عاصفة نجد
21-06-2006, 06:05 PM
أحلام ُ ندى
هكذا كعادتِها كلّ يومٍ تنتظرُ شمسَ الصّباحاتِ, تغتسلُ بقطرات النّدى على الشَّرفةِ الشّماليةِ مع فنجان قهوتِها , حدّقتْ إلى لون القهوة التي تشبهُ سمرتَها , وهي خارجة من ثوبِ ميلادِها, نغنغات طفولتها الأولى تملأُ زوايا البيتِ الحجري القديمِ, على هذهِ الشّرفة ِ قررتْ أن تشقّ طريقَها بعيداً عن ملاعبِ طفولتِها وذكرياتِ مراهقتِها ... كلّ شيء هنا يذكّرُها بالماضي.
قالتْ لنفسها: هنا جلسْنا وعلى شجرةِ الجوزِ كتْبنا أسماءَنا , وحكينا عن أوجاعِنا, هناك تبادْلنا باقاتِ الوردِ, لمستْ خدّها , لم تزلْ آثارُ قبلتهِ برغم مرورِ الزّمنِ.... ياه... رشفتْ قهوتَها الباردةَ.
شعرتْ أنّ الدّنيا قذفتْها لتواجهَ العاصفةَ خارجةً من فيضِ الصّبا إلى عذاباتِ الدّنيا, تذكرَتْ طفولتَها هناك في الجهةِ المقابلةِ للشّرفة طريقُ المدرسة ترافقُها حقيبتُها التي خاطَتْها أمّها من قماشِ ( قنبازِ) جدّها الحريري.. ظلَّ عشقُها لتلكِ الألوان يرافقُها إلى صباها وخزَها سؤالٌ موجعٌ ؟ كيفَ تتركُ هذه الأمكنةَ سهولاً وتلالاً تموجُ بالخضرةِ, آثار طفولتِها محفورةٌ تحتِ شجرةِ التّفاحِ وبينَ أوراقِ التّينِ, وحكايا قطفِ الدّخانِ البلدي, مازالتْ دمعاتُ عشقِها الأولى تروي الدّاليةَ الكبيرةَ التي عربشتْ أغصانُها على جدارِ البيتِ وظللَ فيؤها العلّية , كلّ حبةٍ عنبٍ تروي حكايتَها , عادِ السّؤالُ من جديدٍ ... ماذا تفعلُ في المدينةِ ... وهل تنسى..؟ أرادتْ أن تهربَ من ألمٍ مفجعٍ, دفعتْ سعادتَها للآخرينَ... إنّها تشبهُ غيمةً محمّلةً بالمطر .... كانَ عليها أن تروي يباسَ أنثى أخرى... فتحتْ ذراعيها انهمرتِ القطراتُ فوقَ اليباسِ, انتعشت الأنثى, انتظرتْ ولادتها لامسته سمعتْ صرخاتِه , دغدغت شفتيهِ, أخذتْهُ إلى صدرِها ما زالتْ تحنّ إليهِ هو الغافي في حضن امرأةٍ لا تشبهُها, وقفتْ على الشّرفةِ تطلَّعت إلى المدى البعيدِ, يجبُ أن يطويهِ النّسيانُ....سهولٌ تعشقت مع رمل للشّاطئ, زيتونٌ تعبقَ على جنباتهِ رائحةُ البخور, لكلّ شجرةٍ على هذا الوسع حكايا مع عاشقينَ... أو متلهفينِ للقاءٍ .. عليها أن تتخذ قرارَها قبلَ أن يضغط عليها الحلمُ .. ركضتْ فوقَ جراحِها... مشتْ على الجمر . انفلتتْ من أوجاعهِا امرأةٌ أخرى, لا يعنيها ما يجري حولَها... شدّتْ يدَها على مقبضِ الحقيبةِ... عليها أن تلحقَ بالحافلةِ دمعاتُها تعلّقتْ على خدي أمّها, شمّتْ عرقَ صدرِها , لهُ طعمُ النّعناع ورائحةُ الأرضِ, ندى جبينَها بللَ وريقاتِ الدّاليةِ , الأرضُ الرّطبةُ يابنيتي أكثرُ حناناً ورأفة على النّسغِ , قبلّتْ يدها ضمتْها إلى صدرها من جديدٍ , قرأتْ لها آيةَ الكرسي وأدعيةً حفظتها منذُ زمنٍ , حدقتْ في اتساعِ البيتِ, كلّ زاويةٍ لها ذكرى تخدشُ داخلَها , توقفتْ عندَ الدّاليةِ الكبيرةِ... يا للعناقيد ... انفرطتِ الحباتُ .. تدحرجتْ على الأرضِ انداحت كسنين عمرها- كم زرعتْ مبكراً أصصاً من وردٍ ودموعٍ على شرفة البيتِ الشّماليةِ حيث تقضي وقتَها مع أحلامِها تسبحُ عبرَ فضاءٍ رحبٍ مفتوحٍ, سهولٌ ممتدةٌ ووديانٌ من ذكريات, مساحاتٌ من أوجاعِ المراهقةِ دفعتْها لأن تركبِ الحافلَةَ بصمتٍ وتودّع أحبتَها بصمتٍ... المدينةُ كبيرةٌ , لا أحدَ يعرفُ عن الآخر أي شيء كلّ يجري وراءَ لقمةِ عيشهِ, عليها أن تحتفظَ بذاكرتِها وحدها, رطوبةُ " البولمانِ" خدّرت جسدَها النّحيفِ, ياه كانتْ ليلةً قلقةً وثقيلة, لم يعرفِ النّومُ طريقهُ إلى عينيها , أطبقتْ جفنيها على حلمٍ يلاحقها... عشراتُ الأسئلةِ تواجهُ ندى, في بدء خطواتِ الغربةِ, المدينةُ بعيدةٌ ومشاكلها أكبرُ... المهمُ أن أبتعدَ عن مسرحِ الذّاكرةِ, كلّ شيء ضاعَ في لحظةٍ ... فتحتْ يديها بهاتينِ اليدينِ قدّمتُ أحلامي لأنثى منحتُها ورودي وذكرياتي.. و قدّم لها مرافقُ الحافلةِ كأس ماءٍ .. انتبهتْ...عفواً تناولتهُ دفعةً واحدةً لا شيء يروي عطشَها... استغرقتْ في نومٍ لم تعهدهُ من قبلُ...
غفوةٌ هاربةٌ من زمنٍ تواجهها أسئلتهُ المحرجةُ, صعدتْ إلى غرفةٍ بلا نافذة بابٌ مفتوحٌ على ضيقِ غرفةٍ جوّها حارٌ وخانقٌ... انغمتْ وأحسّتْ أنّ ثقلاً يضاف فوق تعبِها, أخذتْ ترتبُ حاجياتِها , راحتْ تفتشُ في أوراقِها الخاصةِ بعضُ الصور القديمة للنّاس الذين عايشتهُم زمناً... رحلُوا بلا وداعٍ ... توغلتْ في ذاكرةٍ من وجعٍ وحنينٍ, نقيقُ ضفادع... ألقتْ تعبَها على وسادةٍ وفراشٍ من صمتٍ, حاولتْ أن تنامَ, اللعنةُ على الضّفادعِ ونقيقَها ... بالغتْ في توقعاتِها كان الصّباح حاراً ... أشعةُ الشّمسِ الحارقةُ خدشتْ أنوثتَها الرّقيقةَ, هنا لا تستطيع إعطاء الحرّيةِ لجسدِها ... الفضاءاتُ مغلقةٌ, عيونٌ جارحةٌ وأوامرُ المنعِ مقيتةٌ, تسلّمتْ أوراق عملِها ... خطواتُها في عالمِ الوظيفةِ بائسةٌ كحالتِها, سألتْ نفسَها مراتٍ عديدةً ... كيف تتأقلمُ مع حياتِها الجديدةِ في مدينةٍ لا صلةَ تشدٌّها إليها...؟
جففت دموعَها , إنّها وحيدةٌ نتقاذفُهما الحياةُ , قدرُها يشبهُ الأواني المحطمةَ , بدأ ينمو في داخلِها شعورُ توجسٍ وخيبةٍ ومرارةٍ, جاءَ المساءُ باهتاً, بضعُ غيماتٍ داكنةٍ تشكّلت حول القمرِ, أخذتْ تراقبُ انفلاتَهُ منها... تعرفتْ إليه أوّلَ مرّة بين مجموعةٍ من أشخاصٍ مختلفينَ, لكنّه وحدهُ شدّها رغمَ تعلّقها برجلٍ لا يشبههُ, شعرتْ بميلٍ غريبٍ أنعشَ أوردتَها المتيبسةَ , نحو هذا الرّجلِ المتعالي قالتْ لنفسِها: ذلكَ منذُ النّظرةِ الأولى.
كانت حفلةُ شاي بمناسبة عامّةٍ, غلبَ عليها جوُّ النّكتةِ المبتذلةِ والهزلِ السّاخرِ, تنهدتْ بعمقٍ نسيتْ يدها بينَ يديهِ , عفواً كأنّها تعرِفُه من قبل... عيناها تراقبانهِ عن بعدٍ بتحفظٍ, قهقهاتٌ وهمساتٌ جانبيةٌ... لكنه ظلَّ صامتاً يرقبُ تبدلاتِ ملامحِهم, ضجيج ُ تبادلِ الأنخابِ نفّره كانَ لهُ طابعاً استثنائي كحضورهِ... أمطرَ يباسُ جسدِها بعذوبتهِ وتحليلهِ للأشياء أخرجها من صمتِها ... أنعشِ روحَِها , يالهُ من رجلٍ, عضتْ على شفتِها السّفلى كلُّ ما فيهِ يشدّها إليه.. تمنتْ أن تأخذهُ بعيداً عن أعينهم, تمنحهُ ذاتَها تفرشُ لهُ أوجاعَها, تقصّ عليهِ حكايتَها, لو عرفته من قبل... لمدّتْ لهُ عمرَها... سنينٌ عديدةٌ تفصلٌ بينها وبينهُ, غريبةٌ هي الأقدارُ ... تأتي بها هاربةً من رجلٍ منحتهُ عمَرها... ثم غادرَها مع أنثى أخرى....
يواجه الإنسان أقداراً ليسِ لهُ فيها يدٌ ... وتحدثُ معهُ أشياءٌ لا يتوقعُ حدوثَها ... هاهي تميل إلى رجلٍ لا يمكنُ أن تمتلكهُ.
أدهشَها عالمُ الوظيفةِ, لم تجدْ فسحةً لضيقِها ,انغلقتْ أبواب عالمِها وهي تمنحُ عطفَها للعابرينَ, ما بهِ هذا الرّجلُ يتركُها للقدرِ من جديدٍ, لم تكنْ تُظهرُ غيرتَها عليهِ, ولمْ تعرفْ تلكَ الغيرةَ التي تسكنُ داخلهُ ( تجاربُه في الحياةِ غنيةٌ ) سارا وحيدينِ رغمَ ازدحامِ الشّارعِ, لم يشعرا بأحدٍ, قصّتْ عليهِ جزءاً من حكايَتِها , وأخفتِ الكثيرَ ابتسمَ لها بنفسٍ طويلٍ ... تكلّمي بحرّيةٍ: الأشياءُ التي نكتُمها تؤرّقُنا تجعلُنا بعيدينَ عن الواقعِ... تبقينا مغلفينَ بآهاتِنا وأحزاننا علينا أن تعيشَ المرحلة التي نحياها... ثم علينا مراقبةُ ما تدفعهُ الأقدارُ لنجدَ طريقاً يوصلُنا إلى شاطئ الأمانِ, قالتْ في نفسِها : إنّهُ يعلمُ ما أردتُ قولَهُ ولم أقلْهُ!! تعلّقتْ به أكثر...رجلٌ طيبٌ كلماتُهُ فيضُ ماءِ أنعشَ روحَها, أيقظ غفلَتها , إنّهُ يحيطُها برعايةٍ لم تعهدْها من قبلُ... انكسرتْ أسئلَتها... حضورُه يجعلُها تلتزمُ الصّمتَ, كأنّها تعيشهُ حتى في أحلامِها , لم تعتدْ حبسَ عواطِفها, ولا ترتيبَ نفسِها, انغمستْ في متاهاتِ الحياةِ, والآخرونَ تبيعهمْ هواها ثم تجعلُهم يعيشونَ لحظاتِ دفع الثّمنِ, تمشي بهم فوقَ جمرِ النّدمِ , تهيمُ بهم على حافةِ النّهرِ وتمنعُ ماءَها عنهم... ظمأٌٌ موحشٌ رافقَ سنواتِ عمرِها.
أمامَ هذا الرّجلِ تحبسُ عواطفَها وتطوي جرأَتَها, وتخفي نضوجَها الأنثوي المبكرِ تتلعثم بكلماتٍ كندى الصّباحاتِ, إنهُ يحتوي أوجاعَها, أدخلتهُ في حيرةٍ من أمرهِ, ثمّةَ جسدٌ مريض ملقى على مشرحةِ الحياةِ بلا دفء ولا مشاعر حاولَ احتواءَ وجعِها, هي لا تدري أنّها تدفعُ الثّمنَ, تميلُ مع أي نسمةٍ طارئةٍ. تسابقُ زمنَ نضوجِ أنوثتها, كانَ الحلمُ أكبرَ من الواقعِ... تمنياتها أحلامُ مساءاتٍ صافيةٍ تعبرُ مساراتها شمسٌ ساطعةٌ , وزقزقاتُ عصافيرِ الدّوري, فتحتْ نافذةً مطلّةً على ذاكرةٍ من وجعٍ وشوقٍ إلى فضاءاتٍ بعيدةٍ, أحسّتْ أنّ الأيامَ والسّنينَ في هذهِ المدينةِ ضاعتْ من عمرِها وزادتْ في معاناتِها. شيءٌ ما شدّها للماضي بكلّ ما فيهِ من وجعٍ إلى السّفوحِ و التّلالِ إلى الشّرفةِ الشّماليةِ للبيتِ الحجري القديم, بكتْ يوماً أنّها غيّرتْ قناعاتِها , وبكتْ أياماً لمن أتاحتْ لهم فرصةَ مشاهدةِ ذاكرتِها, والآن تخافُ أن تبكي دهراً على حالِها , تذكرتْ ما قالهُ لها : " علينا أن نغلقَ ذاكرِتنا ونخفي مشاعَرنا عن أعينِ العابرين..." تملكتْها حيرةٌ ووخزٌ داخلي يومها..
ماذا يقصدُ هذا المتعالي؟ بالعابرينَ أرادتْ أن تسألَهُ, فكّرت جيداً لقد حاولَ كثيراً أن ينقذَ حطامَها, أن يشاركَها آلامَها , أن يمسحَ دمعاتٍ سخيةً عن خديها, كانتْ تنفرُ من عطفهِ وتشتاقهُ بنفسِ اللّحظةِ, تريدهُ تابعاً يعرفُ عنها كلّ شيء, ولا يتدخلُ في حياتِها. أمامهُ ينطوي تمرّدها, يجعلُها ترتجفُ كأنهُ يقرأُ أَسرارَها ... ولو ... عليهِِ أن يقبَلها كما هي, ما هذا الدّوارُ اللعينُ ؟ تريدُ أن تقولَ لهُ كلّ شيء دفعةً واحدةً, يمنعهُما حياؤُها , كيفَ تفتحُ له عمرَها؟ تريدهُ أن يقرأَها ثم فجأةً تخفي عنهُ ما تتمناهُ , سألت نفسَها بقوةٍ ماذا تريدُ هي منهُ؟ وضعتْ رأسَها المتعبَ على وسادتِها , سرحتْ مع أفكارِها, شدّتْ غطاءَ السّرير ثم أبعدتهُ هدوءً أقلقها, ارتعشتْ خربشاتٌ على نوافذِ الذّاكرةِ, أوراقُ النّارنجِ...
ابتسمتْ ياه . منذ زمنٍ بعيد لم تبتسمْ هي ... هل نرحلُ ونتركُ كلّ شيء ... أم تنتظرُ قدراً آخرَ .. كانَ صباحاً ندّياً تناولتْ وعاءَ الماءِ, وراحتْ تسقي نباتاتٍ طرّيةً وتوزّعُ الأصيص على جانبي مدخلِ البيتِ, هذه النباتاتُ تشارِكها حياتَها وترعاها حتى تكبرَ , افترتْ شفتاها عن ابتسامةٍ حزينةٍ بصوت ذي بحة خاصة, راحتْ تغني مع فيروز, قطفتْ حبقةً خبأتها في صدرِها . اعتادت كل صباح أن تقدّمُها إليهِ ( هديتني وردة خبيتا بكتابي ... زرعتا عالمخدة...) يالفيروز !! تشبهُ الصّباحاتِ والياسمينِ والحبقَ ولها طعمُ الهيلِ , هو لايحبُّ المرأةَ " المزركشةَ"
كانَ يقولُ : جمالُ المرأةِ في روحِها . كلّ الأفكارِ السّيئةِ تراكمتْ في رأسِها, لم تجدْ مبرراً لوجودِها قالَ لها: لا تزالينَ شابةً ... انظري حولَكِ جيداً.. افتحي عينيكِ لتري الدّنيا أكثرَ جمالاً ... لا تخافي, مدَّي خطواتكِ, ثقي بنفسكِ... لا تنظري للماضي... اخلعي ثوبَ الحزنِ, لملمي دمعاتِكِ, خبئيها لزمنٍ يأتي فرحاً, عرفتْ أنهُ يريد إخراجَها من ضياعِها
عليكِ أن تكوني امرأةً واحدةً ... بعاطفةٍ وقلبٍ ومشاعرَ أضاء لها قنديلاً... قالَ لها قبلَ أن يودّعها: كوني امرأةً قويّةً تختزنُ الماضي كحلمٍ ... ولا تأسفي عليهِ يا ندى
هكذا كعادتِها كلّ يومٍ تنتظرُ شمسَ الصّباحاتِ, تغتسلُ بقطرات النّدى على الشَّرفةِ الشّماليةِ مع فنجان قهوتِها , حدّقتْ إلى لون القهوة التي تشبهُ سمرتَها , وهي خارجة من ثوبِ ميلادِها, نغنغات طفولتها الأولى تملأُ زوايا البيتِ الحجري القديمِ, على هذهِ الشّرفة ِ قررتْ أن تشقّ طريقَها بعيداً عن ملاعبِ طفولتِها وذكرياتِ مراهقتِها ... كلّ شيء هنا يذكّرُها بالماضي.
قالتْ لنفسها: هنا جلسْنا وعلى شجرةِ الجوزِ كتْبنا أسماءَنا , وحكينا عن أوجاعِنا, هناك تبادْلنا باقاتِ الوردِ, لمستْ خدّها , لم تزلْ آثارُ قبلتهِ برغم مرورِ الزّمنِ.... ياه... رشفتْ قهوتَها الباردةَ.
شعرتْ أنّ الدّنيا قذفتْها لتواجهَ العاصفةَ خارجةً من فيضِ الصّبا إلى عذاباتِ الدّنيا, تذكرَتْ طفولتَها هناك في الجهةِ المقابلةِ للشّرفة طريقُ المدرسة ترافقُها حقيبتُها التي خاطَتْها أمّها من قماشِ ( قنبازِ) جدّها الحريري.. ظلَّ عشقُها لتلكِ الألوان يرافقُها إلى صباها وخزَها سؤالٌ موجعٌ ؟ كيفَ تتركُ هذه الأمكنةَ سهولاً وتلالاً تموجُ بالخضرةِ, آثار طفولتِها محفورةٌ تحتِ شجرةِ التّفاحِ وبينَ أوراقِ التّينِ, وحكايا قطفِ الدّخانِ البلدي, مازالتْ دمعاتُ عشقِها الأولى تروي الدّاليةَ الكبيرةَ التي عربشتْ أغصانُها على جدارِ البيتِ وظللَ فيؤها العلّية , كلّ حبةٍ عنبٍ تروي حكايتَها , عادِ السّؤالُ من جديدٍ ... ماذا تفعلُ في المدينةِ ... وهل تنسى..؟ أرادتْ أن تهربَ من ألمٍ مفجعٍ, دفعتْ سعادتَها للآخرينَ... إنّها تشبهُ غيمةً محمّلةً بالمطر .... كانَ عليها أن تروي يباسَ أنثى أخرى... فتحتْ ذراعيها انهمرتِ القطراتُ فوقَ اليباسِ, انتعشت الأنثى, انتظرتْ ولادتها لامسته سمعتْ صرخاتِه , دغدغت شفتيهِ, أخذتْهُ إلى صدرِها ما زالتْ تحنّ إليهِ هو الغافي في حضن امرأةٍ لا تشبهُها, وقفتْ على الشّرفةِ تطلَّعت إلى المدى البعيدِ, يجبُ أن يطويهِ النّسيانُ....سهولٌ تعشقت مع رمل للشّاطئ, زيتونٌ تعبقَ على جنباتهِ رائحةُ البخور, لكلّ شجرةٍ على هذا الوسع حكايا مع عاشقينَ... أو متلهفينِ للقاءٍ .. عليها أن تتخذ قرارَها قبلَ أن يضغط عليها الحلمُ .. ركضتْ فوقَ جراحِها... مشتْ على الجمر . انفلتتْ من أوجاعهِا امرأةٌ أخرى, لا يعنيها ما يجري حولَها... شدّتْ يدَها على مقبضِ الحقيبةِ... عليها أن تلحقَ بالحافلةِ دمعاتُها تعلّقتْ على خدي أمّها, شمّتْ عرقَ صدرِها , لهُ طعمُ النّعناع ورائحةُ الأرضِ, ندى جبينَها بللَ وريقاتِ الدّاليةِ , الأرضُ الرّطبةُ يابنيتي أكثرُ حناناً ورأفة على النّسغِ , قبلّتْ يدها ضمتْها إلى صدرها من جديدٍ , قرأتْ لها آيةَ الكرسي وأدعيةً حفظتها منذُ زمنٍ , حدقتْ في اتساعِ البيتِ, كلّ زاويةٍ لها ذكرى تخدشُ داخلَها , توقفتْ عندَ الدّاليةِ الكبيرةِ... يا للعناقيد ... انفرطتِ الحباتُ .. تدحرجتْ على الأرضِ انداحت كسنين عمرها- كم زرعتْ مبكراً أصصاً من وردٍ ودموعٍ على شرفة البيتِ الشّماليةِ حيث تقضي وقتَها مع أحلامِها تسبحُ عبرَ فضاءٍ رحبٍ مفتوحٍ, سهولٌ ممتدةٌ ووديانٌ من ذكريات, مساحاتٌ من أوجاعِ المراهقةِ دفعتْها لأن تركبِ الحافلَةَ بصمتٍ وتودّع أحبتَها بصمتٍ... المدينةُ كبيرةٌ , لا أحدَ يعرفُ عن الآخر أي شيء كلّ يجري وراءَ لقمةِ عيشهِ, عليها أن تحتفظَ بذاكرتِها وحدها, رطوبةُ " البولمانِ" خدّرت جسدَها النّحيفِ, ياه كانتْ ليلةً قلقةً وثقيلة, لم يعرفِ النّومُ طريقهُ إلى عينيها , أطبقتْ جفنيها على حلمٍ يلاحقها... عشراتُ الأسئلةِ تواجهُ ندى, في بدء خطواتِ الغربةِ, المدينةُ بعيدةٌ ومشاكلها أكبرُ... المهمُ أن أبتعدَ عن مسرحِ الذّاكرةِ, كلّ شيء ضاعَ في لحظةٍ ... فتحتْ يديها بهاتينِ اليدينِ قدّمتُ أحلامي لأنثى منحتُها ورودي وذكرياتي.. و قدّم لها مرافقُ الحافلةِ كأس ماءٍ .. انتبهتْ...عفواً تناولتهُ دفعةً واحدةً لا شيء يروي عطشَها... استغرقتْ في نومٍ لم تعهدهُ من قبلُ...
غفوةٌ هاربةٌ من زمنٍ تواجهها أسئلتهُ المحرجةُ, صعدتْ إلى غرفةٍ بلا نافذة بابٌ مفتوحٌ على ضيقِ غرفةٍ جوّها حارٌ وخانقٌ... انغمتْ وأحسّتْ أنّ ثقلاً يضاف فوق تعبِها, أخذتْ ترتبُ حاجياتِها , راحتْ تفتشُ في أوراقِها الخاصةِ بعضُ الصور القديمة للنّاس الذين عايشتهُم زمناً... رحلُوا بلا وداعٍ ... توغلتْ في ذاكرةٍ من وجعٍ وحنينٍ, نقيقُ ضفادع... ألقتْ تعبَها على وسادةٍ وفراشٍ من صمتٍ, حاولتْ أن تنامَ, اللعنةُ على الضّفادعِ ونقيقَها ... بالغتْ في توقعاتِها كان الصّباح حاراً ... أشعةُ الشّمسِ الحارقةُ خدشتْ أنوثتَها الرّقيقةَ, هنا لا تستطيع إعطاء الحرّيةِ لجسدِها ... الفضاءاتُ مغلقةٌ, عيونٌ جارحةٌ وأوامرُ المنعِ مقيتةٌ, تسلّمتْ أوراق عملِها ... خطواتُها في عالمِ الوظيفةِ بائسةٌ كحالتِها, سألتْ نفسَها مراتٍ عديدةً ... كيف تتأقلمُ مع حياتِها الجديدةِ في مدينةٍ لا صلةَ تشدٌّها إليها...؟
جففت دموعَها , إنّها وحيدةٌ نتقاذفُهما الحياةُ , قدرُها يشبهُ الأواني المحطمةَ , بدأ ينمو في داخلِها شعورُ توجسٍ وخيبةٍ ومرارةٍ, جاءَ المساءُ باهتاً, بضعُ غيماتٍ داكنةٍ تشكّلت حول القمرِ, أخذتْ تراقبُ انفلاتَهُ منها... تعرفتْ إليه أوّلَ مرّة بين مجموعةٍ من أشخاصٍ مختلفينَ, لكنّه وحدهُ شدّها رغمَ تعلّقها برجلٍ لا يشبههُ, شعرتْ بميلٍ غريبٍ أنعشَ أوردتَها المتيبسةَ , نحو هذا الرّجلِ المتعالي قالتْ لنفسِها: ذلكَ منذُ النّظرةِ الأولى.
كانت حفلةُ شاي بمناسبة عامّةٍ, غلبَ عليها جوُّ النّكتةِ المبتذلةِ والهزلِ السّاخرِ, تنهدتْ بعمقٍ نسيتْ يدها بينَ يديهِ , عفواً كأنّها تعرِفُه من قبل... عيناها تراقبانهِ عن بعدٍ بتحفظٍ, قهقهاتٌ وهمساتٌ جانبيةٌ... لكنه ظلَّ صامتاً يرقبُ تبدلاتِ ملامحِهم, ضجيج ُ تبادلِ الأنخابِ نفّره كانَ لهُ طابعاً استثنائي كحضورهِ... أمطرَ يباسُ جسدِها بعذوبتهِ وتحليلهِ للأشياء أخرجها من صمتِها ... أنعشِ روحَِها , يالهُ من رجلٍ, عضتْ على شفتِها السّفلى كلُّ ما فيهِ يشدّها إليه.. تمنتْ أن تأخذهُ بعيداً عن أعينهم, تمنحهُ ذاتَها تفرشُ لهُ أوجاعَها, تقصّ عليهِ حكايتَها, لو عرفته من قبل... لمدّتْ لهُ عمرَها... سنينٌ عديدةٌ تفصلٌ بينها وبينهُ, غريبةٌ هي الأقدارُ ... تأتي بها هاربةً من رجلٍ منحتهُ عمَرها... ثم غادرَها مع أنثى أخرى....
يواجه الإنسان أقداراً ليسِ لهُ فيها يدٌ ... وتحدثُ معهُ أشياءٌ لا يتوقعُ حدوثَها ... هاهي تميل إلى رجلٍ لا يمكنُ أن تمتلكهُ.
أدهشَها عالمُ الوظيفةِ, لم تجدْ فسحةً لضيقِها ,انغلقتْ أبواب عالمِها وهي تمنحُ عطفَها للعابرينَ, ما بهِ هذا الرّجلُ يتركُها للقدرِ من جديدٍ, لم تكنْ تُظهرُ غيرتَها عليهِ, ولمْ تعرفْ تلكَ الغيرةَ التي تسكنُ داخلهُ ( تجاربُه في الحياةِ غنيةٌ ) سارا وحيدينِ رغمَ ازدحامِ الشّارعِ, لم يشعرا بأحدٍ, قصّتْ عليهِ جزءاً من حكايَتِها , وأخفتِ الكثيرَ ابتسمَ لها بنفسٍ طويلٍ ... تكلّمي بحرّيةٍ: الأشياءُ التي نكتُمها تؤرّقُنا تجعلُنا بعيدينَ عن الواقعِ... تبقينا مغلفينَ بآهاتِنا وأحزاننا علينا أن تعيشَ المرحلة التي نحياها... ثم علينا مراقبةُ ما تدفعهُ الأقدارُ لنجدَ طريقاً يوصلُنا إلى شاطئ الأمانِ, قالتْ في نفسِها : إنّهُ يعلمُ ما أردتُ قولَهُ ولم أقلْهُ!! تعلّقتْ به أكثر...رجلٌ طيبٌ كلماتُهُ فيضُ ماءِ أنعشَ روحَها, أيقظ غفلَتها , إنّهُ يحيطُها برعايةٍ لم تعهدْها من قبلُ... انكسرتْ أسئلَتها... حضورُه يجعلُها تلتزمُ الصّمتَ, كأنّها تعيشهُ حتى في أحلامِها , لم تعتدْ حبسَ عواطِفها, ولا ترتيبَ نفسِها, انغمستْ في متاهاتِ الحياةِ, والآخرونَ تبيعهمْ هواها ثم تجعلُهم يعيشونَ لحظاتِ دفع الثّمنِ, تمشي بهم فوقَ جمرِ النّدمِ , تهيمُ بهم على حافةِ النّهرِ وتمنعُ ماءَها عنهم... ظمأٌٌ موحشٌ رافقَ سنواتِ عمرِها.
أمامَ هذا الرّجلِ تحبسُ عواطفَها وتطوي جرأَتَها, وتخفي نضوجَها الأنثوي المبكرِ تتلعثم بكلماتٍ كندى الصّباحاتِ, إنهُ يحتوي أوجاعَها, أدخلتهُ في حيرةٍ من أمرهِ, ثمّةَ جسدٌ مريض ملقى على مشرحةِ الحياةِ بلا دفء ولا مشاعر حاولَ احتواءَ وجعِها, هي لا تدري أنّها تدفعُ الثّمنَ, تميلُ مع أي نسمةٍ طارئةٍ. تسابقُ زمنَ نضوجِ أنوثتها, كانَ الحلمُ أكبرَ من الواقعِ... تمنياتها أحلامُ مساءاتٍ صافيةٍ تعبرُ مساراتها شمسٌ ساطعةٌ , وزقزقاتُ عصافيرِ الدّوري, فتحتْ نافذةً مطلّةً على ذاكرةٍ من وجعٍ وشوقٍ إلى فضاءاتٍ بعيدةٍ, أحسّتْ أنّ الأيامَ والسّنينَ في هذهِ المدينةِ ضاعتْ من عمرِها وزادتْ في معاناتِها. شيءٌ ما شدّها للماضي بكلّ ما فيهِ من وجعٍ إلى السّفوحِ و التّلالِ إلى الشّرفةِ الشّماليةِ للبيتِ الحجري القديم, بكتْ يوماً أنّها غيّرتْ قناعاتِها , وبكتْ أياماً لمن أتاحتْ لهم فرصةَ مشاهدةِ ذاكرتِها, والآن تخافُ أن تبكي دهراً على حالِها , تذكرتْ ما قالهُ لها : " علينا أن نغلقَ ذاكرِتنا ونخفي مشاعَرنا عن أعينِ العابرين..." تملكتْها حيرةٌ ووخزٌ داخلي يومها..
ماذا يقصدُ هذا المتعالي؟ بالعابرينَ أرادتْ أن تسألَهُ, فكّرت جيداً لقد حاولَ كثيراً أن ينقذَ حطامَها, أن يشاركَها آلامَها , أن يمسحَ دمعاتٍ سخيةً عن خديها, كانتْ تنفرُ من عطفهِ وتشتاقهُ بنفسِ اللّحظةِ, تريدهُ تابعاً يعرفُ عنها كلّ شيء, ولا يتدخلُ في حياتِها. أمامهُ ينطوي تمرّدها, يجعلُها ترتجفُ كأنهُ يقرأُ أَسرارَها ... ولو ... عليهِِ أن يقبَلها كما هي, ما هذا الدّوارُ اللعينُ ؟ تريدُ أن تقولَ لهُ كلّ شيء دفعةً واحدةً, يمنعهُما حياؤُها , كيفَ تفتحُ له عمرَها؟ تريدهُ أن يقرأَها ثم فجأةً تخفي عنهُ ما تتمناهُ , سألت نفسَها بقوةٍ ماذا تريدُ هي منهُ؟ وضعتْ رأسَها المتعبَ على وسادتِها , سرحتْ مع أفكارِها, شدّتْ غطاءَ السّرير ثم أبعدتهُ هدوءً أقلقها, ارتعشتْ خربشاتٌ على نوافذِ الذّاكرةِ, أوراقُ النّارنجِ...
ابتسمتْ ياه . منذ زمنٍ بعيد لم تبتسمْ هي ... هل نرحلُ ونتركُ كلّ شيء ... أم تنتظرُ قدراً آخرَ .. كانَ صباحاً ندّياً تناولتْ وعاءَ الماءِ, وراحتْ تسقي نباتاتٍ طرّيةً وتوزّعُ الأصيص على جانبي مدخلِ البيتِ, هذه النباتاتُ تشارِكها حياتَها وترعاها حتى تكبرَ , افترتْ شفتاها عن ابتسامةٍ حزينةٍ بصوت ذي بحة خاصة, راحتْ تغني مع فيروز, قطفتْ حبقةً خبأتها في صدرِها . اعتادت كل صباح أن تقدّمُها إليهِ ( هديتني وردة خبيتا بكتابي ... زرعتا عالمخدة...) يالفيروز !! تشبهُ الصّباحاتِ والياسمينِ والحبقَ ولها طعمُ الهيلِ , هو لايحبُّ المرأةَ " المزركشةَ"
كانَ يقولُ : جمالُ المرأةِ في روحِها . كلّ الأفكارِ السّيئةِ تراكمتْ في رأسِها, لم تجدْ مبرراً لوجودِها قالَ لها: لا تزالينَ شابةً ... انظري حولَكِ جيداً.. افتحي عينيكِ لتري الدّنيا أكثرَ جمالاً ... لا تخافي, مدَّي خطواتكِ, ثقي بنفسكِ... لا تنظري للماضي... اخلعي ثوبَ الحزنِ, لملمي دمعاتِكِ, خبئيها لزمنٍ يأتي فرحاً, عرفتْ أنهُ يريد إخراجَها من ضياعِها
عليكِ أن تكوني امرأةً واحدةً ... بعاطفةٍ وقلبٍ ومشاعرَ أضاء لها قنديلاً... قالَ لها قبلَ أن يودّعها: كوني امرأةً قويّةً تختزنُ الماضي كحلمٍ ... ولا تأسفي عليهِ يا ندى