روح العــطـــر
17-09-2003, 12:50 AM
جــــــــــــدي يـــــا جــــــــــــدي
كان جدي حكيماً للغاية…يرى أبعد من قريته التي ولد وعاش وتربى فيها..كان يحدثني دائماً عن الزمن القادم..زمن نصافح فيه النساء..وتَقصر فيه التنانير…ويصبح الرجال أنصاف نساء…زمنٌ رمادي…نعيش فيه على بقايا حكايات التاريخ..وأذيال القصص العتيقة التي سنتبادلها بالبريد الإلكتروني على شبكة الإنترنت..وتلك كانت أولى نبوءات جدي التي تحققت ولحمه ما زال دافئاً بعض الشيء في قبره.
جدي كان بعيد الرؤية..ومن خلال زجاج نظارته الطبية السميكة الذي يشبه إلى حد كبير نافذة الحانة في ليلة شتائية رطبة رأيت بقايا التاريخ يسكن على ضفاف عينيه وسمعت أصواتا تعلو بالبكاء والعويل وتكبيرات رجال أشداء…وعلى حاجبيه سكنت أسطورة تبدأ بصلاح الدين وتنتهي به…كان شفافاً وكنت أستمتع بمشاهدة الحلم العربي يسري في شرايينه وأوردته..لم يكن قوميا..ولا بعثياً..ولا ناصرياً..ولا شيوعياً..ولا لم يكن أي شيء بل كان مجرد رجل فلسطيني يعيش على فتات الأمل…
كان لجدي أمل في يوم يأتي فيه صلاح الدين وصلاح الأمة وصلاح الحال ليوقظ النائمين من سباتهم…كان يدخن الأرجيلة - جدي وليس صلاح الدين - حيث يدخل الدخان إلى صدره ولا يخرجه أبداً..كان عابساً في أغلب الأوقات يحمل هم القرية..وهم الدكان الصغير في وسط البلدة…وهموم أبناء فلسطين في الشتات والمخيمات..وهموم الشارع العربي..كان يحمل أي هم ويمضي منتصب القامة معتدل القوام.
كان يستيقظ مع العصافير في الصباحات جداً…يقبل وجه الشمس ويطبع بجبينه على سجادة الصلاة أدعية كثيرة للرزق والاستغفار والنصر …وقبل أن يفتح دكانه كان يلقي بنظرة على الأرض والأشجار…يسقيها من ماء البئر مرة ومن دمع عينيه مرات.
ولكن لجدي نبوءات تحققت في هذا الزمن…فهل تسمعني يا جدي وأنت وحدك في الجزء المعتم من هذا الكون…إنها نبوءاتك تحققت بأن يظهر رجل من هذه الأمة ليلعلع وسط الحضور وعلى الملأ بأعلى صوته:"أنا باكره إسرائيل" دون أن يخشى دبابات العدو وخوذاتهم ورصاصاتهم وأسلحتهم النووية..أي والله قالها علنا..يا "جدو" كما تنبأت تماماً…إنه الزمن الذي تنبأت…زمن نصافح فيه الإسرائيليين لنقول لهم أننا نكرههم ولنطلب منهم بلطف أن يخرجوا من أرضنا…زمن يثور فيه الشارع العربي..ويثور ويثور رغم شراسة الكلاب وقوة خراطيم المياه والهراوات - هراوات من..كأنني سمعتك تقول شيئاً؟!- إنها هراوات حكوماتنا يا جدي…هراوات لا تعرف المزاح..هراوات وخراطيم وكلاب مثقفة لا تخلط الجد باللعب ،حكومات تقدس النظام وتحترم الاتفاقيات.
أنه زمن المبادرات…زمن يقاطع فيه زعماء العرب القمة العربية نكاية بإسرائيل وأمريكا..زمن يدعو فيه حكام وحكماء هذا الزمان شعوبهم للتطبيع مع العدو…زمن الصفح والعفو عن قتلة الأنبياء…
أنا لا أمزح..ولست أحاول التخفيف عنك في غربتك السرمدية…لكنها الحقيقة.. مُت مرتاح البال..فما زلنا في بداية المشوار…أنسيت أننا نعشق البدايات..
مُت مرتاح البال ولا تقلق على الأطفال ولا النساء لا تقلق على شيء أبداً..حكوماتنا على أهبة الاستعداد يا جدي.
مُت مرتاح البال…فبيوت البلدة القديمة لم يهدمها العدو بل أن بعضها تحولت إلى مقاه للانترنت وبيع مستلزمات الكمبيوتر..ولا تبكي على الأرض الوعرة فلقد رصفناها بالإسفلت حتى تسير عليها سيارات أغنياء القرية الذين يدعمون الانتفاضة ببيع منتجات إسرائيلية…لا تقلق على المحصول فلقد مات ورحل مع قوافل الشهداء الذين كانوا يدافعو ن عنه بدمائهم..لا تقلق على أحد فالمعونات العربية قادمة وسنكون أثرياء قريباً وسنتعلم فنون القتال ونسلح أبناءنا بأسلحة الليزر والرادارات المتطورة والفياجرا.
جدي أعرف أنك الآن تستمتع بموتك…فبعد أن كنت تحتضن الأرض وتقبلها في اليوم آلاف المرات…هاهي الأرض الآن تحضنك بدورها وتقبلك إلى أن يشاء الله…
بقلم الكاتبه / نضال زايد
مع تحياتي
روح العطر
كان جدي حكيماً للغاية…يرى أبعد من قريته التي ولد وعاش وتربى فيها..كان يحدثني دائماً عن الزمن القادم..زمن نصافح فيه النساء..وتَقصر فيه التنانير…ويصبح الرجال أنصاف نساء…زمنٌ رمادي…نعيش فيه على بقايا حكايات التاريخ..وأذيال القصص العتيقة التي سنتبادلها بالبريد الإلكتروني على شبكة الإنترنت..وتلك كانت أولى نبوءات جدي التي تحققت ولحمه ما زال دافئاً بعض الشيء في قبره.
جدي كان بعيد الرؤية..ومن خلال زجاج نظارته الطبية السميكة الذي يشبه إلى حد كبير نافذة الحانة في ليلة شتائية رطبة رأيت بقايا التاريخ يسكن على ضفاف عينيه وسمعت أصواتا تعلو بالبكاء والعويل وتكبيرات رجال أشداء…وعلى حاجبيه سكنت أسطورة تبدأ بصلاح الدين وتنتهي به…كان شفافاً وكنت أستمتع بمشاهدة الحلم العربي يسري في شرايينه وأوردته..لم يكن قوميا..ولا بعثياً..ولا ناصرياً..ولا شيوعياً..ولا لم يكن أي شيء بل كان مجرد رجل فلسطيني يعيش على فتات الأمل…
كان لجدي أمل في يوم يأتي فيه صلاح الدين وصلاح الأمة وصلاح الحال ليوقظ النائمين من سباتهم…كان يدخن الأرجيلة - جدي وليس صلاح الدين - حيث يدخل الدخان إلى صدره ولا يخرجه أبداً..كان عابساً في أغلب الأوقات يحمل هم القرية..وهم الدكان الصغير في وسط البلدة…وهموم أبناء فلسطين في الشتات والمخيمات..وهموم الشارع العربي..كان يحمل أي هم ويمضي منتصب القامة معتدل القوام.
كان يستيقظ مع العصافير في الصباحات جداً…يقبل وجه الشمس ويطبع بجبينه على سجادة الصلاة أدعية كثيرة للرزق والاستغفار والنصر …وقبل أن يفتح دكانه كان يلقي بنظرة على الأرض والأشجار…يسقيها من ماء البئر مرة ومن دمع عينيه مرات.
ولكن لجدي نبوءات تحققت في هذا الزمن…فهل تسمعني يا جدي وأنت وحدك في الجزء المعتم من هذا الكون…إنها نبوءاتك تحققت بأن يظهر رجل من هذه الأمة ليلعلع وسط الحضور وعلى الملأ بأعلى صوته:"أنا باكره إسرائيل" دون أن يخشى دبابات العدو وخوذاتهم ورصاصاتهم وأسلحتهم النووية..أي والله قالها علنا..يا "جدو" كما تنبأت تماماً…إنه الزمن الذي تنبأت…زمن نصافح فيه الإسرائيليين لنقول لهم أننا نكرههم ولنطلب منهم بلطف أن يخرجوا من أرضنا…زمن يثور فيه الشارع العربي..ويثور ويثور رغم شراسة الكلاب وقوة خراطيم المياه والهراوات - هراوات من..كأنني سمعتك تقول شيئاً؟!- إنها هراوات حكوماتنا يا جدي…هراوات لا تعرف المزاح..هراوات وخراطيم وكلاب مثقفة لا تخلط الجد باللعب ،حكومات تقدس النظام وتحترم الاتفاقيات.
أنه زمن المبادرات…زمن يقاطع فيه زعماء العرب القمة العربية نكاية بإسرائيل وأمريكا..زمن يدعو فيه حكام وحكماء هذا الزمان شعوبهم للتطبيع مع العدو…زمن الصفح والعفو عن قتلة الأنبياء…
أنا لا أمزح..ولست أحاول التخفيف عنك في غربتك السرمدية…لكنها الحقيقة.. مُت مرتاح البال..فما زلنا في بداية المشوار…أنسيت أننا نعشق البدايات..
مُت مرتاح البال ولا تقلق على الأطفال ولا النساء لا تقلق على شيء أبداً..حكوماتنا على أهبة الاستعداد يا جدي.
مُت مرتاح البال…فبيوت البلدة القديمة لم يهدمها العدو بل أن بعضها تحولت إلى مقاه للانترنت وبيع مستلزمات الكمبيوتر..ولا تبكي على الأرض الوعرة فلقد رصفناها بالإسفلت حتى تسير عليها سيارات أغنياء القرية الذين يدعمون الانتفاضة ببيع منتجات إسرائيلية…لا تقلق على المحصول فلقد مات ورحل مع قوافل الشهداء الذين كانوا يدافعو ن عنه بدمائهم..لا تقلق على أحد فالمعونات العربية قادمة وسنكون أثرياء قريباً وسنتعلم فنون القتال ونسلح أبناءنا بأسلحة الليزر والرادارات المتطورة والفياجرا.
جدي أعرف أنك الآن تستمتع بموتك…فبعد أن كنت تحتضن الأرض وتقبلها في اليوم آلاف المرات…هاهي الأرض الآن تحضنك بدورها وتقبلك إلى أن يشاء الله…
بقلم الكاتبه / نضال زايد
مع تحياتي
روح العطر