مشاهدة النسخة كاملة : ..]رواية .. بلا أتجاهـ [..
~أصداف~
02-03-2008, 04:43 AM
بلا اتجاه
للكاتب: أنا راحل
حرك الرماد المتخلف من رسائلها المحترقة بعود صغير، فانقلبت ورقة لم تحترق بالكامل، استطاع أن يلمح فيها عبارة ( فتنطلق روحانا إلى أبواب السماء)، نخسها بعوده ليعيدها إلى الجذوة الراقصة ويراقب حروفها وهي تتلوى وتذوي.
عندما احترقت آخر ورقة، رفع عينيه إلى الأفق أمامه وجعل يرقب خط التقاء السماء القاتمة مع الكثبان الرمادية، ولسعه الهواء البارد الذي يهب بعنف حاملا ً ذرات الرمل، منذرا ً بعاصفة مطيرة.
نهض ومشى متثاقلا ً تغوص قدماه في رمال النقرة التي أودع باطنها حبه، دفن هنا أجمل أيامه وولى، حرق هنا كل ما يذكره بها، رسائلها، خصلة شعرها، الكرت المزخرف المعطر، القلم الجاف الذي نقش عليه الحرفان الأولان من اسميهما.
ركب سيارته وانصفق الباب بدفع الريح التي بدت بدورها وكأنها تصفعه وتصفع سيارته بالرمل، قبع في الدفء خلف الزجاج يرقب هياج الريح خارجه ويسمع أنينها، ورأى من مكانه بقايا الرماد الذي خلفه والرياح تحمله لتذروه في مكان بعيد.
بدأت قطرات المطر تشارك الرمل في صفع زجاجه، تساءل بحزن ما هذا أيتها الريح ألا يكفي أنك ِ أدمعت ِ عيني بذرات الرمل حتى تبصقي علي الآن، طفر الدمع من عينيه فلم يمنعه تركه ينزلق على خديه، ليتخلل منابت لحية لم يحلقها منذ أسبوع.
وهناك، بين كثبان رملية ضخمة ترقد شمال الرياض، ووسط وادي قفر لم يذق رائحة المطر منذ سنين، وتحت زخات مطر مدرار، نسي حلفه بأن لا يبكيها، نسي رجولته الوليدة، نسي كبريائه وأنفته، وانطوى في مقعد سيارته الضيق ضاما ً رجليه إلى صدره كجنين خرج من بطن أمه قبل أوانه، وترك عينيه وأنفه تجودان بمائهما كما جادت السماء في ذلك اليوم المدلهم من حياته.
* * *
لو تركنا حمد قليلا ً لنفسه، ورجعنا بالزمن لنفهم ما الذي حدث، وما الذي جعل شخص ذو شخصية لاذعة ومحببة، وقدرات رائعة، يتحول إلى هذا الإنسان فاقد الحيلة الذي يلجأ إلى بطن وادي قحل يبثه همومه وشجونه ويبكي فيه بكاء كبكاء المسجون بذنب غيره، بكاء كله حرقة وعدم فهم لما حل به، فحمد لو رجعنا له قليلا ً لرأيناه يبكي ويكلم نفسه كأنه يحاول أن يشرح لها أسبابا ً لبكائه لم تفهمها، حتى تعينه في الضغط على الغدد الدمعية لتسخو بكل ما عندها وبكل ما احتبسته منذ خط شاربه.
سنتركه الآن، ونعود بالذاكرة إلى اليوم الذي تعرف فيه حمد إلى منتدى (( أقلام بلا اتجاه )) كأفضل بداية لسرد حكايتنا.
.
.
أن أحببتم ..
سأستمتع .. بوضع أجزائها لكم ..
لتشاركوني روعتها ..
أبو رائد
02-03-2008, 07:29 AM
أمونة الغفيلي
سلمتِ على ما كتبتِ
والله يعطيك العافية
ابتسـ ألم ـامة
02-03-2008, 08:29 AM
http://www.alraidiah.net/up/ar/alm1.gif
:101: هلا وغلا :101:
تستحق المتابعة
جميلة ونقل مميز
بانتظار باقي الأجزاء
سلمت ويعطيك العافية
دمتم بحفظ الباري
:101: وعلى الخير بإذن الله نلتقي :101:
http://www.alraidiah.net/up/ar/alm2.gif
كلمــات مـن ذهـب
إياك والرضى عن نفسك فإنه يضطرك إلى الخمول
وإياك والعجب فإنه يورطك في الحمق
وإياك والغرور فإنه يظهر نقائصك كلها ولا يخفيها إلا عليك
ظنا وايل
02-03-2008, 08:31 AM
أمونة
أختيار رائع . رواية جميلة
شكرا ً لطرحك
~أصداف~
02-03-2008, 08:11 PM
أمونة الغفيلي
سلمتِ على ما كتبتِ
والله يعطيك العافية
يا هلا .. بأخوي .. أبو رائد ..
الله يسلمك ..
ويعافيك ربي ..
متابعة ممتعة أتمناها لك ..
~أصداف~
03-03-2008, 12:56 AM
http://www.alraidiah.net/up/ar/alm1.gif
:101: هلا وغلا :101:
تستحق المتابعة
جميلة ونقل مميز
بانتظار باقي الأجزاء
سلمت ويعطيك العافية
دمتم بحفظ الباري
:101: وعلى الخير بإذن الله نلتقي :101:
يا هلا إبتسامة ألم ..
أشكر تواجدكِ ..
ووقت ممتع أرجوهـ لكِ ..
دمتي بخير ..
~أصداف~
03-03-2008, 12:59 AM
أمونة
أختيار رائع . رواية جميلة
شكرا ً لطرحك
ظنا وايل ..
أسعدني طيب المرور ..
وشكراً للمتابعة ..
لك التقدير ..
~أصداف~
03-03-2008, 01:00 AM
الفصل الأول
كان أحد أصدقائه والذي يشاركه كثيرا ً من الإهتمامات قد أخبره عن هذا المنتدى، كانا جالسين في بهو الجامعة المسقوف بالزجاج والصلب، والذي يحلو لهما الجلوس فيه مستمتعين بفساحته وارتفاع سقفه والهدوء الذي يغلف جوه، يتناولان من البوفيه الصغير شيئا ً يسكن جوعهما ويرتشفان شايا ً يحبه هو خفيف السكر فيما يحبه مروان (صديقه) حلوا ً كالدبس.
قال مروان وهو يلوك قضمة من (الكلوب ساندويش):
- وش أخبار منتداكم؟
- ممل... ياخي أحس الأعضاء اللي فيه ميتين، والكتابة في واد وهم في واد، والله إني أتعب أكتب قصة أو موضوع وأنزلها منسقة ومن أبدع ما يمكن وفي النهاية ما يرد علي إلا اثنين، واحد يقول مشكور والثاني يقول الخط ما هو واضح.
تراجع مروان بعنف للخلف ورفع رأسه ليطلق ضحكة من سقف حلقه كعادته، تاركا ً جسده الملئ يهتز، في مشهد جذب ابتسامات الجلوس حولهم، والحرج إلى حمد، فقال وهو يخفض رأسه ويقترب من مروان:
- مروان... قصر صوتك، فضحتنا.
- هههههه، حسن خطك؟ هذا أكيد مدرس الخط ( حسان توفيقي) اللي كان متقعد لنا في الإبتدائي- الله يكرهه- لاحقك إلى المنتدى.
- استغفر الله، ما تخلي الناس من شرك.
قالها حمد وهو يضحك ضحكة مجاملة، فيما استمر مروان في سيرة (حسان توفيقي):
- تذكر يوم يوقفنا......
- أقول بلا سواليف ذكريات، بلا هم، والله يا أنت رايق.
- الله... الله، وراك معصب؟ كل هذا عشان حسن خطك؟ يا خي لو أنك سامع كلام حسان توفيقي من زمان كان ماتفشلت في هالمنتدى.
وعندما رأى تشاغل حمد في تقليب كتاب بين يديه، هز رأسه وعاد إلى ما بين يديه، وحالما انتهى من الساندويش مسح يديه بمنديل يزينه شعار لشركة تغذية قبل أن يكوره ويحاول التصويب على سلة المهملات التي تبعد عنهم بضعة أمتار، ولكنه أخطاها وتدحرج المنديل بعيدا ً فعض شفته السفلى وتناول كوب الشاي وهو يقول:
- طيب... غير المنتدى، ما كثر الله إلا هالمنتديات، فيه منتدى سجلت فيه قبل فترة وأظن أنه بيعجبك، عندهم منتدى قصص وخواطر جميل جدا ً، ويكتب فيه مجموعة كتاب ممتازين، وكتاباتهم راقية ورايقة، وبعدين منتدى فعال، يعني تنزل موضوع تجي بكرة تلاقي الردود عشرين.
- والله حلو... ايش اسمه؟
- منتدى ( أقلام بلا اتجاه).
- أقلام بلا اتجاه... غريبة ما سمعت عنه؟ طيب أرسل لي اللنك حقه، وبشوفه لو عجبني سجلت فيه وتركت منتدى أي كلام هذا.
- صدقني بيعجبك، فيه كاتب رهيب جدا ً اسمه (النورس) يكتب رواية اسمها (بروق على ساحل الحب) وصل فيها حتى الآن الفصل التاسع، وفيه ( بنت فاضل) كتبت رواية حلوة خلصتها الشهر اللي فات، الظاهر كان اسمها ( بقايا حب أعجمي) أو ( ويبقى حب أعجمي)، وفيه أحسن واحد طبعا ً اللي هو أنا، مسمي نفسي ( قلم بلا غطاء).
- ههههههههه، قلم بلا غطاء؟ والله يا عندك ذوق في الأسماء... قلم بلا غطاء... أممممم، طيب ليش ما يصير قلم أخضر بلا غطاء، لا... لا... قلم أخضر جاف بلا غطاء ويقطع... لا... لا... قلم أخضر وغطاه أزرق ويقطع... هاهاه.
- يا مصلك، أجل أسمي نفسي مثلك ( على تخوم القبيلة).
ثم اتخذ مروان هيئة مدرسي اللغة العربية عندما يتحمسون في الشرح، وقال بلهجة تهكمية:
- على حرف جار لما بعده، تخوم جمع تخم وهو شدة الشبع تقول انتخمت أي امتلى بطني وذلك في حق من يأكل بأصابعه الخمسة، أما من يأكل بملعقة فهو ينتفخ والإنتفاخ ليس هذا مجال تفصيله، القبيلة هي مجموعة من الناس لهم شيخ يسمى شيخ القبيلة.
كان حمد يحاول كتم ضحكاته ويغالبها ليقول لمروان:
- اسكت يا جاهل... الله يغربل شيطانك، ههههههه... ياخي ألف مرة قلت لك (تخوم القبيلة) هذا واحد ثاني، أنا أكتب بيوزر أنت ما تعرفه.
- علينا... أعرف أسلوبك يا حبيبي، لو يكتب في الموقع مليون واحد أقدر أطلعك من بينهم، قال تخوم قال، المهم سجل لك بإسم زين في الموقع لا تفشلني قدامهم.
- هههههههههه... اللي يسمعك يقول الموقع موقعك، مالك إلا يومين مسجل عندهم وسويت كذا، أجل وش بتسوي إذا تميت ثلاث سنوات.
- المهم... الموقع وبرسل لك اللنك حقه، وخلنا نشوف المشاركات العدلة، مهوب تفشلني قدامهم تراني بحسبة كفيلك.
ثم نهض وطوح بالكأس الورقي إلى السلة ولم يخطأها هذه المرة، ولحقه حمد وهو يجذب كتبه من على الطاولة، وغادرا البهو ليعودا إلى الكلية.
* * *
عندما فتح بريده الإلكتروني من الغد كان مروان قد وفى بوعده وأرسل الرابط، كان الوقت حينها يقترب من منتصف الليل، وهو قابع في الظلام في غرفته الصغيرة التي ينفرد فيها لوحده، فيما يتقاسم أخوته الباقون الغرف كل اثنان في غرفة.
كان يحب ولوج النت ليلا ً، عندما يعود إلى البيت من عند أصدقائه، يطفىء النور ويشعل جهازه، وينفق ساعة يوميا ً موزعة بين تفقد البريد والمسينجر والمنتدى الأدبي الذي يكتب فيه بمعرف ( على تخوم القبيلة)، كان المنتدى يهتم بالشئون الأدبية ويضم مجموعة من كتاب القصة الشعبية والخواطر من الجنسين.
ولكن المنتدى افتقد للحماس مؤخرا ً، وغابت عنه كثير من الأقلام التي كان يحترمها، وأصبح يكتب فيه لمجرد الكتابة، ولذلك عندما أخبره مروان عن هذا المنتدى النشط فرح كثيرا ً وقرر زيارته والفرجة على موضوعاته.
عندما ضغط على الرابط، انتظر قليلا ً حتى بدأت الصفحة البيضاء تتلون بلون أزرق هادئ، كان تصميم المنتدى هادئ وجميل وينم عن ذوق عالي، كان مجمل الألوان فيه تتراوح بين اللونين الأبيض والأزرق وبينهما درجات الأزرق، وفي واجهة المنتدى كان يبدو اسم الموقع على شكل شراع لمركب صغير يبدو تائها ً في عرض البحر، وفوق قائمة المنتديات كان هناك شريط صغير يعرض آخر الموضوعات، جذب انتباهه عبارة صغيرة فوق الشريط، قرأها بصوت هامس ( أيها الداخلون هنا، دعوا لنا بعضا ً من حكاياكم، أليست حيواتنا حكايات يرددها الآخرون)، أعجبته العبارة وفهم مغزاها، تساءل عن كنه كاتبها؟
تجاوز العبارة ونزل إلى مجموعة المنتديات، وبلا تردد نقر على منتدى القصص والروايات، وجعل يجيل طرفه بين أسماء القصص، عرف عناوين بعضها منقولا ً من منتديات أخرى، فتح في صفحة أخرى قصة ( بروق على ساحل الحب) التي أخبره مروان عنها، وأيضا ً قصة ( بقايا حب أعجمي) التي هاله تجواز عدد قرائها العشرون ألفا ً، وجذبه عنوان قصة وعدد قرائها المرتفع لكاتب يدعى (قلم بلا اتجاه) كان عنوانها ( صفحات حب تذروها الرياح)، فتحها ليجد تحت اسم الكاتب وصورته التي تمثل مركبا ً في عرض البحر وصف (مشرف منتدى القصص والروايات)، انتبه إلى أن الصورة التي تمثل الكاتب هي نفس الصورة التي تتصدر الموقع، تساءل هل هذا هو صاحب الموقع؟
اكتفى بالقصص الثلاث التي فتحها، انتظر دقائق حتى يكتمل التحميل قطع بعدها الإتصال، نظر للساعة كانت تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل، قاوم الرغبة الشديدة التي تنازعه للإطلاع على القصص، مذكرا ً نفسه بأن ورائه يوما ً جامعيا ً طويلا ً، أدخرها للغد، وقام بإقفال الجهاز بعدما حفظها على سطح المكتب.
* * *
مر اليوم مرهقا ً له متنقلا ً ما بين القاعات والمدرجات، ملاحقا ً المحاضرات والدكاترة، وعندما عاد إلى البيت كان التعب قد أنهكه، فآوى للفراش بعدما قبل رأس أمه حتى تكف عن إلحاحها على أن يتغدى قبل أن ينام وداعب رأس أخته الصغيرة.
استيقظ عصرا ً، كانت صلاة العصر قد قضيت، استغفر الله على تفريطه وتوضأ وصلى في غرفته ثم ذهب يبحث عن ما يسد جوعه، وبعدما شبع حمل كأسا ً من الشاي وعاد إلى غرفته.
وقف في المنتصف بين رواية ( بيروت.. بيروت) لصنع الله إبراهيم التي تستقر على حافة الكوميدنو وجهازه، ارتشف جرعة علها تساعده على اتخاذ قرار بين إكمال الرواية أو الإطلاع على القصص الثلاث اللواتي حفظهن في الليلة الفائتة، ثم حسم قراره وفتح الجهاز.
بدأ براوية ( بقايا حب أعجمي) فمروان أخبره بالأمس أن كاتبتها قد ختمتها، بدأ بقراءتها لم تعجبه في البدء لغتها المغرقة في العامية والتي غابت عنه بعض ألفاظها، ولكنه بدأ يعجب بشخصية البطلة، ويتابع القصة وأحداثها التي تدور وتدور، ولذلك لم ينتبه إلى وآذان المغرب يخترق الأجواء.
كان قد تبقى من الرواية فصلان، فأتمهما بعد الصلاة، كانت الرواية جيدة إلى حد ما، عابها تكرار الفكرة واللغة المفرطة في العامية، ارتدى ملابس الخروج، ونزل إلى الطابق الأرضي حيث كان أخوته الصغار يستلقون أمام التلفاز، حمل أخته الصغيرة ( لمى) بين ذراعيه وطوح بها إلى السقف وعاد يتلقاها ويطوح بها مرة أخرى وهي تضحك وتصرخ ( اتلكني... ماما... سوفي حمد)، كانت هي آخر العنقود، فيما كان هو البكر وجاءت بعده بسنتين أخته ( هيلة) ثم ( عبير) ثم ( سعد) وأخيرا ً الدلوعة ( لمى).
خرج من المنزل ليستقل سيارته (الشيروكي) والتي اختارها خصيصا ً لحبه للرحلات البرية، ففي أيام الأمطار والأجواء الربيعية يخرج إلى أطراف مدينة الرياض مع أصدقائه وأحيانا ً يقضون الليل في مخيم صغير يقيمونه هنا أو هناك.
وقت حمد موزع بين دراسته وهواياته، فبالإضافة إلى هواية التخييم والنزهات البرية، يعتبر حمد بين أقرانه وأصدقائه مرجعا ً في شئون الأدب العربي والعالمي، فهو يقرأ وبنهم الكثير من نتاج الأدب العربي ما بين شعر وقصص وروايات، وأيضا ً يتابع بشغف الأدب العالمي وخصوصا ً أدب أمريكا الجنوبية وأعمال ماركيز وجورج أمادو وإيزابيل الليندي، وكنتيجة طبيعية لمن يجمع بين شاعرية الصحراء تحت هبات الربيع والإطلاع على المؤلفات الجميلة الثرة لكبار الكتاب، بدأ حمد يكتب بلغة جميلة شعرية مجموعة من القصص القصيرة والمحاولات الكتابية التي نالت الإستحسان من أصدقائه.
* * *
عاد ليلا ً كعادته إلى البيت الذي نام كل من فيه، كان قد بقي على موعد نومه قرابة الساعة والنصف، فصنع له كوبا ً من عصير البرتقال، وتناول جهاز التحكم ليتنقل بين القنوات قليلا ً وعندما لم يجد شيئا ً يروق له أطفأ التلفاز وانتقل إلى الكمبيوتر.
كان قد تبقى له قصتان ( بروق على ساحل الحب) و (صفحات حب تذروها الرياح)، فكر لحظات ثم قر قراره على ادخار قصة مشرف المنتدى التي يتوقع أن تكون دسمة للنهاية، وبدأ في قراءة رواية (بروق على ساحل الحب)، أطفأ النور ومد قدميه على كرسي وضعه إلى جانبه حتى يريحهما، وبدأ يقرأها بهدوء.
عندما فرغ منها كان قد تجاوز موعد نومه بنصف ساعة، ولكن الرواية الجميلة جذبته رغم لغة الكاتب الضعيفة كحال الرواية السابقة ( بقايا حب أعجمي)، ولكن أعجبته الأحداث ومجموعة الأبطال الذين بدو كما لو أن النورس (كاتب القصة) قد بث فيهم الروح، فبدت أفعالهم وكلماتهم كأنها مجتزئة من أرض الواقع، وتصرفاتهم تقترب من التصرفات الطبيعية بعيدا ً عن المثالية والتصرفات الغريبة التي تصبغ أبطال القصص.
تمطى وألقى بنفسه على فراشه بعدما أغلق الجهاز وغسل أسنانه، وما هي إلا لحظات حتى غاب في لجة النوم.
* * *
بدى منشرحا ً في الصباح رغم قلة الساعات التي نامها، ولكن لأن اليوم أربعاء، وليس لديه سوى محاضرتين من الثامنة حتى العاشرة، والأهم أنه قد اتفق مع أصدقائه على التخييم في مكانهم المعتاد عصر هذا اليوم، مستغلين الإجازة الأسبوعية والأجواء الجميلة التي تلي الشتاء الذي ولى.
عندما انتهت المحاضرات خرج هو ومروان، قطعا الرواق المزحوم بالطلبة وتوقفا قليلا ً عند الكافتيريا الصغيرة الخاصة بالكلية ليأخذ مروان كأس كابتشينو ليعدل مزاجه كما يقول، سأله مروان عندما تركا جو الكلية المكيف إلى الهواء الطلق والسماء التي زينتها مزع السحاب:
- دخلت المنتدى؟
- ايه.
- سجلت؟
- لا... دخلت وفتحت بعض القصص فيه، والله الموقع جيد، بسجل إن شاء الله.
- وش قريت؟
- (بقايا حب أعجمي) و... الظاهر (بروق على ساحل الحب)، كذا اسمها؟
- ايه... أعجبتك؟
- (بقايا حب أعجمي) يعني، بس ذبحتني العامية، نص الكلام مافهمته، أما (بروق) حلوة، الشهادة لله أنها حلوة، قريتها أمس إلى حدود الساعة 1.30، الصراحة الكاتب مبدع، بس توها في الفصل التاسع.
- (بروق) حقت النورس صح؟
- ايه.
- ايه... (النورس) من كبار كتاب المنتدى، وعلى فكرة تراه ساكن في فرنسا، الظاهر أنه مبتعث هناك.
- ما شاء الله، ما كملت في المنتدى أسبوعين، وحافظ تاريخ كل كتاب المنتدى.
- تعرفت على واحد من المشرفين على الموقع، وأضفته عندي بالمسينجر، وجلسنا نسولف وعطاني بعض المعلومات عن الكتاب فيه.
- اها.
كانا قد وصلا إلى المواقف فإفترقا، اتجه حمد إلى سيارته، وانطلق بعجل إلى البيت ليظفر بساعات نوم حتى يكون مستعدا ً للتخييم.
* * *
عندما نهض عصرا ً كان يحس بخدر شديد، اتجه إلى الحمام وهو يسير بخطوات متمايلة، غسل وجهه بقوة ثم توضأ، ومسرعا ً اتجه إلى المسجد القريب حتى لا تفوته الر كعات الأخيرة من الصلاة.
عاد بعدما قضيت الصلاة، ليحمل عدته الخاصة وفراشه المطوي من الغرفة القصية في البيت والتي تحاذي السور الخارجي ويلقيها في مؤخرة سيارته، ثم ذهب إلى المطبخ بحثا ً عن شيء يطفئ جوعه.
كانت أمه تغسل الأواني المتبقية من الغداء، قبل رأسها وداعب رأس أخته لمى التي كان شعرها مهوشا ً وبين يديها إناء تأكل منه بأصابعها الصغيرة، قال لأمه:
- توصين على شيء يالغالية؟
- بتخيم هالأسبوع بعد؟
- ايه... قبل لا يجي الصيف، نبي نستفيد من الجو الحلو.
- الله يصلح قلبك، لو تنتبه لدراستك مهوب أحسن لك وأنا أمك.
- يا حبيبتي... يا أمي... اللي يسمع كلامك الحين يقول إني كل سنة أرسب ومعدلي نازل وحالتي حالة، الحمد لله دراستي ماشية والأمور زينة وأنا أخيم في مكان قريب وفيه إرسال لو بغيتوني اتصلوا علي وأجي، ماله داعي هالخوف.
- الله يصلح قلبك... هذا اللي أقوله.
- آمين، أتوصين على شيء؟
- سلامتك، مر على أبوك في المكتبة يبيك.
- أبشري.
* * *
توقف قليلا ً أمام باب المكتبة وأخذ نفسا ً عميقا ً، تعتبر هذه الغرفة غرفة والده الأثيرة، وهي مكونة من أرفف كبيرة تلامس السقف، تتراص عليها آلاف الكتب ما بين كتب دينية وفلسفية وتاريخية وأدبية، ومكتب يتوسط الغرفة يقبع خلفه كرسي مريح، في هذه الغرفة يقضي والده جل وقته، في قراءات متواصلة وبحوث ذات أسماء موحشة مثل ( الأثر التشكيلي في ثقافة بلاد ما بين النهرين) أو ( العقل العربي ما بين الإثبات والنفي)، كانت رؤية أبوه المنعزل أبدا ً في هذه المكتبة والمكب دوما ً بنظارته السميكة على الكتب ذات الأحجام الضخمة، هي التي دفعته إلى أن يكتشف عالم الكتب وأن يقرأ، ورغم أنه قياسا ً بأقرانه وأسنانه يعتبر متفوقا ً ثقافيا ً، ولكنه يدرك أن جل قراءاته لم تتعد النفَسَ الأدبي، وأنه لا يزال في المنطقة الضحلة فيما يغوص أبوه في اللجة الكاسحة للبحر المترامي.
حتى نفهم لماذا وقف حمد عند الباب وأخذ نفسا ً عميقا ً استعدادا ً للدخول، فإنه لزاما ً علينا أن نفهم طبيعة العلاقة التي تربط بين حمد وأبيه، كان حمد يحترم أبيه، يحترم علمه وعقله، ويشعر بالفخر عندما يظهر أبوه في التلفاز في كثير من القنوات أو على صفحات الجرائد عندما تفرد له الأعمدة، فأبوه ينظر له كأحد المفكرين العرب البارزين رغم انعزاليته، ولكنه في نفس الوقت يحس أن والده بعيد جدا ً عنه هو وأخوته بسبب انعزاله وغرقه في القراءة والبحوث، كما أنه يحس بأن والده لا يرضى كثير بتواجد حمد الدائم خارج البيت، وسفراته وتخييماته مع أصدقائه، كان الوالد يعتبر كل هذه الأشياء مضيعة للوقت وإن لم يصرح بذلك.
ولذلك عندما دفع حمد الباب ودخل كان يتوجس مما يريده والده منه، كان أبوه واقفا ً مستندا ً إلى أحد الرفوف، وبيده مجلد قد انتزعه كما هو ظاهر من سلسلة (قصة الحضارة) لويل ديورانت، كان يبدو أنه لم ينته لدخوله، وهو يركز عينيه على الكتاب، تنحنح حمد بحرج فرفع والده رأسه فبادره حمد:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام، هلا حمد.
أعاد الكتاب إلى مكانه، ثم سحب الكرسي وجلس على المكتب وجعل يقلب الكتب والأوراق المتناثرة على مكتبه بحثا ً عن شيء ما، وقال:
- بتخيم اليوم؟
- إن شاء الله.
- وكيف الأرض؟ فيه ربيع السنة هذي؟
- زينة والحمد لله، أفضل من السنة اللي فاتت.
- احرص على نفسك وأنا أبوك.
- ابشر.
نهض إلى كرسي في طرف الغرفة تتراص عليه مجموعة من المجلات العلمية وأوراق بشكل فوضوي، وانتزع من بين الأرواق مجموعة من المظاريف، ناولها إلى حمد وهو يقول:
- هذي فواتير البيت، سددها قبل لا تروح، لها أسبوع عندي وأخاف أنساها أكثر من كذا.
ثم تناول من جيبه مجموعة من النقد وأعطاه إياه وهو يقول:
- لا تنسى.
- ابشر.
ثم عاد إلى كتبه وأوراقه، فاستدار حمد وغادر الغرفة وهو يقول بصوت خفيض:
- مع السلامة.
- مع السلامة.
عندما أغلق الباب، أطلق زفرة قوية وشد بيديه على المظارف والمال، وانطلق إلى غرفته صاعدا ً بخطوات واسعة، جمع ملابسه الرياضية والأغراض التي يحتاجها في البرية في حقيبته اليدوية الصغيرة، ثم حمل إحدى الروايات ووضعها مع الملابس حتى يتسلى بها، قبل أن يتوقف قليلا ً ثم يتراجع ويعيدها إلى مكانها ويشغل جهازه، ويفتح الرواية الثالثة المتبقية والتي حفظها من منتدى ( أقلام بلا اتجاه) والمعنونة ب ( صفحات حب تذروها الرياح)، ثم يقوم بنقلها إلى الوورد وتنسيقها بشكل سريع ومتعجل، قبل أن يطبعها ويتناول الأوراق الحارة والتي تحمل رائحة الحبر، ويلفها ويلقيها في الحقيبة ثم يحملها منصرفا ً.
.
.
نهاية الفصل الأول ...
فتى الرائدية
08-03-2008, 09:29 PM
أمونة الغفيلي
لاهنتي يالغلااااااااااااااااا
أمووونه يسلمو على ماكتبتي والى الامام
~أصداف~
09-03-2008, 10:53 AM
أمونة الغفيلي
لاهنتي يالغلااااااااااااااااا
يا هلا فيك أخوي ..
سلمت عالمرور هنا ..
~أصداف~
12-03-2008, 12:58 AM
أمووونه يسلمو على ماكتبتي والى الامام
يا هلا نجم ..
القصه منقوله ..
ويسرني متابعتك لها ..
لك أحترآمي ..
~أصداف~
12-03-2008, 01:02 AM
الفصل الثاني
خرج عن الطريق المسفلت، لتخوض سيارته في الرمال، وعجلاتها تحثي التراب على الجوانب وتصطدم بالحصى الصغير المبثوث في كل شبر، انطلق متعرجا ً مع تعريجات الطريق الذي حفظه من كثرة ما طرقه.
هدأ من سرعته عندما وصل شعيبا ً يقطع الطريق أمامه، وقد تناثرت على جوانبه أشجار شتى، وبدت أرضه رطبة ببقايا أمطار الأسبوع الماضي، سمى بالله ودفع سيارته إلى مكان آمن من الأرض تصلب بالحجارة وخرج صاعدا ً من الجهة الأخرى، ثم مضى ينهب الأرض التي بدأت تكتسي خضرة وورودا ً وأقاحا ً من كل جنس ولون.
أطربه المنظر البهيج والهواء اللطيف الذي يهب من نافذته التي فتحها بعدما أمن من غبار وحصى الأرض، فمشى مع الطريق المتعرج الذي شقته عجلات آلاف السيارات وهو يترنم بقصيدة شعبية شهيرة والسيارة ترتج من وعورة الطريق.
كان العصر قد ولى عندما وصل إلى المخيم، وألفى سيارتي مروان وعبدالعزيز متوقفة وهي مكسوة بالغبار، فيما مروان يبدو عند المشب منهمكا ً بإشعال النار ليصنع شايا ً، فيما كان عبدالعزيز يعيد نفض السجاجيد المفروشة داخل الخيمتين لتنضيفها من الحشرات والزواحف التي قد تكون باتت عليها منذ الأسبوع الفائت.
أوقف سيارته ونزل مبتسما ً فزعق مروان به:
- حمد... هات سيارتك هنا.
- سلام عليكم.
- وعليكم السلام... لا تطفئ سيارتك، تكفى وقفها هناك عند الأثلة حتى نحجز المكان، لا يقعد يجي أحد ويجلس فيها مثل الأسبوع اللي فات.
- طيب كان فرشت هناك زولية وحجزت المكان.
- الزولية يطيرها الهواء، وبعدين بكرة إذا قمنا الصبح لقينا أحد جالس فيها ويحوس علينا ظلالنا، وقفها هناك الله لا يهينك.
- طيب... طيب... أبو سعود، كيف الحال؟
قالها حمد لعبدالعزيز الذي خرج من إحدى الخيام بعدما أعاد الفرش إليها، فالتفت عبدالعزيز الذي كان طويلا ً له لحية خفيفة على جانبي وجهه كثيفة عند الذقن، وهو أكبرهم سنا ً، ولكنه أكثرهم طيبة قلب.
- هلا حمد، وراك واقف عندك؟
- بوقف السيارة تحت الأثلة، مثلك عارف أوامر مروان باشا.
ضحك عبدالعزيز فيما عاد حمد إلى السيارة وحمل أغراضه منها ووضعها على الأرض، ثم قادها إلى الأثلة ذات الفروع السامقة والظل الوارف والتي يعتبر ظلالها المكان الرسمي لشرب الشاي.
عاد إلى أغراضه فحملها ووضعها في خيمة النوم، ثم خرج إلى الخيمة الصغيرة التي كانت بمثابة مطبخ تكدست فيه أغراض الطبخ والمعلبات، وصافح عبدالعزيز الذي كان يغسل بعض الأواني، وجعل يساعده وهما يتحدثان حتى قطع عليهما صوت مروان الزاعق:
- الشاهي خلص... هاتوا معكم بيالات وتعالوا.
حمل عبدالعزيز معه زولية صغيرة ملقاة بإهمال في ركن الخيمة، فيما حمل حمد مجموعة من البيالات المغسولة وخرجا، كان مروان يمضي وهو يحمل الأبريق المسود بيد وطبق مكسرات باليد الأخرى إلى الأثلة حيث وقف هناك ينتظرهما حتى فرشا الزولية، ثم جلسوا والهواء يداعب ثيابهم بنسماته.
بدأو بإرتشاف الشاي، وفتح مروان طبق المكسرات وهو يقول:
- يا الله من فضلك... جو رايق، وشاهي يعدل المزاج، باقي الوجه الحسن.
حمد ضاحكا ً: أفا بس وأبو سعود مهوب وجه حسن؟
مروان: إلا أكيد أبو سعود فتنة للناظرين، والله يا بو سعود لولا الحياء لهاجني استعبار ولقرصت خدودك ذولي حيث أنهن كبار.
سقط حمد على ظهره ضاحكا ً، فيما قال أبو سعود:
- عاد تكفى هالوسامة اللي مقطعتك.
مروان: ولو يا بو سعود كلك ملح حتى وأنت معصب.
* * *
عندما غابت الشمس صلوا، ثم جاء ناصر ومحمد بسيارة واحدة فاكتمل عددهم، ناصر كان في مثل بدانة مروان، فيما كان محمد نحيفا ً جدا ً وله شارب خفيف، أضاءوا المصابيح الكهربائية وجلسوا بجانب الخيمة يتحدثون فيما مروان يصنع القهوة بالهيل.
كانوا يتحدثون في كثير من المواضيع، يتناقشون، يتجادلون ويضحكون على دعابات مروان، ومشاغباته لكل واحد منهم، حتى نهض عبدالعزيز وأذن لصلاة العشاء.
ثم بعدما فرغوا من الصلاة، بدأوا بإعداد العشاء حتى يتسنى لهم النوم مبكرا ً وخصوصا ً أن أكثرهم لم يناموا من الفجر إما لدراسة أو عمل، لذلك جعل مروان وناصر يتبلان ثلاث دجاجات كاملة، ثم يعلقونها في ثلاثة خطاطيف، قبل أن يدلوها في البرميل المدفون في الأرض والذي سعر محمد وحمد ناره، ثم يغطون رأسه مع ترك فتحة صغيرة للهواء حتى لا تنطفئ النار.
وعادوا إلى مجلسهم، وعندما جهزت الدجاجات، صفها مروان على صينية يتقاطر منها الماء، فيما كان حمد يحمل أرغفة الخبز التي سخنها على النار، وناصر يحضر المشروبات الغازية المدفونة تحت ركام الثلوج في الثلاجة الصغيرة، وعبدالعزيز ومحمد يصفان صحونا ً صغيرة من الفتوش والحمص أحضروها معهم من المنزل.
وبعد العشاء الحافل، صنع مروان شايا ً جعل يرتشفونه مع الحكايات، التي بدأت تثقل بتثاقل أجفانهم، وبدأ عددهم يتناقص حول النار، حتى نام آخرهم.
* * *
فتح حمد عينيه وجعل يحدق في سقف الخيمة المخطط تحت الضوء الخافت، كانت أصوات التنفس وشخير ناصر تتجاوب وسط السكون، نظر إلى ساعته كانت تشير إلى الساعة السابعة والربع، نهض برفق وخرج من الخيمة وهو يتمطى، كان الجو ذو برودة لطيفة.
قصد المطبخ وغسل وجهه، لن ينهض أحد من الشباب قبل الثامنة والنصف – قال لنفسه - هذا مؤكد، عاد إلى الخيمة وبرفق لبس بنطلونا ً وقميصا ً خفيفا ً ثم ألقى حول رقبته كوفية سوداء، ودس قدميه في حذاء الجري قبل أن يستخرج الأوراق التي طبع عليها البارحة رواية ( صفحات حب تذروها الرياح).
اختار بسكويتا ً خفيفا ً من المجموعة التي في المطبخ كتصبيرة، طوى الأوراق ودفعها في جيبه، ثم انطلق وهو يفتح البسكويت ويلتقم منه قطعة، تجاوز المخيم وانطلق حتى حاذى الشعيب القريب الذي كانت الأحجار التي جمعها المطر في قاعه تلمع تحت خيوط الشمس البازغة، فيما كانت العصافير تتطاير بين الأشجار.
نزل إلى الشعيب الحديث الجفاف، وهشمت خطواته الرمل الناعم المتماسك، مشى خطوات ثم انحرف صاعدا ً ليخرج مع الجهة الأخرى للشعيب، قاصدا ً مجموعة من الأشجار والأحراش والأعشاب التي افترشت رقعة صغيرة، كانت كجنة صغيرة أرضها لازالت رطبة من أثر الماء، وفرشها الزهور، ولا يقطع سكونها إلا زنين نحلة أو هسيس انزلاقة زاحفة لسحلية.
هنا مكانه المفضل الذي يقصده كلما جاء إلى المخيم، هنا تحت شجرة وارفة تمد أغصانها بكرم، وتلتف مجموعة من الأحراش حولها لتحجب المكان عن الأعين، هنا يأتي ليجلس متكئا ً على الجذع أو مستلقيا ً على البساط الرباني الأخضر، تاركا ً الزهور تعابث أذنه وعيناه تراقبان صفحة السماء الزرقاء الموشاة ببقايا الغيوم.
في هذا المكان جزء منه، هنا بكى عندما مات ابن عمه، وهنا ضحك عندما تم قبوله في كلية الآداب، وهنا يختلس ساعات ليقرأ وسط السكون غارقا ً في خضم أحداث الروايات، لينسى العالم بأسره، فتجده تارة يجوب مع بالداسار العالم بحثا ً عن الكتاب المفقود، و تارة يقطن غرفة ضيقة مع سجين تزمامارت، وأحيانا ً ينهب حقلا ً مع أحد الفرسان ذاهبين لتحرير جميلة ما.
واليوم وعندما ألقى بنفسه، أغمض عينيه قليلا ً وهو يسحب الهواء المنعش إلى جوفه، ويحتبسه قليلا ً قبل أن يزفر بقوة، ويمد يده إلى جيبه ليسحب الأوراق التي تجعدت قليلا ً وفقدت سخونتها، بعد مبيتها الليلي بين ملابسه، فردها ليطالعه العنوان متصدرا ً الصفحة ( صفحات حب تذروها الرياح)، قرأ أول جملة من الرواية " إلى كل المحبين في العالم أفيقوا"، اعتدل في جلسته أعجبته البداية، استند على الجذع وبدأ يقرأ.
* * *
بدأ يلتهم الصفحات غير شاعر بالوقت، كانت اللغة جميلة جدا ً شعرية، الأحداث تحكي قصة شاب بسيط يلج أحد المواقع الأدبية بالصدفة، ويقرأ قصة فتعجبه فيبدأ بمتابعتها، ثم لا شعوريا ً يبدأ بمحبة كاتبة القصة، ثم يفكر بأن يرسل لها رسالة تعبر عن مشاعره، ولكن عندما يبدأ في الكتابة يحس بالصدمة للغته الفقيرة وثقافته البسيطة مقارنة بصاحبته، فيبدأ بتثقيف نفسه والقراءة ومحاولة الكتابة للوصول إلى صيغة جيدة للرسالة تناسب حبيبته.
عندما انتهت الصفحات اكتشف أن للقصة بقية وأن ( قلم بلا اتجاه) لم يكتب سوى ثلاثة فصول منها، أسرته القصة ولم يستطع الفكاك من الروح التي تفيض منها، جمع الأوراق وأعادها إلى جيبه، ونظر إلى ساعته كانت تشير إلى 8.32 دقيقة، نهض من مكانه ونفض بنطلونه مما علق به، ومشى عائدا ً إلى المخيم.
كان من يراه من بعيد يظنه حزينا ً، فقد كان مطرقا ً يمشي ناظرا ً إلى الأرض، يفكر بأحداث الرواية ويستعيد في ذهنه بعض جملها وعباراتها، وقد ألهته عن ما يحيط به من ألوان الجمال، كما أنسته هبات النسيم واهتزازات الأعشاب.
عندما وصل إلى المخيم، وجد مروان ومحمد ملتفان حول النار، مروان يقلي بيضا ً بينما ينهمك محمد في تقطيع كبدة على صينية صغيرة، والشاي يكاد يغلي على جانب من النار، فيما جلس ناصر وعبدالعزيز على الزولية تتوسطهما دلة وفناجين قهوة ذات طراز قديم، وتمر مكنوز مغطى حتى لا يستوطنه الذباب.
- سلام عليكم.
- وعليكم السلام ( من الجميع).
ناصر: ما شاء الله... متى قمت؟
حمد: سبع وربع، وطلعت أتمشى.
عبدالعزيز: تقهو يا بن الحلال ( ومد له فنجانا ً مثلوما ً تتصاعد منه رائحة الهيل) شكل الفطور بيطول دام هالاثنين هم اللي يصلحونه.
شرب حمد جرعة من القهوة، وتناول بضع تمرات ليسكت جوعه، وهو ينظر إلى مروان ومحمد اللذان كانا يعملان وهما يكادان يتشاجران كعادتهما.
* * *
تناولوا إفطارهم، وفيما جلس محمد ومروان وعبدالعزيز يشربون الشاي، استقل محمد وناصر سيارتهم ليجلبوا بعض المستلزمات من أقرب محطة، بدأ مروان بمشاكسة عبدالعزيز الذي سرعان ما غضب ونهض معلنا ً أنه ذاهب ليتمشى، بقي حمد ومروان يتحدثان في مواضيع شتى حتى قال حمد:
- بصراحة موقع ( أقلام بلا اتجاه) رهيب، إذا رجعنا بسجل فيه بإذن الله، اليوم قريت رواية طبعتها وجبتها منه، بصراحة رواية روعة، أفضل رواية قرأتها على الأنترنت.
- أي رواية.
- صفحات حب تذروها الرياح لقلم بلا اتجاه.
- قريتها حلوة، بس ما أحس أنها مناسبة لمنتدى، يعني فلسفية ولغتها قوية وصعبة.
- وهذا اللي عجبني فيها، مع أنها توها في البداية وكل اللي كتب منها ثلاثة فصول لكنها حلوة.
- في روايات كثيرة حلوة في الموقع.
- مثل هذي ما أظن، وبعدين تعال أنت يا صاحب العلاقات، كاتبها تعرف عنه شيء.
- اللي أعرفه أنه من مؤسسي المنتدى، وهو على فكرة اللي صمم شكل الموقع، لكن ما أعرف عنه شيء غير كذا، الظاهر أنه ساكن في الشرقية.
- واضح ما تعرف أي شيء عنه، ههههههههههه، إلا وش اسم أمه.
- هيلة. ( قالها مروان وهو يرفع حواجبه، حيث أنه دائما ً ما يقول لحمد أنه سيتزوج أخته هيلة غصبا ً عنه).
- بايخ.
- ما قلت لي وش بتسمي نفسك؟
- ما أدري إلى الآن ما اخترت اسم.
- عندي لك اسم زين.
- وش هو؟
- محماس.
- والله أنك فاضي.
- لا... لا... هجاج، ههههههه.
* * *
ذهبوا عصرا ً إلى الجبل الذي يبعد كيلومترات عنهم، تسلقه حمد ومحمد، أما أصحاب الأوزان الثقيلة (مروان وناصر) فأكتفوا بالفرجة، استغرقهم الصعود عشر دقائق، فقد كان ارتقائه سهل، كما كانت قمته شبه دائرية وجرداء، وكان منحدرا ً بشكل خطر مع الجهة الأخرى.
عندما نزلا لم يجدا السيارة ولا الشباب، سارا في المنطقة ووقفا يراقبان رتلا ً طويلا ً ممتدا ً من النمل ذو الحجم الكبير، الذي كان يسير بإنتظام، تبعا الخط فوجدا أنه أشبه ما يكون بفرقة عمل لنقل أجزاء طائر ميت متحلل.
لمع زجاج السيارة القادمة من بعيد، كان مروان والبقية قد عادوا، ركبا وانطلقوا إلى أماكن أبعد مستمتعين بالطبيعة الوليدة، وكادت إطاراتهم أن تغوص في رمل ناعم أكثر من مرة، لولا أن تنبه مروان في اللحظة الأخيرة، ودفعه السيارة للخلف باحثا ً عن أرض أكثر تماسكا ً.
وعندما غابت الشمس عادوا إلى المخيم، ومع آخر غياب للشمس كان الأذان يرتفع بصوت عبدالعزيز مع لمعان المصابيح الكهربائية وهدير المولد.
* * *
صلوا المغرب، وبدأ مروان بطقوس إعداد القهوة، فيما جلس البقية على الزولية مستمتعين بالحديث على أنغام طقطقة الأخشاب وهي تتغلف باللهب، عندما لمع البرق جالدا ً صفحة السماء بسوطه ذي الشعب، ثم أعقبه هدير رهيب للرعد، غاصت في جوفه تكبيراتهم.
وبدأت السماء تمطر مطرا ً بدأ خفيفا ً قبل أن يبدأ بالهطول بقوة تصفع خيمتهم وتغسل الأرض، فيما انسحبوا بسرعة وهم يجرون زوليتهم خلفهم ليحتموا بسقف الخيمة المبطن، حتى مروان ترك قهوته تبرد على النار المنطفئة وتختلط بماء المطر.
وقفوا تلقاء الباب يتأملون الأرض وهي تتلقى القطر بشراهة، ثمة جعل يهرب إلى مخبئه وقد أفزعه الماء، والمصابيح يزداد لمعانها وهي تهتز مع أسلاكها برقصة مطرية.
استمر المطر يهطل وإن عاد خفيفا ً، وعندما داعبهم النوم، قنعوا بأن يأكلوا طعاما ً معلبا ً ويأووا إلى فرشهم على وشوشات الماء الذي ينقر على نسيج خيمتهم، وعندما غاب آخرهم في لجة النوم، كان آخر ما علق في ذهنه، صوت القدر الملقى في الخارج والماء يزبد على حافته ويفيض ليختلط مع تراب الأرض ويغور إلى الأعماق.
* * *
عندما نهضوا لصلاة الفجر كان المطر قد توقف، ولكن الرطوبة والماء يملأن ما حولهم، توضأ أحدهم من ماء المطر الذي احتجزه القدر، وقد بدا صافيا ً زلالا ً، ثم صلوا وعادوا يواصلون النوم.
وكعادته نهض حمد مبكرا ً، خرج ليجد الشمس محتجبة خلف السحب، والظلام يكاد يعتم الرؤية، أبدل ملابس النوم وخرج على الجوع غائصا ً في الوحل، تجاوز المخيم ومر من بجانب الأثلة التي كانت أغصانها تنقط الماء بعد حمامها الموسمي.
عندما وصل الشعيب، رأى الماء يجري فيه مهتاجا ً، مكسوا ً بلون التراب، سار بجانبه وهو يتأمل الماء الطافح بالأعشاب والأوراق والحشرات التي تعوم ثوان ٍ ثم تغوص ثم تعود للطفو وكأنها تصارع للنجاة.
قصد أضيق نقطة من الشعيب، وألقى جذعا ً جذبه خلفه أمتارا ً، وبخطوتين رشيقتين عبر الجذع المهتز إلى الجهة الأخرى في مغامرة غير محسوبة.
عرج على قرية للنمل رآها بالأمس، فوجد النمل يكد ليصلح ما فسد بالأمس، يعرض حبوبه للشمس المحتجبة حتى تجف، أقعى لحظات يتأمل دئبهم، وابتسم عندما طاف بذهنه منظر أصدقائه وهم نائمون فاغري الأفواه واللعاب يسيل من بين شدقي أحدهم.
قصد وكره الأثير، وجده غارقا ً بالماء، وقد حطت أوراق الأشجار فملئت الأرض، دار يتأمل الأوراق وهي تهتز، والأشجار وهي تنفض الماء عنها، والحشرات وهي منهمكة بتأمين نفسها.
عندما مرت ساعة عاد وتجاوز الشعيب كما فعل بالمرة الأولى، ثم قصد الخيمة وألقى نفسه في فراشه، حاول استدعاء النوم ولكن عندما تأبى عليه، جذب من حقيبته أوراق رواية ( صفحات حب تذروها الرياح) وعاد يقرأ كلماتها على الضوء الخافت، وهو يعيد رسم حروفها في ذاكرته.
* * *
عندما تناولوا إفطارهم ركبوا السيارة وجعلوا يجوسون المنطقة الغرقى بالماء، كانت الشمس التي تخلصت من حجاب السحب قد جففت مناطق وظلت مناطق عصية وبعيدة عن أشعتها.
وعند الظهر عادوا وصنعوا لهم غداءا ً ثم حملوه وأغلقوا المخيم على وعد باللقاء الأسبوع القادم، وانطلقوا إلى روضة قريبة، تحولت إلى شبه بحيرة، جلسوا قريبا ً من الشط وتناولوا غدائهم هناك وهم يكافحون الهوام وأسراب الحشرات التي جذبها الماء.
وأمضوا باقي اليوم في التجول بالمنطقة وعندما قاربت الشمس المغيب، ودع بعضهم بعضا ً وقفلوا إلى بيوتهم كنهاية عطلة آخر الأسبوع.
* * *
ألقى حمد عدة التخييم في المخزن في الخلف ثم دخل البيت قاصدا ً المطبخ، حيث كانت أمه تعد العشاء لأخوانه، ابتسمت عندما رأته قبل رأسها وأهوى بشفتيه على يديها، وهو يردد:
- كيف حالك يالغالية؟ وكيف أبوي وأخواني؟
- الحمد لله... كلنا بخير، وشلونك أنت؟ وشلون ربعك.
- الحمد لله بخير.
- أمطرت عندكم؟
- ايه والحمد لله... أمس طول الليل وهي تمطر.
- ما شاء الله... وشلون الربيع؟
- الأرض توها إن شاء الله تزين بعد أسبوعين.
- الله يوفقكم.
ثم انتبه حمد إلى اليدين الصغيرتين اللتين طوقتا ساقه، وأخته لمى تصرخ بفرح طفولي:
- آمد... آمد جاء.
تلقفها حمد ضاحكا ً وقبلها على خدها، فيما مد يده مصافحا ً إلى أخته هيلة التي جاءت على أثرها وهي تحتضن كتابا ً دراسيا ً، وعندما انتهت الترحيبات والأسئلة سأل عن أبيه، فقالت هيلة باسمة:
- في الصومعة.
ابتسم حمد للقب الذي تسمي به هيلة مكتبة أبيه، وناولها لمى وقصد المكتبة وسلم على والده، ثم صعد إلى الأعلى بحثا ً عن أخويه عبير وسعد، وعندما انتهى من المداعبات والقبلات، دخل إلى دورة المياه ونقع نفسه في الماء الساخن، وسكن هناك وسط الأبخرة، وأغمض عينيه وأحس بتعب
شديد وخدر ورغبة في النوم.
خرج من الحمام، وقصد المطبخ حيث كان العشاء معدا ً، تناوله مع أخوته، حيث أن أبوه لا يتعشى منذ سنة كإجراء لمكافحة كرش برزت له مؤخرا ً.
عندما انتهى كان فراشه الوثير يهمس له همسات غير مسموعة، وجفناه يغالبانه، فترك أخواته اللواتي كن يثرثرن بأحداث اليومين السابقين، وعندما حط برأسه على الوسادة خطرت له فكرة.
نهض وفتح جهازه الراقد، ثم عندما ظهر سطح المكتب الذي تمثله صورة لشاطئ من جزر الأزوريس، نقر نقرتين ليفتح المتصفح واختار من مفضلته منتدى ( أقلام بلا اتجاه).
جعل يفكر وهو يراقب المنتدى، ويتجاوز شروط التسجيل بمعرف له، ثم توقفت عيناه عند المؤشر الراقص، والعبارة التي تطالبه بإدخال اسم مستخدم، حدث نفسه، أريد اسما ً جميلا ً، اسما ً معبرا ً وغير تقليدي، غامض، يعبر عن شخصية متوازنة، ذكية.
توافدت إلى ذاكرته مجموعة من الأسماء رفضها كلها، كان ذهنه مجهدا ً، أحس برغبة شديدة في النوم، فكر في إرجاء التسجيل إلى الغد، ولكن فجأة لمع في ذهنه اسم ( ضوء في آخر النفق)، كتب الأسم بسرعة، لحظات ثم ظهرت أمامه العبارة الشهيرة ( ضوء في آخر النفق شكرا ً لتسجيلك سيتم إرسال.......)، أطفأ الجهاز وغاب في عالم الأحلام.
.. نهاية الفصل الثاني ..
goree
28-03-2008, 08:22 AM
http://www.al-anwar.net/fasel/Alhawe_Graphic_com_Line%2520(13).gif
ربي يسعد قلبك امونه
ماننحرم منك يالغلا
http://www.al-anwar.net/fasel/Alhawe_Graphic_com_Line%2520(13).gif
goree
~أصداف~
18-04-2008, 12:30 AM
الفصل الثالث
عندما استقبل الجهاز كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساءا ً، كان قد عاد للتو من عند أصدقائه، تساءل وهو يخلع ملابسه عن كنه هذا اليوم الذي مر سريعا ً.
تفقد بريده الألكتروني بسرعة ثم قصد المنتدى، فرح عندما وجد أن هناك فصلا ً جديدا ً من ( صفحات حب تذروها الرياح) لابد أنه نزل خلال عطلة نهاية الأسبوع عندما كان في البر، فتحه في صفحة جانبية، ومضى يتفقد القصص الأخرى محتفظا ً بما يعجبه.
عندما انتهى قطع الإتصال، ومر بسرعة على القصص التي فتحها، محتفظا ً بالفصل الرابع من رواية الصفحات للآخر، وعندما لم يتبقى إلا هي نظر إلى الساعة، كان قد بقي على موعد نومه الساعة إلا ربع، نهض إلى المطبخ وأحضر له عصير ليمون، وأراح قدميه على حامل خاص بهما، وتراجع بكرسيه ليفسح مجالا ً لراحته، ثم بدأ بالقراءة.
كانت الرواية قد توقفت في الفصل السابق عند عزم بطلها ( خالد) على تثقيف نفسه ليرقى إلى مستوى حبيبته الكاتبة ( نورا)، وبدأ الفصل الرابع بالكلمات التالية ( هو العشق، هو الوله، هو الهوس، ما قاد خطاه التي حفظت دروب النزهات والرحلات والإستراحات إلى دروب جديدة، استنكرت قدماه الطريق الذي تدوسه، استنكر أنفه رائحة الكتب، بعد سنوات من تعود رائحة الشيشة والدخان الذي يطلقه أصدقائه، استنكرت عيناه صفوف الحروف كأنها صفوف عدو مرصوص.
عندما ولج المكتبة ذاك اليوم، ظن أن الكل يحدق به، ككلب دخل مطعما ً على حين غرة، خشي أن يخلع المحاسب السوداني العجوز نعله ويلحق به ليطرده، مضى خائفا ً يتلفت ووقف بين الصفوف، تطاولته الكتب وكاد يسقط بين العناوين الهائلة ( مأزق الثقافة العربية)، ( طرائق الحداثة)، ( المضمر في النثر العربي)، أسكرته العناوين ففر إلى قسم آخر، لتصفعه من جديد عناوين أخرى ( التغيرات السيكولوجية لدى ضحايا الحوادث)، ( دراسات أنثروبيولوجية لشعوب أفريقيا الوسطى)، فر من جديد وهو يلهث، فوقعت عيناه على لوحة كتب عليها قسم الروايات والقصص، لاذ بها ووقف في كنفها يلتقط أنفاسه، ثم رفع بصره الكسير إلى العناوين ( حفلة التيس) تيس؟ هل أخطأ؟ ربما هذا القسم البيطري، لا... هذا قسم القصص والروايات، ما الذي أتى بالتيس هنا؟ عجيب... جذب الرواية ذات الغلاف الصارخ، وقرأ اسم المؤلف ( ماريو بارناس يوسا)، أعادها إلى مكانها ومشى قليل لتقع عيناه على غلاف جميل تتصدره فتاة وقرأ اسم الرواية ( ابنة الحظ)، تناولها وقلبها قليلا ً بين أصابعه التي لم تتعود نعومة الورق ولا خربشات الحبر، راقت له فحملها ومضى يبحث عن.....).
توقف حمد عن القراءة، وتراجع ليفرك وجهه وعينيه، يا إلاهي ما كل هذا؟ لقد حملني هذا الكاتب إلى هناك، إلى عالم هذا الشاب المسكين، هذه الرواية – قال لنفسه- ذات لون وطعم ورائحة، طعمها حريف في فمي، مذاقها لذيذ، دقة الوصف واللغة تغريني، تثيرني، تهيجني.
عاد من جديد يلتهم الفصل الرابع، وعندما أتى عليه أحس بالجوع إلى مثل هذه الحروف، إلى مثل هذه الكلمات والتعابير، كيف يشقى من يملك قلم كهذا؟ تساءل، والتفاصيل... هذه التفاصيل التي تبعث في النص روحا ً، ترق... ترق فكأنما تغادر الورق لتتجسد على أرض غرفته، تداعبه وتعابثه، والسخرية المبطنة للكاتب من بطله ومن الظواهر الإجتماعية ومن أخطائنا التي نواريها عن الناس وحتى عن أنفسنا.
ولأول مرة منذ سنوات، يحس بألفة وتعايش مع كاتب، ويحس بأنه يعرف الكاتب منذ عقود، وأن الكاتب يخاطبه هو، يحكي له هو، كأن هذه الحروف صيغت لتناسب عقله، لتلامس روحه، ولأن للرواية كل هذا العمق فربما لذلك احتفى بها القليل من رواد المنتدى.
أحس برغبة شديدة في التعرف على الكاتب، مجالسته، تذكر ما أخبره إياه مروان بأن الكاتب يقطن في المنطقة الشرقية، ولكن ما قيمة المسافات مع عقل كهذا، لا تهمه المسافات، هو الذي يجتاز مئات الكيلوات ليتمدد تحت شجرة، أو ليستمتع بزهرة تتأود ونحلة تطن حولها، ألا يسعه أن يطوي الأرض ليجالس إنسانا ً أعجبه عقله؟
فتح صفحة بيضاء على الوورد، جعل يتأمل المؤشر يرقص عابثا ً فيما عقله مشحون بالكلمات، كتب ومسح، ثم كتب ومسح، ثم تأمل بقايا كلماته، ثم في النهاية وصل إلى الصيغة التالية للرسالة التي نوى إرسالها إلى ( قلم بلا اتجاه):
( عزيزي قلم بلا اتجاه
الساعة الآن تقترب من الواحدة ليلا ً وكل ما يشغل فكري هو كيف أصوغ حروفي لك، قرأت روايتك الرائعة، فوجدت نفسي أعانق كل حرف من حروفها، مبدع أنت يا سيدي، لا يتأبى عليك حرف ولا يجمح، وتنسال أحرفك إلى قلبي، سيدي وجدتك ما بين كل حرف وحرف، رأيت سحنتك تطل من بين السطور جميلة زاهية، باسمة، ساخرة، قبضت على تجعيدات حروفك وهي تكاد تفر، تمنيت أن أكون بطلا ً من أبطالك، أسير على هدى حروفك، وعندما انتهيت وقفت وتمنيت أن أعرفك، أن أحدثك، أن يسمح قلبك الذي صاغ حرفك بي كتلميذ، سيدي عرفت عنك أشياءا ً كثيرة باحت لي بها حروفك، فهل تسمح لي يوما ً بأن أعاين ما عرفت؟ هل؟
صديق حرفك ضوء في آخر النفق).
لم يتردد لحظة فتح المنتدى، وقصد الرسائل الخاصة، وألصق رسالته هناك، ثم ضغط على زر الإرسال بقوة، وكأنما يمنح الرسالة بعضا ً من مشاعره، ثم بالسرعة ذاتها أغلق جهازه وألقى بنفسه في فراشه، هاربا ً من الأسئلة والخيالات.
* * *
مضى اليوم بطيئا ً لا كسابقه، في الكلية أحس بأن المحاضرين يتلكأون في الكلام، في الشارع أحس كأن السائقين يقودون ببطء، حتى مع أصدقائه أحس بأنهم مملون ثرثارون، حتى الشمس أبت المغيب كأنها تتحدى صبره.
ولذلك عندما جلس أمام الجهاز ينتظر دخول للمنتدى، زفر بكل قوته، مطوحا ً بذاكرة اليوم كلها من ذهنه، تساءل هل تكون نهاية هذا اليوم جميلة؟ هل رد ( قلم بلا اتجاه) على رسالته؟
وجد الإجابة في صندوق الرسائل الفارغ، الذي واطىء فراغ روحه، أحس بكآبة مفاجئة تغزوه، أغلق الجهاز والنت وألقى بنفسه على فراشه وغطى وجهه.
تساءل لماذا لم يرد؟ هل يعقل أنه لم يرى الرسالة حتى الآن؟ لا... لا... مستحيل فبصفته مشرف على المنتدى، لا بد من تواجده اليومي، وهذا يعني أنه رأى الرسالة، لماذا لم يرد عليها إذن ولو بحرف واحد؟ هل هي نرجسية المبدعين؟ أم لأنه يواجه دائما ً برسائل من هذا النوع؟ لا هذا ليس عذرا ً.
أحس بالندم لتسرعه بإرسال الرسالة، لا ريب أنه يسخر مني، لا ريب أنه يظن أني سجلت في المنتدى خصيصا ً لكي أحدثه، آه من حماقتي، لقد عرضت نفسي لهذا الموقف المقيت.
ثم إنه استعاذ بالله من الهواجس والوساوس وقرر أن ينتظر فربما هناك عائق منعه من إرسال الرسالة، سينتظر إلى الغد وحينها يفكر فيما سيفعل.
* * *
عندما جلس نفس مجلسه من اليوم التالي، كان قد قر عزمه على ترك الدخول للمنتدى لآخر لحظة حتى لا تفسد يومه النتيجة، ولذلك جعل يتفقد بريده، ثم تجول بين المنتديات التي تشده وشارك في بعضها، ولكنه في النهاية لم يستطع المقاومة وقصد المنتدى.
كاد أن يقفز من الكرسي فرحا ً عندما وجد الرسالة تنتظره، فتحها بسرعة وجعل يقرأ بصوت هامس:
( عزيزي ضوء في آخر النفق
لقد كانت رسالتك الجميلة مليئة بالمشاعر الطيبة، والتي لا أظن أني أستحقها كلها، سرني أن يعجبك ما خطت يداي، ولكني توقفت أمام سؤالك الأخير وقطبت متسائلا ً عم عساي أرد عليك؟
لي رأي دائما ً ما أصدع به أصدقائي، وهو أنه بين كل كاتب وقرائه حاجز، وأن إعجاب القراء بكاتبهم مرهون ببقاء هذا الحاجز، فإذا زال رأوا النقائص البشرية التي تعمره و لا تعود كلماته كافية ليزهو بها.
عندما سألتني باختصار، هل؟ كان سؤالك يعني بالنسبة لي هو هل أفقد رأيك الجميل بي بأن أزيل الحاجز بيننا، ربما قد لا يعجبك ما تراه يا سيدي، فلذلك سؤالي أنا لك أيضا ً يبدأ بهل تريد أن تزيل الحاجز ما بيننا؟ هل؟
قلم بلا اتجاه).
تراجع في كرسيه بعدما قرأ الرسالة ليفكر بما الذي يقصده قلم برسالته؟ أي حاجز وما هي الأشياء التي قد لا تعجبه في الكاتب، هو عندما أرسل رسالته له، كان يرسلها مدفوعا ً بملامسته للروح التي خلفها، ما أراده وعناه الروح، العقل الذي صاغ تلكم الحروف وشكلها، لا لشيء آخر وليس لديه أحكام مسبقة على الكاتب أو عن شخصيته، لا يوجد في باله تصور شكلي أو أخلاقي للكاتب، كل همه أن يكون بينهما حميمية ومكان يتحدثان فيه وحدهما.
كتب ردا ً مباشرا ً على الموقع، بدون مسودة ولا تصحيح للأخطاء:
( عزيزي قلم بلا اتجاه
عندما أرسلت لك رسالتي تلك كنت مدفوعا ً بحلاوة كلماتك، ونقش حروفك، لم أتوقف للتفكير بحواجز بين الكاتب والقارئ، ولا أرى لها لزوما ً، ولم أفكر بأن هناك تصورات سوف تتغير لو تواصلنا، سيدي أنا لازلت عند طلبي، يحق لك القبول كما يحق لك الرفض، ولكني أردت أن أكسب صديقا ً أعجبني عقله، فإن أحببت أن نتحاور ونتحدث ولم يسبب لك هذا حرجا ً فهذا بريدي دونك، وبإمكاننا الحديث على المسينجر، وندع للأيام إزالة الحواجز.
وشكرا ً لتفهمك.
-------@hotmail.com
ضوء في آخر النفق)
* * *
لم تعجبه كثيرا ً لعبة الوقت التي صار يلعبها في الأيام الأخيرة، عقارب الساعة تتحداه في كل مكان، في قاعة الجامعة، في المنزل، حتى في جواله وسيارته.
حاول أن يتجاهلها وأن لا يفكر بالساعات القادمة، وأن يعيش لحظته، ولكن علة الترقب صارت تكوي عقله، تساءل عندما استوى على الكرسي في إحدى القاعات الضخمة، عما عساه يكون هذا الرجل، كم عمره، ماذا قرأ؟ ما هي تجربته؟ من الذين أثروا به؟ من هم كتابه المفضلون، هل سخريته هذه التي تطفح من كتاباته تواري وجعا ً كما يتبجح بذلك الساخرون، لم يردعه في الإسترسال في أفكاره، المحاضر العجوز ذو الصوت الخافت الذي دخل وبدأ بإلقاء محاضرته، كان من ذلك النوع من المحاضرين الذين لهم صوت منوم، ومحاضراتهم لا تعدو سردا ً لما حواه الكتاب، فلذلك كان عقله كثيرا ً ما يبحر في القاعة الخافتة.
عاد من جديد محاولا ً رسم صورة لصاحبه الغامض، تخيله بدينا ً يتنفس بصعوبة، أبيضا ً وله لحية خفيفة على الخدين، في عينيه بقايا حزن والتماعة، صموت لا يتكلم وإذا تكلم جاء صوته خافتا ً خجولا ً.
تخيله يجلس في غرفة صغيرة مهملة، تساقط بعض طلاء جدرانها، وبين يديه ورقة مخططة وقلم رخيص قد ضاع غطاءه، وهو يكتب بدون مسودة وبدون أن يمحي شيئا ً، كما قيل أن شكسبير يفعل.
أنقذه من تخيلاته التي طالت كل دقيق من حياة صاحبه نهاية المحاضرة، فخرج مهرولا ً كأنما يهرب من الوقت ومن عقله، بحث عن مروان، فوجده في الكافيتريا يرضي بطنه بجاتوه وقهوة مرة.
جذب كرسيا ً وجلس بجانبه وهو يقول:
- وين الناس؟ ورى ما حضرت المحاضرة.
- ههههه، هذا اللي ناقص، أي محاضرة الله يخلف؟ عسى مهيب محاضرة اللي يكلم نفسه.
- ههههههههه، استغفر الله، ما أحد يسلم منك؟
- لا... من جد عطني وش استفدت من المحاضرة.
- طيب... كلامك صحيح، على عيني ورأسي، المهم اتركنا من المحاضرة، وقلي وش الأخبار؟
- أبد... لا جديد، الجديد عندكم.
- شفت الفصل الرابع من ( صفحات حب تذروها الرياح)؟
- هههههههه، أشوف هالمنتدى صار عيشة لك، كل ما شفتك قعدت تغثني فيه، ياليتني ما علمتك عنه.
- هههههههه، أقول تراك أزعجتني، كأن المنتدى منتدى أبوك، هذي مشكلة القروي لا عرف شيء يبدأ يتمنن.
- المهم، وش فيه الفصل الرابع؟
- قريته؟
- لا... ما فضيت، قاعد أكتب قصتي بنزلها في المنتدى.
- هههههههه، أنت تكتب قصة؟ ههههههههه، حلووووووة، من جدك؟
- ايه وش فيها، حاقرني؟
- هههههههه، لا... لا... ولا شيء، غربل الله أبليسك من متى وأنت تكتب قصص، اه بطني بيوجعني من الضحك، وقصتك هذي وش عنه؟ عن بطوط؟
- بط الله بطنك، على الأقل أنا لو أكتب أسوأ قصة في العالم، بتصير أحسن من خواطرك اللي أنت تكتبها، قال ايش ( أنين الصمت يحكي حكايتي والحزن يسربل قلبي) أقول بلا يسربل بلا خزعبلات، على هالخواطر اللي أنت تكتبها ما باقي إلا تحط بكلة وروج ونبدأ نناديك حنان.
- أح... أح... هالحين خواطري صارت ما هي زينة، مهوب أنت أول واحد كان يشجعني.
- أنا ما شجعتك عشان سواد عيونك، أنا مشجعك عشان تزوجني أختك هيلة.
- هل الله بطنك، أطلب ربك، ما فيه أمل، أصلا ً هيلة ما تنزل لراعي بران مهبول مثلك.
- راعي بران، الحين أنا صرت راعي بران، الوعد يوم الأربعاء، إذا ما جيت تمشي مليون للمخيم.
- المهم، لا توجع رأسي، قصتك تتكلم عن ايش؟ لا تصير مكررة مثل هالمنتديات، كلها واحد يحب وحدة، الإختلاف بس بالمسميات.
- لا... لا... اصبر وتقرأها بنفسك وبعدها بتعرف إنك ظلمتني وأن الفصل الواحد منها يساوي كل خواطرك.
- طيب... نشوف.
* * *
انقضى اليوم بتعبه وكده، وعاد من عند أصدقائه، ككل يوم حتى كاد أن يكون روتينا ً قاتلا ً، استحم ليغسل أعضائه التي بدت مشدودة متوترة كقوس صياد، وعندما استرخى بدنه وعقله، قصد الجهاز وما هي إلا لحظات عاد يسمع الصوت الرتيب الذي يطلب اتصالا ً بالأنترنت.
قصد المنتدى مباشرة فلم يجد جديدا ً، سحب نفسا ً عميقا ً وقصد المسينجر، جعل يتأمل مؤشر المسينجر الذي يمثل شخصين يدوران حول نفسيهما، دارا... ثم دارا... ثم دارا... ولم تفتح أمامه الشاشة إلا عندما كادا يسقطان دائخين من الدوار.
وعندها ظهر له ما انتظره طوال اليوم، طلب الإضافة، ومن دون حتى أن يتحقق أو أن ينظر إلى حروف البريد اختار الموافقة، واتخذت علامة الرجل مكانها وسط صف الأصدقاء، كان لونها أحمر قان ٍ دلالة على أن صاحب البريد ليس متصلا ً الآن.
قام بحضر جميع أصدقائه وهو يدافع تأنيب الضمير، لم يكن يريد أن يشغله عن حواره المرتقب شاغل، كانت لديه اسئلة كثيرة، رغبة شديدة في أن يعرف كنه هذا الإنسان الذي يستتر بظلال الحروف.
مضى الوقت حتى يئس أو كاد، وهو يعلل نفسه بالتنقل بين المنتديات والمواقع، وكان على وشك الرحيل عندما جاء الفرج بالكلمة التي طالما انتظرها ( قلم بلا اتجاه قد سجل دخول)، أمسك أعصابه بقوة، لم يكن يريد أن يظهر لهفته ولا انتظاره.
مرت لحظات ثم بزغت كلمة ( السلام عليكم) لتنهي عطشه، تأنى قليلا ً ثم كتب رد التحية بأحسن منها، انتظر قليلا ً:
- ضوء؟
- نعم، هلا بك أخوي قلم، اسمي حمد.
- أهلا ً وسهلا ً أخوي حمد، أنا سعد.
- هلا والله، وشكرا ً جزيلا ً على لطفك وكرم أخلاقك، وبصراحة أنا بعد ما قرأت حروفك كان عندي رغبة كبيرة في إني أتعرف عليك.
- شكرا ً أخوي، من ذوقك.
- إلا ما قلت لي كم عمرك أخوي حمد؟
- ليه؟ هل العمر يفرق كثير بالنسبة لك؟
- لا...لا... لكن قصدي التعارف عرفنا الآن الأسماء وبعدها ممكن نتعرف أكثر حتى يكن حوارنا واضح، عموما ً أنا عمري 22.
- أنا 19 أصغر منك.
- مو كثير، من الرياض؟
- ايوه، وأنت من الشرقية.
- ما شاء الله... وايش تعرف عني بعد؟
- ولا شيء، بس إنك من الشرقية.
- اها... اليوم بحثت في المنتدى عن مشاركات لك ولكن للأسف ما حصلت شيء، كنت حاب أعرف أشياء عنك من كلماتك.
- لا... أنا جديد في المنتدى، يعني مالي إلا كم يوم مسجل، لكن عندما قرأت قصتك، أحسست أنه وراها أديب حقيقي، مو مجرد هاوي يكتب لمجرد الكتابة.
- شكرا ً لإطرائك حمد، والحقيقة أنا اكتب من سنوات، يمكن هذا هو اللي ساعد على انه تكون كتاباتي نوعا ما ً جيدة.
- جيدة... حلو التواضع، لكن الواقع أن كتابتك لها مذاق خاص، إلا بصراحة ما فكرت تنشر رواية.
- بصراحة لا، وما أفكر حاليا ً بالشي هذا ولي أسبابي، وبعدين السؤال يرجع لك، أنا بناءا ً على رسالتك أجد عندك لغة سليمة وقلم جميل، ومع ذلك ما أشوف انك نشرت شيء.
- بصراحة أنا مجالي الخواطر، وصعب إني أكتب رواية.
- ليه؟
- الرواية تحتاج إلى فكرة، وأنا كل اللي عندي حروف، أنا أقدر أشكل الكلمات على كيفي، لكن الرواية محتاجة أكثر من الحروف، محتاجة هدف، بطل، أحداث، حوار، أشياء كثيرة ما أجدها في نفسي.
- طيب، هذا ما يمنع أنك تجرب، وبعدين الفكرة او القصة تجي بشكل تراكمي، تبدأ بسيطة وتظل تتغير وتتبدل مع المضي في الكتابة، قليل من الكتاب اللي يكتبون الرواية وهم عارفين بالضبط كل أحداثها، بالعكس تلاقيهم يعدلون على الأفكار أثناء الكتابة، عموما ً أنا الآن مضطر للخروج مسرعا ً، ولكن بيننا موعد آخر، لندع هذا اللقاء كلقاء تعارف بينما يكون لقاءنا التالي لقاء تبادل للخبرات.
- طيب، راح أفكر في كلامك.
- ممتاز، لقاءنا الثاني يكون بكرة؟
- بكرة الأربعاء، لا... ما أظن مناسب لي، أنا بكرة وبعده بكون خارج الرياض، مساء الجمعة يناسبك؟
- تم... توصي على شيء؟
- سلامتك.
.
.
نهاية الفصل الثالث ..
~أصداف~
03-05-2008, 05:52 AM
الفصل الرابع
حمل ذكرى هذا اللقاء القصير معه إلى المخيم، وحدث نفسه بأنه ستكون هناك حوارات قادمة وجميلة بينهما، وحينها سيعرف كيف اكتسب صاحبه هذه القدرة على التقاط الفكرة، ومعالجتها بلغة ساخرة جميلة، سيتعلم منه كيف يخلق شخصياته ويبث فيها روحا ً فتدب خارج الورق كأنها أطياف للبشر حولنا، ولكن كل هذا سيكون عندما يعود أما الآن فسيفرغ نفسه للاستمتاع بالجو والأرض الموشاة بالزهور.
كانت المجموعة نفسها التي جاءت الأسبوع الماضي، ومضت أيامهم كما تمضي عادة لا مفاجئات، وعندما قفل راجعا ً يوم الجمعة كان يحس شوقا ً ورغبة في الإسراع ليحادث سعد، كما تمنى أن يكون قد أضاف جزاءا ً جديدا ً من روايته.
* * *
جلس أمام الجهاز بعد ما انتهى من تحية أهله، كان جلده لازال رطبا ً من الماء، بعد الإستحمام السريع، والوجبة الخفيفة التي تناولها أعطته شعورا ً بالرضى، وعندما دخل كان سعد موجودا ً، كتب بنقرات سريعة من أصابعه النحيلة:
حمد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حمد: مساء الخير.
سعد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلا ً أهلا ً، الحمد لله على السلامة، من طول الغيبات جاب الغنايم.
حمد: أي غنائم؟ وش قالوا لك رايح حرب، كان إنك تبي ضبان وجرابيع ممكن، هذي غنائمنا.
سعد: ههههههههه، مهوب أنت مسافر؟
حمد: لا... أنا مخيم، عادتنا أنا ومجموعة شباب نخيم كل نهاية أسبوع من يوم الأربعاء العصر إلى عصر الجمعة.
سعد: اها... وأنا على نياتي قلت الرجل شكله معتمر وإلا مسافر لديرته، أثرك تطارد ورى الجرابيع.
حمد: ههههه، إلا كيف الحال؟ وشولنكم؟ بشرنا عنك؟ نزلت شيء جديد.
سعد: بخير، تقصد الرواية؟ لا... لا... بكرة بنزل الفصل الجديد.
حمد: والله لو تدري قد ايش أنا متحمس لروايتك، كنت أفكر فيها أمس الخميس، بصراحة أعجبتني كثير.
سعد: من ذوقك.
حمد: لا من جد، حتى إني اليوم جاي وناوي افتح معك تحقيق، ههههههه.
سعد: ههههه، تحقيق؟ الله يستر في ايش؟.
حمد: أبي أعرف كيف وصلت لهالمستوى في الكتابة، لمن تقرأ؟ ولمن تكتب؟ كيف تأتي بالفكرة؟ ايش هي طقوسك في الكتابة؟ يعني أتمنى أعرف كل الأشياء التي أدت إلى أنه يكون لك مثل هذا الأسلوب الجميل.
سعد: الله... الله... كل هذا؟ لا يكون ناوي تناسبني.
حمد: ههههههه.
سعد: طيب يا سيدي، ابشر بسعدك، برد على كل أسئلتك، لكن قبل ما أتكلم بقترح اقتراح.
حمد: تفضل.
سعد: أريد أن نكتب بالفصحى، لأنها لغة التفكير بالنسبة لي، والكتابة بها أسهل، فما رأيك.
حمد: طيب... أقصد حسنا ً.
سعد: ههههههه، عادي خذ راحتك لا تحمس بعدين يجيك شد وابتلش فيك.
حمد: لا تخاف علي، المهم أنت تكون مرتاح وأنا ماراح أقطع استرسالك، لكن لو سمحت لي بوقفك بين فترة وفترة حتى أسألك استيضاحا ً.
سعد: جميل، من أين أبدأ؟
حمد: أولا ً لمن تقرأ؟
سعد: برأيي أن هذا السؤال ليس مهم كثيرا ً، صحيح أن أفكار الكتاب التي يبثونها في كتبهم قد تؤثر على الإنسان وتعيد صياغة تفكيره، ولكن الأهم هو ما الذي أقرأه وكيف أقرأه.
حمد: اها.
سعد: بالنسبة لي القراءة تعدت مرحلة البحث، فالقراء عادة أنواع هناك القارئ الباحث عن المعلومة والقارئ المستمتع، والقارئ المتذوق، وأنا أصنف نفسي من الصنف الأخير.
حمد: ما فهمت هذا التقسيم، ممكن توضح.
سعد: حسنا ً، القارئ الباحث عن معلومة، لا يهمه كاتب بعينه وإنما هو يدور بين الكتب باحثا ً عن معلومة محددة، أو موضوع محدد، وقد لا يخرج من عشرات الكتب إلا بصفحات معدودة.
سعد: أما القارئ المستمتع فهو القارئ الذي يقرأ في لون واحد أو أكثر من ألوان الكتب لا يجاوزه، فهو مثلا ً يقرأ في الشعر فقط، أو يقرأ روايات، بمعنى أنه قارئ انتقائي يقرأ ما يعجبه فقط، ولاتهمه المعلومة بشكل أساسي.
حمد: والقارئ المتذوق؟
سعد: القارئ المتذوق، هو القارئ الذي عقد صلحا ً مع الحروف، فلم يعد يهمه ما يقرأ فهو يقرأ ويخرج من كل ما يقرأ بمفيد، أعطه رواية، كتابا ً سياسيا ً، كتابا ً نقديا ً، قصيدة، كتابا ً فيزيائيا ً يخرج منه بفائدة، ويفلسف الكتاب بطريقته الخاصة، أنا هذا الرجل.
حمد: ما شاء الله... لا إله إلا الله، يعني انسان موسوعي.
سعد: ههههه، لا ليس بهذا المعنى، القارئ الموسوعي يهدف أولا ً لجمع المعلومة، فقراءاته تكون مركزة بعكس القارئ المتذوق فهو علاقته مع الحروف تتعدى إلى علاقة صداقة، فهو لا يهمه قدر ما عنده من المعلومات بقدر ما عنده من الروح التي اكتسبها والعقل الذي تفتح.
حمد: يعني كذا أنت تقرأ في أكثر من مجال.
سعد: بالضبط، أنا أفضل النظرة الشمولية للحياة، فلذلك لابد حتى تفهم الأحداث التي تقع حولك، لابد أن تكون لديك معرفة بدوافع الأحداث، سواءا ً كانت دينية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، وعندما تأتي تكتب تستفيد من هذه المعارف في كتاباتك.
حمد: ممتاز، طيب كيف تفيدك هذي الأشياء في كتابة الرواية؟
سعد: عندما تكون نظرتك للواقع شمولية وفهمك للدوافع مبني على تعدد المسببات، فأنت تقدر تعطي أبطالك ورواياتك الأسباب الواقعية للتصرفات، ويصبح أبطالك ليسوا مجرد حبر على ورق أو اسماء مجردة، بل تحس بأنهم موجودين على أرض الواقع وربما يقطنون البيت المجاور لبيتك.
حمد: لمن تكتب؟
سعد: للقارئ بكل أنواعه، للقارئ المثقف الذي يقرأ ما بين سطوري، للشاب الحالم، للفتاة التي تفتش عن كلمة حب، للمقهورين وللسعداء، للضاحكين والباكين.
حمد: جميل، ولكني تحدثت عن كتاباتك مرة مع أحد أصدقائي، وقال لي إنك كاتب رائع ولكن أسلوبك متعب وفلسفي وفوق مستوى القراء، وهذا يعني أنك تكتب لفئة معينة.
سعد: هل أطلعت على بريدي؟ هههههه، يا عزيزي لو أطلعت على بريدي لرأيت أن كثيرين أرسلوا لي يمتدحون ما أكتبه ويسألونني عن رأيي في مواضيع شتى، أنا أرى أن ما أكتبه في المنتدى محاولة للتغيير، تغيير نمط كتابة الرواية الشعبية، ولي منهجي في ذلك.
حمد: لحظة... لحظة... ايش... أقصد ماذا تعني بالرواية الشعبية وما هو منهجك في تطويرها.
سعد: الرواية الشعبية يا عزيزي ما تراه أنت الآن على جنبات المنتدى، روايات كثيرة جدا ً، الكل يكتب الرواية بدون استثناء، حتى الذين لا يلمون بأصولها وطبعا ً النقاد الآن منصرفون عن هذه الروايات، لماذا؟ لأنها مليئة بالغث ولغتها مغرقة في العامية، والكثير منها لا يستوفي شروط الرواية، ولكن عندما نقوم نحن بمقاربة هذه الروايات إلى الروايات المنشورة، سنحصل على رواية شعبية قادرة على المنافسة والوصول للجميع، ثم إن هناك تجارب جميلة جدا ً، وروايات خرجت من نطاق الانترنت بعدما صقلت بالتجربة.
حمد: ولكن هذا صعب يا سعد، لأنه أكثر كتاب الروايات في المنتديات هواة، هذا أولا ً وثانيا ً رواياتهم يا أما نسخ مكررة من بعض أو هزيلة وضعيفة.
سعد: هذا في الوقت الحالي لحداثة التجربة، ولأننا ما زلنا في البداية، إذا الانترنت نفسه لم يمض على وجوده إلا بضع سنوات، فالرواية الشعبية الانترنتية لازالت جنينا ً يتخلق وسيأتي اليوم الذي تولد من رحم التجربة والخطأ، سيأتي اليوم الذي تنتج فيه المنتديات وبالعمل الجماعي روايات قوية بإمكانها النزول للسوق، حتى أني أحلم باليوم الذي أجد فيه رواية فاخرة الطباعة على أرفف المكتبات بقلم مجموعة من كتاب منتدى ( أقلام بلا اتجاه).
حمد: رواية متعددة الكتاب؟ ما أدري لكن أحس الفكرة صعب تتحقق.
سعد: لما لا؟ تخيل مجموعة شباب أحدهم يأتي بالفكرة ثم يتعاون معه البقية في صياغتها وتنقيحها والبحث عن مصادر المعلومات لتغذيتها ورسم شخصياتها وتدقيق أحداثها، ثم يكتبونها بأسلوب جميل ولغة جماعية راقية، ويعود البقية ليقرأوها وينقحوها.
حمد: فكرة خيالية جدا ً وإن كانت حلما ً رائعا ً.
سعد: لا أدري ولكني الآن أغالب لساني حتى لا أفشي لك سرا ً، ولكن ربما إحساسي بالراحة معك، وإعجابي بك سيجعلني أفشيه لك مبكرا ً.
حمد: ما هو السر؟
سعد: لقد بدأت فعليا ً بتأسيس هذه الجماعة، بحكم أني المشرف على منتدى القصص والروايات، والآن بالإضافة لي يوجد عضوان انتقيتهما من المنتدى من أفضل الكتاب وخاطبتهما بالفكرة وقد وافقا بحماس.
حمد: معقول؟
سعد: نعم ولكن ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الأعضاء حتى نبدأ الإنتاج، أفكر بأن تكون لي أنا وأحد الأعضاء الكتابة وللبقية المراجعة وطرح الأفكار، وبهذا الشكل سيكون لدينا انتاج نفخر به، وإذا نجحت التجربة بإمكاننا أن نرتب لنشرها بشكل علني وتعميمها، وربما الظهور في برامج تلفزيونية للحديث عنها.
حمد: ما أصدق أذني هذا مثل حلم، طيب فيه إمكانية إني أنضم لهذي الجماعة؟
سعد: بصراحة أنا أفكر بالشيء هذا منذ قرأت رسالتك، ولكن كيف أقدر أقنع الأعضاء الباقين، وأنت ليس لك شيء منشور في المنتدى.
حمد: توني جديد، ما سجلت إلا من فترة قريبة.
سعد: هذا قانون العضوية الأول وهو أنه لابد أن نضم الشخص إلينا على أساسين كتاباته والأساس الثاني أن يكون مسجل في المنتدى، لأننا كيف نحكم على كتابته ونحن لم نقرأ شيئا ً له.
حمد: يعني لازم أكتب شيء وانشره بأسرع وقت.
سعد: ليس أي شيء، اكتب فصل من رواية وانشره وأنا اقنع الأعضاء بضمك.
حمد: طيب... راح أبدأ من اليوم، بصراحة أنا هذا مثل حلم لي، طيب... يا خي ضيعت صرت أخلط عربي على عامي على أردو، حسبي الله على عدوك أنا تحمست وضاع الكلام.
سعد: ههههههههه، خذ نفس وركز أفكارك.
حمد: طيب... الآن كيف راح تكون الجماعة هذي، وكيف راح تكون اجتماعاتكم، ومن الأعضاء فيها.
سعد: الأعضاء لن أكشف لك أسمائهم حتى تنضم لنا، أما الجماعة فسيكون مركزها الرئيسي المنطقة الشرقية لأنه حتى الآن هناك عضوان أنا وآخر من الشرقية، والعضو الثالث أو على الأصح العضوة من الرياض، أما الاجتماع فسيكون مرة في الشهر بالإتفاق، وحضوره إلزامي للشباب، أم البنات فحضورهن سيكون صوتيا ً فقط عن طريق التلفون.
حمد: ممتاز، وكيف سيكون العمل؟
سعد: سنبدأ أولا ً بطرح القصة والنقاش حولها ورسم تسلسل حوادثها الزمني، وشخصياتها، وبعد الإتفاق على ذلك نقوم برسم الشخصيات وتحديد معالمها، ثم بعد ذلك نجري الأبحاث الخاصة بوقائع الرواية وأماكنها، مثلا ً لو فرضنا أن الرواية تدور في العصر العثماني، فعندئذ ٍ لابد من أن نلم بالأماكن والحياة اليومية في ذلك العصر والأزياء وغيرها، وبعد هذا كله نبدأ بالكتابة، وبعدما ننتهي تأتي مرحلة المراجعة والتنقيح، ثم القراءة النهائية والإتفاق على الرواية وفي الأخير طرحها للطبع ونشرها.
حمد: فكرة عظيمة جدا ً، ولكنها تحتاج جهدا ً كبيرا ً.
سعد: وعمل جماعي، اليد الواحدة لا تصفق.
حمد: طيب، لماذا عدد الأعضاء محصور بخمسة، لماذا لا تطرح الموضوع في المنتدى في إطار مشروع ضخم يساعد فيه كل كتاب المنتدى، ويتم طرح الرواية بإسم المنتدى؟
سعد: فكرت بهذا الشيء في البداية، ولكن كما قلت لك أكثر كتاب المنتدى الآن من الهواة، والعمل بالشكل هذا سيتشتت، ثم إن الرواية العامة تكون مفضوحة ولا فائدة في طرحها للسوق، لأن بوسع أي شخص قرائتها من الموقع مباشرة.
حمد: صحيح، ولكن باب الإنضمام للمجموعة مفتوح.
سعد: أكيد، لو مثلا ً بدأنا بكتابة الرواية ثم ارتأينا أنه هناك كاتب في المنتدى سيفيدنا فإننا سنخاطبه ونحاول الإستفادة منه.
حمد: وهذه الجماعة سيعلن عن نشاطها في المنتدى؟
سعد: لم نقرر بعد، أنا أرى التكتم على الموضوع ومفاجأة الأعضاء في النهاية، والبعض يرى نشر الموضوع حتى نزيد حماس الأعضاء ونقوي المنتدى ونجذب الكتاب الذين قد يرغبون بالإنضمام للجماعة.
حمد: بصراحة يا سعد لقد قلبت أفكاري.
سعد: حلم جميل أليس كذلك؟
حمد: جدا ً
سعد: حلم يتحقق بإذن الله.
حمد: طيب... وش الصعوبات التي تتوقع تواجهنا؟
سعد: في البداية، سنواجه صعوبات في الإنسجام بين الأعضاء ومحاولة التفكير كواحد، مشكلة التكاسل التي ستصيب البعض بعد ذهاب فورة الحماس في البداية وخصوصا ً في المشاريع الطويلة مثل هذا.
حمد: وكيف يتم التغلب على هذه المشاكل؟
سعد: كل شيء في وقته حلو كما قيل، ثم إن تقسيم العمل يساعد نوعا ما في حل مشكلة البطء، وبإمكاننا الحفاظ على فورة الحماس لو قمنا بتقسيم العمل إلى مراحل ونفذناه بشكل متتابع بحيث يحس الجميع بالإنتاجية ويتحمسون للنهاية.
حمد: جميل جدا ً.
سعد: وأتمنى أنك تكون معنا في العمل هذا.
حمد: بإذن الله، سأبدأ من اليوم بالكتابة، الله يعنني على البحث عن قصة مناسبة.
سعد: حمد أنت لغتك جميلة، كل ما تحتاج إليه هو التركيز على الأفكار، حاول تبحث عن فكرة غريبة، وتعالجها بأسلوب جديد وستنجح بإذن الله.
حمد: يعين الله.
سعد: طولنا عليك.
حمد: بالعكس هذي أبرك الساعات والله.
سعد: الله يسلمك وننتظر جديدك.
حمد: خير إن شاء الله.
سعد: توصي شيء؟
حمد: سلامتك.
سعد: في أمان الله، مع السلامة.
حمد: مع السلامة.
* * * * * * * * *
نهاية الفصل الرابع ..
~أصداف~
03-05-2008, 05:53 AM
الفصل الخامس
أشعلته تلك المحادثة مع سعد، فلم يستطع النوم ليلتها، كان عقله يعمل بأقصى سرعة، يفكر بمشروع سعد الكبير، يحلم به، يتخيله واقعا ً محققا ً، ثم يكد مخه بحثا ً عن فكرة لرواية ينافس بها كبار المنتدى.
أذن الفجر وهو بين النوم واليقظة، صلى وعاد إلى البيت وهو لا يكاد يرى طريقه من التعب، نبه أمه إلى أنه سيتغيب هذا اليوم عن الجامعة لأنه لم ينم، ثم ألقى بنفسه على السرير وغاب تحت دفقات الهواء البارد الذي كان يبثه المكيف.
عندما فتح عينيه كانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة بدقائق، نهض وتمطى ثم اغتسل وتناول شيئا ً بسيطا ً من المطبخ حتى لا يفسد غدائه، ثم عاد إلى غرفته بكوب شاي وأفكار مضطربة.
جلس أمام الجهاز وجعل يكتب حروفا ً ثم يمسحها بشرود وهو يستحث عقله بحثا ً عن فكرة جديدة، زفر بضيق ورشف رشفة من الشاي ليطرد من ذهنه مجموعة من الأفكار القديمة المستهلكة، قصص الحب مللنا منها – قال لنفسه – قصص المآسي ضج الانترنت منها وكذلك التلفاز، القصص الهزلية لا تناسب، فيما أكتب يا ترى؟
* * *
استسلم عندما أذن الظهر لعجزه ثم قام ليصلي، أحس براحة نفسية وسعة في صدره عندما ولج المسجد البارد والهادئ، وترك خلفه العالم الضاج بالحركة والأصوات، صلى ركعتين ثم أتبعهما بأخريين، قبل أن يتناول مصحفا ً ويبدأ بالقراءة بصوت هامس.
التفت عليه شيخ كبير كان يصلي بجانبه وسلم عليه، أحس حمد بخشونة راحة يده، ولكن وجهه كان سمحا ً بلحية بيضاء طويلة وتجاعيد كللت الفم والعينين، عندما عاد لقراءة القرآن تساءل عن عدد السنين التي مرت على هذا الشيخ، وعن ماذا رأت عيناه طوالها؟ وما عساه يقول لي لو سامرته يوما ً وما عساه يقص علي؟
عندما قضيت الصلاة وخرج عائدا ً إلى البيت كانت فكرة الرواية قد نبتت في رأسه، فكرة بسيطة – قال لنفسه – شيخ كبير يحكي تجاربه في الحياة، ولكن أين الإثارة؟ أمممم... دعني أرى يكون هذا الشيخ في شبابه قاطع طريق في فترة زمنية قبيل توحيد المملكة، ويقتل رفاقه في عملية فاشلة فيما يهرب هو إلى الجنوب ويختفى في الجبال، ثم... ثم ماذا؟ يتوب؟ نعم يتوب ويقرر طلب العلم ويصير معلم صبيان في قرية من القرى المنثورة على سفوح الجبال ثم يتزوج ثم... ثم يحس بالحنين إلى دياره فيعود غريبا ً ومعه عائلته، ثم... ثم يموت أحد أبنائه بمرض فيما يدخل الأبن الآخر المدرسة النظامية الجديدة ويبتعث للخارج، والأبن الأصغر يصبح ضابطا ً كبيرا ً، لحظة... لحظة... الشيخ هو بطل القصة وهو الذي يجب أن أركز عليه، ما شأني بأبنائه، حسنا ً... من جديد، قلت قاطع طريق ثم يتوب ثم ماذا؟
كان قد وصل البيت وهو يعالج الأفكار والهواجس، أسرع قاصدا ً جهازه حتى لا تطير الكلمات منه، حسنا ً... لا بد من بداية قوية، الحروف الأولى من الرواية هي التي تجذب الناس غالبا ً.
برقت الحروف فجأة في ذهنه كأنما انجابت عنها ظلل من السحاب كانت تحجبها، وبدأت أصابعه وكأنما أصابها مس فبدأت نقرها على لوحة المفاتيح يتسارع ويكتسب نغمة بعث الحروف:
( تلوى جهز في الرمل كصل كبير وهو ينطلق لتنفيذ أوامري، فيما لزم طراد مكانه منطرحا ً على الأرض مترقبا ً لإشارتي، عيني تسبران الركب الذي بدى في الأفق، قافلة... قافلة بعد كل هذه الأيام من الجوع والمسغبة.
كمنا خلف عوشزة موحشة كرأس غول، يدي تقبض على البندقية، وجهز مازال يتلوى زحفا ً كالموت النازل، والقافلة تقترب حتى صرنا نسمع صوت حاديها، وثغاء أغنامها، وبكاء أطفالها.
وعندما استدبرهم جهز، أحكمت التصويب ثم في لحظة برك البعير الذي يحمل المتاع وهو يهدر بعدما ثقبت عنقه رصاصتي، بدأ طراد وجهز يطلقان النار، وأفعمت الجو رائحة البارود، وكسى الدم الأرض وتناثرت أمتعة القافلة.......).
تحلب ريقه من الإثارة، وبدأ يحس بهبات السموم وهي تحثي عليه الرمال، وبدأ يسمع هدير الجمال، وقعقعة السلاح، ورائحة البارود، ويكتنفه الليل الصحراوي القارس.
انتشله صوت أمه وهي تدعوه إلى الغداء من خيالاته ، فنزل وجلس على السفرة شاردا ً، يستمع إلى أحاديث أبيه مع هيلة وملاعبته للمى، وثرثرة أخيه سعد التي لا تنتهي، ووشوشات عبير في أذن أمه بطلبات مكررة، أما هو فليس هنا، هو هناك خلف الآكام والآطام، يفترش الرمل ويتكئ على الصخور، ويشارك نزال وطراد وجهز الأكل من خبز منضج بالرماد ولبن حامض.
- هيه، وين وصلت؟
نبهته أمه من شروده، فقالت هيلة ضاحكة:
- وصل البر أكيد.
أغضى عينيه عن ابتسامات أخوته وأبويه، وضحكات لمى التي لم تفهم شيئا ً بالطبع ولكنها تضحك لضحكهم، تناول طعامه بسرعة ثم فر إلى غرفته.
* * *
مساءا ً، بكر بالعودة من عند أصدقائه، فتح الصفحات القليلة التي كتبها من روايته وجعل يتأملها ريثما يتصل بالانترنت، عاد له عبق التاريخ، وأطياف الماضي البعيد، مائة عام انقضت على التاريخ المفترض لروايته، نزال وطراد وجهز بدوا له كأشخاص حقيقين قابلهم وجالسهم، وربما طلبوا منه أن يساعدهم في قطع الطريق على قافلة.
عندما اتصل أخيرا ً بالانترنت قصد المسينجر أولا ً، وعندما لم يجد سعد هناك، قصد المنتدى وكاد أن يقفز من الفرح عندما وجد الفصل الخامس لرواية ( صفحات حب تذروها الرياح) يتصدر الموقع، حفظ الفصل على سطح المكتب، وقطع الإتصال وبدأ يقرأ بعدما قام بطقوسه من إحضار مشروب وإطفاء النور.
بدأ الفصل ببيت شعر (
فهل غرك ِ أن حبك ِ قاتلي /// وأنك ِ مهما تأمري القلب يفعل ِ
آه... آه... يا امرؤ القيس هل كابدت الذي أكابده - لا أظن - يا امرؤ القيس كنت أنت ابن ملك وشاعرا ً مرغوبا ً، وكنت... وكنت، مما يرغب فيك حبيبتك، أما أنا؟ فما أنا إلا سجين للحروف التي أرجو فكاكها، غريق في تقاسيم الكتب التي صار جسرا ً إلى قلب الحبيب.
كنت أظن في أيامي السالفة السعيدة قبل أن يخترقني سنان الحب، أن البنات لا ينتظرن إلا فارسا ً يأتيهن ممتطيا ً فرسا ً أبيضا ً، حتى وقعت في غرام من أجبرتني على امتطاء الكتب؟ وسلكت طريق الحب وعرا ً وطفقت أدافع الحروف وأستبطن النصوص وأستذوق المشعور والمنثور، وأمضي طويلا ً... طويلا ً... أبتغي في تعاريج القوافي سبيلا، بوقت شحيح وفكر يشب قليلا ً... قليلا ً.
تمر بي أيام يأس أطوح فيهن بالكتب، وأشتم الكاتب وما كتب، ثم أصفق الباب خلفي وأمضي لألف الشوارع شريدا طريدا، وعندما أعود ليلا ً أجد صفحات الكتب تلمع في الظلام التماعا ً وئيدا، ابصر فيه التماعة ثغر الحبيب عندما يتدفق منه الكلام قصيدا.
الآن عرفت أني سأعض أصابعي يوما ً ندامة ً، وأنه سيأتي يوم سيكون لزاما ً علي فيه أن أجمع أشتات عواطفي وأرحل، ولكن بعدما يكون حبها قد خالط مني الشغاف، وأكون بعدها قد عفت كل النساء.
اليوم بكيت، نعم أقولها هكذا وبكل بساطة بكيت كطفل غرير، رغم مرور سنوات طويلة على بكائي لآخر مرة، منذ غادرت عهد الطفولة المندرس وفتلت طوالع شارب يخط علامة الرجولة، تسألني ما الذي أبكاني؟ الذي أبكاني فصل من كتاب.
لا تضحك... لا تضحك... أرجوك، لا تزد ضغثا ً على إبالة، القصة وما فيها أني كنت أتحدث مع نورا، فذكرت لي كتابا ً أعجبها كثيرا ً، فتحمست وطلبت منها اسمه لأقرأه، لا حبا ً في الكتاب ولا الثقافة، وإنما فقط لأمر بعيني على السطور التي مرت عليها عيناها، ولأبحث عن بقايا أنفاسها العطرة على السطور.
قصدت المكتبة، ودفعت من دم قلبي 60 ريالا ً ثمنا ً له، واحتملت صفحاته الخمسمائة، وعدت لأكتشف أي طلسم هو، قلت بهلع - عندما قرأت الفصل الأول منه بلا فهم - لا ريب أن كاتبه عجوز تسعيني كره الدنيا فقرر ذات حقد أن ينتقم من كل البشر، قرر أن يقتل البراءة في الزهور، والضحكة في الثغور، فألف كتابه هذا، وأودعه كل غامض من اللفظ والمعنى، وتعمد التحوير والإنزلاق بين السطور.
حتى غدى كل حرف أقرأه منه يجب ما قبله، فاختلطت علي الحروف وأصبت بالدوار، فأرجأته إلى الغد وعزوت عدم فهمي إلى التعب وقلة النوم، ولكني لم أزدد في الغد إلا خبالا ً، وعندما واطئت خيبة الأمل مني ذلة بكيت، بكيت كبرياء الرجل فيني وعجزي، تخيلت موقفي غدا ً وهي تسألني رأيي في الكتاب فأتلجلج وألوك الكلمات لوكا ً، وما عساي أقول؟ بكيت قلة حيلتي وضعفي، بكيت خزيي وعاري، بكيت تمكن الحب مني وأوجاع قلبي المحتل، ثم عندما انتهيت عدت وبكيت لأني بكيت على أمر لا يستحق البكاء.
تمنيت أن تحط على نافذتي حمامة، لأقول لها كما قال الشاعر القديم:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة /// أيا جارتا لو تعلمين بحالي
ولكن أين الحمام في هذه المدينة؟ لو فتحت نافذة غرفتي لوجدت أمامي كهربائيا ً فلبينيا ً يعالج الأسلاك في العمارة المقابلة، ولو أني تجرأت وشكوت له حالي لما زاد أن قال ( هادا بابا ما بي موسيكلا... أنتا في كلام هبو بأدين هدا كويس)، ولهززت رأسي شاكرا ً له هذه النصيحة الهادفة الثمينة............)
* * *
عندما أتى حمد على الفصل، والذي كان في مجمله وصف لمشاعر خالد وتباريح حبه لنورا، أحس بكآبة وزهد في كل شيء، تخيل كيف يمكن أن يؤذي الحب صاحبه.
قام لينام، كان طراد ونزال وجهز والأبل الهائجة والليل الصحراوي، والقصائد النبطية حول النار، قد توارت خلف صورة مظلمة لشاب يحتضن كتابا ً بين يديه ويهتز ببكاء مكتوم، في بيت قديم قد نام أهله.
* * *
أمضى يومه يفكر بما قرأه، وعندما عاد ليلا ً إلى جهازه، وأعاد قراءة ما كتبه هو أحس بهزاله، قال لنفسه " فيما يعالج سعد في روايته موضوعا ً حساسا ً جدا ً بأسلوب جديد ونغمة جديدة، وينقل لنا مشاعر أبطاله بمنتهى الوضوح، أهرب أنا إلى عصر آخر وعالم آخر، إبل وصحاري وقطاع طرق، كل هذا كان هروبا ً، مجرد هروب من الواقع الذي لم أجرؤ على الكتابة عنه لأني لازلت أخاف الحديث والكتابة".
فكر أن يمسح كل ما كتب، وكاد يفعل ذلك، ولكنه تراجع في اللحظات الأخيرة، وفر إلى النت يبحث فيه عما يجن هواجسه، وهناك كان سعد بإنتظاره على المسينجر:
سعد: أهلا ً... أهلا ً.
حمد: السلام عليكم.
سعد: وعليكم السلام والرحمة، هلا والله.
حمد: مساء الخير.
سعد: مساء النور والسرور.
حمد: حسبي الله على عدوك، يا خي الفصل اللي كتبته قلبني فوق تحت.
سعد: هههههههههه.
سعد: ليش؟ وش اللي صار؟
حمد: أمس كتبت فصل، جزء من فصل لرواية وكنت أفكر أنزله اليوم، لكن بعد ما قرأت روايتك تراجعت.
سعد: ليش تراجعت؟
حمد: روايتي كانت عن قاطع طريق عاش قبل عشرات السنين وقصة حياته وغربته.
سعد: ممتاز، جميل جدا ً، ليش تراجعت؟ وايش دخل الفصل اللي أنا كتبته؟
حمد: يا خي حسيت الفصل اللي أنا كتبته تافه، وخارج الزمن.
سعد: ليش؟
حمد: أنت مثلا ً قصتك تعالج موضوع مهم وهو العلاقات عن طريق النت أما روايتي فأيش تعالج؟ موضوع قطاع الطرق المهم؟
سعد: هههههههههههههه.
حمد: من جد، حتى قبل شوي كنت بمسح اللي كتبته.
سعد: أعقل بس، لا تمسح شيء بالعكس أنا أعجبني موضوعك ويهمني أقرأه.
حمد: كيف أعجبك؟
سعد: هذا نوع جميل من كتابة الرواية وصعب جدا ً... جدا ً، وعدد الكتاب اللي برزوا فيه قليل جدا ً، أنت عارف الشيء هذا؟
حمد: أي نوع؟
سعد: هذي تسمى الرواية التاريخية، حيث الكاتب يعالج أحداث تقع في زمن ماضي، وينقل صورة دقيقة لذلك العصر بجميع أبعاده المكانية والنفسية والإجتماعية، أنت يا حمد بدأت بالصعب الذي لم نصل له حتى الآن.
حمد: لكن ما أكتبه بعيد عن الواقع.
سعد: بالعكس ما تكتبه هو الواقع بعينه، أنت عندما تكتب عن قاطع طريق عاش قبل عشرات السنين، فأنت تتكلم عن الإنسان، الإنسان عندما يخطئ، الإنسان عندما يتحول إلى مجرم ووحش، والإنسان هو هو، في كل زمان ومكان ولكن تتغير الوسائل فقط.
حمد: طيب أنت قلت صعب وين الصعوبة فيه؟
سعد: ليس صعبا ً فقط وإنما معقد أيضا ً، مثلا ً قصتك هذه، في أي عصر؟
حمد: ما قبل توحيد المملكة بقليل.
سعد: انظر إلى ماذا تحتاج حتى تكون قصتك كاملة ومرضية، أولا ً إلى معرفة الأحوال السياسية والإجتماعية في ذلك الوقت، أسماء الأمكان التي وقعت فيها الأحداث لأنه ذلك الوقت لا يوجد مدينة اسمها الرياض أو كانت موجودة ولكن ليس بشكلها الحالي.
سعد: لابد أن تعرف أيضا ً أسماء الأسلحة والملابس والأكل وأشياء كثيرة حتى تكون أمينا ً في نقل البيئة التي تدور فيها الأحداث، وأيضا ً تحتاج لتفسير الدوافع السلوكية لأبطالك بناءا ً على ظروفهم هم مو ظروفنا حنا.
حمد: الله... الله... كل هذا؟
سعد: أجل وش تحسب، مجرد تفتح الوورد وتكتب، يا حبيبي إثرك على نياتك.
حمد: يا خي أنا اكتشفت فيك خصلة.
سعد: الله يستر... وش هي؟
حمد: تحب تعقد الأمور.
سعد: ههههههههههههه.
حمد: والله... يا خي وسع صدرك ولا تدقق.
سعد: بالعكس " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا ً أن يتقنه"، الإتقان مطلوب حتى في كتابة الرواية.
حمد: بس مهوب لهالحد، أسوي أبحاث عشان أكتب رواية، وين عايشين فيه، وش قالولك بصنع صاروخ.
سعد: ههههههههههه. وليش مستهين بالرواية، أنت عارف أنه الرواية والكتابة عموما ً ممكن تأثر في الناس أكثر مما يؤثر فيهم كتاب علمي متخصص.
حمد: ممكن... لكن إذا كل من كتب رواية سوى أبحاث كان ما أحد كتب رواية.
سعد: وهذا اللي صاير الآن، أذهب إلى المكتبات يا عزيزي وأقرأ الروايات المرصوصة على رفوفها، سخافات... لا أقل ولا أكثر، لماذا؟ لأن الكاتب استهتر بالقارئ وكتب له أي كلام، للأسف أجد الروايات الغربية أكثر إتقان من الروايات العربية.
حمد: عموما ً... أنت تغلبني في هالأمور، ولكن خلاصة رأيك أن أنشر الرواية؟
سعد: أنا كان رأيي أنه اختيارك للموضوع جرئ وجديد، لكن الآن نأتي للمعالجة واللغة إذا كانت جيدة فتوكل على الله وأنشرها.
حمد: طيب عندي رأي.
سعد: ما هو؟
حمد: اللي كتبته كله ست صفحات، بكمل الفصل وبرسله لك وعطني رأيك أنشره وإلا لا.
سعد: توكل على الله، سأنتظر الفصل منك.
حمد: طيب... بطلع الآن وأروح أكمله وأرسله لك الليلة.
سعد: ما شاء الله... ما تلعب، حامي بحامي.
حمد: ههههههههههه، توصي على شيء؟
سعد: سلامتك، انتظر الفصل، ما راح أنام إلا لما أقرأه.
حمد: خير إن شاء الله... مع السلامة.
سعد: مع السلامة.
* * *
خلال الساعة التالية لهذه المحادثة، عاد حمد يتنسم رائحة الشيح والقيصوم، ويغوص في كثبان الرمال ومغاور الجبال، ويتسربل الليل البهيم، ويغير مع نزال على القوافل وينهبها.
وعندما انتهى أرسل الفصل إلى سعد، ثم أوى إلى فراشه ونام وهو يحلم بكل ما كتبه ويعيش فصوله.
* * *
عندما نهض في الصباح كان أول شيء فعله هو الضغط على زر تشغيل الجهاز، دخل ليستحم وعندما خرج طلب الإتصال بالنت وجعل يلبس ملابسه ريثما يتم الإتصال، وعندما تم الإتصال قصد بريده بحثا ً عن رأي سعد في الفصل الذي كتبه، وعندما فتح البريد كانت رسالة قليلة الكلمات بإنتظاره، كل ما تقوله هو: " انشرها يا مجنون... انشرها".
* * * * * * * * *
نهاية الفصل الخامس ..
~أصداف~
03-05-2008, 05:54 AM
الفصل السادس
أدرج الفصل الأول من الرواية، ثم أغلق النت وفر، فر من البيت ومن هواجسه، يمكننا أن نعتبر ذلك اليوم ساقطا ً من حساب أيامه، فقد كان يقوم بأعماله اليومية بحكم العادة، يمشي بحكم العادة، يذهب إلى الكلية بحكم العادة، يحضر المحاضرات بحكم العادة، لا يحاول إعمال ذهنه هربا ً من الهواجس، وإن كان يتساءل في لحظات الشرود، كيف سيستقبل الجميع الرواية؟ هل ستعجبهم؟ أم ستكون بالنسبة لهم مجرد رواية أخرى؟ لقد أعجبت سعد، ولكن ماذا عن البقية؟ هل؟ وهل؟ ثم عندما يتنبه يعاود الفرار.
* * *
عيل صبره أخيرا ً، ولذلك عندما وصل إلى البيت، قفز الدرج قفزا ً إلى غرفته، غير عابئ بأخته هيلة التي لاحقته بلسانها الحاد بعدما كاد يسقطها، ولكنه لم يسمعها، نسي كل شيء وهو يندفع إلى المنتدى ليريح قلبه.
ولكن واجهته خيبة الأمل عندما وصل المنتدى، لم يكن هناك سوى رد يتيم على روايته التي تذيلت الصفحة الأولى، وحتى عندما فتح الرد لم تواسه كلماته القليلة " مشكور على الفصل الكيووووت ونتريا الياي".
أغلق النت ونزل ببطء إلى الطابق السفلي، عندها تذكر جوعه وإرهاقه، فمضى إلى المطبخ ليخلط خيبته مع الأرز المودع في إناء محكم وقد بلله بخار الماء الذي تجمع على باطن الغطاء، تناول غداءا ً بئيسا ً، ولام نفسه على تسرعه " لو صبرت إلى الليل وأدرجت الفصل عندها لكان خيرا ً لي، لربما وجدت أحدا ً يقرأ لي، ولما قاربت قصتي الآن الصفحة الثانية، ولما اضطررت إلى استجداء الردود لها".
ثم يعود ويقول " لا... لا... سيراها سعد وسيرد عليها، أنا متأكد من ذلك، الصبر... فقط الصبر، هو كل ما علي فعله"، حاول التشاغل باقي اليوم، ذهب إلى أصدقائه كعادته وأنفق ساعاته في سوقهم الفارغ، وعندما عاد تردد قليلا ً بين فتح المنتدى وبين التريث إلى آخر الليل، ثم حسم الأمر وفتح المنتدى والمسينجر في آن واحد.
كانت الردود قد زادت اثنين، قصدهما ولكنه اصطدم بكلمات التشجيع الباهتة، " يالله أين الكتاب الكبار؟ أين سعد؟"، قصد المسينجر وهناك وجد سعد، وبنقرات متوترة كتب:
حمد: السلام عليكم.
سعد: وعليكم السلام، خلك معي لحظة حمد، معي مكالمة مهمة.
حمد: طيب.
مضت دقائق ثم عاد سعد ليكتب:
سعد: معليش حمد أنا آسف الآن، مضطر أطلع، عارف أنه ما تكلمنا حتى الآن، لكن ظرف طارئ.
حمد: لحظة... لحظة... حرام عليك أنا مولع هنا.
سعد: هههههههه، ليه سلامات.
حمد: شفت روايتي؟
سعد: شفتها وبنتكلم عنها بعدين، بكرة.
حمد: وأنا وش يصبرني إلى بكرة، ليه ما رديت علي.
سعد: بقولك بكرة ليه، وبعدين أصبر الرواية توها جديدة ولا انعرفت، المهم أشوفك على خير، مع السلامة.
حمد: مع السلامة.
قالها حمد لنفسه لأن سعد كان قد ذهب، حاول حمد تقليد أبطال الروايات بأن يعض شفته غيظا ً، ولكنه اكتشف تحت طائلة الألم أن هذه عبارة روائية لا أكثر، لو كان مروان هنا لكان عضه بكل قوته على سبيل التنفيس.
"هل سأنتظر إلى الغد؟" تساءل " يا الله... لقد كان اليوم يوما ً طويلا ً وعندما وجدت سعد في النهاية، ها هو يهرب مني، ما الذي حدث؟ لم هرب؟ هل عرض على مجموعته ضمي ورفضوا فهرب من مواجهتي؟ ربما لم تعجبهم القصة، فهي في النهاية مجموعة من الجمِال وقطاع الطرق، أف".
* * *
في الغد كانت روايته قد وصلت إلى الصفحة الثالثة وظل عدد الردود كما هو، ثلاثة ردود هزيلة الكلمات وذات حروف مجامِلة.
ولذلك عندما وجد سعد في المسينجر، سلم عليه بفتور:
حمد: السلام عليكم.
سعد: وعليكم السلام، أهلا ً وسهلا ً بالروائي الجديد.
حمد: كيف الحال؟ أي روائي جديد وكلام فاضي.
سعد: الحمد لله بخير، وين حماس أمس، اليوم بارد، ههههههههه.
حمد: والله من خيبة الأمل وضيقة الصدر، كنت متوقع ردود على الرواية على الأقل منك.
سعد: ههههههههههههه. ولا خيبة أمل ولا شيء. اسمع.
حمد: تفضل.
سعد: أولا ً عذرا ً على اللي صار أمس كنت مشغول وطلعت بسرعة بدون ما نتكلم مع بعض.
حمد: لا عادي.
سعد: ثانيا ً الفصل جميل جدا ً، لكن اصبر المنتدى مثل ما أنت شايف مليء بالقصص والروايات، وصعب الناس تميز روايتك من البداية.
حمد: اها.
سعد: وثالثا ً أنا كاتب رد على روايتك، براجعه اليوم بإذن الله وبنزله.
حمد: جميل.
سعد: ورابعا ً موضوع انضمامك للمجموعة، حتى الآن لم يتم اجتماع، أنا أرسلت للأعضاء رابط روايتك، وبشوف آرائهم.
حمد: طيب فيه ملاحظات على الفصل؟ ما فيه أحد قالك شيء عنه؟
سعد: ههههههههههههه، سبحان اللي صبرك في بطن أمك تسعة أشهر، الرواية مالها إلا يوم نازلة وتبي الناس ترد عليك وتمدحك، اصبر.
حمد: هههههههه.
سعد: وملاحظاتي على الرواية بتجدها في الرد اللي بنزله.
حمد: خير إن شاء الله.
سعد: بس شف، ترى مسوي نفسي ما أعرفك، وردي عليك رسمي جدا ً، وأنت نفس القضية كأنه ما بيننا سابق معرفة وعيش ومسينجر.
حمد: ههههههه، عشان ما حد يقول أنك واسطتي، هههههههه.
سعد: هههههههه.
حمد: طيب، انتظر ردك على أحر من الجمر.
سعد: يا جمر أنت، جمر... وبعارين وقطاع طرق، أثرك وحشي وحنا ما ندري، كنت أحسبك دلوع أمك... طلعت سفاح.
حمد: ههههههههه. المهم توصي شيء؟
سعد: وين؟ تو الناس.
حمد: بشوف دراستي اللي مهملها هاليومين.
سعد: طيب قبل لا تمشي، بطلب منك طلب.
حمد: آمرني.
سعد: إذا ما فيه إحراج ممكن رقم جوالك، لأنه أنا أحس أن علاقتنا في الأيام القادمة أكبر من المسينجر.
حمد: الساعة المباركة والله اللي تتصل علي فيها، هذا رقمي...........
سعد: جزاك الله خير وراح اتصل فيك بعدين، ما أعطلك الآن، مع السلامة.
حمد: مع السلامة.
غادر سعد حمد وهو منتشي، كيف لا؟ وسعد قد تقبله كصديق وطلب رقم هاتفه، الآن سيستطيع سماع صوته وربما جاء يوم وجالسه فيه، سيتخلص من عبث لوحة المفاتيح، وسيداخل سعد، سيصبح سعد واقعا ً مجسدا ً وليس مجرد شبح نتي، والأيام تحبل وتضع.
* * *
أخي ضوء في آخر النفق
قرأت الفصل الأول من روايتك المعنونة ب " سنوات منسية"، ووقفت متسائلا ً أمامها، هل نحن الآن نشهد ولادة كاتب مبدع، حروفك يا سيدي تبدو لي كالضوء في آخر النفق الطويل لمن أتعبه المشي وألتحف الألم.
سيدي لم تخبرنا قبلا ً بأنك ستنقلنا إلى هناك، حيث تتلوى الأفاعي على الرمل، وحيث تغوص أخفاف الجمال في الكثبان وحيث يعلو هديرها، وتلمع الخناجر في الغسق وهي تبحث عن لحم تنغرس فيه.
لم تخبرنا قبلا ً يا سيدي، لنأخذ للأمر عدته وأهبته، كنت أقرأ روايتك وأنا أرتدي ملابس النوم، فوجدتني أقف أمام نزال وطراد وجهز ووجهي يحمر خجلا ً، فيما الرياح والرمال تلسع جسدي.
أعجبني في روايتك الفكرة غير النمطية، والخيار الصعب الذي اخترته، فالكتابة عن زمن ماضي تحتاج إلى أكثر من مجرد حروف وأسطر، تحتاج إلى قراءة مكثفة ومعايشة وجدانية.
أعجبتني اللغة الشاعرية الجميلة، والوصف والذي وإن لم يلم بالتفاصيل ولكنه على الأقل قاربها، لن أستعجل فصولك، ولكني تمنيت أن تبدأ من هذا الفصل رسم شخصياتك، لأني رأيتك في هذا الفصل تركز على البيئة والصحراء، وعندما انتهى الفصل وجدنا أنفسنا لا نعرف إلا أسماء الأبطال، لم نعرف لم يفعلون ذلك، ولا بماذا يفكرون، ولا أي شيء حميمي عنهم.
أرى خلف أفكارك وقلمك الكثير، ولكن ينقصك التركيز على التفاصيل، وإعطاء عناصر الرواية حقها بالكامل.
سجلني قارئا ً مستمتعا ً.
* * *
كان خارجا ً من القاعة بعد نهاية المحاضرة المملة عندما وجد مروان أمامه، انتبه الآن أنه لم يره منذ أربعة أيام، لا بل خمسة، رآه لآخر مرة الجمعة الماضية عندما تركوا المخيم واليوم الأربعاء، هل مضى الأسبوع بسرعة؟ أم ماذا؟
ابتسم مروان وصافحه وهو يقول عاتبا ً:
- وين الناس يا القاطع؟ زعلان علينا؟
- هلا والله... هلا والله، أنت اللي وين الناس؟
- موجودين، أنت اللي ما لك شوفة، أمس وقبل أمس أدورك بعد المحاظرات ولا أحصلك.
- دنيا ومشاغل الله يعين، وكيف حالكم؟
- الحمد لله، ترى نتيجة الإختبار الأول طلعت.
- لا... بشر عسى نتائجنا زينة؟
وهكذا غاص الإثنان في أحاديث تتناول الإختبارات والمواد، وآخر الأحداث، حتى وصلا البهو الجامعي، حيث جلسا بعدما تناول مروان كأس شاي وتناول حمد عصير برتقال طازج.
قال مروان محولا ً سياق الحديث بعد رشفة من الشاي:
- كيف النت معك والمنتدى؟
- نزلت فصل من روايتي؟
- روايتك؟ ما شاء الله ومن متى صرت تكتب روايات؟ وبعدين ما علمتنا ولا شيء؟ ما لك حق.
- لا... لا... الموضوع جاء بشكل سريع، وبعدين هي تجربة، ولا لي إلا يومين منزلها.
- وش اسمها؟ عشان أقرأها وأضحك على أسلوبك.
- اسمها " سنوات منسية" وبعدين بدري عليك تضحك علي، هذي الرواية تحتاج عشرين سنة عشان تكتب مثلها.
- آآآآآآه... عشرين سنة، شرط أنك ناقلها من سلسلة قصص " أنا الطفل الصغير".
- ههههههههههه، الله يرجك.
- وش تتكلم عنه؟
- اقرأها وتعرف.
- طيب اطبع الفصل، وهاته معك للمخيم نقرأه ونشوف.
- يصير خير.
* * *
عندما عاد إلى البيت قرأ رد سعد، فكر أن يكتب ردا ً سريعا ً، ولكنه أرجأ الفكرة إلى حين عودته من المخيم، حتى لا يكون الرد مرتبكا ً وغير مناسب، واكتفى بطباعة فصل روايته الوحيد.
احتمل عدته، وودع أبويه وأخوته وانطلق في طريقه، كانت الشمس آخذة في المغيب عندما حاذى الطريق الصحراوي، فتح النافذة وجعلت يعب من الهواء الساخن الآخذ بالبرودة، وزفر بقوة مودعا ً الأسبوع الماضي بتعبه، ومستقبلا ً اليومين الأخضرين القادمين.
كان شاردا ً يراقب تعرجات الأرض والظلال التي تتمدد عليها بفعل أشعة الشمس الأخيرة عندما تنبه على رنين هاتفه الجوال، أبطأ من سرعته وتناول الجهاز من جيبه، كان الرقم الذي يتألق على الشاشة رقما ً غريبا ً، ضغط زر فتح الخط الأخضر، ليتدفق صوت عميق هادئ إلى أذنه، عميق كأنه قادم من بئر معطلة في مفازة وعثاء.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام، هلا.
- حمد؟
- هلا... معك حمد.
- كيف حالك حمد؟ أنا سعد.
- أهلا ً... أهلا ً... أهلا ً، ما توقعت إنك بتتصل اليوم.
- هل الوقت غير مناسب بالنسبة لك؟ تحب اتصل في يوم آخر؟
- لا... لا... هذي الساعة المباركة، يالله حيه.
- حبيت اسمع صوتك، وأيضا ً يكون معك رقم جوالي.
- اها... يا هلا والله.
- وضعت الرد اللي قلت لك عليه في المنتدى.
- قرأته اليوم الظهر، الله يجزاك خير، بصراحة رد يبرد الكبد، وراح أرد عليك إن شاء الله برد يليق بك.
- الله يخليك يا رب، إلا على فكرة حمد أنا جاتني فكرة مجنونة شوي، وقلت أشوف إذا تشاركني جنوني وإلا لا؟
- تفضل، وش هي؟
- ايش رأيك تتغدى معي بكرة في الشرقية؟
- كيف؟ أتغدى معك؟
- أنا فكرت نلتقي، وبصراحة الأيام القادمة بتكون أيام امتحانات وراح يمكن ننقطع بحدود الشهر عن بعض، وبصراحة الكلام عن طريق المسينجر، أو حتى الجوال ما هو كافي، فلذلك قلت أعزمك بكرة على الغداء لو حبيت عندنا في الشرقية، ونجلس مع بعض العصر والمغرب ولو حبيت حتى تنام عندنا أهلا ً وسهلا ً فيك.
صمت حمد صمت القبور بعد كلمات سعد، وجعل عقله وقلبه يتنازع القرار في هذه الفكرة المجنونة، ولذلك عندما عاد صوت سعد يسأل:
- حمد؟ ألو؟
- معك؟
- وش قلت؟ إذا يناسبك ممتاز، وإذا ما يناسبك خيرها في غيرها.
- أنت فاجأتني... خلني أفكر... وأشوف ظروفي وأرد لك.
- ممتاز... انتظر اتصالك وقرارك.
وعندما أغلق سعد الجوال، ظل حمد ممسكا ً به عند أذنه، وقد أوقف السيارة جانبا ً والغبار يحيط بها، ومن يراه يظن أنه وقف ليتأمل الشمس التي بدأ قرصها يسقط، ولكن آخر شيء كان يشغل باله هو الشمس.
* * * * * * * * *
نهاية الفصل السادس ..
~أصداف~
03-05-2008, 05:55 AM
الفصل السابع
غابت الشمس وحمد لازال في سدرته، وبدأ الظلام يجن المرئيات حوله بردائه الصفيق، والأفكار تعلو به وتحط، وبدأ السؤال الذي خلفته مكالمة سعد يغلف ذهنه " ماذا أفعل؟ ".
كان الهواء يهب مدوما ً حاملا ً ذرات الغبار، والأعشاب والنباتات البرية تتأود وهي تمر ببدايات اليباس والتحول إلى هشيم ستذروه الرياح يوما ً، وحمد مازال هناك خلف المقود يفكر بعرض سعد.
الفرصة التي يحلم بها منذ تعرف على سعد هاهي تأتيه بكل بساطة، كل ما عليه هو أن يقطع ال 400 كيلا ً التي تفصله عن الساحل الشرقي ويلتقيه، يجالسه، يتحدث معه، يراه ويتخذه صديقا ً من لحم ودم لا صديقا ً شبحيا ً.
ولكن كيف يسافر ويترك أصدقائه والمخيم، ثم هل سيأذن له والداه بالسفر؟ قطعا ً لا، ثم لو أذنا له كيف سيقطع هذه المسافة وحيدا ً؟ فهو لم يسافر قط خاليا ً، كيف وكيف؟ وتداعت الأسئلة على ذهنه تداعي الجدار المقضوض.
تنبه على الظلام الذي لفه وتداخل مع الموجودات من حوله، وأدركته وحشات القفر والليل والوحدة فأشعل أضواء السيارة وانطلق إلى المخيم، وإلى أصدقائه الذين تأخر عليهم، وهو يدافع الهواجس ويحاول التركيز على منعرجات الطريق، حتى وصل المخيم وقاطنوه قد صفوا يصلون بعدما ملوا انتظاره.
توضأ وأدرك الركعة الأخيرة معهم، وعندما انتهوا من الصلاة، أقبلوا يسألونه عن حاله وعن تأخره، فتعذر بطارئ شغله، وانتهز فرصة انشغالهم بإعداد القهوة ليعود إلى كهوف ذهنه.
" أذهب أو لا أذهب، هذه هي المعضلة"، قال لنفسه وهو يرتشف القهوة، " إن ذهبت فدون ذلك أراضي أقطعها، وأهلا ً أقنعهم، وإن رفضت وبقيت في مكاني ندمت بقية الأسبوع، ومن يدري فربما ندمت بقية العمر، آه يا سعد، ماذا فعلت بي؟ لقد كنت أعد نفسي لنهاية أسبوع أودع بها التعب والنصب، فجعلتني أستقبل ما منه فررت".
* * *
لاحظ أصدقائه شروده، وعدم مشاركته لهم أنشطتهم، لم يكن مهموما ً ولكنه كان في أرض أخرى أو عالم آخر، سألوه عما به ولكنه نفى أن يكون هناك شيء، فآثروا تجاهل الموضوع وعدم إزعاجه.
تناولوا عشائهم، وشربوا الشاي حول النار، وجعلوا يتبادلون الحكايات والأقاصيص والسوالف، حتى تمكن منهم النوم، وبدأ عددهم حول النار يتناقص حتى لم يعد هناك سوى حمد.
جافاه النوم رغم تعبه، وقاربت الساعة منتصف الليل، وأسئلته ما زالت معلقة بلا أجوبة، بلا نهاية مغلقة، قلبه يدفعه شرقا ً، وعقله يجذبه أرضا ً، وبين العقل والهوى معركة منذ كان الإنسان.
غلب هواه على عقله عندما أدركه التعب، سيسافر ليلقى سعد هكذا قدر، فالفرص لا تأتي مرتين، سيسافر ضحى الغد، بعد الإفطار سيبلغ رفاقه أنه سيعود إلى المدينة لأن لديه عمل يقوم به هناك، ولن يخبر أمه وأباه بسفره، سيطويه في صدره وفي هذه البرية، وأما السفر وحيدا ً فرغم جزعه وتخوفه منه ولكن جاء اليوم الذي يجب أن يعتمد فيه على نفسه.
استراح قليلا ً بعد هذا القرار، فتح جواله وكتب رسالة قصيرة إلى سعد " أنا قادم ضحى الغد"، وألقى الجوال بجانبه وانطرح بجانب النار الخابية، يتأمل النجوم التي تلمع كباقي الدمع في عين صبي، حتى غابت النجوم خلف جفنيه وهو يتردى في هوة النوم، وفي صمت الليل اهتز الجوال مستقبلا ً رسالة أقصر من سعد تقول " أهلا ً بك".
* * *
فتح عينيه في لحظة، وجد نفسه ما زال في العراء، والشمس قد بدأت رحلة الإرتفاع، وأصوات مروان وعبدالعزيز وهما يصنعان القهوة تصل إلى أذنه كأنها قادمة من الأعلى، من السماء.
نهض متثاقلا ً، وهو ينظر بنصف عين فيما أغلق الأخرى إلى رفيقيه، اللذان انتبها له فبادره مروان قائلا ً:
- ما شاء الله، مهيب العادة؟ نايم برى ومتأخر في القومة يالعصفور.
قال حمد بصعوبة بعدما سعل عدة مرات حتى يجد صوته:
- صليتوا الفجر؟
- لا... نتحراك... أكيد صلينا، وعجزنا وحنا نقومك أنت والفطيس الثاني ناصر.
تركهما وتوضأ وصلى متأثما ً، وعاد ليجلس وهو يحس بالألم في عظامه وعضلاته من قسوة الأرض، كان مروان قد توسط الزولية وجلس بجانبه عبدالعزيز وهما يشربان القهوة ويأكلان التمر مطوحين بالنوى.
تناول الفنجال الذي مده مروان، وتناول تمرة واحدة لتخفف مرارته، فيما مروان يسأله:
- عسى ما شر؟ تعبان؟
- لا... ما فيني إلا العافية.
- ما أدري أنا يوم قمت الفجر لقيتك نايم برى، حاولنا نقومك ولا قمت قلت شكله تعبان، وبعدين قمنا أنا وأبو سعود ولقيناك ما رحت في جولتك الصباحية، قلنا الله يستر لا يصير الطائر المشقشق تعبان بس.
ضحك أبو سعود على وصف مروان الهازئ (الطائر المشقشق) فعاجله مروان:
- وأخيرا ً تنزلت وضحكت يا أبو سعود وشفنا سنونك، حرام عليك يا خي لا بغيت تضحك المرة الثانية تلثم تراك فتنة، ترى قلبي ما يقوى على النعومة.
- أقول وسع بس، ولا تبتلينا على هالصبح.
- أفا يا بو سعود أفا، أنا أبتليك؟ هذا وأنا أحبك وأدعيلك دايم أن الله يزوجك مدام توسو.
- وش مدام توسته أنت يا مخرف، أقول أعقل بس.
- توست؟ أنا قلت توست؟ شكله بدأ مفعول الجوع يا بو سعود؟ وإلا تلمح أنك تبي توست على الفطور؟ عاد من وين نجيب لك توست بهالبران؟
- والله النشبة مع هالدب المهبول، فكني منه يا حمد، تكفى.
ولكن حمد كان في عالم آخر، حتى أنه لم يسمع ولا حرف من هذه المشاكسات الدائمة، كان يفكر في قراره مرة أخرى، فقرار الليل يمحوه النهار، وهواجس الليل تكتسي وضوح النهار فتكون أشد وأوجع.
بدأ يحس الرهبة في صدره، والضعف في ساقيه، وانسداد النفس عن الأكل والكلام، وعندما زادت مشاكسات مروان وهجومه على أبو سعود، ضاقت نفسه فنهض مستأذنا ً حتى من دون أن يكمل فنجاله، وسار يبحث عن شجرة يحزم في ظلها أمره.
بعد مئات الأمتار وجد ضالته في أثلة ضخمة، قد اسود جزء من جذعها بنار مجهولة، ونقش على جهة أخرى منه بخط مرتبك ( ذكريات أشواق + فاطمة + نوف 23/12/1425 هـ)، تناول غصنا ً يابسا ً وجلس على الأرض وجعل ينكت به الأرض وهو يفكر من جديد.
" سأذهب... سأذهب، ولكن متى؟ سيقتلني الإنتظار إلى وقت الإفطار، لأفعلها الآن، نعم الآن، أنا لست جيدا ً في الإنتظار، سأفقد عقلي لو بقيت ساعة واحدة، سأتحرك الآن".
عاد وقصد سيارته أولا ً وشغل المحرك، ثم عاد إلى مروان وعبدالعزيز اللذان ينظران إليه بإستغراب وقال بنفس منقطع:
- برجع للرياض؟
مروان: عسى ما شر؟ فيه شيء؟
عبدالعزيز: وراك؟ عسى منتب تعبان.
حمد: لا... أنا بخير ولا بي إلا العافية، بس فيه ظرف طارئ برجع للرياض بسببه، وبجي هنا الليلة إذا خلصت بإذن الله، توصون شيء.
قالها وهو يفر هاربا ً إلى سيارته، فلحقه مروان وأمسك بيده وهو يهم بالركوب:
مروان: حمد... خير إن شاء الله، الأهل فيهم شيء؟
حمد: لا... الأهل فما فيهم إلا العافية، بس أنا صار لي ظرف طارئ وبروح الرياض وبرجع الليلة ما هنا إلى كل خير، لا تخاف، حتى أهلي ما راح أقولهم شيء عشان لا يخافون، الموضوع ما يستاهل.
مروان: خير إن شاء الله... الله يوفقك، المهم طمنا عنك، في أمان الله.
حمد: في أمان الله، سلم لي على الشباب إذا صحوا، ناصر ومحمد.
ثم ناوله الفصل المطبوع والذي نسيه أمس في السيارة وهو يقول:
حمد: سم هذا الفصل الأول من روايتي، بشوف رأيك فيه إذا رجعت الليلة.
مروان: خير إن شاء الله.
وانطلق بأقصى سرعته، وصارت أحشائه تثب مع وثبات السيارة على الطريق مسببة له ألما ً وضيقا ً، حتى وصل إلى الطريق الإسفلتي، وحالما اعتلاه انطلق يمينا ً حتى التقى الطريق بطريق آخر متجه إلى المنطقة الشرقية.
* * *
توقف عند أول محطة قابلته على طريق الدمام، طلب من العامل ملأ خزان الوقود، فيما نزل هو إلى البقالة الصغيرة التي غطى الغبار جدرانها وبضاعتها وحتى بائعها البنغالي.
تناول مجموعة من المشروبات وقوارير الماء والكيك وألقاها في الكيس ودفع ثمنها حتى بدون أن ينظر إلى وجه البائع، وعاد إلى سيارته وانطلق بها بعدما دفع ثمن الوقود.
* * *
استقبل الطريق الآن، وجعل الإسفلت الذي بدأت الشمس تصليه يلمع كأنه مدهون بالزيت، جذب قارورة ماء وخلع غطائها بقوة كادت تسكب بعض الماء على ثيابه، عب منها بقوة العطش والحيرة والبال المشغول، زاد سرعة السيارة ودفع شريطا ً في المسجل حتى يفر من أفكاره التي آنست منه انفراده وسفره الطويل.
تساءل عندما تعب من الفرار " هل كان قرارا ً صائبا ً؟"، " عقلا ً... لا، كان قرار هوى ً متسرع، أنا أعرف هذا، ولكن ما الذي سينجيني من لوم نفسي وعذلها إن أنا تركت هذه الفرصة تفر من يدي؟".
أحس بضيق وداخله خوف عندما فكر " ماذا لو أن أمي وأبي علما بسفري دون إخبارهما؟ خصوصا ً أبي"، وبدأ يوم قديم مدفون وسط ركام الذكريات ينهض كعنقاء ويعود إليه محلقا ً متجسدا ً كأنه يرى مشاهده الآن.
كان حينها في السابعة من عمره، وكان أبوه أيامها يعمل في عمله الرسمي صباحا ً وعمل إضافي بعد العصر ثم يعود ليلا ً متعبا ً مهدودا ً لينطرح في مكتبه حتى موعد نومه نصف الليل، لذلك كانوا لا يرونه إلا في الصباح عندما يوصلهم إلى المدرسة أو على مائدة الغداء للحظات قبل أن يغيب في بطن كتبه وأبحاثه، كان بعيدا ً عنه وعن أختيه هيلة التي كانت في الخامسة حينها وعبير التي كانت في الثانية من عمرها.
وفي ظل ابتعاد الأب عن جو البيت فإنه من الطبيعي أن يتحول حمد إلى عفريت صغير، فطيبة الأم لم تكن لتردع شقاوة الطفل وبدايات نموه في ذلك الوقت، لذلك كان حمد يعتدي على أختيه ويشاكسهن، ويخرج إلى البقالة القريبة رغم تحذير أمه الدائم له خوفا ً عليه وتهديدها له بأن تخبر أباه، الذي لم يكن يزيد على تهديد حمد وتخويفه.
حتى جاء ذلك اليوم، كان حمد عائدا ً من البقالة ذات صيف يحمل في يده ايسكريما ً يتقاطر على يده وتذوب الكريمة المنعشة في فمه، وعلى غير انتظار عاد أبوه بعد أن استأذن من عمله المسائي وصادفه في الشارع الضيق بجانب منزلهم.
كان حمد ساهما ً عندما توقفت إلى جانبه سيارة أبيه على حين غرة، وسمع أبوه يزعق فيه " حمد؟ وش أنا قايل لك؟"، داخله الرعب فلم يتحرك وبقي الأيسكريم يذوب على أصابعه، فيما قفز أبوه من السيارة بكل الغضب والحنق وصفعه ملقيا ً بايسكريمه أرضا ً، وجاذبا ً إياه إلى السيارة.
بدأ حمد يبكي واختلطت دموعه بناتج أنفه الذي سال، فيما أبوه يزعق فيه بعنف " كم مرة أعلمك؟ كم مرة أقولك؟ لا تطلع بالشارع، لا تضرب خواتك؟ هالحين أوريك"، وعندما دخلا البيت أمسكه أبوه بقوة ودفعه إلى الجدار، أحس حمد بقسوة أحجار الجدار وهي تضغط على رأسه الصغير وبقوة اليد التي هزته وأبوه يقول بصوت هامس مرعب وعيناه تغوصان في أعماقه " إن شفتك مرة ثانية طالع من البيت كسرت رجلينك، تسمع؟"، هز حمد رأسه الذي تلوث بنواتج عينيه وأنفه وبقايا الايسكريم على أصابعه وفمه، وهو يبكي بكل قوته، يبكي خوفه ورعبه، يبكي ذلته وهو يرى ابتسامة أخته هيلة الشامتة.
أطلقه أبوه لتجذبه أمه إلى دورة المياه وتغسل وجهه ويديه، وهي لا تكف عن تأنيبه " كم مرة قلت لك، يا حمد يا وليدي ترى أبوك بيضربك، حمد خلك رجل، حمد خلك عاقل، هه وش استفدت الحين؟ أبوك ضربك وزعل عليك، الله يصلح قلبك وأنا أمك" لم يرد حينها اكتفى بالبكاء وعندما أطلقته قصد فراشه وجعل يبكي هناك حتى نام.
أثرت فيه هذه الحادثة كثيرا ً، قد نقول أنها قتلت شقاوته وعبثه في لحظة، وربما كانت أول نقش في لوح غربته، صحيح أن أبوه استدعاه في اليوم التالي ونفحه قبضة ريالات كترضية، ولكنه ظل في نظره ذلك الرجل المخيف الذي لا يجب أن تصل الأمور إليه.
كبر حمد وكبر معه هذا الخوف الغريزي، يخاف نظرات أبيه، يتوقف عن الضحك عندما يدخل، يخفي عنه كل شيء، لا يتحدث معه إلا عندما يجيب على أسئلته، ينفذ كل ما يطلبه منه بلا مناقشة، وكان دائما ً ما يحاول عزو علاقته الباردة مع والده إلى إنشغال أبوه الدائم في المكتبة وقراءاته وأبحاثه، ويحاول تناسي تلك الحادثة.
بدأ هذا التحول مريحا ً للأب في البداية، فالولد الشقي المتعب أصبح هادئا ً مطيعا ً، تخلص من ثرثرته اليومية ونزقه واعتداءاته على أخواته، ولكن مع مرور السنين وخصوصا ً عندما اكتفى بعمله الرسمي وأصبح يقضي وقتا ً أطول في البيت، بدأ يدرك أنه وأد طفولة ابنه.
نحى حمد ذكرياته بصعوبة وحاول التركيز على لقائه المرتقب مع سعد، هذا اللقاء المصيري للعلاقة الوليدة، ترى ما الذي جعل سعد يعرض عليه هذا العرض السريع وهما لم يعرفا بعضهما إلا من فترة بسيطة؟ هل سيكون سعد انسانا ً رائعا ً كما توحي كتاباته؟ أم سيكون مجرد خدعة قلم؟
حاول تخيل شكل سعد؟ فكر بالصورة الذهنية التي رسمها عقله لسعد، كانت تمثل شابا ً بدينا ً أبيض اللون وله لحية خفيفة على خديه، ثم بدأ عقله يقوم بتعديلات مجنونة، أنقص وزن الشاب ثم أعطاه شاربا ً كثا ً ولونا ً أسمر، ثم أضاف لحية كثة ثم تراجع وحذفها، ثم مسح الصورة كاملة وتخيله يشبه (كولين فاريل) ولكن بشارب خفيف وبقايا لحية.
أحس بتعب ذهني ونفسي حاول اطفائه بتجرع عصير برتقال طازج قد خفت برودته، وبمراقبة عداد لوحات الطريق وهو يتناقص، والطريق يمتد أمامه كأنه بلا نهاية، والشمس تزداد حرارة.
* * *
كان قد اقترب من الخُبر عندما رن جواله، قفز قلبه إلى فمه " من هذا؟ لا يكون أبوي ويبي مني شيء؟"، التقط الجوال وزفر بقوة عندما وجد رقم سعد، نفخ بقوة ومسح آثار الإضطراب من صوته ورد:
- هلا.
- هلا... حمد، السلام عليكم.
- وعليكم السلام، هلا والله.
- وين أنت؟
- حول الخبر، قريب.
- افا... أنا ما أقدر أشوفك اليوم، انشغلت وصار عندي ظرف طارئ.
- ايششششششششششش؟
- هههههههههه، امزح معك وراك انهبلت.
- حسبي الله على عدوك، قاطع لي 400 كيلو، خاف الله فيني.
- طيب يا عزيزي، أنت عارف الراشد، صح؟
- صح.
- طيب الوعد في مواقف الراشد، هناك نلتقي ومن هناك آخذك، على فكرة وش سيارتك؟
- شيروكي أخضر.
- خلاص تمام، كم تحتاج حتى توصل هناك.
- ثلث ساعة وأكون هناك.
- على بركة الله، والحمد لله على السلامة.
- الله يسلمك.
أغلق حمد الإتصال، وفعلا ً بعد ثلث ساعة كان يوقف سيارته في مواقف الراشد، وينزل منها والشمس تصلي رأسه من حرارتها، جعل يتلفت حوله بحثا ً عن شخص ينتظره ولكن لم يكن هناك أحد في الجوار، وتناهى إلى سمعه صوت أذان الظهر يرتفع من مسجد بعيد، فعاد إلى سيارته وجعل ينتظر تحت الهواء البارد الذي يبثه المكيف.
* * * * * * * * *
نهاية الفصل السابع ..
vBulletin® v3.8.12 by vBS, Copyright ©2000-2024, Jelsoft Enterprises Ltd.