احسـ العالم ـاس
02-08-2003, 05:08 PM
وزارة الخارجية الامريكية
في حفل افتتاح المقبرة القومية في غيتيزبرغ، وفي غمرة حرب أهلية كبرى تمّ خوضها للحفاظ على الولايات المتحدة كدولة، ألقى الرئيس أبراهام لينكولن خطاباً ختمه بجملة مدوية لعلّها أكثر تعريف للديموقراطية شيوعاً في تاريخ أميركا. وقد أشار بعبارة "حكومة من الشعب، يختارها الشعب، من أجل الشعب" إلى أن العناصر الأساسية للحكم الديمقراطي، الذي وصفه على أفضل نحو، تنطبق على كل بلد يطمح لأن يكون مُجتمعاً ديمقراطياً.
إن ممارسة الديمقراطية أمر عسير، بل لعلّها الأكثر تعقيداً وصعوبة من كل أشكال الحكم الأخرى. إنها حافة بالتوترات والتناقضات، وتتطلب من القيمين عليها بذل كل جهد وعناية في سبيل نجاحها. الحكم الديمقراطي لم يُصمم للعمل بكفاءة، بل ليكون عُرضة للمحاسبة. قد لا يكون للحكم الديمقراطي قدرة العمل بسرعة عمل الحكم الدكتاتوري، لكنه ما أن يلتزم سبيلاً للعمل يمكنه الاعتماد على مصادر عميقة من الدعم الشعبي. الديمقراطية، لا سيما في شكلها الأميركي، ليست مُنتجاً ناجز الصنع، لكنها في تطوّر دائم. لم تتغير الأشكال الخارجية للحكم في الولايات المتحدة كثيراً في القرنين الماضيين، ولكننا إذا نظرنا إلى ما يتجاوز الظاهر، نلاحظ الكثير من التغييرات. رغم ذلك، يعتقد الكثير من الأميركيين، عن حق، أن المبادئ الأساسية التي تكمن في أساس نظام حكمهم تنبع مباشرة من الأفكار التي كان أول من أعلنها واضعو الدستور عام 1787.
حاولنا في هذه المقالات، أن نشرح طبيعة بعض هذه المبادئ، متناولين بعضاً من تطورها التاريخي وموضّحين سبب أهميتها لعمل الحكومات، في الولايات المتحدة بوجه خاص، وللحكم الديمقراطي بوجه عام. وحيث أن أي حكم ديمقراطي هو نظام متطور، تشير المقالات إلى بعض عيوب نظام الحكم الأميركي، وكيف حاولت الدولة إصلاح تلك العيوب. لا أحد يدّعي أن النموذج الأميركي، رغم نجاحه الباهر في الولايات المتحدة، هو النموذج الذي يجب أن تتبعه كل الأنظمة الديمقراطية. على كل بلد أن يقيم حكماً ينبع من ثقافته وتاريخه. لكن هذه المقالات تحدد مبادئ جوهرية ينبغي أن تكون متواجدة، بطريقة أو بأخرى، في كل حكم ديمقراطي. على سبيل المثال، إن الطريقة التي تُتّبع لسن القوانين قد تختلف كثيراً بين بلد وآخر، ولكن أيّاً كانت تلك الطريقة فينبغي أن تتقيد بالمبدأ الأساسي المتمثل في أن على المواطنين أن يكونوا معنيين بعملية صنع القوانين وأن يشعروا بأنهم هم أصحاب هذه القوانين.
ما هي تلك المبادئ الأساسية؟ لقد حددنا 11 مبدأً نعتقد أنها تُشكل العنصر الأساسي لفهم كيف تطورت الديمقراطية وكيف تعمل في الولايات المتحدة.
* الدستورية:
ينبغي أن يتم صنع القوانين ضمن أُطر معينة؛ فلا بد أن تكون هناك أساليب موافق عليها لوضع القوانين ولتعديلها، وهناك بعض المجالات، كحقوق الأفراد تحديداً، ينبغي أن تكون في منأى عن أهواء حكم الأكثرية. الدستور هو قانون، ولكنه في الوقت نفسه أكثر من ذلك بكثير. إنه الوثيقة الأساسية للحكم، هي التي تحدد صلاحيات مختلف سلطات الحكم، كما ترسم حدود السلطة. من أبرز مميزات الحكم الدستوري أن هذا الإطار الأساسي لا يجوز تعديله بسهولة وفقاً لرغبات الأكثرية. فمثل هذا الأمر يتطلّب رضا المحكومين المعبّر عنه بصورة جلّية وواضحة. ففي الولايات المتحدة، تم تعديل الدستور 27 مرة فقط منذ العام 1787. وقد جعل واضعو الدستور عملية تعديله صعبة، إنما غير مستحيلة. معظم التعديلات التي طاولت الدستور الأميركي زادت من الديمقراطية بتوسيعها مدى الحقوق الفردية وإلغائها للفوارق التي كانت قائمة بين الناس على أساس العرق أو الجنس. لم يتم تناول أيّاً من هذه التعديلات بخفة، وعندما تمّ تبنّيها، كانت كلها قد حظيت بتأييد أكثرية كبيرة من الشعب.
في الأنظمة الديمقراطية، يعتمد المواطنون على وسائل الإعلام للتخلّص من الفساد، وكشف سوء تطبيق العدالة، أو عدم كفاءة وفعالية عمل جهاز حكومي معيّن. لا يمكن لأي بلد أن يكون حراً دون وسائل إعلام حرة، ويعتبر إسكات صوت وسائل الإعلام من دلائل قيام حكم دكتاتوري.
* الانتخابات الديمقراطية:
مهما كان تصميم نظام الحكم جيداً، لا يمكن اعتباره ديمقراطياً إلاّ إذا كان المسؤولون الذين يقودون نظام الحكم ذاك منتخبين بحرية من قبل المواطنين وبطريقة تُعتبر حرة ومنصفة للجميع. قد تختلف آليات الانتخابات بين بلد وآخر، ولكن الأمور الجوهرية تبقى واحدة لكل المجتمعات الديمقراطية، وهي: تمكّن كل المواطنين ذوي الأهلية من الاقتراع، وحماية الناس من ممارسة أي نفوذ عليهم لدى ممارستهم حق الاقتراع، وفرز وعدّ الأصوات بطريقة تتسم بالصراحة والصدق. وبما أن عملية التصويت تتعرّض دائماً، وعلى نطاق واسع، لأخطاء، وربما لتزوير، ينبغي بذل ما يمكن من الجهود لتحاشي حصول ذلك قدر الإمكان، وهكذا، إذا حصلت مشكلة في هذا المجال أو كانت النتائج متقاربة جداً، كما حصل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2000، سيدرك الناس أنه رغم مثل هذه الصعوبات يُمكن للنتائج أن تظل مقبولة وملزمة لهم.
* الفدرالية، حكومات الولايات، والحكومات المحلية:
الولايات المتحدة فريدة في نظام حكمها الفدرالي، حيث تتشارك في قدرة وممارسة الحكم والسلطة حكومة قومية، مع حكومات للولايات، وحكومات محلية. وفي حال لم يلائم هذا النموذج دولاً أخرى، تبقى فيه دروس يمكن الاستفادة منها. فبقدر ما تكون الحكومة بعيدة عن الشعب، بقدر ما تقل فعاليتها، وبقدر ما تقل الثقة بها. لكن وجود حكومات للولايات وحكومات محلية، يسمح للأميركيين رؤية بعض مسؤوليهم المنتخبين عن كثب. ويمكنهم ربط السياسات والبرامج مباشرة بالرجال والنساء الذين وضعوها والذين يطبقوها. إضافةً إلى ذلك، تجعل لامركزية السلطة من الأصعب بكثير تولي السلطة بطريقة غير مشروعة. إن المبدأ القائل بوجوب أن تتميز السلطات والمسؤوليات في الأنظمة الديمقراطية بصفة اللامركزية قد لا يهم كثيراً في البلدان الصغيرة المتجانسة السكان نسبياً، ولكنه يمكن أن يكون عنصر وقاية مهماً في البلدان الكبيرة المتنوعة السكان.
* سن القوانين:
يسجّل التاريخ أن البشر بدأوا بسنّ قوانين رسمية منذ خمسة آلاف سنة. ولكن تتباين بشدة الأساليب التي تعتمدها المجتمعات المختلفة في وضع الأنظمة التي تعيش في ظلها، وذلك بدءاً من فرض مشيئة ملوك يتصرّفون كآلهة إلى تصويت الأكثرية لاجتماعات أهالي القرى. في الولايات المتحدة، يتم وضع القوانين على مستويات عدة، بدءاً من المجالس المحلية في البلدات والقرى، إلى الهيئات التشريعية في الولايات، وإلى كونغرس الولايات المتحدة. ولكن في كل من هذه المستويات، يكون للمواطنين إسهام كبير، إما مباشرة أو بصورة غير مباشرة. فهيئات صنع القوانين تعرف أنها مسؤولة أمام ناخبيها، وأنها إذا لم تشرّع بما فيه مصلحة الشعب، فإنها ستواجه الهزيمة في الانتخابات المقبلة. الأمر الأهم في صنع القوانين بطريقة ديمقراطية ليس الآلية التي يتم فيها، ولا المكان الذي يحصل فيه، لكن الشعور بالخضوع إلى محاسبة المواطنين وضرورة تلبية رغبات الشعب.
* القضاء المستقل:
ذكر ألكسندر هاملتون في مقالات كتبها في مجلة الفدراليعامي 1788 و1789 أن المحاكم، التي لا تسيطر لا على القوات العسكرية ولا على الإنفاق، هي "السلطة الأقل خطراً" بين سلطات الحكم. رغم هذا، يمكن للمحاكم أن تكون شديدة التأثير في الأنظمة الديمقراطية، وتُعتبر بطرق عدّة الوسيلة التي يتم بواسطتها تفسير التقييدات الدستورية وتطبيقها. بوسع المحاكم في الولايات المتحدة، أن تُعلن بطلان قرارات أو قوانين تصدر عن الكونغرس وعن الهيئات التشريعية في الولايات باعتبارها مخالفة للدستور، كما في وسعها منع تطبيق إجراءات يتخذها الرئيس على نفس الأساس أيضاً. المدافع الأكبر عن حقوق الناس في الولايات المتحدة هو النظام القضائي؛ وهذا ممكن لأن معظم القضاة يُعيّنون في مناصبهم لمدى الحياة، وبذلك يمكنهم التركيز على الأمور القانونية دون أن تصرفهم الأمور السياسية عن ذلك. في حين أن المحاكم الدستورية ليست كلها متماثلة، ينبغي أن تكون هناك هيئة لها سلطة تحديد ما يقوله الدستور، وتحديد متى تتجاوز سلطات الحكم المختلفة صلاحياتها.
* صلاحيات الرئاسة:
لا بد أن يكون لكل المجتمعات العصرية رئيس تنفيذي قادر على القيام بمسؤوليات الحكم، بدءاً من الإدارة البسيطة لبرنامج ما، وحتى قيادة القوات المسلحة للدفاع عن الوطن أيام الحرب. لكن يجب التنبه إلى وجوب إعطاء مثل هذا المسؤول ما يكفي من الصلاحيات للقيام بمهامه، وفي الوقت نفسه، الحد من سلطته كي لا يصبح دكتاتوراً. يرسم الدستور في الولايات المتحدة، حدوداً واضحة لصلاحيات الرئيس. وفي حين يُشكّل منصبه أحد أقوى المناصب في العالم، فإن قوته تنبع من رضى المحكومين ومن قدرة شاغل البيت الأبيض على العمل بانسجام مع سلطتي الحكم الأخريين. الأمر المهم، هنا أيضاً، ليس كيفية تنظيم عمل الرئاسة، ولكنه القيود المفروضة على ذلك المنصب بموجب مبادئ متّبعة مثل مبدأ "الفصل بين السلطات". في الحكم الديمقراطي، على الرئيس أن يحكم مُعتمداً على مهاراته السياسية، ليقيم إطار عمل للتعاون مع السلطة التشريعية، ولكن في المقام الأول مع الشعب نفسه. في نفس الوقت، يجب أن يشعر المواطنون بالثقة من أن القيود الدستورية تضمن أن يكون الرئيس، أو رئيس الوزراء، خادماً للشعب لا سيّده.
* دور وسائل الإعلام الحرة:
ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحق الناس في المعرفة هو وسائل الإعلام الحرة، أي الصحف وشبكات الإذاعة والتلفزيون، التي يمكنها التقصّي عن أعمال الحكم ونشر أخبارها دون خشية من الملاحقة. كان القانون العام البريطاني يعتبر أي انتقاد للملك (وتبعاً لذلك الحكومة بكاملها) جريمة تُعرف بجريمة تشهير للتحريض على الفتنة. ألغت الولايات المتحدة هذه الجريمة، وأرست مكانها نظرية خاصة بالصحافة أفادت الديمقراطية كثيراً. في دولة تكثر فيها تعقيدات الحياة، قد لا يكون في وسع مواطن ما أن يترك عمله للذهاب إلى إحدى المحاكم وحضور المحاكمات، أو لحضور مناقشات الهيئات التشريعية، أو التقصّي عن كيفية عمل برنامج حكوميمُعيّن. ولكن الصحافة تعمل بمثابة وكيل عن المواطن، بحيث تنقل إليه بواسطة وسائل الإعلام المنشورة، والمرئية، والمسموعة ما تتبيّنه من هذه الأمور كي يصبح بإمكانه التصرف وفق ما حصل عليه من معلومات. في الأنظمة الديمقراطية، يعتمد المواطنون على وسائل الإعلام للتخلّص من الفساد، وكشف سوء تطبيق العدالة، أو عدم كفاءة وفعالية عمل جهاز حكومي معيّن. لا يمكن لأي بلد أن يكون حراً دون وسائل إعلام حرة، ويعتبر إسكات صوت وسائل الإعلام من دلائل قيام حكم دكتاتوري.
* دور جماعات المصالح:
خلال القرن الثامن عشر، وجزء لا بأس به من القرن التاسع عشر، كان صنع القوانين بمثابة حوار بين الناخبين وممثليهم المنتخبين في الكونغرس، أو في حكومات الولايات والحكومات المحلية. وحيث كان عدد السكان قليلاً، والبرامج الحكومية محدودة، والاتصالات بسيطة، لم يكن المواطنون بحاجة إلى مؤسسات أو منظمات وسيطة لمساعدتهم على إيصال آرائهم إلى من يريدون. ولكن في القرن العشرين، أصبحت المجتمعات أكثر تعقيداً، كما أصبح دور الحكومة أكثر اتساعاً. هناك اليوم الكثير من القضايا التي يريد الناخبون التحدث عنها، ومن أجل إسماع أصواتهم في صدد قضايا معيّنة، ينشئ المواطنون مجموعات لوبي، ومجموعات تدافع عن مصالح عامة أو خاصة وتعمل على تحقيقها، ومنظمات غير حكومية تُكرّس نفسها للعمل في سبيل قضية مُعيّنة. هناك الكثير من الانتقاد داخل البلاد لهذه الناحية من الديمقراطية الأميركية، ويدّعي البعض أن تلك المجموعات من أصحاب المصالح التي لديها الكثير من المال يمكنها إسماع صوتها بصورة أفضل مما تستطيعه مجموعات مصالح أخرى محدودة الموارد. بعض هذا الانتقاد محق، ولكن الواقع هو أن هناك مئات من هذه المجموعات تساعد في توعية الناس وصانعي السياسة عن أمور معينة، وبذلك تساعد الكثير من الناس ممن لا تتوفر لديهم الموارد لتعريف آرائهم للمشرّعين في عصر يسوده التعقيد. الآن، وقد وصلنا عصر الإنترنت، سيزداد عدد هذه الأصوات، وستساعد هذه المنظمات غير الحكومية على تحسين وتركيز مصالح المواطن بطريقة فعّالة.
* حق الشعب في أن يعرف:
قبل هذا القرن، إذا أراد الناس أن يعرفوا كيف تعمل حكوماتهم، كانوا يتوجهون إلى مقر الاجتماعات للإصغاء إلى المناظرات والمناقشات. أما اليوم، فهناك بيروقراطيات ضخمة معقّدة، وقوانين وأنظمة يقع بعضها في مئات الصفحات، وعملية تشريعية، حتى ولو كانت خاضعة للمحاسبة من قبل الشعب، قد تكون مبهمة ليسمح لأكثرية الناس بفهمها. في النظام الديمقراطي، على أعمال الحكم أن تكون شفافة قدر الإمكان، أي أن المداولات والقرارات يجب أن تكون مُتاحة لتدقيق الناس. من الواضح أنه لا يجوز أن تكون كل أعمال الحكومة علنية، ولكن للمواطنين الحق في معرفة كيف تُصرف أموال الضرائب التي تجبى منهم، وما إذا كانت المحاكم تتمتع بالكفاءة والفعالية، وما إذا كان المسؤولون المنتخبون يتصرفون بمسؤولية. إن كيفية توفير مثل هذه المعلومات تختلف بين حكومة وأخرى، ولكن ما من حكم ديمقراطي بوسعه العمل بسرية تامة.
إذا ركّزنا نظرنا على المبادئ الأساسية، وهي أن السلطة النهائية تكون في يد الشعب، وأن على سلطات الحكم أن تبقى مقيدّه، وأن على حقوق الأفراد أن تكون مُصانة، عند ذلك، من الممكن إيجاد طرق عديدة لتحقيق هذه الغايات.
* حماية حقوق الأقليات:
إذا كانت "الديمقراطية" تعني حكم الأكثرية، تبقى كيفية معاملة الأقليات من أهم مشاكلها. لا نعني بتعبير "الأقليات" الناس الذين صوتوا ضد الحزب الفائز أو الجهة الفائزة في الانتخابات، بل أولئك الذين يختلفون بصورة جليّة عن الأكثرية بسبب العرق، أو الدين، أو الأصل الإثني. المشكلة الكبرى في الولايات المتحدة هي مشكلة العرق؛ فلم يتم تحرير العبيد السود إلا بحرب أهلية دموية، ومن ثم لم يتوصل الملونون إلى ممارسة حقوقهم الدستورية بحرية إلا بعد انقضاء قرن من الزمن على ذلك. ما زالت قضية المساواة العرقية من القضايا التي تحاول الولايات المتحدة جاهدة معالجتها حتى اليوم. ولكن هذا الأمر يُمثّل جزءاً من الطبيعة المتطورة للديمقراطية بدءاً من العمل في سبيل جعل المجتمع أكثر شمولاً، وفي سبيل منح أولئك الذين يختلفون عن الأكثرية، لا الحماية من الاضطهاد فحسب، بل أيضاً الفرصة للمشاركة في حياة المجتمع كمواطنين كاملي المواطنية ومتساوين مع غيرهم. وهناك العديد من الأمثلة عن الدول التي عاملت، أو تُعامل، مواطنيها بطريقة دموية ورهيبة، والمحرقة النازية لليهود ليست سوى الصورة الأوضح عن ذلك. ولكن ما من مجتمع يمكنه أن يطمح لأن يُسمي نفسه مجتمعاً ديمقراطياً إذا كان يستثني بصورة منتظمة جماعات معيّنة من سكانه من الحماية الكاملة للقوانين.
* السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية:
في الأزمنة القديمة، كانت المسؤولية الرئيسية للقائد تتمثل في قيادة القوات العسكرية لمجتمعه، إما للدفاع عن ذلك المجتمع أو لإخضاع مجتمع آخر. وغالباً، ما كانت شعبية القائد العسكري الناجح تقوده إلى السعي نحو السيطرة على الحكم بالقوة؛ ومن يسيطر على القوات العسكرية يمكنه بسهولة إزاحة الآخرين جانباً. لقد شهدنا في الزمن المعاصر، ولمرّات عديدة جداً، عقيداً أو جنرالاً في القوات المسلحة يستخدم سطوة هذه القوات للقيام بانقلاب يطيح الحكم المدني. أما في النظام الديمقراطي، فينبغي ألا تكون القوات العسكرية خاضعة لسيطرة السلطات المدنية فحسب، بل ينبغي أن تكون لديها أيضاً ثقافة تؤكد أن دور القوات المسلحة هو خدمة المجتمع لا حكمه. يصبح هذا الأمر أسهل تحقيقاً عندما يكون الجيش جيش مواطنين، أي عندما يكون أفراده من كل فئات المجتمع ينخرطون فيه لمدة مُعينة يعودون بعدها إلى الحياة المدنية. ولكن المبدأ يبقى هو نفسه: يجب أن تكون القوات العسكرية خاضعة للسلطة المدنية؛ ومهمتها هي حماية الديمقراطية لا الحكم.
يمكننا استنتاج بعض الأفكار الرئيسية من هذه المقالات.
أولها وأهمها، هو أن الشعب هو المصدر الأساسي لجميع السلطات. ودستور الولايات المتحدة يعلن ذلك بوضوح في أول كلماته: "نحن شعب الولايات المتحدة.. نضع ونُنشئ هذا الدستور". كل سلطات الحكم يجب أن تنبع من الشعب، ويجب أن تكون مقبولة منه بأنها سلطات مشروعة. هذه المشروعية تتحقق بطرق متنّوعة، منها عمليات صنع القوانين والانتخابات الحرة النزيهة.
هناك مبدأ عام ثانٍ هو وجوب مبدأ الفصل بين السلطات الذي يهدف لمنع ازدياد قوة جزء من الحكم لدرجة تمكّنه من تقويض إرادة الشعب. ومع أن منصب الرئيس يُعتبر دائماً أقوى منصب في الحكومة الأميركية، فإن الدستور يحدّ من صلاحيات الرئيس ويفرض عليه أن يعمل بالتعاون مع السلطتين الأخريين ومع القوة التي تشكّلها أصوات الناخبين. ومع أنه يبدو أن السيطرة المدنية على القوات العسكرية تعطي الكثير من السلطة للرئيس، فإن الثقافة التي تستند إليها القوات العسكرية في المجتمع الديمقراطي تحول دون إساءة استخدام تلك القوة. كما أن المحاكم تضع حدوداً، لا لأعمال السلطة التنفيذية فحسب، بل لأعمال السلطة التشريعية أيضاً. في النظام الديمقراطي، يجب أن يكون الحكم متوازناً، ويجب أن تُقدّر كل أجزاء الحكم الحكمة من ذلك التوازن وضرورته.
ثالثاً، وجوب احترام حقوق الأفراد والأقليات، وعدم جواز استخدام الأكثرية لقوتها كي تحرم أي إنسان من حرياته الأساسية. قد يكون هذا الأمر صعباً في أي نظام ديمقراطي في أغلب الأحيان، خاصةً إذا كان سكان المجتمع المعني متنوعي الانتماءات (العرقية، والإثنية، والدينية) وتختلف آراؤهم في صدد مواضيع هامة. ولكن ما أن تحرم الحكومة فئة معينة من الناس من حقوقها، فإن حقوق كل الناس تُصبح في خطر.
في حفل افتتاح المقبرة القومية في غيتيزبرغ، وفي غمرة حرب أهلية كبرى تمّ خوضها للحفاظ على الولايات المتحدة كدولة، ألقى الرئيس أبراهام لينكولن خطاباً ختمه بجملة مدوية لعلّها أكثر تعريف للديموقراطية شيوعاً في تاريخ أميركا. وقد أشار بعبارة "حكومة من الشعب، يختارها الشعب، من أجل الشعب" إلى أن العناصر الأساسية للحكم الديمقراطي، الذي وصفه على أفضل نحو، تنطبق على كل بلد يطمح لأن يكون مُجتمعاً ديمقراطياً.
إن ممارسة الديمقراطية أمر عسير، بل لعلّها الأكثر تعقيداً وصعوبة من كل أشكال الحكم الأخرى. إنها حافة بالتوترات والتناقضات، وتتطلب من القيمين عليها بذل كل جهد وعناية في سبيل نجاحها. الحكم الديمقراطي لم يُصمم للعمل بكفاءة، بل ليكون عُرضة للمحاسبة. قد لا يكون للحكم الديمقراطي قدرة العمل بسرعة عمل الحكم الدكتاتوري، لكنه ما أن يلتزم سبيلاً للعمل يمكنه الاعتماد على مصادر عميقة من الدعم الشعبي. الديمقراطية، لا سيما في شكلها الأميركي، ليست مُنتجاً ناجز الصنع، لكنها في تطوّر دائم. لم تتغير الأشكال الخارجية للحكم في الولايات المتحدة كثيراً في القرنين الماضيين، ولكننا إذا نظرنا إلى ما يتجاوز الظاهر، نلاحظ الكثير من التغييرات. رغم ذلك، يعتقد الكثير من الأميركيين، عن حق، أن المبادئ الأساسية التي تكمن في أساس نظام حكمهم تنبع مباشرة من الأفكار التي كان أول من أعلنها واضعو الدستور عام 1787.
حاولنا في هذه المقالات، أن نشرح طبيعة بعض هذه المبادئ، متناولين بعضاً من تطورها التاريخي وموضّحين سبب أهميتها لعمل الحكومات، في الولايات المتحدة بوجه خاص، وللحكم الديمقراطي بوجه عام. وحيث أن أي حكم ديمقراطي هو نظام متطور، تشير المقالات إلى بعض عيوب نظام الحكم الأميركي، وكيف حاولت الدولة إصلاح تلك العيوب. لا أحد يدّعي أن النموذج الأميركي، رغم نجاحه الباهر في الولايات المتحدة، هو النموذج الذي يجب أن تتبعه كل الأنظمة الديمقراطية. على كل بلد أن يقيم حكماً ينبع من ثقافته وتاريخه. لكن هذه المقالات تحدد مبادئ جوهرية ينبغي أن تكون متواجدة، بطريقة أو بأخرى، في كل حكم ديمقراطي. على سبيل المثال، إن الطريقة التي تُتّبع لسن القوانين قد تختلف كثيراً بين بلد وآخر، ولكن أيّاً كانت تلك الطريقة فينبغي أن تتقيد بالمبدأ الأساسي المتمثل في أن على المواطنين أن يكونوا معنيين بعملية صنع القوانين وأن يشعروا بأنهم هم أصحاب هذه القوانين.
ما هي تلك المبادئ الأساسية؟ لقد حددنا 11 مبدأً نعتقد أنها تُشكل العنصر الأساسي لفهم كيف تطورت الديمقراطية وكيف تعمل في الولايات المتحدة.
* الدستورية:
ينبغي أن يتم صنع القوانين ضمن أُطر معينة؛ فلا بد أن تكون هناك أساليب موافق عليها لوضع القوانين ولتعديلها، وهناك بعض المجالات، كحقوق الأفراد تحديداً، ينبغي أن تكون في منأى عن أهواء حكم الأكثرية. الدستور هو قانون، ولكنه في الوقت نفسه أكثر من ذلك بكثير. إنه الوثيقة الأساسية للحكم، هي التي تحدد صلاحيات مختلف سلطات الحكم، كما ترسم حدود السلطة. من أبرز مميزات الحكم الدستوري أن هذا الإطار الأساسي لا يجوز تعديله بسهولة وفقاً لرغبات الأكثرية. فمثل هذا الأمر يتطلّب رضا المحكومين المعبّر عنه بصورة جلّية وواضحة. ففي الولايات المتحدة، تم تعديل الدستور 27 مرة فقط منذ العام 1787. وقد جعل واضعو الدستور عملية تعديله صعبة، إنما غير مستحيلة. معظم التعديلات التي طاولت الدستور الأميركي زادت من الديمقراطية بتوسيعها مدى الحقوق الفردية وإلغائها للفوارق التي كانت قائمة بين الناس على أساس العرق أو الجنس. لم يتم تناول أيّاً من هذه التعديلات بخفة، وعندما تمّ تبنّيها، كانت كلها قد حظيت بتأييد أكثرية كبيرة من الشعب.
في الأنظمة الديمقراطية، يعتمد المواطنون على وسائل الإعلام للتخلّص من الفساد، وكشف سوء تطبيق العدالة، أو عدم كفاءة وفعالية عمل جهاز حكومي معيّن. لا يمكن لأي بلد أن يكون حراً دون وسائل إعلام حرة، ويعتبر إسكات صوت وسائل الإعلام من دلائل قيام حكم دكتاتوري.
* الانتخابات الديمقراطية:
مهما كان تصميم نظام الحكم جيداً، لا يمكن اعتباره ديمقراطياً إلاّ إذا كان المسؤولون الذين يقودون نظام الحكم ذاك منتخبين بحرية من قبل المواطنين وبطريقة تُعتبر حرة ومنصفة للجميع. قد تختلف آليات الانتخابات بين بلد وآخر، ولكن الأمور الجوهرية تبقى واحدة لكل المجتمعات الديمقراطية، وهي: تمكّن كل المواطنين ذوي الأهلية من الاقتراع، وحماية الناس من ممارسة أي نفوذ عليهم لدى ممارستهم حق الاقتراع، وفرز وعدّ الأصوات بطريقة تتسم بالصراحة والصدق. وبما أن عملية التصويت تتعرّض دائماً، وعلى نطاق واسع، لأخطاء، وربما لتزوير، ينبغي بذل ما يمكن من الجهود لتحاشي حصول ذلك قدر الإمكان، وهكذا، إذا حصلت مشكلة في هذا المجال أو كانت النتائج متقاربة جداً، كما حصل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2000، سيدرك الناس أنه رغم مثل هذه الصعوبات يُمكن للنتائج أن تظل مقبولة وملزمة لهم.
* الفدرالية، حكومات الولايات، والحكومات المحلية:
الولايات المتحدة فريدة في نظام حكمها الفدرالي، حيث تتشارك في قدرة وممارسة الحكم والسلطة حكومة قومية، مع حكومات للولايات، وحكومات محلية. وفي حال لم يلائم هذا النموذج دولاً أخرى، تبقى فيه دروس يمكن الاستفادة منها. فبقدر ما تكون الحكومة بعيدة عن الشعب، بقدر ما تقل فعاليتها، وبقدر ما تقل الثقة بها. لكن وجود حكومات للولايات وحكومات محلية، يسمح للأميركيين رؤية بعض مسؤوليهم المنتخبين عن كثب. ويمكنهم ربط السياسات والبرامج مباشرة بالرجال والنساء الذين وضعوها والذين يطبقوها. إضافةً إلى ذلك، تجعل لامركزية السلطة من الأصعب بكثير تولي السلطة بطريقة غير مشروعة. إن المبدأ القائل بوجوب أن تتميز السلطات والمسؤوليات في الأنظمة الديمقراطية بصفة اللامركزية قد لا يهم كثيراً في البلدان الصغيرة المتجانسة السكان نسبياً، ولكنه يمكن أن يكون عنصر وقاية مهماً في البلدان الكبيرة المتنوعة السكان.
* سن القوانين:
يسجّل التاريخ أن البشر بدأوا بسنّ قوانين رسمية منذ خمسة آلاف سنة. ولكن تتباين بشدة الأساليب التي تعتمدها المجتمعات المختلفة في وضع الأنظمة التي تعيش في ظلها، وذلك بدءاً من فرض مشيئة ملوك يتصرّفون كآلهة إلى تصويت الأكثرية لاجتماعات أهالي القرى. في الولايات المتحدة، يتم وضع القوانين على مستويات عدة، بدءاً من المجالس المحلية في البلدات والقرى، إلى الهيئات التشريعية في الولايات، وإلى كونغرس الولايات المتحدة. ولكن في كل من هذه المستويات، يكون للمواطنين إسهام كبير، إما مباشرة أو بصورة غير مباشرة. فهيئات صنع القوانين تعرف أنها مسؤولة أمام ناخبيها، وأنها إذا لم تشرّع بما فيه مصلحة الشعب، فإنها ستواجه الهزيمة في الانتخابات المقبلة. الأمر الأهم في صنع القوانين بطريقة ديمقراطية ليس الآلية التي يتم فيها، ولا المكان الذي يحصل فيه، لكن الشعور بالخضوع إلى محاسبة المواطنين وضرورة تلبية رغبات الشعب.
* القضاء المستقل:
ذكر ألكسندر هاملتون في مقالات كتبها في مجلة الفدراليعامي 1788 و1789 أن المحاكم، التي لا تسيطر لا على القوات العسكرية ولا على الإنفاق، هي "السلطة الأقل خطراً" بين سلطات الحكم. رغم هذا، يمكن للمحاكم أن تكون شديدة التأثير في الأنظمة الديمقراطية، وتُعتبر بطرق عدّة الوسيلة التي يتم بواسطتها تفسير التقييدات الدستورية وتطبيقها. بوسع المحاكم في الولايات المتحدة، أن تُعلن بطلان قرارات أو قوانين تصدر عن الكونغرس وعن الهيئات التشريعية في الولايات باعتبارها مخالفة للدستور، كما في وسعها منع تطبيق إجراءات يتخذها الرئيس على نفس الأساس أيضاً. المدافع الأكبر عن حقوق الناس في الولايات المتحدة هو النظام القضائي؛ وهذا ممكن لأن معظم القضاة يُعيّنون في مناصبهم لمدى الحياة، وبذلك يمكنهم التركيز على الأمور القانونية دون أن تصرفهم الأمور السياسية عن ذلك. في حين أن المحاكم الدستورية ليست كلها متماثلة، ينبغي أن تكون هناك هيئة لها سلطة تحديد ما يقوله الدستور، وتحديد متى تتجاوز سلطات الحكم المختلفة صلاحياتها.
* صلاحيات الرئاسة:
لا بد أن يكون لكل المجتمعات العصرية رئيس تنفيذي قادر على القيام بمسؤوليات الحكم، بدءاً من الإدارة البسيطة لبرنامج ما، وحتى قيادة القوات المسلحة للدفاع عن الوطن أيام الحرب. لكن يجب التنبه إلى وجوب إعطاء مثل هذا المسؤول ما يكفي من الصلاحيات للقيام بمهامه، وفي الوقت نفسه، الحد من سلطته كي لا يصبح دكتاتوراً. يرسم الدستور في الولايات المتحدة، حدوداً واضحة لصلاحيات الرئيس. وفي حين يُشكّل منصبه أحد أقوى المناصب في العالم، فإن قوته تنبع من رضى المحكومين ومن قدرة شاغل البيت الأبيض على العمل بانسجام مع سلطتي الحكم الأخريين. الأمر المهم، هنا أيضاً، ليس كيفية تنظيم عمل الرئاسة، ولكنه القيود المفروضة على ذلك المنصب بموجب مبادئ متّبعة مثل مبدأ "الفصل بين السلطات". في الحكم الديمقراطي، على الرئيس أن يحكم مُعتمداً على مهاراته السياسية، ليقيم إطار عمل للتعاون مع السلطة التشريعية، ولكن في المقام الأول مع الشعب نفسه. في نفس الوقت، يجب أن يشعر المواطنون بالثقة من أن القيود الدستورية تضمن أن يكون الرئيس، أو رئيس الوزراء، خادماً للشعب لا سيّده.
* دور وسائل الإعلام الحرة:
ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحق الناس في المعرفة هو وسائل الإعلام الحرة، أي الصحف وشبكات الإذاعة والتلفزيون، التي يمكنها التقصّي عن أعمال الحكم ونشر أخبارها دون خشية من الملاحقة. كان القانون العام البريطاني يعتبر أي انتقاد للملك (وتبعاً لذلك الحكومة بكاملها) جريمة تُعرف بجريمة تشهير للتحريض على الفتنة. ألغت الولايات المتحدة هذه الجريمة، وأرست مكانها نظرية خاصة بالصحافة أفادت الديمقراطية كثيراً. في دولة تكثر فيها تعقيدات الحياة، قد لا يكون في وسع مواطن ما أن يترك عمله للذهاب إلى إحدى المحاكم وحضور المحاكمات، أو لحضور مناقشات الهيئات التشريعية، أو التقصّي عن كيفية عمل برنامج حكوميمُعيّن. ولكن الصحافة تعمل بمثابة وكيل عن المواطن، بحيث تنقل إليه بواسطة وسائل الإعلام المنشورة، والمرئية، والمسموعة ما تتبيّنه من هذه الأمور كي يصبح بإمكانه التصرف وفق ما حصل عليه من معلومات. في الأنظمة الديمقراطية، يعتمد المواطنون على وسائل الإعلام للتخلّص من الفساد، وكشف سوء تطبيق العدالة، أو عدم كفاءة وفعالية عمل جهاز حكومي معيّن. لا يمكن لأي بلد أن يكون حراً دون وسائل إعلام حرة، ويعتبر إسكات صوت وسائل الإعلام من دلائل قيام حكم دكتاتوري.
* دور جماعات المصالح:
خلال القرن الثامن عشر، وجزء لا بأس به من القرن التاسع عشر، كان صنع القوانين بمثابة حوار بين الناخبين وممثليهم المنتخبين في الكونغرس، أو في حكومات الولايات والحكومات المحلية. وحيث كان عدد السكان قليلاً، والبرامج الحكومية محدودة، والاتصالات بسيطة، لم يكن المواطنون بحاجة إلى مؤسسات أو منظمات وسيطة لمساعدتهم على إيصال آرائهم إلى من يريدون. ولكن في القرن العشرين، أصبحت المجتمعات أكثر تعقيداً، كما أصبح دور الحكومة أكثر اتساعاً. هناك اليوم الكثير من القضايا التي يريد الناخبون التحدث عنها، ومن أجل إسماع أصواتهم في صدد قضايا معيّنة، ينشئ المواطنون مجموعات لوبي، ومجموعات تدافع عن مصالح عامة أو خاصة وتعمل على تحقيقها، ومنظمات غير حكومية تُكرّس نفسها للعمل في سبيل قضية مُعيّنة. هناك الكثير من الانتقاد داخل البلاد لهذه الناحية من الديمقراطية الأميركية، ويدّعي البعض أن تلك المجموعات من أصحاب المصالح التي لديها الكثير من المال يمكنها إسماع صوتها بصورة أفضل مما تستطيعه مجموعات مصالح أخرى محدودة الموارد. بعض هذا الانتقاد محق، ولكن الواقع هو أن هناك مئات من هذه المجموعات تساعد في توعية الناس وصانعي السياسة عن أمور معينة، وبذلك تساعد الكثير من الناس ممن لا تتوفر لديهم الموارد لتعريف آرائهم للمشرّعين في عصر يسوده التعقيد. الآن، وقد وصلنا عصر الإنترنت، سيزداد عدد هذه الأصوات، وستساعد هذه المنظمات غير الحكومية على تحسين وتركيز مصالح المواطن بطريقة فعّالة.
* حق الشعب في أن يعرف:
قبل هذا القرن، إذا أراد الناس أن يعرفوا كيف تعمل حكوماتهم، كانوا يتوجهون إلى مقر الاجتماعات للإصغاء إلى المناظرات والمناقشات. أما اليوم، فهناك بيروقراطيات ضخمة معقّدة، وقوانين وأنظمة يقع بعضها في مئات الصفحات، وعملية تشريعية، حتى ولو كانت خاضعة للمحاسبة من قبل الشعب، قد تكون مبهمة ليسمح لأكثرية الناس بفهمها. في النظام الديمقراطي، على أعمال الحكم أن تكون شفافة قدر الإمكان، أي أن المداولات والقرارات يجب أن تكون مُتاحة لتدقيق الناس. من الواضح أنه لا يجوز أن تكون كل أعمال الحكومة علنية، ولكن للمواطنين الحق في معرفة كيف تُصرف أموال الضرائب التي تجبى منهم، وما إذا كانت المحاكم تتمتع بالكفاءة والفعالية، وما إذا كان المسؤولون المنتخبون يتصرفون بمسؤولية. إن كيفية توفير مثل هذه المعلومات تختلف بين حكومة وأخرى، ولكن ما من حكم ديمقراطي بوسعه العمل بسرية تامة.
إذا ركّزنا نظرنا على المبادئ الأساسية، وهي أن السلطة النهائية تكون في يد الشعب، وأن على سلطات الحكم أن تبقى مقيدّه، وأن على حقوق الأفراد أن تكون مُصانة، عند ذلك، من الممكن إيجاد طرق عديدة لتحقيق هذه الغايات.
* حماية حقوق الأقليات:
إذا كانت "الديمقراطية" تعني حكم الأكثرية، تبقى كيفية معاملة الأقليات من أهم مشاكلها. لا نعني بتعبير "الأقليات" الناس الذين صوتوا ضد الحزب الفائز أو الجهة الفائزة في الانتخابات، بل أولئك الذين يختلفون بصورة جليّة عن الأكثرية بسبب العرق، أو الدين، أو الأصل الإثني. المشكلة الكبرى في الولايات المتحدة هي مشكلة العرق؛ فلم يتم تحرير العبيد السود إلا بحرب أهلية دموية، ومن ثم لم يتوصل الملونون إلى ممارسة حقوقهم الدستورية بحرية إلا بعد انقضاء قرن من الزمن على ذلك. ما زالت قضية المساواة العرقية من القضايا التي تحاول الولايات المتحدة جاهدة معالجتها حتى اليوم. ولكن هذا الأمر يُمثّل جزءاً من الطبيعة المتطورة للديمقراطية بدءاً من العمل في سبيل جعل المجتمع أكثر شمولاً، وفي سبيل منح أولئك الذين يختلفون عن الأكثرية، لا الحماية من الاضطهاد فحسب، بل أيضاً الفرصة للمشاركة في حياة المجتمع كمواطنين كاملي المواطنية ومتساوين مع غيرهم. وهناك العديد من الأمثلة عن الدول التي عاملت، أو تُعامل، مواطنيها بطريقة دموية ورهيبة، والمحرقة النازية لليهود ليست سوى الصورة الأوضح عن ذلك. ولكن ما من مجتمع يمكنه أن يطمح لأن يُسمي نفسه مجتمعاً ديمقراطياً إذا كان يستثني بصورة منتظمة جماعات معيّنة من سكانه من الحماية الكاملة للقوانين.
* السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية:
في الأزمنة القديمة، كانت المسؤولية الرئيسية للقائد تتمثل في قيادة القوات العسكرية لمجتمعه، إما للدفاع عن ذلك المجتمع أو لإخضاع مجتمع آخر. وغالباً، ما كانت شعبية القائد العسكري الناجح تقوده إلى السعي نحو السيطرة على الحكم بالقوة؛ ومن يسيطر على القوات العسكرية يمكنه بسهولة إزاحة الآخرين جانباً. لقد شهدنا في الزمن المعاصر، ولمرّات عديدة جداً، عقيداً أو جنرالاً في القوات المسلحة يستخدم سطوة هذه القوات للقيام بانقلاب يطيح الحكم المدني. أما في النظام الديمقراطي، فينبغي ألا تكون القوات العسكرية خاضعة لسيطرة السلطات المدنية فحسب، بل ينبغي أن تكون لديها أيضاً ثقافة تؤكد أن دور القوات المسلحة هو خدمة المجتمع لا حكمه. يصبح هذا الأمر أسهل تحقيقاً عندما يكون الجيش جيش مواطنين، أي عندما يكون أفراده من كل فئات المجتمع ينخرطون فيه لمدة مُعينة يعودون بعدها إلى الحياة المدنية. ولكن المبدأ يبقى هو نفسه: يجب أن تكون القوات العسكرية خاضعة للسلطة المدنية؛ ومهمتها هي حماية الديمقراطية لا الحكم.
يمكننا استنتاج بعض الأفكار الرئيسية من هذه المقالات.
أولها وأهمها، هو أن الشعب هو المصدر الأساسي لجميع السلطات. ودستور الولايات المتحدة يعلن ذلك بوضوح في أول كلماته: "نحن شعب الولايات المتحدة.. نضع ونُنشئ هذا الدستور". كل سلطات الحكم يجب أن تنبع من الشعب، ويجب أن تكون مقبولة منه بأنها سلطات مشروعة. هذه المشروعية تتحقق بطرق متنّوعة، منها عمليات صنع القوانين والانتخابات الحرة النزيهة.
هناك مبدأ عام ثانٍ هو وجوب مبدأ الفصل بين السلطات الذي يهدف لمنع ازدياد قوة جزء من الحكم لدرجة تمكّنه من تقويض إرادة الشعب. ومع أن منصب الرئيس يُعتبر دائماً أقوى منصب في الحكومة الأميركية، فإن الدستور يحدّ من صلاحيات الرئيس ويفرض عليه أن يعمل بالتعاون مع السلطتين الأخريين ومع القوة التي تشكّلها أصوات الناخبين. ومع أنه يبدو أن السيطرة المدنية على القوات العسكرية تعطي الكثير من السلطة للرئيس، فإن الثقافة التي تستند إليها القوات العسكرية في المجتمع الديمقراطي تحول دون إساءة استخدام تلك القوة. كما أن المحاكم تضع حدوداً، لا لأعمال السلطة التنفيذية فحسب، بل لأعمال السلطة التشريعية أيضاً. في النظام الديمقراطي، يجب أن يكون الحكم متوازناً، ويجب أن تُقدّر كل أجزاء الحكم الحكمة من ذلك التوازن وضرورته.
ثالثاً، وجوب احترام حقوق الأفراد والأقليات، وعدم جواز استخدام الأكثرية لقوتها كي تحرم أي إنسان من حرياته الأساسية. قد يكون هذا الأمر صعباً في أي نظام ديمقراطي في أغلب الأحيان، خاصةً إذا كان سكان المجتمع المعني متنوعي الانتماءات (العرقية، والإثنية، والدينية) وتختلف آراؤهم في صدد مواضيع هامة. ولكن ما أن تحرم الحكومة فئة معينة من الناس من حقوقها، فإن حقوق كل الناس تُصبح في خطر.