين الخيل والحمير إلا البغال، وليس للبغل نسل يعيش، ولا نجل يبقى، فكيف لقحت هذه الأتن من تلك الخيل حميراً، ثم طبقت تلك الصحارى بالحمر الخالصة؟ "
هنا نظرية جديدة وهى أن ضرب الحمير فى العانات ضربا متكررا هو سبب وجود نسل جديد وهو أمر بالقطع لو حدث فإنه يعز الحمير عن الجماع لأنه يتسبب فى ضعف انتصابها لن الضرب المتكرر يمين الخلايا أو يضعفها وهى نظرية انتقدها الرجل وبين ضعفها
والمستفاد من الباب هو أن البغال ليس لها نسل
ثم ذكر الجاحظ باب لجماع البغل والحيوانات فقال:
"باب سفاد البغل وسائر الحيوانات:
قال أبو شراعة:
أير حمار في حر أم شعري وأير بغل في حر أم قدري
لو كنت ذا مال دعاني السدري
..وقالوا: أير الثور أطول وأصلب قال صاحب البغل: ليس بأطول ولو كان أطول كانت البقرة لا تقف للثور، وإنما يكومها وهي تعدو، وهو لا يدخل قضيبه في حياء البقرة، والبغلة تقف للبغل، وتطلب ذلك منه، لسوس شديد، وإرادة تامة وقال صاحب الثور: إن أصل غرمول البغل لا ينطبق على ظبية البغلة كانطباق أير الرجل على فرج المرأة حتى لا يبقى منه قليل ولا كثير، ويفضل من أير البغل نحو من نصفه، وذلك أن مقاديم أيور الحافر فيها الإسترخاء، وأصولها لا تصير إلى أجواف الإناث، وإنما يصل من الصلب المتوتر مقدار نصفه فقط والثور أول قضيبه وآخره عصب مدمج، وعقب مصمت، وأنت تقر أنها لو وقفت لخرقها والبقرة في وقت نزو الثور عليها كأنها تكرهه قال صاحب البغل: أليس قد أقررت أنه وإن كان في غاية الصلابة، أنه إنما يدخل فيها بعض قضيبه، وهذا المفخر إنما هو للإنسان "
والمفروض أن يعقد هذه الباب لسفاد البغل وليس لسائر الحيوان ولكن الرجل مولع بذكر تلك الأمور فيقول:
"ويقال لأير الإنسان: ذكر، وأير وجردان الحمار والبغل وغرمولها والجمع: جرادين وغراميل ويقال: نضي الفرس، ومقلم البعير ووعاء مقلمه يقال له: الثيل ووعاء الجردان وجميع الحافر يقال له: القنب
ويقال قضيب التيس، وقضيب الثور، وعقدة الكلب
وتقول العرب: صرفت البقرة فهي صارف، وسوست البغلة
ويقال: هي امرأة هدمى، وغلمة وقال أكثر العلماء: ما يقال مغتلمة وشاة حرمى وناقة ضبعة، وفرس وديق وكلبة مجعل
ويقال: حر المرأة، والفرج، وظبية الفرس، وكذلك من الحافر وحياء الشاة، وكذلك من الخف كله وثفر الكلبة، وكذلك من السباع كلها وتستعير الشعراء بعض هذه من بعض، إذا احتاجت إلى إقامة الوزن
فإذا حملت الشاة فهي: حامل، والبقرة كذلك، والفرس عقوق، وكذلك الرمكة والأتان جامع، وبغلة جامع وكلبة مجح، وكذلك السباع
ويقال: إن أكبر الأيور أير الفيل، وأصغرها أير الظبي، وليس في الأرض حجم أير ظاهر في كل حال، إلا إير الإنسان والقرد والكلب
وأما البط فقضيبه يظهر عند القمط وأطول أيور الناس ما كان ثلاثة عشر أصبعاً"
ثم ذكر الرجل ما اعتقده هو والناس عيوبا أو أضرارا للبغال فقال :
"قال: وذم رجل البغل، فقال: لا لحم ولا لبن، ولا أدب ولا لقن، ولا فوت ولا طلب، إن كان فحلاً قتل صاحبه وإن كانت إنثى لم تنسل
وكل مركب من جميع الأجناس له نجل غيره، كالبخت بين العراب والفوالج، ...وإذا صرت إلى البغال، صرت إلى سوس في الأنثى لا ينادى وليده، وإلى غلمة في الذكر لا توصف، ثم هي مع هذا لا تتلاقح
....والبغلة والبغل يعتريهما من الشبق ما لا يعتري إناث السنانير، ثم هي مع ذلك لا تتلاقح، فإن لقحت في الندرة أخدجت وقال الشاعر في سوس البغلة:
وقد سوست حتى تقاصر دونها هياج سنانير القرى في الصنابر
وذلك من عيوبها قالوا: ولم تأخذ صهيل الأخوال، ولا نهيق الأعمام، وخرجت مقادير غراميلها عن غراميل أعمامها وأخوالها فإن زعمتم أن أعمارها أطول ، فعيوبها أكثر، وأيام الإنتفاع بها أقل، وباعتها فجر، والخصومة معهم أفحش وخسرانها يوفي على أضعاف ربحها وشرها غامر لخيرها ومما تخالف أخلاق سائر المركوبات: أنك إذا سرت على الإبل والخيل والحمير والبقر، في الأسفار الطوال، في سواد ليلك، إلى انتصاف نهارك، ثم صارت إلى المنزل عند الإعياء والكلال طلب جميع المركوبات المراعي والأواري، وأخرجت البغال بعقب ذلك التعب الطويل، أيوراً كجعاب القسي، تضرب بها بطونها وصدورها، حتى كأنها تتعالج به من ألم السفر وكل دابة سواها إذا بلغت لم يكن لها همة إلا المراغة والربوض، والأكل والشرب وهي مع ذلك من أغلم الدواب، وأبعدها من العتق ولم نجد عظم الأيور في جميع الحيوان في أشراف الحيوان إلا في الفرط، وذلك عام في الزنوج والحبشان وتجده في الحمير والبغال
قالوا: وأير الفيل كبير، ولم يخرج من مقدار بدنه
ولعمري إن الرجال ليتمنون عظم الأيور كما تتمنى النساء ضيق الأحراح
وفي الأنبياء راكب البعير، وراكب الحمار وكل ذي عزم منهم فركاب خيل مرتبط عتاق، وليس فيهم راكب بغل وإنما كانت بغلة النبي (ص)هدية من المقوقس، قبلها على التألف، وعلى مثال ما كان يعطي المؤلفة قلوبهم ولم يجعلها الله شرى ولا تلاداً ولا هدية سلم"
وهذا الكلام غير علمى فالرجل يعيب البغال بأن لا هم لها سوى السفاد فى حياتها وهو يؤكد مذهبه فى العيب فيها بأن الرسل سموا بركوب بعض الحيوانات وليس منها البغل مع أنه أطلق عليها اسم دلدل وهو اسم يدل على كثرة ركوبها
وبعض هذا ذكمرا بابا لمدح وذم البغال فقال:
"باب مدح البغال وذمها:
يروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن ينزى حمار على فرس، ونهانا أن نأكل الصدقة، وأمرنا أن نسبغ الوضوء
وعن علي كرم الله وجهه قال: " نهى النبي (ص)أن ينزى الحمار على فرس "
والمستفاد من الفقرة هو حرمة إجبار حمار على جماع فرس فالمفروض أن تنتج البغال بالجماع دون تدخل من الناس ولله حكمة فى ذلك فإنها إن تكاثرت أكثر من اللزم بتدخلات الناس فلابد أن يكون عواقب وخيمة على البيئة المتواجدة فيها
وقال أيضا:
"وقال الآخر في عيب البغلة: شديدة السوس، وذلك مما ينقض قواها ويوهن أمرها، وهي في ذلك أهيج من هرة وإن كانت لا تصيح صياحها، ولا تضغو ضغاءها، وإنما ذلك لأن الحافر في هذا الخلق خلاف البرثن ألا ترى أن الكلب والسنور إذا ضربا صاحا، وكذلك الأسد والنمر والببر والثعلب والفهد وابن أوى وعناق الأرض ولو أخذت الحافر فقطمته، فرساً كان أو برذوناً أو بغلاً أو حماراً، ثم ضربته أنت بعصا لم يصح، وإن كان يجد فوق ما يجد غيره من الألم والبغلة مع ذلك تلقح ولا تنسل، فصار حملها بلاء على صاحبها، لأنها إن وضعته لم يعش وكل حامل من جميع الإناث من شاة أو بقرة أو ناقة أو أتان أو رمكة أو حجر، فإن حملها يكون زائداً في ثمنها، ولا ترد تلك الحوامل بعيب الحمل، إلا المرأة والبغلة فأما المرأة فلشدة الولادة عليها، ولأن حدث الموت من أجل مشقة الولادة عليها من بين جميع الحيوان أسرع وأما البغلة فلأنها إذا أقربت عجزت عن عملها وإذا وضعت لم ينتفع بولدها
والبغلة إذا كامها البرذون لم يصبر عنها، واشتد حرصه عليها فسألت أبا يزيد الإقليدسي عن ذلك، فقال: لأنها أطيب خلوة! فلقبناه: خلوة البغلة!
وأكل القديد في الضرورة ردي للحافر كله، وهو للبغلة أردأ
وأهل البحرين يعلفون دوابهم الحشيش، وقد استمرت على ذلك"
هذا الكلام كان من لمفترض كتابته فى باب طباع البغال وليس فى باب المح والذم
وذكر الرجل بعض الحكايات فى مدح و1ذم البغال فقال:
"قال أبو دلامة في بغلته: وامثل في البغال بغلة أبي دلامة وفي الحمير حمار العبادي وفي الغنم شاة منيع وفي الكلاب كلبة حومل: فقال أبو دلامة يصف بغلته:
أبعد الخيل أركبها وراداً وشقراً في الرعيل إلى القتال
رزقت بغيلة فيها وكال وخير خصالها فرط الوكال
رأيت عيوبها كثرت وعالت ولو أفنيت مجتهداً مقالى
تقوم فما تريم إذا استحثت وترمح باليمين وبالشمال
رياضة جاهل وعليج سوء من الأكراد أحبن ذي سعال
شتيم الوجه هلباج هدان نعوس يوم حل وارتحال
فأدبها بأخلاق سماج جزاه الله شراً عن عيالي
...قال أبو دهبل الجمحي:
حجر تقلبه وهل تعطي على المدح الحجارة
كالبغل يحمد قائماً وتذم سيرته المشارة
..وقال سهم بن حنظلة الغنوي:
فأما كلاب فمثل الكلا ب لا يحسن الكلب إلا هريرا
وأما نمير فمثل البغا ل: أشبهن آباءهن الحميرا
...وقال حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن عرض جسم البغال وأحلام العصافير"
ثم ذكر كلاما المفروض أن يقوله ايضا فى باب طباع البغال وهو استخدامها فى عمليات طحن الغلال والحبوب فقال:
"وقالوا: طحن الحمير والبغال والبقر والإبل، لا يجيء إلا مع تغطية عيونها، ومنافع الطحن عظيمة جداً وطحن البغال أطيب وأريع وكيل ما تطحن أكثر وطحين أرحاء القرى لا يكون له طيب، لأن أرحاء الماء التي هي أرحاء القرى تحدق الدقيق وتفسد الطعم
فهذه المنفعة الكثيرة للبغال فيها ما ليس لغيرها
ولو كلف البرذون الطحن لهرج في ليلة واحدة
والبغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج البرذون
وفي أمثال العامة: الحمار لا يدفأ في السنة إلا يوماً واحداً، وذلك اليوم أيضاً لا يدفأ، كأنهم قضوا بذلك إذ كان عندهم في الصرد ووجدان البرد، في مجرى العنز والحية والجرادة، وإن كان المثل قد سبق في غيره، يقال: أصرد من جرادة، وأصرد من حية
وقال بعض من يحمد البغل: البغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج كما تهرج الرمكة في الحر، والبغل يطحن، وهو فوق كل طاحن ولو طحن البرذون يوماً واحداً في الصيف لسقط ألا ترى أن الثور يطحن والجاموس أقوى منه وهو لا يطحن، وهو أيضاً مما يهرج
وليس البغل كالفيلة: الفيلة لا تلقح إلا في أماكنها، والبغلة قد تلقح في جميع البلدان، ولكن أولادها لا تعيش، والفيل الشاب لا ينبت نابه عندنا"
ثم كرر الجاحظ كلاما سبق أنه قاله فى أول الباب عن حرمة إجبار الناس الحمير والأفراس على الجماع فقال:
"ولما روى المدائني والواقدي وغيرهما، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما استأذن النبي (ص)في إنزاء الحمير على الخيل، قال: " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " قال قوم: جاء الحديث عاماً في ذكر الخيل، ولم يخص العتاق البراذين، لأن اسم الخيل واقع عليهما جميعاً، قال الله سبحانه: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " ، أفتظنون أنه ذكر إنعامه عليهم بما خولهم من المراكب فذكر البغال والحمير وترك البراذين؟ فأما أبو إسحاق فإنه قال: هذا الحديث مختلف فيه، وله أسانيد طوال، ورجال ليسوا بمشهورين من الفقهاء بحمل صحيح الحديث
ويجوز أن ينهي عن إنزاء الحمير على الحجور والرماك جميعاً، فإن جلب جالب ذلك النتاج جاز بيعه وابتياعه، وملكه وعتقه وخصاؤه في الأصل حرام وقد أهدى المقوقس عظيم القبط إلى النبي (ص)خصياً وكان هذا الخصي أخا مارية أم إبراهيم ابن النبي (ص)فقبل هديته وأرسل إليه ببغلة من نتاج ما بين حجر وعير، وليس في هذين الكلام إنما الكلام في الإخصاء وحده، والإنزاء وحده في أصل العمل، فأما إذا ما تم الأمر بينهما، فإن بيعهما وابتياعهما حلال قال: ولا نترك قولاً عاماً قاله الله تعالى في كتابه ونصه، لحديث لا ندري كيف هو، وقد قال الله جل وعز، وهو يريد إذكار الناس نعمه السابغة، وأياديه المجللة حين عدد عليهم، فقال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " فمن أين جاز لنا أن نخص شيئاً دون شيء؟"
والمستفاد من هذا هو حرمة إجبار أى نوعين على الجماع لأنه هذا افساد للبيئة
ثم ذكر باب فى الخلق المركب فقال:
"باب آخر في الخلق المركب:
أما ما ذكرنا من أجناس الحيوان المركبات، كالبغل والشهري، والمقرف والهجين وكالبخت والبهوني والصرصراني والطير الورداني والحمام الراعبي فقد عرفنا كيف تركيب ذلك وعرفنا اختلاف الآباء والأمهات فأما السمع والعسبار والديسم والعدار والزرافة، فهذا شيء لم أحقه وقد أكثر الناس في هذا وفي اللخم، وفي الكوسج، وفي الدلفين وفيما يتراكب بين الثعلب والسنور البري فإن هذا كله إنما نسمعه في الأشعار في البيت بعد البيت ومن أفواه رجال لا يعرفون بالتحصيل والتثبت وليسوا بأصحاب توق وتوقف وإذا كان إياس بن معاوية القاضي يزعم أن الشبوطة إنما خلقت من بين الزجر والبني، وأن من الدليل على ذلك أن الشبوطة لا يوجد في جوفها بيض أبداً لأنها كالبغلة فأنا رأيت في جوفها البيض مراراً، ولكنه بيض سوء لا يؤكل ليس بالعظيم ولا يستطيل في البطن كما يستطيل بيض جميع أناث السمكوالشبوط جنس يكون ذكرانه أكثر، فلا يكاد إنسان يقل أكله للشبوط يرى بيض الشبوط، فإذا كان إياس يغلط فما ظنك بمن دونه وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص وسمروا به عند الملوك وزعموا أن بلقيس بنت ذي مشرح، وهي ملكة سبأ ذكرها الله في القرآن فقال: " ولها عرش عظيم " زعموا أن أمها جنية وأن أباها إنسي غير أن تلك الجنية ولدت إنسية خالصة صرفاً بحتاً ليس فيها شوب، ولا نزعها عرق، ولا جذبها شبه، وأنها كانت كإحدى نساء الملوك
فاحسب أن التناكح يكون بين الجن والإنس، من أين أوجبوا التلاقح، ونحن نجد الأعرابي والشاب الشبق، يجامعان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناساً كثيرة، فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نر ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء، ألقح منها شيء من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا وأصل الإنسان منطين، والجان خلق من نار السموم، فشبه ما بين الجن والإنس، أبعد من شبه ما بين الإنسان والقرد وكان ينبغي للقردة أن تلقح من الإنسان ومن العجب أنهم يزعمون أنما تصرع المرأة لأن واحداً من الجن عشقها وأنه لم يأتها إلا على شهوة الذكر للأنثى أو شهوة الأنثى للذكر وقيل لعمرو بن عبيد: أيكون أن يصرع شيطان إنساناً؟ قال: لو لم يكن ذلك لما ضرب الله به المثل لآكل الربا حيث يقول: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " فهذا شيء واضح قال: ثم وقفنا على رجل مصروع، فقلت له: أرأيت هذا الصرع تزعم أنه من شيطانه؟ قال: أما هذا بعينه فلا أدري أمن فساد مرة وبلغم، أم من شيطان وما أنكر أن يكون خبط شيطان وصرعه، وكيف لا يجوز ذلك مع ما سمعنا في القرآن؟
قال: وسمعته، وسأله سائل عن رجل هام على وجهه، مثل عمرو بن عدي صاحب جذيمة الوضاح، ومثل عمارة بن الوليد، وطالب بن أبي طالب، فقال: قد قال الله: " كالذي استهوته الشياطين في الأرض "
وأنا أعلم أن في الناس من قد استهوته الشياطين ولست أقضي على الجميع بمثل ذلك وقد قالوا في الغريض المغني، وسعد بن عبادة وغيرهما، وهذا عندنا قول عدل وكل ما قالوا من أحاديثهم في الخلق المركب، فهو أيسر من قولهم في ولادة بلقيسوهم يروون في رواياتهم في تزويج الإنسان من الجن، حتى جعلوا قول الشاعر:
يا قاتل الله بني السعلاة عمراً وقابوساً شرار النات
يريد: الناس أنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس
هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي، وفي الناس والنسناس ولم يرض الكميت بهذا حتى قال:
نسناسهم والنسانسا فقسم الأقسام على ثلاثة: على الناس، والنسناس، والنسانس وتزعم أعراب بني مرة أن الجن إنما استهوت سناناً لتستفحله إذ كان منجباً، وسنان إنما هام على وجهه وقال رجل من العرب: والله لقد كان سنان أحزم من فرخ العقاب "
وهذا الكلام عن تناسل الكثير من الأنواع بالجماع غير صحيح فالأنواع المتشابهة البنية فقط هى التى يمكن ان ينتج عنها نسل كالخيل والحمير وما يسموه عائلة القطط كالأسود والقط البرى وأما بقية لأنواع خاصة الإنسان والجن فلا يكن أن تتناسل خاصة أن أحدهم مرئى والأخر خفى فكيف سيكون النسل نصفه مرئى ونصفه خفى ؟
وقال الجاحظ عن البراذين:
"وفي القرآن الكريم: " والخيل والبغال والحمير " حين أراد أن يعدد أصناف نعمه أفتراه ذكر نعمه في الحمار والبغل ويدع نعمته في البراذين والبراذين أكثر من البغال، ولعلها أكثر من الحمير الأهلية، التي هي للركوب، لأن الله تعالى قال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " وحمر الوحش وإن كانت حميراً فليست بمراكب
وفرسان العجم تختار في الحرب البراذين على العتاق لأنها أحسن مواتاة والفحل والحصان من العتاق ربما شم ريح الحجر في جيش الأعداء، فتقحم بفارسه حتى يعطب ولذلك اختاروا البراذين للصوالجة والطبطابات والمشاولة، وإنما أرادوا بذلك كله أن يكون دربة للحرب وتمريناً وتأسيساً فأكثر الحمير والبغال تتخذ لغير الركوب، وليس في البراذين طحانات ولا نقالات، ولا تكسح عليها الأرض إلا في الفرط فكيف يدع ذكر ما هو أعظم في المنفعة وأظهر في النعمة مع الجمال والوطاءة إلى ذكر ما لايدانيه؟"
وهذا الكلام سوء كان الجاحظ من قاله أو حكاه عن بعضهم فهو كلام يخالف كون البغال وضعت وسط بين البغال والحمير ومن ثم أى نسل خارج منهما هو بغل سواء سموه برذونا أو بغلا فكلها بغال ولابد أن يكون هذا هو معنى البغل
"باب الخلق المركب:
وقال أصحاب البغال: لا نعلم شيئاً من الحيوان ركب بين شيئين نزع إليهما نزعاً سواءً لا يغادر شيئاً غير البغل، فإن شبه أبويه عليه بقسمة عدل، وقد ذكر ذلك محمد بن يسير في شعره طلب فيه من مويس بن عمران بغلة لرحلة فقال:
اضمم علي مآربا قد أصبحت شتى بداد شتيتة الأوطان
بزفوف ساعات الكلال دليقة سفواء أبدع خلقها أبوان
لم يعتدل في المنصبين كلاهما عند التناسب منهما الجنسان
إلا تكن لأب أغر فإنها تنمي إلى خال أغر هجان
نزعت عن الخيل العتاق نجاءها منها، وعتق سوالف ولبان
ولها من الأعيار عند مسيرها جد وطول صبارة ومران
قال ذلك لأن حافر العير أوقح الحوافر، فأعطاه أبوه من الخصلة التي بها من سائر الحوافر ومثل الجمازات التي تجيء بين فوالج البخت وقلاص العراب، ومثل البرذون الشهري من الرمكة والفرس العتيق
قالوا: فليس يعتدل في شيء من ذلك الشبه، كما يعتدل في البغل ولذلك قال الشاعر السواق، وهو إبراهيم مولى المهالبة:
تساهم فيه الخال والعم مثلما تساهم في البغل الحمارة والطرف
فزعم في هذا الشعر أن هذا البغل أبوه فرس وأمه أتان وهذا خلاف ما رواه أبو عبيدة وأنشد أبو عبيدة:
وشاركها في خيمها وهو راغم كما شاركت في البغل عيراً حجورها
لأنهم يقولون: إذا كانت الأم رمكةً، خرج البغل وثيجاً قوياً عريضاً، وإذا كانت الأم حجراً خرج البغل مسلكاً، طويل العنق، وفيه دقة"
وهو هنا ينقل كلاما على ألسنة الناس فى تركيب البغال وفى كون أصلها نتيجة جماع ذكر الخيل وأنثى الحمار أو ذكر الحمير وأنثى الخيل وأن فى تركيب جسمها بعض من هذا وبعض من ذاك ومع كون الباب مخصص للتركيب فإن لرجل ذكر أمورا لا علاقة لها بالموضوع فى الباب فقال ذاكرا الأيور :
وقال مسلم بن الوليد:
تركت الخيل والخيل معقل وأصبحت في وصف البغال الكوادن
حننت إليها رغبة في أيورها فدونك أير البغل يا عبد مازن"
وفى باب أعمال البغال والحيوانات قال :
"باب عمر البغل وسائر المخلوقات:
قال أهل التجربة: ليس في جميع الحيوان الذي يعايش الناس، أطول عمراً من البغل، ولا أقصر عمراً من العصفور، وظنوا ذلك لكثرة سفاد العصفور، وقلة ذلك من البغل"
وذكر قول أحدهم فى عمر البغال:
عزمت على ذم البعير موفقاً وأن ليس في المركوب أجمع من بغل
وأن اقتناء الإبل موق وحرفة يبيت على يسر ويغدو على ثكل
وبين المنايا والبراذين نسبة وكل نتاج الناس خير من الإبل
وقلت وشاهدت البغال وغيرها فأحمدتها في العمر والهرم المبلي"
وحكاية طول عمر البغال عن الحيوانات الأخرى لا أصل لها فالله جعل لكل مخلوق عمرا طال او قصر وإن كان هناك علاقة علمية بين قصر فترة الحمل أو وضع البيض وبين قصر العمر فالأنواع التى تلد بعد فترات قصيرة أو تبيض عمرها أقصر والأنواع التى فترات حملها طويلة أعمارها أطول
ثم ذكر بابا فى العلاقة بين ركوب البغال والقضاء فقال :
"باب ركوب البغلة والطمع في القضاء:
ونحن بالبصرة إذ رأينا الرجل يطلب الرأي، ويركب بغلاً، ويردف خلفه غلاماً قضينا بأنه يطمع في القضاء قال ابن الممزق:
إذا ركب الشيخ الشريف بغيلة وناظر أهل الرأي عند هلال
فذاك الذي يبغي القضاء بسمته الذئب أم غزال
فإن أردف العبد الصغير وراءه فويل لأيتام وإرث رجال
وإن ركب البرذون واشتد خلفه فصاحب أشراط وحمل إلال"
وهى ملاحظة اجتماعية وكانت منذ عقود تشبهها علاقة التجار بركوب البغال والحمير فى مصر ومن المؤكد وجود أشباهها فى بقية البلاد
وذكر فى الباب ما لا علاقة له بموضوعه وهو القضاء وهو تشبيه الأسد بالبغل وهو قوله:
"قالوا: ويشبهون الأسد بالبغل، إذا كان الأسد تام الخلق قال نهشل بن حري:
وما سبق الحوادث ليث غاب يجر لعرسه جزر الرفاق
كميت تعجز الخلعاء عنه كبغل السرج خط من الوثاق
ثم تحت عنوان تأثير البيئة فى الحيوانات قال:
"باب تأثير البيئة في الحيوانات
وزعم ناس من العلماء أن الحمير الأخدرية، وهي أعظم حمير الوحش وأتمها، زعموا أن أصل ذلك النتاج أن خيلاً لكسرى توحشت، وضربتفي العانات، فكان نتاجها هذه الحمير التي لها هذا التمام وقال آخرون: الأخدرية هي الحمر التي تكون بكاظمة ونواحيها، فهي كأنها برية بحرية قالوا: ولا يجيء، فيما بين الخيل والحمير إلا البغال، وليس للبغل نسل يعيش، ولا نجل يبقى، فكيف لقحت هذه الأتن من تلك الخيل حميراً، ثم طبقت تلك الصحارى بالحمر الخالصة؟ "
هنا نظرية جديدة وهى أن ضرب الحمير فى العانات ضربا متكررا هو سبب وجود نسل جديد وهو أمر بالقطع لو حدث فإنه يعز الحمير عن الجماع لأنه يتسبب فى ضعف انتصابها لن الضرب المتكرر يمين الخلايا أو يضعفها وهى نظرية انتقدها الرجل وبين ضعفها
والمستفاد من الباب هو أن البغال ليس لها نسل
ثم ذكر الجاحظ باب لجماع البغل والحيوانات فقال:
"باب سفاد البغل وسائر الحيوانات:
قال أبو شراعة:
أير حمار في حر أم شعري وأير بغل في حر أم قدري
لو كنت ذا مال دعاني السدري
..وقالوا: أير الثور أطول وأصلب قال صاحب البغل: ليس بأطول ولو كان أطول كانت البقرة لا تقف للثور، وإنما يكومها وهي تعدو، وهو لا يدخل قضيبه في حياء البقرة، والبغلة تقف للبغل، وتطلب ذلك منه، لسوس شديد، وإرادة تامة وقال صاحب الثور: إن أصل غرمول البغل لا ينطبق على ظبية البغلة كانطباق أير الرجل على فرج المرأة حتى لا يبقى منه قليل ولا كثير، ويفضل من أير البغل نحو من نصفه، وذلك أن مقاديم أيور الحافر فيها الإسترخاء، وأصولها لا تصير إلى أجواف الإناث، وإنما يصل من الصلب المتوتر مقدار نصفه فقط والثور أول قضيبه وآخره عصب مدمج، وعقب مصمت، وأنت تقر أنها لو وقفت لخرقها والبقرة في وقت نزو الثور عليها كأنها تكرهه قال صاحب البغل: أليس قد أقررت أنه وإن كان في غاية الصلابة، أنه إنما يدخل فيها بعض قضيبه، وهذا المفخر إنما هو للإنسان "
والمفروض أن يعقد هذه الباب لسفاد البغل وليس لسائر الحيوان ولكن الرجل مولع بذكر تلك الأمور فيقول:
"ويقال لأير الإنسان: ذكر، وأير وجردان الحمار والبغل وغرمولها والجمع: جرادين وغراميل ويقال: نضي الفرس، ومقلم البعير ووعاء مقلمه يقال له: الثيل ووعاء الجردان وجميع الحافر يقال له: القنب
ويقال قضيب التيس، وقضيب الثور، وعقدة الكلب
وتقول العرب: صرفت البقرة فهي صارف، وسوست البغلة
ويقال: هي امرأة هدمى، وغلمة وقال أكثر العلماء: ما يقال مغتلمة وشاة حرمى وناقة ضبعة، وفرس وديق وكلبة مجعل
ويقال: حر المرأة، والفرج، وظبية الفرس، وكذلك من الحافر وحياء الشاة، وكذلك من الخف كله وثفر الكلبة، وكذلك من السباع كلها وتستعير الشعراء بعض هذه من بعض، إذا احتاجت إلى إقامة الوزن
فإذا حملت الشاة فهي: حامل، والبقرة كذلك، والفرس عقوق، وكذلك الرمكة والأتان جامع، وبغلة جامع وكلبة مجح، وكذلك السباع
ويقال: إن أكبر الأيور أير الفيل، وأصغرها أير الظبي، وليس في الأرض حجم أير ظاهر في كل حال، إلا إير الإنسان والقرد والكلب
وأما البط فقضيبه يظهر عند القمط وأطول أيور الناس ما كان ثلاثة عشر أصبعاً"
ثم ذكر الرجل ما اعتقده هو والناس عيوبا أو أضرارا للبغال فقال :
"قال: وذم رجل البغل، فقال: لا لحم ولا لبن، ولا أدب ولا لقن، ولا فوت ولا طلب، إن كان فحلاً قتل صاحبه وإن كانت إنثى لم تنسل
وكل مركب من جميع الأجناس له نجل غيره، كالبخت بين العراب والفوالج، ...وإذا صرت إلى البغال، صرت إلى سوس في الأنثى لا ينادى وليده، وإلى غلمة في الذكر لا توصف، ثم هي مع هذا لا تتلاقح
....والبغلة والبغل يعتريهما من الشبق ما لا يعتري إناث السنانير، ثم هي مع ذلك لا تتلاقح، فإن لقحت في الندرة أخدجت وقال الشاعر في سوس البغلة:
وقد سوست حتى تقاصر دونها هياج سنانير القرى في الصنابر
وذلك من عيوبها قالوا: ولم تأخذ صهيل الأخوال، ولا نهيق الأعمام، وخرجت مقادير غراميلها عن غراميل أعمامها وأخوالها فإن زعمتم أن أعمارها أطول ، فعيوبها أكثر، وأيام الإنتفاع بها أقل، وباعتها فجر، والخصومة معهم أفحش وخسرانها يوفي على أضعاف ربحها وشرها غامر لخيرها ومما تخالف أخلاق سائر المركوبات: أنك إذا سرت على الإبل والخيل والحمير والبقر، في الأسفار الطوال، في سواد ليلك، إلى انتصاف نهارك، ثم صارت إلى المنزل عند الإعياء والكلال طلب جميع المركوبات المراعي والأواري، وأخرجت البغال بعقب ذلك التعب الطويل، أيوراً كجعاب القسي، تضرب بها بطونها وصدورها، حتى كأنها تتعالج به من ألم السفر وكل دابة سواها إذا بلغت لم يكن لها همة إلا المراغة والربوض، والأكل والشرب وهي مع ذلك من أغلم الدواب، وأبعدها من العتق ولم نجد عظم الأيور في جميع الحيوان في أشراف الحيوان إلا في الفرط، وذلك عام في الزنوج والحبشان وتجده في الحمير والبغال
قالوا: وأير الفيل كبير، ولم يخرج من مقدار بدنه
ولعمري إن الرجال ليتمنون عظم الأيور كما تتمنى النساء ضيق الأحراح
وفي الأنبياء راكب البعير، وراكب الحمار وكل ذي عزم منهم فركاب خيل مرتبط عتاق، وليس فيهم راكب بغل وإنما كانت بغلة النبي (ص)هدية من المقوقس، قبلها على التألف، وعلى مثال ما كان يعطي المؤلفة قلوبهم ولم يجعلها الله شرى ولا تلاداً ولا هدية سلم"
وهذا الكلام غير علمى فالرجل يعيب البغال بأن لا هم لها سوى السفاد فى حياتها وهو يؤكد مذهبه فى العيب فيها بأن الرسل سموا بركوب بعض الحيوانات وليس منها البغل مع أنه أطلق عليها اسم دلدل وهو اسم يدل على كثرة ركوبها
وبعض هذا ذكمرا بابا لمدح وذم البغال فقال:
"باب مدح البغال وذمها:
يروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن ينزى حمار على فرس، ونهانا أن نأكل الصدقة، وأمرنا أن نسبغ الوضوء
وعن علي كرم الله وجهه قال: " نهى النبي (ص)أن ينزى الحمار على فرس "
والمستفاد من الفقرة هو حرمة إجبار حمار على جماع فرس فالمفروض أن تنتج البغال بالجماع دون تدخل من الناس ولله حكمة فى ذلك فإنها إن تكاثرت أكثر من اللزم بتدخلات الناس فلابد أن يكون عواقب وخيمة على البيئة المتواجدة فيها
وقال أيضا:
"وقال الآخر في عيب البغلة: شديدة السوس، وذلك مما ينقض قواها ويوهن أمرها، وهي في ذلك أهيج من هرة وإن كانت لا تصيح صياحها، ولا تضغو ضغاءها، وإنما ذلك لأن الحافر في هذا الخلق خلاف البرثن ألا ترى أن الكلب والسنور إذا ضربا صاحا، وكذلك الأسد والنمر والببر والثعلب والفهد وابن أوى وعناق الأرض ولو أخذت الحافر فقطمته، فرساً كان أو برذوناً أو بغلاً أو حماراً، ثم ضربته أنت بعصا لم يصح، وإن كان يجد فوق ما يجد غيره من الألم والبغلة مع ذلك تلقح ولا تنسل، فصار حملها بلاء على صاحبها، لأنها إن وضعته لم يعش وكل حامل من جميع الإناث من شاة أو بقرة أو ناقة أو أتان أو رمكة أو حجر، فإن حملها يكون زائداً في ثمنها، ولا ترد تلك الحوامل بعيب الحمل، إلا المرأة والبغلة فأما المرأة فلشدة الولادة عليها، ولأن حدث الموت من أجل مشقة الولادة عليها من بين جميع الحيوان أسرع وأما البغلة فلأنها إذا أقربت عجزت عن عملها وإذا وضعت لم ينتفع بولدها
والبغلة إذا كامها البرذون لم يصبر عنها، واشتد حرصه عليها فسألت أبا يزيد الإقليدسي عن ذلك، فقال: لأنها أطيب خلوة! فلقبناه: خلوة البغلة!
وأكل القديد في الضرورة ردي للحافر كله، وهو للبغلة أردأ
وأهل البحرين يعلفون دوابهم الحشيش، وقد استمرت على ذلك"
هذا الكلام كان من لمفترض كتابته فى باب طباع البغال وليس فى باب المح والذم
وذكر الرجل بعض الحكايات فى مدح و1ذم البغال فقال:
"قال أبو دلامة في بغلته: وامثل في البغال بغلة أبي دلامة وفي الحمير حمار العبادي وفي الغنم شاة منيع وفي الكلاب كلبة حومل: فقال أبو دلامة يصف بغلته:
أبعد الخيل أركبها وراداً وشقراً في الرعيل إلى القتال
رزقت بغيلة فيها وكال وخير خصالها فرط الوكال
رأيت عيوبها كثرت وعالت ولو أفنيت مجتهداً مقالى
تقوم فما تريم إذا استحثت وترمح باليمين وبالشمال
رياضة جاهل وعليج سوء من الأكراد أحبن ذي سعال
شتيم الوجه هلباج هدان نعوس يوم حل وارتحال
فأدبها بأخلاق سماج جزاه الله شراً عن عيالي
...قال أبو دهبل الجمحي:
حجر تقلبه وهل تعطي على المدح الحجارة
كالبغل يحمد قائماً وتذم سيرته المشارة
..وقال سهم بن حنظلة الغنوي:
فأما كلاب فمثل الكلا ب لا يحسن الكلب إلا هريرا
وأما نمير فمثل البغا ل: أشبهن آباءهن الحميرا
...وقال حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن عرض جسم البغال وأحلام العصافير"
ثم ذكر كلاما المفروض أن يقوله ايضا فى باب طباع البغال وهو استخدامها فى عمليات طحن الغلال والحبوب فقال:
"وقالوا: طحن الحمير والبغال والبقر والإبل، لا يجيء إلا مع تغطية عيونها، ومنافع الطحن عظيمة جداً وطحن البغال أطيب وأريع وكيل ما تطحن أكثر وطحين أرحاء القرى لا يكون له طيب، لأن أرحاء الماء التي هي أرحاء القرى تحدق الدقيق وتفسد الطعم
فهذه المنفعة الكثيرة للبغال فيها ما ليس لغيرها
ولو كلف البرذون الطحن لهرج في ليلة واحدة
والبغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج البرذون
وفي أمثال العامة: الحمار لا يدفأ في السنة إلا يوماً واحداً، وذلك اليوم أيضاً لا يدفأ، كأنهم قضوا بذلك إذ كان عندهم في الصرد ووجدان البرد، في مجرى العنز والحية والجرادة، وإن كان المثل قد سبق في غيره، يقال: أصرد من جرادة، وأصرد من حية
وقال بعض من يحمد البغل: البغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج كما تهرج الرمكة في الحر، والبغل يطحن، وهو فوق كل طاحن ولو طحن البرذون يوماً واحداً في الصيف لسقط ألا ترى أن الثور يطحن والجاموس أقوى منه وهو لا يطحن، وهو أيضاً مما يهرج
وليس البغل كالفيلة: الفيلة لا تلقح إلا في أماكنها، والبغلة قد تلقح في جميع البلدان، ولكن أولادها لا تعيش، والفيل الشاب لا ينبت نابه عندنا"
ثم كرر الجاحظ كلاما سبق أنه قاله فى أول الباب عن حرمة إجبار الناس الحمير والأفراس على الجماع فقال:
"ولما روى المدائني والواقدي وغيرهما، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما استأذن النبي (ص)في إنزاء الحمير على الخيل، قال: " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " قال قوم: جاء الحديث عاماً في ذكر الخيل، ولم يخص العتاق البراذين، لأن اسم الخيل واقع عليهما جميعاً، قال الله سبحانه: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " ، أفتظنون أنه ذكر إنعامه عليهم بما خولهم من المراكب فذكر البغال والحمير وترك البراذين؟ فأما أبو إسحاق فإنه قال: هذا الحديث مختلف فيه، وله أسانيد طوال، ورجال ليسوا بمشهورين من الفقهاء بحمل صحيح الحديث
ويجوز أن ينهي عن إنزاء الحمير على الحجور والرماك جميعاً، فإن جلب جالب ذلك النتاج جاز بيعه وابتياعه، وملكه وعتقه وخصاؤه في الأصل حرام وقد أهدى المقوقس عظيم القبط إلى النبي (ص)خصياً وكان هذا الخصي أخا مارية أم إبراهيم ابن النبي (ص)فقبل هديته وأرسل إليه ببغلة من نتاج ما بين حجر وعير، وليس في هذين الكلام إنما الكلام في الإخصاء وحده، والإنزاء وحده في أصل العمل، فأما إذا ما تم الأمر بينهما، فإن بيعهما وابتياعهما حلال قال: ولا نترك قولاً عاماً قاله الله تعالى في كتابه ونصه، لحديث لا ندري كيف هو، وقد قال الله جل وعز، وهو يريد إذكار الناس نعمه السابغة، وأياديه المجللة حين عدد عليهم، فقال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " فمن أين جاز لنا أن نخص شيئاً دون شيء؟"
والمستفاد من هذا هو حرمة إجبار أى نوعين على الجماع لأنه هذا افساد للبيئة
ثم ذكر باب فى الخلق المركب فقال:
"باب آخر في الخلق المركب:
أما ما ذكرنا من أجناس الحيوان المركبات، كالبغل والشهري، والمقرف والهجين وكالبخت والبهوني والصرصراني والطير الورداني والحمام الراعبي فقد عرفنا كيف تركيب ذلك وعرفنا اختلاف الآباء والأمهات فأما السمع والعسبار والديسم والعدار والزرافة، فهذا شيء لم أحقه وقد أكثر الناس في هذا وفي اللخم، وفي الكوسج، وفي الدلفين وفيما يتراكب بين الثعلب والسنور البري فإن هذا كله إنما نسمعه في الأشعار في البيت بعد البيت ومن أفواه رجال لا يعرفون بالتحصيل والتثبت وليسوا بأصحاب توق وتوقف وإذا كان إياس بن معاوية القاضي يزعم أن الشبوطة إنما خلقت من بين الزجر والبني، وأن من الدليل على ذلك أن الشبوطة لا يوجد في جوفها بيض أبداً لأنها كالبغلة فأنا رأيت في جوفها البيض مراراً، ولكنه بيض سوء لا يؤكل ليس بالعظيم ولا يستطيل في البطن كما يستطيل بيض جميع أناث السمكوالشبوط جنس يكون ذكرانه أكثر، فلا يكاد إنسان يقل أكله للشبوط يرى بيض الشبوط، فإذا كان إياس يغلط فما ظنك بمن دونه وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص وسمروا به عند الملوك وزعموا أن بلقيس بنت ذي مشرح، وهي ملكة سبأ ذكرها الله في القرآن فقال: " ولها عرش عظيم " زعموا أن أمها جنية وأن أباها إنسي غير أن تلك الجنية ولدت إنسية خالصة صرفاً بحتاً ليس فيها شوب، ولا نزعها عرق، ولا جذبها شبه، وأنها كانت كإحدى نساء الملوك
فاحسب أن التناكح يكون بين الجن والإنس، من أين أوجبوا التلاقح، ونحن نجد الأعرابي والشاب الشبق، يجامعان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناساً كثيرة، فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نر ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء، ألقح منها شيء من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا وأصل الإنسان منطين، والجان خلق من نار السموم، فشبه ما بين الجن والإنس، أبعد من شبه ما بين الإنسان والقرد وكان ينبغي للقردة أن تلقح من الإنسان ومن العجب أنهم يزعمون أنما تصرع المرأة لأن واحداً من الجن عشقها وأنه لم يأتها إلا على شهوة الذكر للأنثى أو شهوة الأنثى للذكر وقيل لعمرو بن عبيد: أيكون أن يصرع شيطان إنساناً؟ قال: لو لم يكن ذلك لما ضرب الله به المثل لآكل الربا حيث يقول: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " فهذا شيء واضح قال: ثم وقفنا على رجل مصروع، فقلت له: أرأيت هذا الصرع تزعم أنه من شيطانه؟ قال: أما هذا بعينه فلا أدري أمن فساد مرة وبلغم، أم من شيطان وما أنكر أن يكون خبط شيطان وصرعه، وكيف لا يجوز ذلك مع ما سمعنا في القرآن؟
قال: وسمعته، وسأله سائل عن رجل هام على وجهه، مثل عمرو بن عدي صاحب جذيمة الوضاح، ومثل عمارة بن الوليد، وطالب بن أبي طالب، فقال: قد قال الله: " كالذي استهوته الشياطين في الأرض "
وأنا أعلم أن في الناس من قد استهوته الشياطين ولست أقضي على الجميع بمثل ذلك وقد قالوا في الغريض المغني، وسعد بن عبادة وغيرهما، وهذا عندنا قول عدل وكل ما قالوا من أحاديثهم في الخلق المركب، فهو أيسر من قولهم في ولادة بلقيسوهم يروون في رواياتهم في تزويج الإنسان من الجن، حتى جعلوا قول الشاعر:
يا قاتل الله بني السعلاة عمراً وقابوساً شرار النات
يريد: الناس أنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس
هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي، وفي الناس والنسناس ولم يرض الكميت بهذا حتى قال:
نسناسهم والنسانسا فقسم الأقسام على ثلاثة: على الناس، والنسناس، والنسانس وتزعم أعراب بني مرة أن الجن إنما استهوت سناناً لتستفحله إذ كان منجباً، وسنان إنما هام على وجهه وقال رجل من العرب: والله لقد كان سنان أحزم من فرخ العقاب "
وهذا الكلام عن تناسل الكثير من الأنواع بالجماع غير صحيح فالأنواع المتشابهة البنية فقط هى التى يمكن ان ينتج عنها نسل كالخيل والحمير وما يسموه عائلة القطط كالأسود والقط البرى وأما بقية لأنواع خاصة الإنسان والجن فلا يكن أن تتناسل خاصة أن أحدهم مرئى والأخر خفى فكيف سيكون النسل نصفه مرئى ونصفه خفى ؟
وقال الجاحظ عن البراذين:
"وفي القرآن الكريم: " والخيل والبغال والحمير " حين أراد أن يعدد أصناف نعمه أفتراه ذكر نعمه في الحمار والبغل ويدع نعمته في البراذين والبراذين أكثر من البغال، ولعلها أكثر من الحمير الأهلية، التي هي للركوب، لأن الله تعالى قال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " وحمر الوحش وإن كانت حميراً فليست بمراكب
وفرسان العجم تختار في الحرب البراذين على العتاق لأنها أحسن مواتاة والفحل والحصان من العتاق ربما شم ريح الحجر في جيش الأعداء، فتقحم بفارسه حتى يعطب ولذلك اختاروا البراذين للصوالجة والطبطابات والمشاولة، وإنما أرادوا بذلك كله أن يكون دربة للحرب وتمريناً وتأسيساً فأكثر الحمير والبغال تتخذ لغير الركوب، وليس في البراذين طحانات ولا نقالات، ولا تكسح عليها الأرض إلا في الفرط فكيف يدع ذكر ما هو أعظم في المنفعة وأظهر في النعمة مع الجمال والوطاءة إلى ذكر ما لايدانيه؟"
وهذا الكلام سوء كان الجاحظ من قاله أو حكاه عن بعضهم فهو كلام يخالف كون البغال وضعت وسط بين البغال والحمير ومن ثم أى نسل خارج منهما هو بغل سواء سموه برذونا أو بغلا فكلها بغال ولابد أن يكون هذا هو معنى البغل