رضا البطاوى
19-05-2020, 08:51 AM
نقد رسالة ضمن «مجموع في السياسة»
المؤلف: الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي، شرف الملك: الفيلسوف الرئيس (المتوفى: 428هـ)
بدأ ابن سينا الرسالة بمقدمة من مقدمات الكتب المعروفة فى التراث فقال :
"الحمد لله الذي نهج لعباده بما دلهم عليه من حمده وسبيل شكره وأشرع لهم بما هيأهم له من شكره أبواب مزيدة ومن عليهم بالعقل الذي جعله لدينهم عصمة ولدنياهم عمادا وقائمة وحباهم بالنطق الذي جعله فرقا بينهم وبين البهائم العجم والأنعام البكم
فالحمد لله حمدا كثيرا على ما عم من حسن تدبيره وشمل من لطف تقديره حتى حاز كل صنف من أصناف خلقه حظه من المصلحة واستوفى كل نوع سهمه من المرفق والمنفعة فلم يفت جميل صنعه صغيرا ولا كبيرا بل أفاض عليهم جميعا من سوابغ نعمه وشوامل مواهبه ما صلحت به أحوالهم وتم بمكانه نقصهم وقوي من أجله عجزهم ثم خص بني آدم بخصائص من نعمه فضلهم بها على كثير من خلقه فجعلهم أحسن الخلق وطبائعهم أكمل الطبائع وتركيبهم أعدل التركيب ومعيشتهم أنعم المعاش وسعيهم في منقلبهم أرد السعي إلى العقول الرضية التي أمدهم بها والأحلام الراجحة التي أيدهم بفضلها والآداب الحسنة التي ألبسهم جمالها والأخلاق الكريمة التي زينهم بشرفها مع التمييز الذي أراهم به فرق ما بين الخير والشر وخلاف ما بين الغي والرشد وفضل ما بين الصانع والمصنوع والمالك والمملوك والسائس والمسوس حتى صار ذلك طريقا لهم إلى المعرفة ما بين الخالق والمخلوق وسبيلا واضحا إلى تثبيت الصانع القديم إلا جحود عناد أو مكابرة عيان"
هذه المقدمة من يقرأها يظن أن الرجل سيقدم كتابا يستشهد فيه بالآيات والروايات والحكايات ولكن سيخيب ظن القارىء فالكتاب ليس فيه آيات ولا روايات ولا حتى حكايات فهو كتاب جاف حالى من هذا يتحدث عن سياسة الناس وقد استهل الكتاب بالعنوان التالى :
"اختلاف أقدار الناس وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم:
ثم من عليهم بفضل رأفته منا مستأنفا بأن جعلهم في عقولهم وآرائهم متفاضلين كما جعلهم في أملاكهم ومنازلهم ورتبهم متفاوتين لما في استواء أحوالهم وتقارب أقدارهم من الفساد الداعي إلى فنائهم لما يلقي بينهم من التنافس والتحاسد ويثير من التباغي والتظالم فقد علم ذوو العقول أن الناس لو كانوا جمعيا ملوكا لتفانوا عن آخرهم ولو كانوا كلهم سوقة لهلكوا عيانا بأسرهم كما أنهم لو استووا في الغنى لما مهن أحد لأحد ولا رفد حميم حميما ولو استووا في الفقر لماتوا ضرا وهلكوا بؤسا فلما كان التحاسد من أطباعهم والتباهي من سوسهم وفي أصل جوهرهم كان اختلاف أقدارهم وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم وعلة لقناعتهم فذو المال الغفل من العقل العطل من الأدب المدرك حظه من الدنيا بأهون سعي إذا تأمل حال العاقل المحروم وأكدار الحول القلب ظن بل أيقن أن المال الذي وجده مغير من العقل الذي عدمه وذو الأدب المعدم إذا تفقد حال المثري الجاهل لم يشك في أنه فضل عليه وقدم دونه وذو الصناعة التي تعود عليه بما يمسك رمقه لا يغبط ذا السلطان العريض ولا ذا الملك المديد وكل ذلك من دلائل الحكمة وشواهد لطف التدبير وأمارات الرحمة والرأفة"
هذه الفقرة يبدو فى بدايتها أن هناك كلام ناقص فالعنوان اختلاف أقدار الناس وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم: يليه العبارة التالية "ثم من عليهم بفضل رأفته منا مستأنفا بأن جعلهم في عقولهم" واستعمال ثم فى أول العبارة يعنى وجود عبارات سابقة ساقطة
يتعرض الرجل هنا لنقطة اختلاف أحوال الناس فى المال والصحة والعلم وغير هذا ويؤكد أن سبب بقاء الناس هو اختلافهم وأخطاء الفقرة هى :
الأول القول فقد علم ذوو العقول أن الناس لو كانوا جميعا ملوكا لتفانوا عن آخرهم ولو كانوا كلهم سوقة لهلكوا عيانا بأسرهم"
والله جعل الناس جميعا ملوكا فقال فى بنى إسرائيل "وجعلكم ملوكا " أى حكاما لأنفسهم وساوى بينما فقال " إنما المؤمنون اخوة" دليل على أنهم سيان فى المكانة فحتى الرسول(ص) نفسه ليس سوى واحد منهم يجب أن يشاركهم فى الأمر وهو قوله تعالى ""فبما رحمة من ربك لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر" ولذا قال تعالى "وأمرهم شورى بينهم "
الثانى القول "كما أنهم لو استووا في الغنى لما مهن أحد لأحد ولا رفد حميم حميما ولو استووا في الفقر لماتوا ضرا وهلكوا بؤسا"
خذا القول يتعارض مع مساواة الله بين الناس فى القسمة المالية لمنافع الأرض حيث قال "وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام سواء للسائلين"
فلم يشرع الله الغنى ولا الفقر وإنما شرع العدل وجعل الفروق بين الناس قليلة جدا ناتجة من الميراث والهبات والمشاركة فى الجهاد
وتحت عنوان وجوب السياسة قال ابن سينا:
"وأحق الناس وأولاهم بأمل ما يجري عليه تدبير العالم من الحكمة وحسن واتقان السياسة وأحكام التدبير الملوك الذين جعل الله تعالى ذكره بأيديهم أزمة العباد وملكهم تدبير البلاد واسترعاهم أمر البرية وفوض إليهم سياسة الرعية ثم الأمثل فالأمثل من الولاة الذين أعطوا قياد الأمم واستكفوا تدبير الأمصار والكور ثم الذين يلونهم من أرباب النعم وسواس البطانة والخدم ثم الذين يلونهم من أرباب المنازل ورواض الأهل والولدان فإن كل واحد من هؤلاء راع لما يجوزه كنفه ويضمه رحله ويصرفه أمره ونهيه ومن تحت يده رعيته ويحتاج أصغرهم شأنا وأخفهم ظهرا وأرقهم حالا وأضيقهم عطنا وأقلهم عددا من حسن السياسة والتدبير ومن كثرة التفكير والتقدير ومن قلة الإغفال والإهمال ومن الإنكار والتأنيب والتعنيف والتأديب والتعديل والتقويم إلى جميع ما يحتاج إليه الملك الأعظم بل لو قال قائل الذي يحتاج إليه هذا من التيقظ والتنبيه ومن التعرف والتجسس والبحث والتنقير والفحص والكشيف أو من استشعار الخوف والوجل ومجانبة الركون والطمأنينة والإشقاق من انفتاق الربق واختلال السد أكثر لأصاب مقالا لأن الفذ الذي لا ظهير له والفرد الذي لا معاضد له أحوج إلى حسن العناية وأحق بشدة الاحتراز من المستظهر بكفاية الكفاة ورفد الوزراء والأعوان ولأن المعدم الذي لا مال له يحتاج من ترقح العيش ومرمة الحال إلى أكثر ما يحتاج إليه الغني الموسر ولعل منكر ينكر تمثيلنا أحوال السوقة بأحوال الملوك أو عائبا يعيب موازنتنا بين الحالين أو قادحا يقدح في مساواتنا بين الأمرين فليعلم المتكلف في النظر في ذلك أن تكلمنا في تقارب الناس في الأخلاق والخلق وفي حاجات الأنفس وفي دواعي الأجساد والمنازل دون المراتب والأحظار والأقدار"
الخطأ فى الفقرة هو أن جعل الله بأيدى الملوك الذين أزمة العباد وملكهم تدبير البلاد واسترعاهم أمر البرية وفوض إليهم سياسة الرعية فالله لم يجعل ملوكا فرديين كما هو معروف وإنما جعل أهل دينه ملوكا أى حكاما أى مشاركين أى مشاورين فى الأمر كلهم فقال " وأمرهم شورى بينهم "
فالله لم يفوض أحد ولم يعطه تدبير البلاد لأنه وضح للكل ما يفعلونه من إدارة الدولة ونصب الموظفين كل فى مكانه فقال " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء"
وكل ما يفعله الناس هو تنفيذ أحكام الله ومن تلك الأحكام التشاور فى الأمور وهى الأمور التنفيذية كرسم خطط الحرب واختيار أصحاب المناصب من بينهم وهى أمور تختلف لحسب المكان والزمان والعدد وما شاكل هذا ومن ثم تركها الله لهم ليعرفوا كيف يفكرون فيها حتى يظل العدل قائما
ثم تحت عنوان الحاجة إلى السياسة قال :
"ثم ليعلم إن كل إنسان ملك وسوقة يحتاج إلى وقت تقوم به حياته ويبقى شخصه ثم يحتاج إلى إعداد فضل قوته لما يستأنف من وقت حاجته وأنه ليس سبيل الإنسان في اقتناء الأقوات سبيل سائر الحيوان الذي ينبعث في طلب الرعي والماء عند هيجان الجوع وحدوث العطش وينصرف عنهما بعد الشبع والري غير معبئ بما أفضله ولا حافظ لما احتازه ولا عالم بعود حاجته إليهما بل يحتاج الإنسان إلى مكان يخزن فيه ما يقتنيه ويحرسه لوقت حاجته فكان هذا سبب الحاجة إلى اتخاذ المساكن والمنازل فلما اتخذ المنزل واحرز القنية احتاج إلى حفظها فيه ممن يريدها ومنعها عمن يرومها فلو أنه أقام على القنية حافظا لها راصدا لطلابها إذن أفناها قبل أن يزيد فيها فإذا أفتنى ثانية عادت حاجته إلى حفظها فلا يزال ذلك دأبه حتى يصير في مثل حيز البهيمة التي تسعى إلى مرعاها مع حدوث حاجاتها فاحتاج عند ذلك إلى استخلاف غيره على حفظ قنيته فلم يصلح لخلافته في ذلك ألا من تسكن نفسه إليه ولم تسكن نفسه إلا إلى الزوج التي جعلها الله تعالى ذكره للرجل سكنا وكان ذلك سبب اتخاذ الأهل ولما يغشى الأهل بالأمر الذي جعله الله سببا لحدوث الذرية وعلة البقاء والنسل حدث الولد وكثر العدد وزادت الحاجة إلى الأقوات وإعداد فضلاتها لأوقات الحاجة احتاج عند ذلك إلى الأعوان والقوام وإلى الكفاة والخدام فإذا به صار راعيا وصار من تحت يده له رعية فهذه أمور قد استوى في الحاجة إليها الملك والسوقة والراعي والمرعي والسائس والمسوس والخادم والمخدوم لأن كل إنسان محتاج في دنياه إلى قوت يمسك روحه ويقيم جسده وإلى منزل يحرز فيه ذات يده ويأوى إليه إذا انصرف عن سعيه وإلى زوج تحفظ عليه منزلة وتحرز له كسبه وإلى ولد يسعى له عند عجزه ويمونه في حال كبره ويصل نسله ويحيى ذكره من بعده وإلى قوام وكفاة يعينونه ويحملون ثقله وإذا اجتمع هؤلاء كان راعيا ومسيما وكان له رعايا وسواما وكما إن المسيم يلزمه أن يرتاد مصالح سائمته من الكلأ والماء نهارا ومن الحظائر والزراب ليلا وإن يذكي عيونه في كلائها ويبث كلابه في أقطارها ليحرسها من السباع العادية ومن الآفات الطارقة ومن السرق والغارة والنهب وإن يختار لها المشتى الدفئ والمصيف الريح ويرود لها في طلب الكلأ والنطف العذاب وإن يتحين وقت عملها وإن يترقب حيت نتاجها ويلزمه بعد ذلك أن يسوقها إلى مصالحها ويصرفها عن متالفها بنعيقه وصفيره وبزجره ووعيده فإن كفاه ذلك في حسن انقيادها واستقامة ضلعها وإلا أقدم عليها بعصاه كذلك يلزم ذا الأهل والولد والخدم والتبع مما يحق عليه من حفظهم وحياطتهم ومن تحمل مؤنهم وإدرار أرزاقهم وإحسان سياستهم وتقويمهم بالترغيب والترهيب وبالوعد الوعيد وبالتقريب والتبعيد وبالإعطاء والحرمان حتى تستقيم له قناتهم
فهذه أقاويل مجملة في وجوب السياسة والحاجة إليها وسنتبعها بأمثلة مفسرة في أبواب مفصلة بعد أن نقدم قبلها بابا في سياسة الرجل نفسه فإن ذلك أحسن في النظم وأبلغ في النفع إن شاء الله تعالى"
ابن سينا هنا يقول أن الحاجة هى السبب فى وجوب تقسيم الناس لراع ورعية أو خادم ومخدوم وهو كلام خاطىء فالناس فى دولة الله كلهم كأنهم بنيان مرصوص أى كل واحد حجر لابد من وجوده حتى يستقيم البنيان ويظل سليما فهى أحجار متساوية إن سقط أحدها سقط الأخرون كما قال تعالى "إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص"
فالله قسم فى وحيه مؤسسات الدولة ووضع لكل منها الأحكام التى تسير عليها وكل وظيفة الناس هى تنفيذ ما حكم الله به وهم من يختارون أصحاب المناصب وهم من يخلعونهم إذا لم يقوموا لواجباتهم فالعملية كلها قائمة على مبدأ الإخوة المطيع لحكم الله كما قال تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا"
فأصحاب المناصب الذين يسمون ملوكا أو حكاما أو وزراء وما شابهه ليسوا كما عند الأمم ألأخرى فهم مجرد اخوة ينصبهم الاخوة ويضعون عيرهم مكانهم بإرادتهم أو بسبب سوء عملهم
ثم قال تحت عنوان باب في سياسة الرجل نفسه قال:
"إن أول ما ينبغي أن يبدأ به الإنسان من أصناف السياسة سياسة نفسه إذ كانت نفسه أقرب الأشياء إليه وأكرمها عليه وأولاها بعنايته ولأنه متى أحسن سياسة نفسه لم يعي بما فوقها من سياسة المصر"
وسياسة النفس لم يوضحها ابن سينا فسياسة النفس لها طريق واحد عادل هو نهى النفس عن طاعة غير الله فإن هو أطاع نفسه فقد جعلها إلها مزعوما كما قال تعالى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " وقال"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى"
وبين ابن سينا تحت عنوان العقل أساس الإصلاح:
"ومن أوائل ما يلزم من رام سياسة نفسه أن يعلم إن له عقلا هو السائس ونفسا أمارة بالسوء كثيرة المعايب جمة المساوئ في طبعها وأصل خلقها هي المسوسة"
الخطأ هنا هو أن العقل هو السائس والحقيقة أن الإرادة أى المشيئة هى التى تسوس العقل والشهوات التى الإمارة بالسوء فهى تختار أن تجعل القياد لأحدهما وفى هذا قال تعالى " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
وتحت عنوان معرفة أوجه الفساد وعلاجها قال :
"وإن يعلم إن كل رام إصلاح فاسد لزمه أن يعرف جميع فساد ذلك الفساد معرفة مستقصاه حتى لا يغادر منه شيئا ثم يأخذ في إصلاحه وإلا كان ما يصلحه غير حريز ولا وثيق كذلك من رام سياسة نفسه ورياضتها وإصلاح فاسدها لم يحز له أن يبتدئ في ذلك حتى يعرف جميع مساوئ نفسه معرفة محيطة فإنه إن أغفل بعض تلك المساوئ وهو يرى أنه قد عمها بالإصلاح كان كمن يدمل ظاهر الكلم وباطنه مشتمل على الداء وكما أن الداء إذا قوى على الإهمال وطول الترك نقض الاندمال وقذف الجلد حتى يبدو لعين الناظر كذلك العيب من معايب النفس إذا أغفل عنه كامنا حتى إذا لاح له وجه ظهور طلع مكتمنه آمن ما كان الإنسان له"
والمستفاد من الفقرة هو أن على صاحب النفس أن يصلح كل معايبه لأنه لو ترك عيب واحد فسيقوده إلى الفساد مرة أخرى وتحت عنوان ضرورة الصديق لكشف عيوب النفس قال :
"ولما كانت معرفة الإنسان نفسه غير موثوق بها لما في طباع الإنسان من الغباوة عن مساوئه وكثرة مسامحته نفسه عند محاسبتها ولأن عقله غير سلام عن ممازجة الهوى إياه عند نظره في أحوال نفسه كان غير مستغن في البحث عن أحواله والفحص عن مساوئه ومحاسنه من معونة الأخ اللبيب الواد الذي يكون منه بمنزلة المرآة فيريه حسن أحواله حسنا وسيئها سيئا"
بالقطع ليس الصديق ضرورة حتمية لإظهار باقى معايب النفس فهناك عيوب يحرص الإنسان على ألا يعلمها غيره ومن ثم فالصديق لن يستطيع أن ينصحه فى شىء غائب عنه ولذا قال تعالى " عليكم أنفسكم " وهو ما فسرته العبارة " من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ"
ثم تحت عنوان ضرورة من يكشف للرؤساء عيوبهم بين التالى:
"وأحق الناس بذلك وأحوجهم إليه الرؤساء فإن هؤلاء لما خرجوا عن سلطان التثبت وعن ملكة التصنع تركوا الاكتراث للسقطات وتعقب الهفوات بالندمات فاستمرت عادتهم على كثرة الاسترسال وقلة الاحتشام إلا قليلا منهم برعت عقولهم ورجحت أحلامهم ونفذت في ضبط أنفسهم بصائرهم فحسنت سيرتهم واستقامت طريقتهم ومما زاد في عظم بلائهم باكتتام عيوبهم أنهم هيبوا عن التعبير بالمعايب مواجهة وعن النقص والذم مشافهة وخيفوا في إعلان الثلب والعضب والشنع والجذب والهمز واللمز بظهر العيب فلما انقطع علم ذلك عنهم ظنوا أن المعايب تخطتهم والمثالب جاوزتهم فلم تعرج بخططهم ولم تعرس بأفنيتهم وليس كذلك حال من دونهم من الرعاع والسوقة فإن أحدهم لو رام أن يخفى عنه عيوبه يبدهه محبة بها ويتدارك عليه بأقبحها ما استطاع ذلك فإنه يخالط الناس ويلابسهم ضرورة والمخالطة تحدث المجادلة والمدافعة وذلك من أسباب المخاصمة والمخاصمة تؤدي إلى التعايب بالمثالب والترامي بالعار وعند ذلك يكاد كل واحد من الفريقين لا يرضى بذكر حقائق عيوب صاحبه بل يتهمه بالباطل ويفتعل عليه الزور فهؤلاء قد كفوا استرشاد جلسائهم وبث الجواسيس في تعرف عيوبهم من قبل أعدائهم فإنها قد جلبت إليهم من غير هذا الطريق فأما من يسالم من السوقة الناس فلا يساورهم ويواتيهم ولا يلاحيهم فإنه لا يعدم من ينبهه على عيبه وينصحه في نفسه من حميم وقريب وخليط وجليس وأكيل"
وبالقطع جعل الله من ضمن مؤسسات دولة المسلمة أمة الخير وهى التى تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف فقال :
"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"
ولا يوجد فى دولة المسلمين رؤساء بالطرق التى عند الأمم الأخرى فليس له حراسة ولا حماية أو غيرها فهو مجرد فرد ينفذ ما عليه فإن لم ينفذ حوكم كباقى الناس
ثم تحدث عن أصحاب السوء فقال :
"قرناء السوء وأثرهم:
ومما زاد في فساد حال الملوك والرؤساء مما أتيح لهم من قرناء السوء وقيض لهم من جلساء الشر الذين لما خاسوا بعهدهم وراغوا في صحبتهم وغشوهم في عشرتهم بتركهم صدقهم عن أنفسهم وتنبيههم عن عوراتهم لم يغشوهم بالثناء الكاذب ولم يغروهم بالتقريظ الباطل ولم يستدروجهم باستصابة خطأهم لكانوا أخف ذنوبا وإن كانوا غير خارجين على لؤم العشرة ودناءة الصحبة ولعل أحدهم إذا تنوع في إقامة عذره وتنطع في تخفيف حرمة قال إنما ندع نصحهم في أنفسهم وصرفهم عن أحوالهم اشفاقا من حميتهم وحذرا من أنفتهم وخوفا من استثقالهم النصيحة فإن للنصح لدعا كلذع النار وحرا كحر السنان فنحن نخاف إن فعلنا ذلك بهم أن لا نربح إلا استيحاشهم لنا ونفارهم منا وأزورارهم عنا وعن عشرتنا فلان نظفر بهم مع زللهم خير لنا ولهم من أن نخرق عليهم فلا هم يبقون لنا ولا نحن نبقى لهم هذا إذا كان الصاحب رفيقا متثبتا فإما إذا كان أخرق متهورا فإنه يقول لا نأمن من سقوط منزلتنا وانقطاع خلظتنا مع سورة غضبه وبادرة سطوته"
وهو بالقطع هنا يتحدث عن الحاشية المستفيدة من ضلال الحاكم وفى الإسلام لا توجد حاشية صالحة أو فاسدة لأن الدولة مكونة من كل المسلمين فيها وكلهم سواء ومن ثم فنظام الدولة لا يسمح بتكوين خاشية من أى نوع
ثم تحدث عن أساس الصحبة فقال :
"فيقال له إنك إذا بنيت أمرك في صحبة من تصحب على الدين والمروءة لم يلزمك أن تراعي غيرهما فيما يأتي وتذر وإذا اقتديت بهما وعشوت إلى نورهما لم تضل في طريق صحبة من صحبت وقد قضيت فيك بأن صاحبك أحد رجلين إما حازم رفيق متثبت وإما أخرق متهور"
فصحبة المسلم هى صحبة للمسلم لا غير ولا يوجد مسلم له أخلاق سيئة لأنه لو كان هكذا فهو كافر وليس بمسلم
ثم تحدث عن موقف الرؤساء من النصح فقال :
"فالرفيق المتثبت لأحوز عليه فضل ما يسديه نصحك وإن هو ارتاع ووجم وحمى أنفه وثنى عطفه في أول ما يرد عليه منك فإذا تثبت وفكر وقدر عرف الخير الذي قصدته والصلاح الذي أممته فرجع إليك أحسن الرجوع وأما الأخرق المتهور فأنت غر آمن من خرقه في أي حال شايعته أو خالفته وليس من الرأي لك أن تصحب من هذه صفته فتحتاج إلى هدايته لكي تأتي الشورة ثمارها واعلم أنه ليس لك وإن كان طريق إرشاد العاقل عن رعنة أن تركبه هائما وتسلكه خابطا ولكن ينبغي لك أن تمس العاقل بالمشورة عليه مسك الشوكة الشائكة بجسدك والقرحة الدامية من بدنك على الين ما تمس وأرفق القول وأخفض الصوت وفي أخلى المواطن واستر الأحوال والتعريض فيها أبلغ من التصريح وضرب الأمثال أحسن من التكشيف فإن رأيت صاحبك يشرئب لقولك إذا بدر منك ويهش له ويصغى إليه فأسبغ القول في غير إفراط ولا إسهاب ولا إملال ولا تزد على الوجه الواحد من الرأي ودعه يختمر في قلبه ويتردد في جوانحه فيعلم بتخلي مغبته وإن رأيت صاحبك لا يكترث لكلامك إذا ورد عليه فاقطعه وأحل معناه إلى غير ما أردته وأخره إلى وقت نشاطه وفراغ باله"
بالقطع الرجل هنا يتحدث هن الحكام فى غير دولة المسلمين فنظام الدولة المسلمة لا يسمح بفساد الحاكم فعندما يعصى الحاكم أمر الله يحاكم على الفور من قبل القضاء وينصح من قبل أمة الخير ويخلع إن كانت المعصية متعمدة مفصودة
ثم تحدث عن كون أخلاق الراعى والرعية واخدة فقال تحت عنوان :
"أخلاق الرئيس من أخلاق الناس
وينبغي لمن عنى بتعرف مناقبه ومثاله أن يفحص عن أخلاق الناس ويتفقد شيمهم وخلائقهم ويتبصر مناقبهم ومثالبهم فيقيسها بما عنده منها ويعلم أنه مثلهم وأنهم أمثاله فإن الناس أشباه بل هم سواء كأسنان المشط فإذا رأى المنقبة الحسنة فليعلم أن فيه مثلها إما ظاهرة وإما مغمورة فإن كانت ظاهرة فليراعها وليواظب عليها حتى لا تبيد ولا تضمحل وإن كانت مغمورة فليثرها وليحيها وليحافظ على استدعائها فإنها تجيب بأهون سعي وأسرع وقت وإذا رأى المثلبة والعادة السيئة والخلق اللئيم فليعلم أن ميلها راهن لديه إما باد وإما كامن فإن كان باديا فليقمعه وليقهره وليمته بقلة استعماله وشدة نسيانه وإن كان كامنا فليحرمه لئلا يظهر"
وهذا الكلام ملخصه المقولة كيفما تكونوا يول عليكم وهى مقولة خاطئة فليس كل حاكم فاسد رعيته فاسدة وليس كل حاكم عادل رعيته عادلة فموسى(ص) وهارون(ص) كان عادلين ورعيتهم كانت فاسدة طلبوا عبادة الأصنام ولما رفضوا عبدوا العجل فيما بعد
ثم تحدث عن الثواب والعقاب للنفس فقال
"وينبغي للإنسان أن يعد لنفسه ثوابا وعقابا يسوسها به فإذا أحسنت طاعتها وسلس انقيادها لما يسومها من قبول الفضائل وترك الرذائل إذا أنت بخلق كريم أو منقبة شريفة أثابها باكثار حمدها وجلب السرور لها وتمكينها من بعض لذاتها وإذا ساءت طاعتها وامتنع انقيادها وجمحت فلم يسلس عنانها وآثرت الرذائل على الفضائل وأنت بخلق لئيم أو فعل ذميم عاقبها بأكثار ذمها ولومها وجلب عليها شدة الندامة ومنعها لذتها حتى تلين له"
هذا كلام ليس بصحيح فالإنسان لا يعاقب نفسه ولا يثيبها بما قاله ابن سينا وإنما هو يعاقبها لعقاب الله ويثيبها بثواب الله
ثم تحدث عن باب في سياسة الرجل دخله وخرجه فقال:
"الحاجة إلى الأقوات
إن حاجة الناس إلى الأقوات دعت كل واحد منهم إلى السعي في اقتناء قوته من الوجه الذي ألهمه الله قصده وسبب رزقه من وجوه للطالب وسبل المكاسب
أصناف الناس في الكسب
ولما كان الناس في باب المعيشة صنفين صنفا مكفيا سعيه برزق مهنأ سبب له من وراثة أو جناه وصنفا محوجا فيه إلى الكسب ألهم هذا الصنف التسبب إلى الأقوات بالتجارات والصناعات وكانت الصناعات أوثق وأبقى من التجارات لأن التجارة تكون بالمال والمال وشيك الفناء وعتيد الآفات كثير الجوائح"
فى دولة المسلمين يجل أن يكون لكل رجل وظيفة محددة عدا بعض المعاقين وهى وظيفة الهدف منها تعاون المسلمين على الخير وتلك الوظائف ليست كما فى الدول الأخرى يعمل على هواه كما فى الرأسمالية أو يعمل ما يريده الأخرون حتى ولو كان حراما فالوظائف المجتمع هو من يوزعها على الناس وهى وظائف كلها أمر الله بها ومن ثم فالمكسب فى دولة المسلمين هو مكسب يوزع بالعدل بين الناس حتى ولو كانوا كفارا ذميين
ثم تحدث عن أنواع صناعات ذوي المروءة فقال :
"وصناعات ذوي المروءة ثلاثة أنواع
نوع من خير العقل وهو صحة الرأي وصواب المشورة وحسن التدبير وهو صناعة الوزراء والمدبرين وأرباب السياسة والملوك ونوع من حيز الأدب وهو الكتابة والبلاغة وعلم النجوم وعلم الطب وهو صناعة الأدباء ونوع من حيز الأبد والشجاعة وهو صناعة الفرسان والأساور فمن رام إحدى هذه الصناعات فليفز بأحكامها والتقدم فيها حتى يكون من أصحابها موصوفا بالفصاحة غير مرذول ولا مؤخر وليعلم أنه ليس شيء أزين بالرجل من رزق واسع وافق منه استحقاقا ثم ليطلب معيشته بصناعة على أعف الوجوه وأرفقها وأعفاها وأبعدها من الشره والحرص وأناها من الطمع الفاحش والمأكل الخبيث وليعلم أن كل فضل نيل بالمغالبة والمكابرة وبالاستكراه والمجاهدة وكل ربح حيز بالإثم والعار ومع سوء القالة وقبح الأحدوثة أو يبذل الوجه ونزف الحياء أو بثلم المروءة وتدنيس العرض زهيد وأن عظم قدره نزر وإن غزرت مادته وبيل وإن ظهرت هناءته وخيم وإن كان في مرآة العين مريا وإن الصفو الذي لا كدر فيه والعفو الذي لا كدح معه وأن قل مقداره وخف وزنه أطيب مذاقا وأسلس مساغا وأنمى بركة وأزكى ريعا"
بالقطع لا يوجد وظيفة تقوم على الرأى وحده فكل الوظائف لها جوانبها الجسمية والعقلية ولعل أول الفساد دخل من كون الوظائف العليا ليس فيها عمل جسدى وإنما هى مجرد أقاويل فالحكام وظائفهم قائمة على رقابة أصحاب الوظائف وهو ما يحتاج لجهد جسمانى لمتابعة الأعمال ورد من يظلم منهم
المؤلف: الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي، شرف الملك: الفيلسوف الرئيس (المتوفى: 428هـ)
بدأ ابن سينا الرسالة بمقدمة من مقدمات الكتب المعروفة فى التراث فقال :
"الحمد لله الذي نهج لعباده بما دلهم عليه من حمده وسبيل شكره وأشرع لهم بما هيأهم له من شكره أبواب مزيدة ومن عليهم بالعقل الذي جعله لدينهم عصمة ولدنياهم عمادا وقائمة وحباهم بالنطق الذي جعله فرقا بينهم وبين البهائم العجم والأنعام البكم
فالحمد لله حمدا كثيرا على ما عم من حسن تدبيره وشمل من لطف تقديره حتى حاز كل صنف من أصناف خلقه حظه من المصلحة واستوفى كل نوع سهمه من المرفق والمنفعة فلم يفت جميل صنعه صغيرا ولا كبيرا بل أفاض عليهم جميعا من سوابغ نعمه وشوامل مواهبه ما صلحت به أحوالهم وتم بمكانه نقصهم وقوي من أجله عجزهم ثم خص بني آدم بخصائص من نعمه فضلهم بها على كثير من خلقه فجعلهم أحسن الخلق وطبائعهم أكمل الطبائع وتركيبهم أعدل التركيب ومعيشتهم أنعم المعاش وسعيهم في منقلبهم أرد السعي إلى العقول الرضية التي أمدهم بها والأحلام الراجحة التي أيدهم بفضلها والآداب الحسنة التي ألبسهم جمالها والأخلاق الكريمة التي زينهم بشرفها مع التمييز الذي أراهم به فرق ما بين الخير والشر وخلاف ما بين الغي والرشد وفضل ما بين الصانع والمصنوع والمالك والمملوك والسائس والمسوس حتى صار ذلك طريقا لهم إلى المعرفة ما بين الخالق والمخلوق وسبيلا واضحا إلى تثبيت الصانع القديم إلا جحود عناد أو مكابرة عيان"
هذه المقدمة من يقرأها يظن أن الرجل سيقدم كتابا يستشهد فيه بالآيات والروايات والحكايات ولكن سيخيب ظن القارىء فالكتاب ليس فيه آيات ولا روايات ولا حتى حكايات فهو كتاب جاف حالى من هذا يتحدث عن سياسة الناس وقد استهل الكتاب بالعنوان التالى :
"اختلاف أقدار الناس وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم:
ثم من عليهم بفضل رأفته منا مستأنفا بأن جعلهم في عقولهم وآرائهم متفاضلين كما جعلهم في أملاكهم ومنازلهم ورتبهم متفاوتين لما في استواء أحوالهم وتقارب أقدارهم من الفساد الداعي إلى فنائهم لما يلقي بينهم من التنافس والتحاسد ويثير من التباغي والتظالم فقد علم ذوو العقول أن الناس لو كانوا جمعيا ملوكا لتفانوا عن آخرهم ولو كانوا كلهم سوقة لهلكوا عيانا بأسرهم كما أنهم لو استووا في الغنى لما مهن أحد لأحد ولا رفد حميم حميما ولو استووا في الفقر لماتوا ضرا وهلكوا بؤسا فلما كان التحاسد من أطباعهم والتباهي من سوسهم وفي أصل جوهرهم كان اختلاف أقدارهم وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم وعلة لقناعتهم فذو المال الغفل من العقل العطل من الأدب المدرك حظه من الدنيا بأهون سعي إذا تأمل حال العاقل المحروم وأكدار الحول القلب ظن بل أيقن أن المال الذي وجده مغير من العقل الذي عدمه وذو الأدب المعدم إذا تفقد حال المثري الجاهل لم يشك في أنه فضل عليه وقدم دونه وذو الصناعة التي تعود عليه بما يمسك رمقه لا يغبط ذا السلطان العريض ولا ذا الملك المديد وكل ذلك من دلائل الحكمة وشواهد لطف التدبير وأمارات الرحمة والرأفة"
هذه الفقرة يبدو فى بدايتها أن هناك كلام ناقص فالعنوان اختلاف أقدار الناس وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم: يليه العبارة التالية "ثم من عليهم بفضل رأفته منا مستأنفا بأن جعلهم في عقولهم" واستعمال ثم فى أول العبارة يعنى وجود عبارات سابقة ساقطة
يتعرض الرجل هنا لنقطة اختلاف أحوال الناس فى المال والصحة والعلم وغير هذا ويؤكد أن سبب بقاء الناس هو اختلافهم وأخطاء الفقرة هى :
الأول القول فقد علم ذوو العقول أن الناس لو كانوا جميعا ملوكا لتفانوا عن آخرهم ولو كانوا كلهم سوقة لهلكوا عيانا بأسرهم"
والله جعل الناس جميعا ملوكا فقال فى بنى إسرائيل "وجعلكم ملوكا " أى حكاما لأنفسهم وساوى بينما فقال " إنما المؤمنون اخوة" دليل على أنهم سيان فى المكانة فحتى الرسول(ص) نفسه ليس سوى واحد منهم يجب أن يشاركهم فى الأمر وهو قوله تعالى ""فبما رحمة من ربك لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر" ولذا قال تعالى "وأمرهم شورى بينهم "
الثانى القول "كما أنهم لو استووا في الغنى لما مهن أحد لأحد ولا رفد حميم حميما ولو استووا في الفقر لماتوا ضرا وهلكوا بؤسا"
خذا القول يتعارض مع مساواة الله بين الناس فى القسمة المالية لمنافع الأرض حيث قال "وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام سواء للسائلين"
فلم يشرع الله الغنى ولا الفقر وإنما شرع العدل وجعل الفروق بين الناس قليلة جدا ناتجة من الميراث والهبات والمشاركة فى الجهاد
وتحت عنوان وجوب السياسة قال ابن سينا:
"وأحق الناس وأولاهم بأمل ما يجري عليه تدبير العالم من الحكمة وحسن واتقان السياسة وأحكام التدبير الملوك الذين جعل الله تعالى ذكره بأيديهم أزمة العباد وملكهم تدبير البلاد واسترعاهم أمر البرية وفوض إليهم سياسة الرعية ثم الأمثل فالأمثل من الولاة الذين أعطوا قياد الأمم واستكفوا تدبير الأمصار والكور ثم الذين يلونهم من أرباب النعم وسواس البطانة والخدم ثم الذين يلونهم من أرباب المنازل ورواض الأهل والولدان فإن كل واحد من هؤلاء راع لما يجوزه كنفه ويضمه رحله ويصرفه أمره ونهيه ومن تحت يده رعيته ويحتاج أصغرهم شأنا وأخفهم ظهرا وأرقهم حالا وأضيقهم عطنا وأقلهم عددا من حسن السياسة والتدبير ومن كثرة التفكير والتقدير ومن قلة الإغفال والإهمال ومن الإنكار والتأنيب والتعنيف والتأديب والتعديل والتقويم إلى جميع ما يحتاج إليه الملك الأعظم بل لو قال قائل الذي يحتاج إليه هذا من التيقظ والتنبيه ومن التعرف والتجسس والبحث والتنقير والفحص والكشيف أو من استشعار الخوف والوجل ومجانبة الركون والطمأنينة والإشقاق من انفتاق الربق واختلال السد أكثر لأصاب مقالا لأن الفذ الذي لا ظهير له والفرد الذي لا معاضد له أحوج إلى حسن العناية وأحق بشدة الاحتراز من المستظهر بكفاية الكفاة ورفد الوزراء والأعوان ولأن المعدم الذي لا مال له يحتاج من ترقح العيش ومرمة الحال إلى أكثر ما يحتاج إليه الغني الموسر ولعل منكر ينكر تمثيلنا أحوال السوقة بأحوال الملوك أو عائبا يعيب موازنتنا بين الحالين أو قادحا يقدح في مساواتنا بين الأمرين فليعلم المتكلف في النظر في ذلك أن تكلمنا في تقارب الناس في الأخلاق والخلق وفي حاجات الأنفس وفي دواعي الأجساد والمنازل دون المراتب والأحظار والأقدار"
الخطأ فى الفقرة هو أن جعل الله بأيدى الملوك الذين أزمة العباد وملكهم تدبير البلاد واسترعاهم أمر البرية وفوض إليهم سياسة الرعية فالله لم يجعل ملوكا فرديين كما هو معروف وإنما جعل أهل دينه ملوكا أى حكاما أى مشاركين أى مشاورين فى الأمر كلهم فقال " وأمرهم شورى بينهم "
فالله لم يفوض أحد ولم يعطه تدبير البلاد لأنه وضح للكل ما يفعلونه من إدارة الدولة ونصب الموظفين كل فى مكانه فقال " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء"
وكل ما يفعله الناس هو تنفيذ أحكام الله ومن تلك الأحكام التشاور فى الأمور وهى الأمور التنفيذية كرسم خطط الحرب واختيار أصحاب المناصب من بينهم وهى أمور تختلف لحسب المكان والزمان والعدد وما شاكل هذا ومن ثم تركها الله لهم ليعرفوا كيف يفكرون فيها حتى يظل العدل قائما
ثم تحت عنوان الحاجة إلى السياسة قال :
"ثم ليعلم إن كل إنسان ملك وسوقة يحتاج إلى وقت تقوم به حياته ويبقى شخصه ثم يحتاج إلى إعداد فضل قوته لما يستأنف من وقت حاجته وأنه ليس سبيل الإنسان في اقتناء الأقوات سبيل سائر الحيوان الذي ينبعث في طلب الرعي والماء عند هيجان الجوع وحدوث العطش وينصرف عنهما بعد الشبع والري غير معبئ بما أفضله ولا حافظ لما احتازه ولا عالم بعود حاجته إليهما بل يحتاج الإنسان إلى مكان يخزن فيه ما يقتنيه ويحرسه لوقت حاجته فكان هذا سبب الحاجة إلى اتخاذ المساكن والمنازل فلما اتخذ المنزل واحرز القنية احتاج إلى حفظها فيه ممن يريدها ومنعها عمن يرومها فلو أنه أقام على القنية حافظا لها راصدا لطلابها إذن أفناها قبل أن يزيد فيها فإذا أفتنى ثانية عادت حاجته إلى حفظها فلا يزال ذلك دأبه حتى يصير في مثل حيز البهيمة التي تسعى إلى مرعاها مع حدوث حاجاتها فاحتاج عند ذلك إلى استخلاف غيره على حفظ قنيته فلم يصلح لخلافته في ذلك ألا من تسكن نفسه إليه ولم تسكن نفسه إلا إلى الزوج التي جعلها الله تعالى ذكره للرجل سكنا وكان ذلك سبب اتخاذ الأهل ولما يغشى الأهل بالأمر الذي جعله الله سببا لحدوث الذرية وعلة البقاء والنسل حدث الولد وكثر العدد وزادت الحاجة إلى الأقوات وإعداد فضلاتها لأوقات الحاجة احتاج عند ذلك إلى الأعوان والقوام وإلى الكفاة والخدام فإذا به صار راعيا وصار من تحت يده له رعية فهذه أمور قد استوى في الحاجة إليها الملك والسوقة والراعي والمرعي والسائس والمسوس والخادم والمخدوم لأن كل إنسان محتاج في دنياه إلى قوت يمسك روحه ويقيم جسده وإلى منزل يحرز فيه ذات يده ويأوى إليه إذا انصرف عن سعيه وإلى زوج تحفظ عليه منزلة وتحرز له كسبه وإلى ولد يسعى له عند عجزه ويمونه في حال كبره ويصل نسله ويحيى ذكره من بعده وإلى قوام وكفاة يعينونه ويحملون ثقله وإذا اجتمع هؤلاء كان راعيا ومسيما وكان له رعايا وسواما وكما إن المسيم يلزمه أن يرتاد مصالح سائمته من الكلأ والماء نهارا ومن الحظائر والزراب ليلا وإن يذكي عيونه في كلائها ويبث كلابه في أقطارها ليحرسها من السباع العادية ومن الآفات الطارقة ومن السرق والغارة والنهب وإن يختار لها المشتى الدفئ والمصيف الريح ويرود لها في طلب الكلأ والنطف العذاب وإن يتحين وقت عملها وإن يترقب حيت نتاجها ويلزمه بعد ذلك أن يسوقها إلى مصالحها ويصرفها عن متالفها بنعيقه وصفيره وبزجره ووعيده فإن كفاه ذلك في حسن انقيادها واستقامة ضلعها وإلا أقدم عليها بعصاه كذلك يلزم ذا الأهل والولد والخدم والتبع مما يحق عليه من حفظهم وحياطتهم ومن تحمل مؤنهم وإدرار أرزاقهم وإحسان سياستهم وتقويمهم بالترغيب والترهيب وبالوعد الوعيد وبالتقريب والتبعيد وبالإعطاء والحرمان حتى تستقيم له قناتهم
فهذه أقاويل مجملة في وجوب السياسة والحاجة إليها وسنتبعها بأمثلة مفسرة في أبواب مفصلة بعد أن نقدم قبلها بابا في سياسة الرجل نفسه فإن ذلك أحسن في النظم وأبلغ في النفع إن شاء الله تعالى"
ابن سينا هنا يقول أن الحاجة هى السبب فى وجوب تقسيم الناس لراع ورعية أو خادم ومخدوم وهو كلام خاطىء فالناس فى دولة الله كلهم كأنهم بنيان مرصوص أى كل واحد حجر لابد من وجوده حتى يستقيم البنيان ويظل سليما فهى أحجار متساوية إن سقط أحدها سقط الأخرون كما قال تعالى "إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص"
فالله قسم فى وحيه مؤسسات الدولة ووضع لكل منها الأحكام التى تسير عليها وكل وظيفة الناس هى تنفيذ ما حكم الله به وهم من يختارون أصحاب المناصب وهم من يخلعونهم إذا لم يقوموا لواجباتهم فالعملية كلها قائمة على مبدأ الإخوة المطيع لحكم الله كما قال تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا"
فأصحاب المناصب الذين يسمون ملوكا أو حكاما أو وزراء وما شابهه ليسوا كما عند الأمم ألأخرى فهم مجرد اخوة ينصبهم الاخوة ويضعون عيرهم مكانهم بإرادتهم أو بسبب سوء عملهم
ثم قال تحت عنوان باب في سياسة الرجل نفسه قال:
"إن أول ما ينبغي أن يبدأ به الإنسان من أصناف السياسة سياسة نفسه إذ كانت نفسه أقرب الأشياء إليه وأكرمها عليه وأولاها بعنايته ولأنه متى أحسن سياسة نفسه لم يعي بما فوقها من سياسة المصر"
وسياسة النفس لم يوضحها ابن سينا فسياسة النفس لها طريق واحد عادل هو نهى النفس عن طاعة غير الله فإن هو أطاع نفسه فقد جعلها إلها مزعوما كما قال تعالى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " وقال"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى"
وبين ابن سينا تحت عنوان العقل أساس الإصلاح:
"ومن أوائل ما يلزم من رام سياسة نفسه أن يعلم إن له عقلا هو السائس ونفسا أمارة بالسوء كثيرة المعايب جمة المساوئ في طبعها وأصل خلقها هي المسوسة"
الخطأ هنا هو أن العقل هو السائس والحقيقة أن الإرادة أى المشيئة هى التى تسوس العقل والشهوات التى الإمارة بالسوء فهى تختار أن تجعل القياد لأحدهما وفى هذا قال تعالى " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
وتحت عنوان معرفة أوجه الفساد وعلاجها قال :
"وإن يعلم إن كل رام إصلاح فاسد لزمه أن يعرف جميع فساد ذلك الفساد معرفة مستقصاه حتى لا يغادر منه شيئا ثم يأخذ في إصلاحه وإلا كان ما يصلحه غير حريز ولا وثيق كذلك من رام سياسة نفسه ورياضتها وإصلاح فاسدها لم يحز له أن يبتدئ في ذلك حتى يعرف جميع مساوئ نفسه معرفة محيطة فإنه إن أغفل بعض تلك المساوئ وهو يرى أنه قد عمها بالإصلاح كان كمن يدمل ظاهر الكلم وباطنه مشتمل على الداء وكما أن الداء إذا قوى على الإهمال وطول الترك نقض الاندمال وقذف الجلد حتى يبدو لعين الناظر كذلك العيب من معايب النفس إذا أغفل عنه كامنا حتى إذا لاح له وجه ظهور طلع مكتمنه آمن ما كان الإنسان له"
والمستفاد من الفقرة هو أن على صاحب النفس أن يصلح كل معايبه لأنه لو ترك عيب واحد فسيقوده إلى الفساد مرة أخرى وتحت عنوان ضرورة الصديق لكشف عيوب النفس قال :
"ولما كانت معرفة الإنسان نفسه غير موثوق بها لما في طباع الإنسان من الغباوة عن مساوئه وكثرة مسامحته نفسه عند محاسبتها ولأن عقله غير سلام عن ممازجة الهوى إياه عند نظره في أحوال نفسه كان غير مستغن في البحث عن أحواله والفحص عن مساوئه ومحاسنه من معونة الأخ اللبيب الواد الذي يكون منه بمنزلة المرآة فيريه حسن أحواله حسنا وسيئها سيئا"
بالقطع ليس الصديق ضرورة حتمية لإظهار باقى معايب النفس فهناك عيوب يحرص الإنسان على ألا يعلمها غيره ومن ثم فالصديق لن يستطيع أن ينصحه فى شىء غائب عنه ولذا قال تعالى " عليكم أنفسكم " وهو ما فسرته العبارة " من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ"
ثم تحت عنوان ضرورة من يكشف للرؤساء عيوبهم بين التالى:
"وأحق الناس بذلك وأحوجهم إليه الرؤساء فإن هؤلاء لما خرجوا عن سلطان التثبت وعن ملكة التصنع تركوا الاكتراث للسقطات وتعقب الهفوات بالندمات فاستمرت عادتهم على كثرة الاسترسال وقلة الاحتشام إلا قليلا منهم برعت عقولهم ورجحت أحلامهم ونفذت في ضبط أنفسهم بصائرهم فحسنت سيرتهم واستقامت طريقتهم ومما زاد في عظم بلائهم باكتتام عيوبهم أنهم هيبوا عن التعبير بالمعايب مواجهة وعن النقص والذم مشافهة وخيفوا في إعلان الثلب والعضب والشنع والجذب والهمز واللمز بظهر العيب فلما انقطع علم ذلك عنهم ظنوا أن المعايب تخطتهم والمثالب جاوزتهم فلم تعرج بخططهم ولم تعرس بأفنيتهم وليس كذلك حال من دونهم من الرعاع والسوقة فإن أحدهم لو رام أن يخفى عنه عيوبه يبدهه محبة بها ويتدارك عليه بأقبحها ما استطاع ذلك فإنه يخالط الناس ويلابسهم ضرورة والمخالطة تحدث المجادلة والمدافعة وذلك من أسباب المخاصمة والمخاصمة تؤدي إلى التعايب بالمثالب والترامي بالعار وعند ذلك يكاد كل واحد من الفريقين لا يرضى بذكر حقائق عيوب صاحبه بل يتهمه بالباطل ويفتعل عليه الزور فهؤلاء قد كفوا استرشاد جلسائهم وبث الجواسيس في تعرف عيوبهم من قبل أعدائهم فإنها قد جلبت إليهم من غير هذا الطريق فأما من يسالم من السوقة الناس فلا يساورهم ويواتيهم ولا يلاحيهم فإنه لا يعدم من ينبهه على عيبه وينصحه في نفسه من حميم وقريب وخليط وجليس وأكيل"
وبالقطع جعل الله من ضمن مؤسسات دولة المسلمة أمة الخير وهى التى تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف فقال :
"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"
ولا يوجد فى دولة المسلمين رؤساء بالطرق التى عند الأمم الأخرى فليس له حراسة ولا حماية أو غيرها فهو مجرد فرد ينفذ ما عليه فإن لم ينفذ حوكم كباقى الناس
ثم تحدث عن أصحاب السوء فقال :
"قرناء السوء وأثرهم:
ومما زاد في فساد حال الملوك والرؤساء مما أتيح لهم من قرناء السوء وقيض لهم من جلساء الشر الذين لما خاسوا بعهدهم وراغوا في صحبتهم وغشوهم في عشرتهم بتركهم صدقهم عن أنفسهم وتنبيههم عن عوراتهم لم يغشوهم بالثناء الكاذب ولم يغروهم بالتقريظ الباطل ولم يستدروجهم باستصابة خطأهم لكانوا أخف ذنوبا وإن كانوا غير خارجين على لؤم العشرة ودناءة الصحبة ولعل أحدهم إذا تنوع في إقامة عذره وتنطع في تخفيف حرمة قال إنما ندع نصحهم في أنفسهم وصرفهم عن أحوالهم اشفاقا من حميتهم وحذرا من أنفتهم وخوفا من استثقالهم النصيحة فإن للنصح لدعا كلذع النار وحرا كحر السنان فنحن نخاف إن فعلنا ذلك بهم أن لا نربح إلا استيحاشهم لنا ونفارهم منا وأزورارهم عنا وعن عشرتنا فلان نظفر بهم مع زللهم خير لنا ولهم من أن نخرق عليهم فلا هم يبقون لنا ولا نحن نبقى لهم هذا إذا كان الصاحب رفيقا متثبتا فإما إذا كان أخرق متهورا فإنه يقول لا نأمن من سقوط منزلتنا وانقطاع خلظتنا مع سورة غضبه وبادرة سطوته"
وهو بالقطع هنا يتحدث عن الحاشية المستفيدة من ضلال الحاكم وفى الإسلام لا توجد حاشية صالحة أو فاسدة لأن الدولة مكونة من كل المسلمين فيها وكلهم سواء ومن ثم فنظام الدولة لا يسمح بتكوين خاشية من أى نوع
ثم تحدث عن أساس الصحبة فقال :
"فيقال له إنك إذا بنيت أمرك في صحبة من تصحب على الدين والمروءة لم يلزمك أن تراعي غيرهما فيما يأتي وتذر وإذا اقتديت بهما وعشوت إلى نورهما لم تضل في طريق صحبة من صحبت وقد قضيت فيك بأن صاحبك أحد رجلين إما حازم رفيق متثبت وإما أخرق متهور"
فصحبة المسلم هى صحبة للمسلم لا غير ولا يوجد مسلم له أخلاق سيئة لأنه لو كان هكذا فهو كافر وليس بمسلم
ثم تحدث عن موقف الرؤساء من النصح فقال :
"فالرفيق المتثبت لأحوز عليه فضل ما يسديه نصحك وإن هو ارتاع ووجم وحمى أنفه وثنى عطفه في أول ما يرد عليه منك فإذا تثبت وفكر وقدر عرف الخير الذي قصدته والصلاح الذي أممته فرجع إليك أحسن الرجوع وأما الأخرق المتهور فأنت غر آمن من خرقه في أي حال شايعته أو خالفته وليس من الرأي لك أن تصحب من هذه صفته فتحتاج إلى هدايته لكي تأتي الشورة ثمارها واعلم أنه ليس لك وإن كان طريق إرشاد العاقل عن رعنة أن تركبه هائما وتسلكه خابطا ولكن ينبغي لك أن تمس العاقل بالمشورة عليه مسك الشوكة الشائكة بجسدك والقرحة الدامية من بدنك على الين ما تمس وأرفق القول وأخفض الصوت وفي أخلى المواطن واستر الأحوال والتعريض فيها أبلغ من التصريح وضرب الأمثال أحسن من التكشيف فإن رأيت صاحبك يشرئب لقولك إذا بدر منك ويهش له ويصغى إليه فأسبغ القول في غير إفراط ولا إسهاب ولا إملال ولا تزد على الوجه الواحد من الرأي ودعه يختمر في قلبه ويتردد في جوانحه فيعلم بتخلي مغبته وإن رأيت صاحبك لا يكترث لكلامك إذا ورد عليه فاقطعه وأحل معناه إلى غير ما أردته وأخره إلى وقت نشاطه وفراغ باله"
بالقطع الرجل هنا يتحدث هن الحكام فى غير دولة المسلمين فنظام الدولة المسلمة لا يسمح بفساد الحاكم فعندما يعصى الحاكم أمر الله يحاكم على الفور من قبل القضاء وينصح من قبل أمة الخير ويخلع إن كانت المعصية متعمدة مفصودة
ثم تحدث عن كون أخلاق الراعى والرعية واخدة فقال تحت عنوان :
"أخلاق الرئيس من أخلاق الناس
وينبغي لمن عنى بتعرف مناقبه ومثاله أن يفحص عن أخلاق الناس ويتفقد شيمهم وخلائقهم ويتبصر مناقبهم ومثالبهم فيقيسها بما عنده منها ويعلم أنه مثلهم وأنهم أمثاله فإن الناس أشباه بل هم سواء كأسنان المشط فإذا رأى المنقبة الحسنة فليعلم أن فيه مثلها إما ظاهرة وإما مغمورة فإن كانت ظاهرة فليراعها وليواظب عليها حتى لا تبيد ولا تضمحل وإن كانت مغمورة فليثرها وليحيها وليحافظ على استدعائها فإنها تجيب بأهون سعي وأسرع وقت وإذا رأى المثلبة والعادة السيئة والخلق اللئيم فليعلم أن ميلها راهن لديه إما باد وإما كامن فإن كان باديا فليقمعه وليقهره وليمته بقلة استعماله وشدة نسيانه وإن كان كامنا فليحرمه لئلا يظهر"
وهذا الكلام ملخصه المقولة كيفما تكونوا يول عليكم وهى مقولة خاطئة فليس كل حاكم فاسد رعيته فاسدة وليس كل حاكم عادل رعيته عادلة فموسى(ص) وهارون(ص) كان عادلين ورعيتهم كانت فاسدة طلبوا عبادة الأصنام ولما رفضوا عبدوا العجل فيما بعد
ثم تحدث عن الثواب والعقاب للنفس فقال
"وينبغي للإنسان أن يعد لنفسه ثوابا وعقابا يسوسها به فإذا أحسنت طاعتها وسلس انقيادها لما يسومها من قبول الفضائل وترك الرذائل إذا أنت بخلق كريم أو منقبة شريفة أثابها باكثار حمدها وجلب السرور لها وتمكينها من بعض لذاتها وإذا ساءت طاعتها وامتنع انقيادها وجمحت فلم يسلس عنانها وآثرت الرذائل على الفضائل وأنت بخلق لئيم أو فعل ذميم عاقبها بأكثار ذمها ولومها وجلب عليها شدة الندامة ومنعها لذتها حتى تلين له"
هذا كلام ليس بصحيح فالإنسان لا يعاقب نفسه ولا يثيبها بما قاله ابن سينا وإنما هو يعاقبها لعقاب الله ويثيبها بثواب الله
ثم تحدث عن باب في سياسة الرجل دخله وخرجه فقال:
"الحاجة إلى الأقوات
إن حاجة الناس إلى الأقوات دعت كل واحد منهم إلى السعي في اقتناء قوته من الوجه الذي ألهمه الله قصده وسبب رزقه من وجوه للطالب وسبل المكاسب
أصناف الناس في الكسب
ولما كان الناس في باب المعيشة صنفين صنفا مكفيا سعيه برزق مهنأ سبب له من وراثة أو جناه وصنفا محوجا فيه إلى الكسب ألهم هذا الصنف التسبب إلى الأقوات بالتجارات والصناعات وكانت الصناعات أوثق وأبقى من التجارات لأن التجارة تكون بالمال والمال وشيك الفناء وعتيد الآفات كثير الجوائح"
فى دولة المسلمين يجل أن يكون لكل رجل وظيفة محددة عدا بعض المعاقين وهى وظيفة الهدف منها تعاون المسلمين على الخير وتلك الوظائف ليست كما فى الدول الأخرى يعمل على هواه كما فى الرأسمالية أو يعمل ما يريده الأخرون حتى ولو كان حراما فالوظائف المجتمع هو من يوزعها على الناس وهى وظائف كلها أمر الله بها ومن ثم فالمكسب فى دولة المسلمين هو مكسب يوزع بالعدل بين الناس حتى ولو كانوا كفارا ذميين
ثم تحدث عن أنواع صناعات ذوي المروءة فقال :
"وصناعات ذوي المروءة ثلاثة أنواع
نوع من خير العقل وهو صحة الرأي وصواب المشورة وحسن التدبير وهو صناعة الوزراء والمدبرين وأرباب السياسة والملوك ونوع من حيز الأدب وهو الكتابة والبلاغة وعلم النجوم وعلم الطب وهو صناعة الأدباء ونوع من حيز الأبد والشجاعة وهو صناعة الفرسان والأساور فمن رام إحدى هذه الصناعات فليفز بأحكامها والتقدم فيها حتى يكون من أصحابها موصوفا بالفصاحة غير مرذول ولا مؤخر وليعلم أنه ليس شيء أزين بالرجل من رزق واسع وافق منه استحقاقا ثم ليطلب معيشته بصناعة على أعف الوجوه وأرفقها وأعفاها وأبعدها من الشره والحرص وأناها من الطمع الفاحش والمأكل الخبيث وليعلم أن كل فضل نيل بالمغالبة والمكابرة وبالاستكراه والمجاهدة وكل ربح حيز بالإثم والعار ومع سوء القالة وقبح الأحدوثة أو يبذل الوجه ونزف الحياء أو بثلم المروءة وتدنيس العرض زهيد وأن عظم قدره نزر وإن غزرت مادته وبيل وإن ظهرت هناءته وخيم وإن كان في مرآة العين مريا وإن الصفو الذي لا كدر فيه والعفو الذي لا كدح معه وأن قل مقداره وخف وزنه أطيب مذاقا وأسلس مساغا وأنمى بركة وأزكى ريعا"
بالقطع لا يوجد وظيفة تقوم على الرأى وحده فكل الوظائف لها جوانبها الجسمية والعقلية ولعل أول الفساد دخل من كون الوظائف العليا ليس فيها عمل جسدى وإنما هى مجرد أقاويل فالحكام وظائفهم قائمة على رقابة أصحاب الوظائف وهو ما يحتاج لجهد جسمانى لمتابعة الأعمال ورد من يظلم منهم