المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصور البنات


عاصفة نجد
22-06-2006, 04:43 PM
قصور البنات

لأعترف قبل كل شيء.. أنني انثى عنيدة، وشاحبة كأوراق الكتب القديمة. عاشرت أصابعي‏

الحبر طويلاً وركضت عيوني على آلاف الصفحات بحثاً عن هدف غامض ورجل غامض، ربما‏

اسمه المهدي، وربما هارون الرشيد. وإذا أردت أن أخفف عنكم، أقول أنا أنثى مسحورة بأشياء‏

كثيرة، ومسكونة بامرأة تشبهني أستطيع أن أبوح بأنها امرأة غريبة مخيفة. وقد تكون قد عاشت‏

من قبل. تدخن النرجيلة في المساء، وفي الليل تزحف فوق المخمل، تتلمس بأصابعها أعشابه‏

السرية السوداء وتنتظر أمطاره السماوية.‏

قلت لكم بأنني مسحورة بأشياء كثيرة ومسكونة بأكثر منها. قد يثير ذلك لديكم الدهشة‏

لتفاهته وقلة اكتراث الآخرين به. كزمرة دمي، لا شيء إلا لأنها سلبية، ونادرة لذا اعتبرتها‏

مقدسة فقد قال لي صديقي الطبيب الذي يعرف جنوني واهوائي يوماً:‏

-زمرة دمك زرقاء وهذا يعني أنك من سلالة نبيلة، فمن أين تحدرت إليك؟‏

-لا أعلم.. قهقهت بصوتي.. فنصف عائلتي مجانين.‏

-والنصف الثاني؟‏

على وشك الجنون‏

تذكري من أين جاءك النبل..؟‏

أنا مختلطة الدماء، فربما جاءتني من جدة بعيدة جاؤوا بها سبية من القفقاس.‏

-وربما‏

من جسد لي جاء من أرمينيا يبحث عن أقاربه، ربما كنت أميرة عباسية من سلالة الرشيد‏

دمها ممزوج من كل عروق البلاد المفتوحة، وربما أكون بر مكية من جعفر أو الفضل.‏

-أتحبين التاريخ إلى هذا الحد؟!‏

-وأكثر‏

-من هنا يأتي الجنون‏

-أو الحكمة‏

وضحكنا أنا وصديقي الطبيب، وهكذا كنت أحمل دماً أزرق، أحرص على اللعب به دون‏

اعتبار أو خوف من الآخرين، فقبل سنوات بعيدة جاءت عائلتي إلى هنا وسكنت العائلة في بيت‏

متواضع ظهره إلى سور المدينة العتيق، وإذا أردت التحديد اطل من سور المدينة التي بناها المنصور‏

على شكل بغداد صغرى. كان ابي موظفاً صغيراً، وأمي امرأة حالمة، لا ترى في العالم سوى بيتها‏

وأسرتها. قد تجلس أحياناً على باب البيت مع بعض الجارات.‏

أما أنا فقد كنت مبهورة بكل شيء، العشب البري الذي ينبت في الربيع فوق أسطحة‏

المنازل الترابية والتل الذي يقف شامخاً أمام بيتنا حيث كنت أقضي وقتاً في جني باقة من أزهاره‏

البرية، كنت مبهورة باحجار القرميد الضاربة إلى الحمرة أو الصغيرة وبالناس الذين يحبون شرب‏

الشاي، والدخان، مبهورة بالمساحات الواسعة للبيوت لأن التل لم يكن تلاً من تراب فحسب،‏

وإنما يتوجه من الأعلى، ما بقي من إطلال بناء ما زالت بعض أوابده تتحدى الزمن، وفصول‏

السنة، وتعديات الأهالي. في أحد الأيام.. سألت جارنا العجوز الذي كان يجلس كل يوم عصراً‏

إلى جانبه وهو يدخن النرجيلة ويشرب الشاي ويسعل متأملاً كل ما حوله بمتعة واهتمام، هذا‏

العجوز الذي علمني كيف أمسك خرطوم النرجيلة وأقرقع بالمياه واسحب منها حتى يضيق‏

صدري فانفث الدخان مرة بعد أخرى بدأت أشاركه الشاي والنرجيلة ونتحدث...‏

أهذا البناء قديم يا عمي...؟‏

-ايه يا ابنتي قديم قبل أن أخلق...؟‏

-أوه يا عمي فهو قديم جداً.‏

-ضحك وهو يأخذ مني خرطوم النرجيلة....‏

-خربوه.. نهبوا حجارته، وبنو منازلهم الوضيعة التي أمامنا هذه..‏

-وماذا كانوا يسمونه؟ يا عمي؟‏

- يسمونه.. وهز برأسه- قصور البنات.‏

- وأي بنات يا عمي؟‏

بنات هرون الرشيد.. ويقولون يا ابنتي إن خزائن الرشيد مدفونة فيه.‏

قالها ثم بدأ السعال الذي لا ينتهي منه عادة إلا بذرف الدموع.. وناولني خرطوم النرجيلة.‏

هذا الرجل المسن، كان يعاملني كشابة كبيرة، يستفقدني إذا غبت عنه يحكي لي عن هرون‏

الرشيد، وعن الرقة وسكانها الأصليين وعن الوافدين وعن بيوتها القديمة، وكيف ساهم في بناء‏

الجسر العتيق، هذا الجسر الذي عتقوه لكثرة ما أطلقوا عليه الجسر العتيق، رغم أني وجارنا‏

العجوز ما زلنا نراه الأجمل.. حين نخرج إليه صباحاً وحين نتعب نجلس على رصيفه وكأننا في‏

قارب والمياه الخضراء السريعة تمر من تحتنا... هذا الجسر الرائع، الذي كان أول جسر للعالم‏

الثاني، فلولاه لبقيت الرقة بقعة مجهولة.. وعليه مر الآلاف من البشر قادمين ومغادرين.‏

رفع جارنا العجوز يديه قائلاً: بيدي هاتين نقلت إليه الحديد.. والاسمنت. تركت له متابعة‏

الحديث، وانسحبت إلى الطرف الاخر من الحارة أراقب التل والحجارة، والعشب، وقد رسمت في‏

عينيَّ صور بنات الرشيد وسط الجواري والوصيفات، ينتقلن من غرفة إلى غرفة، عبر الردهات،‏

والسراديب، ورائحة العطر تعبق من أردانهن وعند حافة البركة تقف امرأة تشبهني تجلس على‏

طرف البركة، تلهو بأقدامها التي تزينها رسوم الحناء، تلعب بمياه البركة، ويداها تعبثان بسلسلة في‏

أسفلها معلق قلب فارغ. ومرت الأيام ونشبت بيني وبين تلك الأطلال علاقة قوية. فأنا أجلس‏

هناك أتلمس الأحجار أرى الأقواس والنوافذ التي لا زالت عامرة... وأحياناً أسمع همسات‏

الجواري.. ضحكاتهن وأشم عطراً غامضاً يهب من فتحة الحمام محملة بتنهيدات حارة اصغي‏

إليها.‏

في يوم من الأيام جاء رجال غامضون وقفوا فوق التل يستعرضونه. رجال شقر شباب‏

وكهول يلبسون لباساً يختلف عن لباس رجال مدينتي... يتحدثون بكلمات لا أفهمها، وقد‏

أصابت الدهشة معظم الجوار.. إلا صديقي العجوز الذي قال بلهجة عادية: سواح.. إنهم سواح‏

أجانب قليلاً ويرحلون لكن الرجال عادوا في اليوم التالي. بنوا خياماً في الساحة المجاورة لمنزلنا،‏

وبدؤوا يفردون أوراقهم، وخرائطهم كان الوقت صيفاً... يدققون في الخطوط والأشكال يقيسون‏

المسافات يضحكون أو يعبسون.. وبعد أيام استأجروا عمالاً، وبدؤا بالحفر وترحيل الأتربة‏

وبدأت تتكشف معالم جديدة لقصري، ردهات طويلة جدران.. دهاليز وغرف.. والرجال الشقر‏

يتابعون عملهم بهمة عالية، وتصميم دون اعتبار للحر، أو التعب، وقد علمت أنهم بعثه المانية‏

مهتمه بالآثار الإسلامية، جاءت للتنقيب في هذا التل. ويوماً بعد يوم، ألف الأهالي وجود الرجال‏

الشقر بينهم أما أنا فكنت أراقب ما يجري بمتعة وخوف.. وفي أحد الأيام اقترب مني أحد الرجال‏

الشقر... كثيراً أما كنت أقف بجانبه أعطيه ماءاً أو أناوله ازميلاً صغيراً يشير إليه في الحقيبة‏

المفتوحة.. أو ابتسم له، فيرد علي. إنه "جون" هذا الشاب الجميل أشقر الشعر.. عيناه زرقاوان..‏

أسنانه كانت تثير في الابتسامة، فإذا ما فتح شفتيه كنت أسترق النظر إليها.. كان يتردد كثيراً إلى‏

بيتنا.. تعلمت منه بعض الكلمات بينما هو التقط بعض المفردات العربية التي ينطق بها أحياناً‏

لكثرة ما تجول في بلدي. اقترب مني.. جلس بجانبي على الأرض، ورفع طاقية حمراء كتب عليها‏

باحرف ألمانية كبيرة، اسم الشركة التي يعمل بها.. وضعها على رأسي مما شجعني كي أقترب منه،‏

وأسأله:‏

-هل وجدتم شيئاً؟‏

-ضحك وقال: أوه... شيء.. أشياء كثيرة.‏

-وأين هي؟‏

-ألا ترينها أمامك؟! إنها ثروة كبيرة.‏

-كنت أريد الوصول إلى ما يشغلني كي أستعيد صورة هرون فسألته:‏

صحيح ما يقال عن هذا البناء؟‏

-وماذا يقال؟‏

-إنه كان قصراً لبنات الرشيد وفيه كنوزه مخبأة.‏

-ضحك هذه المرة "جون" ضحكة صاخبة ومديده إلى رأسي، كي يبعثر شعري ثم قال:‏

-هذا كلام صحيح، إنما غير دقيق.‏

- وأنت ماذا ترى؟ أقصد البعثة...‏

- حتى الآن نستطيع أن نقول: إن هذا البناء ربما يكون. وهذا غير أكيد قصراً لأحد أثرياء‏

تجار الرقيق.. كان يستخدمه لطالبي اللهو، والمتعة أو اللذين يريدون شراء الجواري النادرات..‏

إنه يعد بمثابة دار،أو معهد لتعليم الموسيقا.. الرقص الأدب.. الغناء.. ضاقت عيناي، وتقطب‏

حاجباي حين انهى "جون" جملته الأخيرة.. فذهبت إلى منزلنا. جلست في الغرفة.. أحسست‏

بأشيائك الكثيرة يا هرون تغادرني.. هززت كل ما لدي من قناعات وأحلام. تراجعت إلى الوراء‏

كثيراً.. أصبحت وحيدة وسط فراغ قاتل.‏

أهكذا يتحول رشيدي إلى نخاس يتاجر بالرقيق الأبيض. أهكذا يتحول قصره إلى مجرد دار‏

لطالبي المتعة واللهو ولذة الجواري..‏

صرخت بنفسي كملتاعة.. مهزومة.. منكسه.‏

لم أصدق كل ما قاله جون.. كنت أتابع حفرياتهم، وأنا أتمنى أن يظهر ما يبدد أوهامي وكل‏

يوم كنت أصادف مندوب مديرية الآثار، فأسأله:‏

-ألم يجدوا جديداً‏

-كل يوم نجد شيئاً جديداً.‏

وما هي وظيفة هذا البناء؟‏

وماذا يهمك أنت من وظيفة البناء؟!‏

أريد أن أعرف، هل كان حقاً داراً لطالبي المتعة واللهو؟‏

وهل تكرهين هذا..؟‏

-لا بل أكره أن يكون هرون من النخاسين‏

- عسى أن يحقق الله حلمك، فنجد ما يقلب توقعاتنا.. ولا يكون البناء داراً للمتعة.‏

مرّ أكثر من شهر وأنا أترقب الجديد.. وأتابع معهم الحفريات وأسمع نقاشهم وتحليل الحروف‏

ومقارنتها.‏

واتى جون لمنزلنا راكضاً يناديني بعربيته المكسرة.‏

- تعالي لك خبر سار عندي.‏

- ما هو هل رأيتم رشيدي؟!‏

-لا لا.. اكتشفنا شيئاً جديداً سيفرحك.‏

-ما هو...؟‏

قادني من يدي حتى أدخلني البناء وأشار إلى عمودٍ عليه كلمات لم أعرف ماهي؟ وأحرفها‏

غريبة.‏

التفت إلى "جون" متسائلة:‏

-إنه عمود عليه شعار المؤسسة التي ينتمي إليها البناء "ووظيفته التي تهمك.‏

- ما هي؟‏

لقد كان البناء مشفى، فالشعار الذي على العمود يؤكد ذلك، فلقد رأينا مثله في دمشق.‏

-مشفى؟! قلتها بفرح واستغراب.‏

-نعم مشفى للمجانين.. فالبناء هو "بيمارستان" هكذا تقول الأحرف التي على العمود.‏

-بيمارستان؟!‏

ركضت إلى التل الذي ما يزال يطل على البناء.. هناك تربعت على الأرض.. انظر إلى البناء. فما‏

زالت البركة تتوسطه، بينما الجواري تدخل إلى غرفه، وتخرج من دهاليزه.. ورجال.. وعبيد كثر،‏

وقوافل تغادر وأخرى تحط أمتعتها وتدخل لترتاح فيه وتخرج. ضحكات من الممرات وأبخرة‏

الحمام تصعد غيوماً فوق رأسي.. وتصل إلى أنفي رائحة عطور قريبة من نفسي... ولا زالت تلك‏

المرأة التي تشبهني تجلس على طرف البركة وقدماها المزينتان بالحناء.. في الماء، بينما يداها تلهوان‏

بسلسلة معلقة بعنقها تنتهي بقلب فارغ، وطاقية جون الحمراء لا زالت على رأسي.. ألم أقل لكم‏

إنني أنثى مجنونة...؟ مسكونة؟ مسحورة؟ ما زالت تنتظر المهدي، أو هارون الرشيد، كي يملأ‏

فراغ ذاك القلب المعلق بسلسلة تلك الجارية المضمخة بالحناء من رأسها حتى قدميها.‏