رضا البطاوى
28-10-2020, 07:58 AM
نقد كتاب ترجمة القرآن الكريم
هذه جملة الأدلة التي احتج بها المؤيدون لجواز ووجوب الترجمة وهي الأولى بالاعتبار في نظري لمنحاها الايجابي المتسق مع مقاصد الدين وأهداف الشرع الإسلامي غير أن ذلك لا يعفينا من مناقشة الاعتراضات والحجج الوجيهة التي أثارها أصحاب الرأي الأول
1- قالوا: إن الترجمة بدعة وأمر لم يقدم عليه الأوائل وهذه حجة قد اندفعت بحصول ترجمة القرآن إلى الرومية والفارسية والحبشية على أقل تقدير فى حياة الرسول (ص) وبإقراره وكما لا يخفى على دارس أصول السنة فإن إقراره (ص) كفعله وقوله من حيث الحجية ولما حصلت وقبلت الترجمة من الرسول (ص) من حيث المبدأ فلا يضيرها وإن كانت وقتئذ على مستوى بسيط واقتضت الحاجة إلى أن ترفعها الآن إلى مستوى أكبر وعلى نطاق أوسع هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن البدعة المزعومة ليست في عمل كل شيء لم يفعله الرسول (ص) وإلا لكان مجرد جمع القرآن في مصحف وتفسيره في صحائف وجمع السنة وغير ذلك مما قصد به خدمة الشرع الإسلامي بدعة ولا أحسب أن عاقلا يقول بذلك خاصة وأن الرسول (ص) قد أرشد إلى أن: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجرمن عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" فالترجمة إذن من قبيل السنة المأجور فاعلها لا من قبيل البدعة ولا السنة السيئة المذمومفاعلها وعلى أي فإن العمل ينتقل من حكم العادة إلى درجات العبادة بنية ودوافع صاحبه فالترجمة التي قصد بها وجه الله وخدمة الإسلام والمسلمين هي التي من قبيل السنة الحسنة فالترجمة كغيرها من الأفعال تحمد وتذم وفقا لجهد وصدق أو سوء نية صاحبها "
الكلام هنا ألقاه الكاتب دون دليل فلا توجد رواية واحدة على الترجمة المزعومة للقرآن إلى الرومية والفارسية والحبشية ثم قال:
"2- قيل: إن الترجمة تؤدي إلى إحجام المسلمين غير العرب عن دراسة اللغة العربية التي هي لغة القرآن والاهتمام بها، وهذه بدورها حجة لا تستند إلى دليل، فمجرد الترجمة لا يؤدي إلى هذه النتيجة لأن الترجمة كما يقول محمد أكبر: مجرد محاولة لمساعدة الدارس لفهم وإدراك النص القرآني وليست بأي حال بديلا له ومعلوم أيضا أن اللغة العربية تنتشر تبعاً للإسلام وليس العكس فإذا كان ذلك كذلك وإذا كان الغرض من الترجمة هو - نقل معاني القرآن من ناحية وتبليغ دعوة الإسلام لغير العرب من ناحية أخرى فينتظر من هذا الجهد كما هو ملحوظ- إدخاله الناس في دين الله أفراداً وأفواجاً وهم من بعد دخولهم الإسلام سيدفعون بأكثر من دافع وحافز لتعليم العربية لأن الترجمة ليست قرآناً والقرآن هو أساس الإسلام وكل مسلم يحس في نفسه الحاجة الماسة لتعلم العربية حتى يأخذ الإسلام من مصادره الأصلية والمؤثرة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون "
هذه الدليل الكلام فيه ليس واضحا فالمسلمون لابد أن تكون لهم لغة تواصل مع لغتهم الأصلية حتى يقدروا مثلا على السفر عبر بلاد المسلمين للحج أو للجهاد فالمجاهدون إن لم يكونوا يتواصلون بلغة واحدة سيكون الجهاد ضائع والهزيمة ستأتى بعدم الفهم وحتى يقدروا على الزواج المختلط اللغات ثم قال:
"3- ثم قالوا: إن الترجمة قاصرة عن تحمل المعاني الكثيرة التي أودعها الله القرآن في نظم معجز بحيث لا يستطيع امرؤ أن يحيط بهذا المعاني ولا أن ينقلها بعد المحافظة على إعجازها اللفظي والمعنوي هذه دعوى صحيحة على فرض أن الترجمة تعتبر قرآنا الشيء الذي قررنا فساده من قبل وقصور الترجمة عن نقل الإعجاز اللفظي والمعنوي كقصور التفسير تماما عن نقله بل إن قصور الأخير أشد ومع ذلك لم يقل أحد ببطلان التفاسير بل هي ضرورة عند الجميع ولقد نوهت من قبل إلى أن معظما آراء المعارضين للترجمة مبنية على فهم خاطئ ألا وهو اعتبار الترجمة قرآناً ولم يستطع كثير من المفكرين المسلمين أن يتجاوزوا هذا الشعور يقول الأستاذ محمد أكبر في مقدمته لترجمة الإمام المودودي للإنجليزية: "ويجب أن ألفت النظر إلى مسألة هامة ذلك أن الاتجاه العام لدى كثير من الناس هو اعتبار الترجمة إلى اللغة الإنجليزية قرآنا وهذا لعمرو الله من الخطأ البين الخطير إذ ليست هناك ترجمة مهما بلغت من الجودة يمكن أن تسمو وتبلغ درجة القرآن العظيم"
إنه ولإزالة هذا اللبس والفهم الخاطئ سمى الإمام المودودي ترجمته للقرآن بالأردية تفهيم القرآن وعند ترجمة ذلك إلى الإنجليزية سميت: (The Meaning of the Quran) أي معاني لقرآن ولنفس السبب سمى الشيخ أبو بكر غومي ترجمته للقرآن إلى لغة الهوسا: معاني للقرآن بلغة هوسا "
عاد الرجل هنا للقول أن الترجمة ليست للقرآن وإنما لمعانى القرآن وهو إقرار لعجز البشر عن الترجمة الصحيحة مئة فى المئة لأى لغة وبين الرجل أن السبب الرئيسى فى العجز هو كون إعجاز القرآن فى نظمه لفظا ومعنى فقال"
"وفي الحقيقة فإن القول بأن إعجاز القرآن إنما هو في لفظه فقط تقليل من شأن القرآن وانتقاص من قدره ذلك أن المعنى والموضوع عاملان مهمان بالنسبة لجمال أي عمل ورغم أن إعجاز القرآن اللفظي مع غيره كان التحدي المباشر للعرب إلا أن معانيه وأحكامه وقصصه وأهدافه وتعاليمه ونبوءاته كل هذه مع غيرها تكون الإعجاز القرآني وإليك هذه المقتطفات التي تبين أن الإعجاز ليس قاصرا على النظم وحده
يقول الإمام السيوطي: "اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة وهي:إما حسية وإما عقلية، وأكثر معجزات بني إسرائيل حسية، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزات العقلية الباقية ليراها ذووا البصائر كما قال (ص)"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" أخرجه البخاري
قيل: إن معناه إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عمر من الأعمار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون دليلا على صحة دعواه وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا" وقال الجاحظ: "بعث الله محمداً أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته ودعاهم بالحجة وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة وكلما ازداد تحدياً لهم بها لعجزهم عنها تكشف عن نقصهم ما كان مستورا وظهر منه ما كان خفياً فحين لم يجدوا حيلة قالوا: أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا قال: "فهاتوها مفتريات" فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر فدل ذلك على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستحالة لغتهم وسهولة ذلك عليهم، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كان أنقص لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أصحابه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ولهم القصيدة العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه وقال ابن عطية: "الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه وذلك أن الله أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظه تصلح إن تلى الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر بعضهم يعمهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن أحداً من البشر لا يحيط بذلك فبهذا جاء نظم القرآن فما الغاية القصوى من الفصاحة والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط ولهذا نرى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولاً ثم ينظر فيها وهلم جرا وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحر، وفي معجزة عيسى بالأطباء فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره فكان السحر قد انتهى في مدة موسى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى والفصاحة في زمن محمد (ص)"
ويقول الخطابي: إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حاصل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظماً أحسن تأليفا وأشد تلاوة وتشاكلاً من نظمه، وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فإما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيان لطريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضع الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق منه مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعائد منهم منبئا عن الكوائن المستقبلية في الأعصار الآتية من الزمان جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأدل عن وجوب ما أمر به ونهى عنه ومعلوم أن الإتيان بهذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله ومناقضته في شكله
ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وقال: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم}
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس قال: "جاء المغيرة بن شعبة إلى النبي (ص) فقرأ له القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله قال: علمت قريش أني من أكثرها مالا قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له قال: فماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي نقول شيئاً من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإن لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: فدعني حتى أفكر فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره"
المقتطفات أعلاه تؤكد أن هناك أكثر من وجه واحد للإعجاز القرآني، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يكون الإعجاز اللفظي مشتركاً في تصوير أي معنى أو جانباً عن معانيه السامية والمقصودة أصلاً بالتصديق والاتباع غير أن الإعجاز اللفظي ليس مقصودا لذاته وإنما أريد به نقل المعنى في أحسن صورة وأبلغها وأنجعها، حتى كان المعنى هو الغاية واللفظ هو الأداة والوسيلة، وكثير من الناس يعتقد أن القرآن أعجز العرب بفصاحته فحسب، ولكنه في الحقيقة أعجزهم بفصاحته وبمعانيه معا، فهم لم ينكروا أن الألفاظ والتعابير هي ألفاظهم وتعابيرهم وإن عجزوا عن نظم مثل نظمها ولكنهم قالوا إن هذه المعاني ليست مما عرفوا، وقالوا هي ليست من صنع البشر فنسبوها للكهنة وللجن، وعلى أي فمراد الله حتى من عجزهم عن بناء اللفظ إنما لينتبهوا ويعوا الحقيقة: إن هذا المعنى القرآني ليس من صنع البشر حتى يؤمنوا به ويعملوا بمقتضاه فيكتب لهم النجاح في الدنيا والنجاة والفلاح في الآخرة
والإعجاز القرآني جملة ومنه اللفظي إنما يتجلى للمسلمين على درجات متفاوتة وإن الذين يقفون على جل أسرار الإعجاز اللفظي فقط قلة حتى بين العرب فإذا غاب الإعجاز اللفظي على نسبة كبيرة من المسلمين العرب فهو على غيرهم من المسلمين أكثر غيابا، فلماذا والحال كذلك تضع العراقيل في وجه تبليغ الدعوة للناس كافة على أمر هو على أهميته وسيلة وليس غاية في حد ذاته، ليس ذلك فحسب بل إن هذه الوسيلة لا تدرك على أكمل وجه وأبلغه بمجرد تعلم اللغة العربية وإنما ببلوغ درجات عظيمة في علومها وفنونها، ومع ذلك فإن مفاتيح إدراك وجوه الإعجاز والمعاني القرآنية لا تكمن في اللغة فحسب وإن كانت اللغة أهم أدواتها، ولكن بشاشة الإيمان وصدقه وإخلاص القلب وصفاءه هي المصابيح التي تنير طريق المؤمن وتكشف خبايا هذا الكنز الميسر للمؤمنين إن شاء الله {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
وبشاشة الإيمان كما لا يخفى لا تدرك بكثير علم في الشرع ولا باللغة ولكن بنور الله الذي يعطاه من أصدق الله ونصره، فما سبق الناس أبو بكر بكثرة الصيام ولا قيام ولكن سبقهم بشيء في قلبه، وبالعبادة يرقى العبد إلى أعلى عليين فيدفعه ذلك إلى التعطش للمعرفة والتقرب إلى الله من خلال الحديث إليه مباشرة والأخذ من مأدبته: ألا إن مأدبة الله القرآن: فيجد المسلم - والحال كذلك - نفسه مدفوعاً إلى تعلم العربية وفنونها وهو الأفضل لأن الحاجة لتعلمها تأتي من خلال الحاجة لاستعمالها وذلك هو المحك الرئيسي للعلم وهذا"
إذا عاد الرجل ليقول بان ترجمة القرآن الصحيحة على يد البشر إلى لغة أخرى محالة وقد ناقشت فى كتب سابقة حكاية أن إعجاز القرآن هى مسالة من عمل البشر فالله لم يقل أن القرآن معجزة نظمية أو غير هذا وإنما هو اعتقاد الفقهاء
وبعد أن ناقش الرجل المسألة ووجدناه مرة يحرم ومرة يبيح عاد للإباحة الكاملة لترجمة القرآن وليس لمعانيه فقال:
"ما فعله ويفعله المسلمون الخلص كل يوم وبلغ به الأعاجم مكانة في اللغة بزوا فيها العرب وما كانوا ليبلغوها لولا هذا الحافز الديني
كان هذا القدر كافياً في الدلالة على أنه ليس ثمة ما يحرم ترجمة معاني القرآن لأي لغة أخرى بغرض تبليغ الدعوة الإسلامية إلى القاصي والداني، وما دامت الترجمة لم تحرم بالنص الشرعي ولم يجمع على تحريمها بناء على ذلك فقد أصبحت من الأمور الجائزة شرعا عملا بقاعدة: (إن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد الحظر)
ولكن الترجمة في نظري تتمتع بما هو أكثر من الجواز الشرعي فبينما انعدمت واندفعت النصوص والأدلة المانعة لها تضافرت الأدلة القوية المجوزة والموجبة لها، ابتداء من عمل وإقرار الرسول (ص) للترجمة وانتهاء بالشروح والتفسيرات والتخريجات المبنية على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وسبل الاجتهاد الأخرى
وفوق هذا وذاك هناك توجيه ثالث ينبغي أن لا يفوت على المسلمين: ذلك أن الرسول (ص) قد ابتعثه الله خاتما للنبيين وأرسله إلى الناس كافة بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون أرسله بشيرا ونذيرا ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة فقال تعالى:
1- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}
2- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}
3- {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}
وأمر الرسول (ص) بأداء هذه الرسالة وتبليغ الأمانة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقال (ص) في نهاية وصيته لأصحابه في حجة الوداع: "ألا هل بلغت" قالوا: بلى قال: "اللهم فاشهد ثلاثا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى ممن سمع" كما ينبغي أن يؤدى الواجب وأمر المسلمين أن يحملوا الراية من بعده إلى يوم الدين إذ لا نبي بعده
وكما يقول الإمام الشاطبي: "وذلك أن العالم وارث النبي (ص) فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم والدليل على ذلك أمران: أحدهما: ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح ثابت ويلزم من كونه وارثاً قيامه قيام مورثه في البيان وإذا كان البيان فرضاً على المورث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضاً، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أومجمل من الأدلة وبين أصول الأدلة في الإتيان بها فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ
والثاني: ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء فقد قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} والآيات كثيرة وفي الحديث: "ألا يبلغ الشاهد منكم الغائب" وقال: "لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" وقال: "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل" والأحاديث في هذا كثيرة ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم"
ومعلوم لدى الكافة أن الرسالة الإسلامية لم تصل بل ولم تبلغ صحيحة لكثير من أمم العالم اليوم فما على المسلمين إلا أن يشمروا ساعد الجد وأن يسعوا في تبليغها حية وصحيحة بكل سبيل إلى الناس أجمعين وما الترجمة إلا واحد من هذه الوسائل التي يمكن أن يؤدي بها هذا الواجب الذي حملوه عن الرسول (ص) ومن الله من قبل حيث قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 2
وصحيح ما أعرب عنه الكثيرون من أن الترجمة لا يمكن أن تنقل المعاني القرآنية بكل دلالاتها وإيقاعاتها، بكل سحرها وروعتها المؤثرة في النفوس الملينة للقلوب، إلا أنه ومن خلال التجارب والترقي في فنون الترجمة القرآنية سيصل المسلمون - ما أخلصوا النية - إلى مستوى من الترجمة معقول ومقبول، ولقد نشأت الآن بعض الدراسات ورصدت بعض الملاحظات التي من شأنها أن تهدي إلى إزالة كثير من القصور الذي صاحب التراجم الأولى وعلى كل فما يدرك كله لا يترك كله ويقرر ذلك في بساطة الأستاذ محمد أسد في مقدمة ترجمته للقرآن فيقول: دون سائر الكتب فإن معاني القرآن وتعبيراته اللغوية يكونان كلا لا ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، ذلك أن مكان الكلمة من الجملة وموسيقى العبارات والتركيب العضوي للجمل القرآنية والهيئة المثلى التي تتدفق فيها العبارات القرآنية الرمزية إلى دلالات واقعية حية بإيقاعات ونبرات محكمة مؤثرة، كل هذا يجعل من القرآن عملاً فريداً يعجز البشر عن ترجمته وفقاً لهذه الخصائص إلى أي لغة أخرى إلا أنه من الممكن أن تترجم رسالته (معانيه) بلغة معبرة ومفهومة لقوم كالغربيين لا يعرفون العربية البتة وكمعظم المسلمين غير العرب الذين لا تسعفهم حصيلتهم من العربية إلى أن يجدوا سبيلهم إلى القرآن دون مساعدة
إن واجب المسلمين تجاه العالم اليوم لأكبر من أن يؤدى بمجرد ترجمة القرآن وإنما يحتاج لمجهود أكبر من ذلك، فهو عالم حائر يتخبط ذهبت به المادة مذاهب ليس فيه المزيد من القوى لتحملها كما لم يعد في المادة نفسها مزيدا من البريق والجاذبية لتلهيه وتجذبه فضل أيما ضلال فما على المسلمين إلا أن يقدموا له الإسلام حيا يسعى بأعمالهم قبل أقوالهم
ولكي يتسنى للمسلمين أن يضطلعوا بهذا الدور الكبير والخطير لابد من أن يحرروا له فكرهم من معتقلات عصر الجمود الطويل ومن شعاراته التي تقول: ليس في الإمكان أحسن مما كان هذا وأن التحرر الفكري للاجتهاد العصري لن يتم بمجرد الوعي بأهميته وإنما لابد له من فهم واسع وعميق للشريعة واستخدام صحيح للطبيعة على ضوئه، إذا لن يتأتى إسهام فكري وعلمي جديد ذو شأن في هذا العصر إلا كان ناتجه رائدا على ناتج المعدلات الفكرية والعلمية الحاضرة والمتصوِرة وحيث أن المعدلات الراهنة تتنافس في حيز ضيق في القمة، فدربها قد أصبح مسدودا لكل طامح ولا يلوح في الأفق فكر - سوى الإسلام - يمكن أن يأتي بمعدلات جديدة وذلك لما فيه من إمكانية التزاوج بين علوم الشريعة والطبيعة بما يحقق التكامل الفطري الذي يفتقده الإنسان المعاصر، لأن الحضارة المادية سلبته جل مقوماته الروحية، وأي تصحيح لها من داخَله سيقلب كفة الميزان على غير هدى كما نشاهده في حركات الرفض الغربية والتصوف الإسلامية والرهبنة النصرانية، وما يرشح الإسلام للقيام بهذا الدور هو قدرته على الاحتفاظ بكَفتي الميزان في اعتدال، ومن هنا يأتي الإسهام بمعدلاته الجديدة الكاسحة إن شاء الله - فقد يتطلب الأمر من المسلمين فهما للإسلام أكثر إحاطة وعمقاً لكل من علم الوحي المنزل – الشريعة - وعلم الكون المفتوح- الطبيعة- ومن ضمن ما ينبثق عن علم الوحي الاستخدام الصحيح لعلم الطبيعة حتى يتم التزواج بين العلمين في اتساق وانسجام ليعطي كفاية إنتاجية عالية، لأن تفجير طاقات الإنسان بواسطة هذا التزاوج الواعي يفوق كل أسباب الدفع والحوافز الحالية، بل إنها جميعا كسر صغير من أسباب الدفع الديني في الحياة تحت ظل العقيدة الإسلامية "
االلل
والرجل هنا يستشهد بكلام محمد أسد ولكن الاستشهاد لا يوافق ما ذهب إليه لأنه محمد أسد يقول بترجمة معانى القرآن وليس القرآن نفسه فى قوله:
"كل هذا يجعل من القرآن عملاً فريداً يعجز البشر عن ترجمته وفقاً لهذه الخصائص إلى أي لغة أخرى إلا أنه من الممكن أن تترجم رسالته (معانيه) بلغة معبرة ومفهومة لقوم كالغربيين لا يعرفون العربية البتة"
هذه جملة الأدلة التي احتج بها المؤيدون لجواز ووجوب الترجمة وهي الأولى بالاعتبار في نظري لمنحاها الايجابي المتسق مع مقاصد الدين وأهداف الشرع الإسلامي غير أن ذلك لا يعفينا من مناقشة الاعتراضات والحجج الوجيهة التي أثارها أصحاب الرأي الأول
1- قالوا: إن الترجمة بدعة وأمر لم يقدم عليه الأوائل وهذه حجة قد اندفعت بحصول ترجمة القرآن إلى الرومية والفارسية والحبشية على أقل تقدير فى حياة الرسول (ص) وبإقراره وكما لا يخفى على دارس أصول السنة فإن إقراره (ص) كفعله وقوله من حيث الحجية ولما حصلت وقبلت الترجمة من الرسول (ص) من حيث المبدأ فلا يضيرها وإن كانت وقتئذ على مستوى بسيط واقتضت الحاجة إلى أن ترفعها الآن إلى مستوى أكبر وعلى نطاق أوسع هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن البدعة المزعومة ليست في عمل كل شيء لم يفعله الرسول (ص) وإلا لكان مجرد جمع القرآن في مصحف وتفسيره في صحائف وجمع السنة وغير ذلك مما قصد به خدمة الشرع الإسلامي بدعة ولا أحسب أن عاقلا يقول بذلك خاصة وأن الرسول (ص) قد أرشد إلى أن: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجرمن عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" فالترجمة إذن من قبيل السنة المأجور فاعلها لا من قبيل البدعة ولا السنة السيئة المذمومفاعلها وعلى أي فإن العمل ينتقل من حكم العادة إلى درجات العبادة بنية ودوافع صاحبه فالترجمة التي قصد بها وجه الله وخدمة الإسلام والمسلمين هي التي من قبيل السنة الحسنة فالترجمة كغيرها من الأفعال تحمد وتذم وفقا لجهد وصدق أو سوء نية صاحبها "
الكلام هنا ألقاه الكاتب دون دليل فلا توجد رواية واحدة على الترجمة المزعومة للقرآن إلى الرومية والفارسية والحبشية ثم قال:
"2- قيل: إن الترجمة تؤدي إلى إحجام المسلمين غير العرب عن دراسة اللغة العربية التي هي لغة القرآن والاهتمام بها، وهذه بدورها حجة لا تستند إلى دليل، فمجرد الترجمة لا يؤدي إلى هذه النتيجة لأن الترجمة كما يقول محمد أكبر: مجرد محاولة لمساعدة الدارس لفهم وإدراك النص القرآني وليست بأي حال بديلا له ومعلوم أيضا أن اللغة العربية تنتشر تبعاً للإسلام وليس العكس فإذا كان ذلك كذلك وإذا كان الغرض من الترجمة هو - نقل معاني القرآن من ناحية وتبليغ دعوة الإسلام لغير العرب من ناحية أخرى فينتظر من هذا الجهد كما هو ملحوظ- إدخاله الناس في دين الله أفراداً وأفواجاً وهم من بعد دخولهم الإسلام سيدفعون بأكثر من دافع وحافز لتعليم العربية لأن الترجمة ليست قرآناً والقرآن هو أساس الإسلام وكل مسلم يحس في نفسه الحاجة الماسة لتعلم العربية حتى يأخذ الإسلام من مصادره الأصلية والمؤثرة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون "
هذه الدليل الكلام فيه ليس واضحا فالمسلمون لابد أن تكون لهم لغة تواصل مع لغتهم الأصلية حتى يقدروا مثلا على السفر عبر بلاد المسلمين للحج أو للجهاد فالمجاهدون إن لم يكونوا يتواصلون بلغة واحدة سيكون الجهاد ضائع والهزيمة ستأتى بعدم الفهم وحتى يقدروا على الزواج المختلط اللغات ثم قال:
"3- ثم قالوا: إن الترجمة قاصرة عن تحمل المعاني الكثيرة التي أودعها الله القرآن في نظم معجز بحيث لا يستطيع امرؤ أن يحيط بهذا المعاني ولا أن ينقلها بعد المحافظة على إعجازها اللفظي والمعنوي هذه دعوى صحيحة على فرض أن الترجمة تعتبر قرآنا الشيء الذي قررنا فساده من قبل وقصور الترجمة عن نقل الإعجاز اللفظي والمعنوي كقصور التفسير تماما عن نقله بل إن قصور الأخير أشد ومع ذلك لم يقل أحد ببطلان التفاسير بل هي ضرورة عند الجميع ولقد نوهت من قبل إلى أن معظما آراء المعارضين للترجمة مبنية على فهم خاطئ ألا وهو اعتبار الترجمة قرآناً ولم يستطع كثير من المفكرين المسلمين أن يتجاوزوا هذا الشعور يقول الأستاذ محمد أكبر في مقدمته لترجمة الإمام المودودي للإنجليزية: "ويجب أن ألفت النظر إلى مسألة هامة ذلك أن الاتجاه العام لدى كثير من الناس هو اعتبار الترجمة إلى اللغة الإنجليزية قرآنا وهذا لعمرو الله من الخطأ البين الخطير إذ ليست هناك ترجمة مهما بلغت من الجودة يمكن أن تسمو وتبلغ درجة القرآن العظيم"
إنه ولإزالة هذا اللبس والفهم الخاطئ سمى الإمام المودودي ترجمته للقرآن بالأردية تفهيم القرآن وعند ترجمة ذلك إلى الإنجليزية سميت: (The Meaning of the Quran) أي معاني لقرآن ولنفس السبب سمى الشيخ أبو بكر غومي ترجمته للقرآن إلى لغة الهوسا: معاني للقرآن بلغة هوسا "
عاد الرجل هنا للقول أن الترجمة ليست للقرآن وإنما لمعانى القرآن وهو إقرار لعجز البشر عن الترجمة الصحيحة مئة فى المئة لأى لغة وبين الرجل أن السبب الرئيسى فى العجز هو كون إعجاز القرآن فى نظمه لفظا ومعنى فقال"
"وفي الحقيقة فإن القول بأن إعجاز القرآن إنما هو في لفظه فقط تقليل من شأن القرآن وانتقاص من قدره ذلك أن المعنى والموضوع عاملان مهمان بالنسبة لجمال أي عمل ورغم أن إعجاز القرآن اللفظي مع غيره كان التحدي المباشر للعرب إلا أن معانيه وأحكامه وقصصه وأهدافه وتعاليمه ونبوءاته كل هذه مع غيرها تكون الإعجاز القرآني وإليك هذه المقتطفات التي تبين أن الإعجاز ليس قاصرا على النظم وحده
يقول الإمام السيوطي: "اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة وهي:إما حسية وإما عقلية، وأكثر معجزات بني إسرائيل حسية، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزات العقلية الباقية ليراها ذووا البصائر كما قال (ص)"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" أخرجه البخاري
قيل: إن معناه إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عمر من الأعمار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون دليلا على صحة دعواه وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا" وقال الجاحظ: "بعث الله محمداً أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته ودعاهم بالحجة وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة وكلما ازداد تحدياً لهم بها لعجزهم عنها تكشف عن نقصهم ما كان مستورا وظهر منه ما كان خفياً فحين لم يجدوا حيلة قالوا: أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا قال: "فهاتوها مفتريات" فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر فدل ذلك على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستحالة لغتهم وسهولة ذلك عليهم، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كان أنقص لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أصحابه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ولهم القصيدة العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه وقال ابن عطية: "الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه وذلك أن الله أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظه تصلح إن تلى الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر بعضهم يعمهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن أحداً من البشر لا يحيط بذلك فبهذا جاء نظم القرآن فما الغاية القصوى من الفصاحة والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط ولهذا نرى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولاً ثم ينظر فيها وهلم جرا وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحر، وفي معجزة عيسى بالأطباء فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره فكان السحر قد انتهى في مدة موسى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى والفصاحة في زمن محمد (ص)"
ويقول الخطابي: إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حاصل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظماً أحسن تأليفا وأشد تلاوة وتشاكلاً من نظمه، وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فإما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعائه إلى طاعته وبيان لطريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضع الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق منه مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعائد منهم منبئا عن الكوائن المستقبلية في الأعصار الآتية من الزمان جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأدل عن وجوب ما أمر به ونهى عنه ومعلوم أن الإتيان بهذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله ومناقضته في شكله
ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وقال: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم}
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس قال: "جاء المغيرة بن شعبة إلى النبي (ص) فقرأ له القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله قال: علمت قريش أني من أكثرها مالا قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له قال: فماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي نقول شيئاً من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإن لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: فدعني حتى أفكر فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره"
المقتطفات أعلاه تؤكد أن هناك أكثر من وجه واحد للإعجاز القرآني، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يكون الإعجاز اللفظي مشتركاً في تصوير أي معنى أو جانباً عن معانيه السامية والمقصودة أصلاً بالتصديق والاتباع غير أن الإعجاز اللفظي ليس مقصودا لذاته وإنما أريد به نقل المعنى في أحسن صورة وأبلغها وأنجعها، حتى كان المعنى هو الغاية واللفظ هو الأداة والوسيلة، وكثير من الناس يعتقد أن القرآن أعجز العرب بفصاحته فحسب، ولكنه في الحقيقة أعجزهم بفصاحته وبمعانيه معا، فهم لم ينكروا أن الألفاظ والتعابير هي ألفاظهم وتعابيرهم وإن عجزوا عن نظم مثل نظمها ولكنهم قالوا إن هذه المعاني ليست مما عرفوا، وقالوا هي ليست من صنع البشر فنسبوها للكهنة وللجن، وعلى أي فمراد الله حتى من عجزهم عن بناء اللفظ إنما لينتبهوا ويعوا الحقيقة: إن هذا المعنى القرآني ليس من صنع البشر حتى يؤمنوا به ويعملوا بمقتضاه فيكتب لهم النجاح في الدنيا والنجاة والفلاح في الآخرة
والإعجاز القرآني جملة ومنه اللفظي إنما يتجلى للمسلمين على درجات متفاوتة وإن الذين يقفون على جل أسرار الإعجاز اللفظي فقط قلة حتى بين العرب فإذا غاب الإعجاز اللفظي على نسبة كبيرة من المسلمين العرب فهو على غيرهم من المسلمين أكثر غيابا، فلماذا والحال كذلك تضع العراقيل في وجه تبليغ الدعوة للناس كافة على أمر هو على أهميته وسيلة وليس غاية في حد ذاته، ليس ذلك فحسب بل إن هذه الوسيلة لا تدرك على أكمل وجه وأبلغه بمجرد تعلم اللغة العربية وإنما ببلوغ درجات عظيمة في علومها وفنونها، ومع ذلك فإن مفاتيح إدراك وجوه الإعجاز والمعاني القرآنية لا تكمن في اللغة فحسب وإن كانت اللغة أهم أدواتها، ولكن بشاشة الإيمان وصدقه وإخلاص القلب وصفاءه هي المصابيح التي تنير طريق المؤمن وتكشف خبايا هذا الكنز الميسر للمؤمنين إن شاء الله {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
وبشاشة الإيمان كما لا يخفى لا تدرك بكثير علم في الشرع ولا باللغة ولكن بنور الله الذي يعطاه من أصدق الله ونصره، فما سبق الناس أبو بكر بكثرة الصيام ولا قيام ولكن سبقهم بشيء في قلبه، وبالعبادة يرقى العبد إلى أعلى عليين فيدفعه ذلك إلى التعطش للمعرفة والتقرب إلى الله من خلال الحديث إليه مباشرة والأخذ من مأدبته: ألا إن مأدبة الله القرآن: فيجد المسلم - والحال كذلك - نفسه مدفوعاً إلى تعلم العربية وفنونها وهو الأفضل لأن الحاجة لتعلمها تأتي من خلال الحاجة لاستعمالها وذلك هو المحك الرئيسي للعلم وهذا"
إذا عاد الرجل ليقول بان ترجمة القرآن الصحيحة على يد البشر إلى لغة أخرى محالة وقد ناقشت فى كتب سابقة حكاية أن إعجاز القرآن هى مسالة من عمل البشر فالله لم يقل أن القرآن معجزة نظمية أو غير هذا وإنما هو اعتقاد الفقهاء
وبعد أن ناقش الرجل المسألة ووجدناه مرة يحرم ومرة يبيح عاد للإباحة الكاملة لترجمة القرآن وليس لمعانيه فقال:
"ما فعله ويفعله المسلمون الخلص كل يوم وبلغ به الأعاجم مكانة في اللغة بزوا فيها العرب وما كانوا ليبلغوها لولا هذا الحافز الديني
كان هذا القدر كافياً في الدلالة على أنه ليس ثمة ما يحرم ترجمة معاني القرآن لأي لغة أخرى بغرض تبليغ الدعوة الإسلامية إلى القاصي والداني، وما دامت الترجمة لم تحرم بالنص الشرعي ولم يجمع على تحريمها بناء على ذلك فقد أصبحت من الأمور الجائزة شرعا عملا بقاعدة: (إن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد الحظر)
ولكن الترجمة في نظري تتمتع بما هو أكثر من الجواز الشرعي فبينما انعدمت واندفعت النصوص والأدلة المانعة لها تضافرت الأدلة القوية المجوزة والموجبة لها، ابتداء من عمل وإقرار الرسول (ص) للترجمة وانتهاء بالشروح والتفسيرات والتخريجات المبنية على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وسبل الاجتهاد الأخرى
وفوق هذا وذاك هناك توجيه ثالث ينبغي أن لا يفوت على المسلمين: ذلك أن الرسول (ص) قد ابتعثه الله خاتما للنبيين وأرسله إلى الناس كافة بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون أرسله بشيرا ونذيرا ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة فقال تعالى:
1- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}
2- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}
3- {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}
وأمر الرسول (ص) بأداء هذه الرسالة وتبليغ الأمانة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقال (ص) في نهاية وصيته لأصحابه في حجة الوداع: "ألا هل بلغت" قالوا: بلى قال: "اللهم فاشهد ثلاثا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى ممن سمع" كما ينبغي أن يؤدى الواجب وأمر المسلمين أن يحملوا الراية من بعده إلى يوم الدين إذ لا نبي بعده
وكما يقول الإمام الشاطبي: "وذلك أن العالم وارث النبي (ص) فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم والدليل على ذلك أمران: أحدهما: ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح ثابت ويلزم من كونه وارثاً قيامه قيام مورثه في البيان وإذا كان البيان فرضاً على المورث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضاً، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أومجمل من الأدلة وبين أصول الأدلة في الإتيان بها فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ
والثاني: ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء فقد قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} والآيات كثيرة وفي الحديث: "ألا يبلغ الشاهد منكم الغائب" وقال: "لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" وقال: "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل" والأحاديث في هذا كثيرة ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم"
ومعلوم لدى الكافة أن الرسالة الإسلامية لم تصل بل ولم تبلغ صحيحة لكثير من أمم العالم اليوم فما على المسلمين إلا أن يشمروا ساعد الجد وأن يسعوا في تبليغها حية وصحيحة بكل سبيل إلى الناس أجمعين وما الترجمة إلا واحد من هذه الوسائل التي يمكن أن يؤدي بها هذا الواجب الذي حملوه عن الرسول (ص) ومن الله من قبل حيث قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 2
وصحيح ما أعرب عنه الكثيرون من أن الترجمة لا يمكن أن تنقل المعاني القرآنية بكل دلالاتها وإيقاعاتها، بكل سحرها وروعتها المؤثرة في النفوس الملينة للقلوب، إلا أنه ومن خلال التجارب والترقي في فنون الترجمة القرآنية سيصل المسلمون - ما أخلصوا النية - إلى مستوى من الترجمة معقول ومقبول، ولقد نشأت الآن بعض الدراسات ورصدت بعض الملاحظات التي من شأنها أن تهدي إلى إزالة كثير من القصور الذي صاحب التراجم الأولى وعلى كل فما يدرك كله لا يترك كله ويقرر ذلك في بساطة الأستاذ محمد أسد في مقدمة ترجمته للقرآن فيقول: دون سائر الكتب فإن معاني القرآن وتعبيراته اللغوية يكونان كلا لا ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، ذلك أن مكان الكلمة من الجملة وموسيقى العبارات والتركيب العضوي للجمل القرآنية والهيئة المثلى التي تتدفق فيها العبارات القرآنية الرمزية إلى دلالات واقعية حية بإيقاعات ونبرات محكمة مؤثرة، كل هذا يجعل من القرآن عملاً فريداً يعجز البشر عن ترجمته وفقاً لهذه الخصائص إلى أي لغة أخرى إلا أنه من الممكن أن تترجم رسالته (معانيه) بلغة معبرة ومفهومة لقوم كالغربيين لا يعرفون العربية البتة وكمعظم المسلمين غير العرب الذين لا تسعفهم حصيلتهم من العربية إلى أن يجدوا سبيلهم إلى القرآن دون مساعدة
إن واجب المسلمين تجاه العالم اليوم لأكبر من أن يؤدى بمجرد ترجمة القرآن وإنما يحتاج لمجهود أكبر من ذلك، فهو عالم حائر يتخبط ذهبت به المادة مذاهب ليس فيه المزيد من القوى لتحملها كما لم يعد في المادة نفسها مزيدا من البريق والجاذبية لتلهيه وتجذبه فضل أيما ضلال فما على المسلمين إلا أن يقدموا له الإسلام حيا يسعى بأعمالهم قبل أقوالهم
ولكي يتسنى للمسلمين أن يضطلعوا بهذا الدور الكبير والخطير لابد من أن يحرروا له فكرهم من معتقلات عصر الجمود الطويل ومن شعاراته التي تقول: ليس في الإمكان أحسن مما كان هذا وأن التحرر الفكري للاجتهاد العصري لن يتم بمجرد الوعي بأهميته وإنما لابد له من فهم واسع وعميق للشريعة واستخدام صحيح للطبيعة على ضوئه، إذا لن يتأتى إسهام فكري وعلمي جديد ذو شأن في هذا العصر إلا كان ناتجه رائدا على ناتج المعدلات الفكرية والعلمية الحاضرة والمتصوِرة وحيث أن المعدلات الراهنة تتنافس في حيز ضيق في القمة، فدربها قد أصبح مسدودا لكل طامح ولا يلوح في الأفق فكر - سوى الإسلام - يمكن أن يأتي بمعدلات جديدة وذلك لما فيه من إمكانية التزاوج بين علوم الشريعة والطبيعة بما يحقق التكامل الفطري الذي يفتقده الإنسان المعاصر، لأن الحضارة المادية سلبته جل مقوماته الروحية، وأي تصحيح لها من داخَله سيقلب كفة الميزان على غير هدى كما نشاهده في حركات الرفض الغربية والتصوف الإسلامية والرهبنة النصرانية، وما يرشح الإسلام للقيام بهذا الدور هو قدرته على الاحتفاظ بكَفتي الميزان في اعتدال، ومن هنا يأتي الإسهام بمعدلاته الجديدة الكاسحة إن شاء الله - فقد يتطلب الأمر من المسلمين فهما للإسلام أكثر إحاطة وعمقاً لكل من علم الوحي المنزل – الشريعة - وعلم الكون المفتوح- الطبيعة- ومن ضمن ما ينبثق عن علم الوحي الاستخدام الصحيح لعلم الطبيعة حتى يتم التزواج بين العلمين في اتساق وانسجام ليعطي كفاية إنتاجية عالية، لأن تفجير طاقات الإنسان بواسطة هذا التزاوج الواعي يفوق كل أسباب الدفع والحوافز الحالية، بل إنها جميعا كسر صغير من أسباب الدفع الديني في الحياة تحت ظل العقيدة الإسلامية "
االلل
والرجل هنا يستشهد بكلام محمد أسد ولكن الاستشهاد لا يوافق ما ذهب إليه لأنه محمد أسد يقول بترجمة معانى القرآن وليس القرآن نفسه فى قوله:
"كل هذا يجعل من القرآن عملاً فريداً يعجز البشر عن ترجمته وفقاً لهذه الخصائص إلى أي لغة أخرى إلا أنه من الممكن أن تترجم رسالته (معانيه) بلغة معبرة ومفهومة لقوم كالغربيين لا يعرفون العربية البتة"