الأسير999
17-06-2008, 01:36 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين،
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
أما بعد ...
من هنا أبداء أول درس من دروس السيرة النبوية .... وهو ..
الجزيرة العربية قبل البعثة ...
و يتحدث .. هذا الدرس اليوم .. عن ثلاثة مواضيع ... وهي ...
أول من غير دين ابراهيم .. عليه السلام ...
عبادة الأصنام لدى العرب ...
الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً للإسلام ..
أولاً : أول من غير دين ابراهيم ... عليه السلام ...
منذ أن بعث الله نبيه إبراهيم عليه السلام وأمره ببناء البيت على التوحيد، واستوطنت ذريته مكه، ومعظم العرب يدينون بدينه، ويتبعون ملته فكانوا يعبدون الله ويوحدونه، ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف، وظل الحال على ذلك قروناً من الزمان حتى بدأ الانحراف يدب إليهم مع طول العهد وتقادم الزمن.
وكان أول من غير ملة إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام، عمرو بن لحي الخزاعي ، حين قدم بلاد الشام فرآهم يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، فاستحسن ذلك وظنه حقاً، وكانت الشام آنذاك محل الرسل والكتب السماوية، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنماً يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم، حتى انتشرت الأصنام بين قبائل العرب، وقد ذُكر عنه أنه كان له رئي من الجن، فأخبره أن أصنام قوم نوح ـ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا ـ مدفونة بجدة، فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها، فأما ود: فكانت لكلب، بجَرَش بدَوْمَة الجندل من أرض الشام مما يلى العراق، وأما سواع: فكانت لهذيل بن مُدْرِكة بمكان يقال له:رُهَاط من أرض الحجاز، من جهة الساحل بقرب مكة، وأما يغوث: فكانت لبني غُطَيف من بني مراد، بالجُرْف عند سبأ، وأما يعوق:فكانت لهمدان في قرية خَيْوان من أرض اليمن، وخيوان: بطن من همدان، وأما نسر:فكانت لحمير لآل ذى الكلاع في أرض حمير.
وهكذا انتشرت الأصنام في جزيرة العرب حتى صار لكل قبيلة منها صنم، ولم تزل تلك الأصنام تُعبد من دون الله جل وعلا، حتى جاء الإسلام، وبُعث الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، نوراً وضياءاً للعاملين، فقام بتطهير البيت الحرام من الأصنام، وبعث السرايا لهدم البيوت التي أقيمت للأوثان، فبعث خالد بن الوليد لهدم صنم العزى وهو الطاغوت الأعظم لدى قريش بمنطقة نخلة، وبعث سعد بن زيد لهدم صنم مناة التي كانت على ساحل البحر الأحمر، وبعث عمرو بن العاص إلى صنم سواع الذي تعبده قبيلة هذيل، فهدمت جميعها.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مصير عمرو بن لحي وسوء عاقبته، كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه –أمعاءه- في النار، فكان أول من سيب السوائب ) ، وفي رواية: ( أول من غير دين إبراهيم) ، و-السوائب- جمع سائبة وهي الأنعام التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء.
وذكر الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } (الأنعام:144) أن أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي ، لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح .
وكان أهل الجاهلية مع ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، كتعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، وإن كان دخلها شيء كثير من شوائب الشرك والبدعة، ومن أمثلة ذلك أن نزاراً كانت تقول في إهلالها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله تعالى: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } (الروم:28).
ومنها أن قريشًا كانوا يقولون: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسهم الحُمْس ـ فلا ينبغى لنا أن نخرج من الحرم إلى الحل، فكانوا لا يقفون بعرفة، ولا يفيضون منها، وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة وفيهم أنزل الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (البقرة:199)..
هذا الوضع الذي كان سائدا في جزيرة العرب، حتَّم وجود رسالة سماوية تنتشل الناس من ضلالهم وتردهم إلى فطرتهم وتمحو مظاهر الشرك والوثنية من حياتهم، فكانت الرسالة الخاتمة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
ثانياً : عبادة الأصنام لدى العرب ..
مع أن الله سبحانه قد ميز الإنسان وكرمه على غيره من المخلوقات، وسخر له من النعم ما ظهر منها وما بطن، وفطره على فطرة نقية سليمة، إلا أن كثيراً من الناس انحرفوا عن طريق الفطرة، وأبوا إلا الضلال، واتبعوا الشيطان، العدو القديم، وعبدوا الأصنام بشتى أنواعها، وجميع أصنافها.
لقد عبدت طوائف من العرب الأصنام التي انتقلت إليهم من الأمم السابقة مثل : ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، والتي كانت في قوم نوح، وانتشرت عبادة تلك الأصنام بين القبائل العربية، كما دل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمْدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكَلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتَنَسَّخَ العلم عُبدَت) رواه البخاري .
وكانت العرب تعبد إضافة إلى تلك الأصنام أصنام قريش كاللاَّت، والعزَّى، ومناة، وهبل:
فصنم مناة - وهو أقدم أصنامهم - كان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل، بقديد بين مكة والمدينة . وكانت العرب تعظمه، ولم يكن أحد أشد تعظيماً له من الأوس والخزرج، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فهدمه عام الفتح .
أما صنم اللات فقد كان في الطائف، وهو عبارة عن صخرة مربعة، وكان سدنتها ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بيتاً، فكان جميع العرب يعظمونها، ويسمون الأسماء بها، فكانوا يقولون: زيد اللات، وتيم اللات، وهي في موضع منارة مسجد الطائف . فلما أسلمت ثقيف، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها، وحرقها بالنار.
أما صنم العزى فإنه أحدث من اللات، وكان بوادي نخلة ، فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتاً، وكانوا يسمعون منها الصوت، وكانت قريش تعظمها . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، بعث خالد بن الوليد فأتاها فعضدها، وكانت ثلاث سمرات، فلما عضد الثالثة : فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها، تضرب بأنيابها، وخلفها سادنها، فقال خالد : يا عز كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك، ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة - أي رماد-، ثم قتل السادن.
أما صنم هبل فقد كان من أعظم أصنام قريش في جوف الكعبة وحولها، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان، وكانوا إذا اختصموا، أو أرادوا سفراً : أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده . وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد : اعل هبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : ( الله أعلى وأجل ) رواه البخاري .
ومن الأصنام التي كانت تُعبد :إساف ونائلة، قيل أصلهما : أن إسافاً رجل من جرهم، ونائلة امرأة منهم، دخلا البيت، ففجر بها فيه . فمسخهما الله فيه حجرين، فأخرجوهما فوضعوهما ليتعظ بهما الناس، فلما طال الأمد عبدا من دون الله.
ومع انتشار عبادة الأصنام بقي أناس حفظهم الله من عبادة غيره سبحانه استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: { رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (ابراهيم:35)، واستمرت عبادة تلك الأصنام في بلاد العرب حتى ختم الله رسالاته بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي طهر الله به البلاد، ووجه العباد إلى المعبود بحق، الذي لا يجوز أن يُعبد أحد غيره، أو يشرك في عبادته أحد، { والله متم نوره ولو كره الكافرون } (الصف:8).
ثالثاً : الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً للإسلام ..
قبل الحديث عن الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً لرسالة الإسلام، من المناسب أن نلقي نظرة سريعة نتعرف من خلالها على واقع أمم الأرض حينئذ، وما كان من أمرهم وحالهم، وهل كانت تلك الأمم مؤهلة لحمل رسالة عالمية تخرج البشرية من طريق الغي والضلال الذي تعيش فيه إلى طريق الحق والرشاد...ثم لنعلم على ضوء ذلك أيضاً المؤهلات والمقومات التي جعلت من العرب وجزيرتهم صلاحية لحمل رسالة الإسلام.
كان يحكم العالم دولتان اثنتان: الفرس والروم، ومن ورائهما اليونان والهند.
ولم يكن الفرس على دين صحيح ولا طريق قويم، بل كانوا مجوساً يعبدون النيران, ويأخذون بمبادئ مذهبي : الزرادشتية والمزدكية، فكلاهما انحرفتا عن طريق الفطرة والرشاد، واتبعتا فلسفة مادية بحتة لا تقر بفطرة ولا تعترف بدين، فالزرادشتية مثلاً تفضل زواج الرجل بأمه أو ابنته أو أخته، والمزدكية من فلسفتها حلّ النساء، وإباحة الأموال، وجعل الناس شركة فيها، كاشتراكهم في الماء والهواء والنار والكلأ.
أما الروم فلم يكن أمرهم أفضل حالاً، فعلى الرغم من كونهم على دين عيسى عليه السلام بيد أنهم انحرفوا عن عقيدته الصحيحة، وحرفوا وبدلوا ما جاء به من الحق، فكانت دولتهم غارقة في الانحلال؛ حيث حياة التبذل والانحطاط، والظلم الاقتصادي جراء الضرائب، إضافة إلى الروح الاستعمارية، وخلافهم مع نصارى الشام ومصر، واعتمادهم على قوتهم العسكرية، وتلاعبهم بالمسيحية وفق مطامعهم وأهوائهم.
ولما كان الأمر كذلك لم تكن القوتان الكبيرتان في العالم آنذاك قادرتين على توجيه البشرية نحو دين صحيح، ولم تكونا مؤهلتين لحمل رسالة عالمية تخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ظلم العباد إلى عدل الواحد الديان.
أما اليونان وشعوب أوربا فقد كانت تعيش حياة بربرية، تعبد الأوثان، وتقدِّس قوى الطبيعة، فضلاً عن كونها غارقة في الخرافات والأساطير الكلامية التي لا تفيد في دين ولا دنيا.
أما بقية الشعوب في الهند والصين واليابان والتبت، فكانت تدين بالبوذية، وهي ديانة وثنية ترمز لآلهتها بالأصنام الكثيرة وتقيم لها المعابد, وتؤمن بتناسخ الأرواح.
وإلى جانب تلك الأمم كان هناك اليهود، وكانوا مشتتين ما بين بلاد الشام والعراق والحجاز، وقد حرفوا دين موسى عليه السلام , فجعلوا الله - سبحانه وتعالى - إلهاً خاصاً باليهود , وافتروا الحكايات الكاذبة على أنبيائهم مما شوَّه سمعتهم, وأحلَّوا التعامل مع غيرهم بالربا والغش, وحرَّموه بينهم .
ونتج عن ذلك الانحلال والاضطراب والضلال فساد وشقاء، وحضارة رعناء قائمة على أساس القيم المادية، بعيدة عن القيم الروحية المستمدة من الوحي الإلهي.
أما جزيرة العرب فقد كانت في عزلة عن تلك الصراعات والضلالات الحضارية والانحرافات، وذلك بسبب بعدها عن المدنية وحياة الترف، مما قلل وسائل الانحلال الخلقي والطغيان العسكري والفلسفي في أرجائها، فهي - وعلى ما كانت عليه من انحراف- كانت أقرب إلى الفطرة الإنسانية، وأدعى لقبول الدين الحق، إضافة إلى ما كان يتحلى به أهلها من نزعات حميدة كالنجدة والكرم، والعفة والإباء، والأمانة والوفاء.
هذا إلى جانب موقع جزيرة العرب المميز؛ إذ كان موقعها الجغرافي وسطاً بين تلك الأمم الغارقة التائهة، فهذا الواقع والموقع جعلها مؤهلة لنشر الخير وحمله إلى جميع الشعوب بسهولة ويسر.
وبهذا تجلت الحكمة الإلهية في اختيار العرب وجزيرتهم مهداً للإسلام، إذ كانت بيئة أميّة لم تتعقد مناهجها الفكرية بشيء من الفلسفات المنحرفة، بل كانت أقرب لقبول الحق، والإذعان له، إضافة إلى أن اختيار جزيرة العرب مهداً للإسلام فيه دفع لما قد يتبادر إلى الأذهان من أنّ الدعوة نتيجة تجارب حضارية، أو أفكار فلسفية.
ناهيك عن وجود البيت العتيق، الذي جعله الله أول بيت للعبادة، ومثابة للناس وأمنا، واللغة العربية وما تمتاز به، وهي لغة أهل الجزيرة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الله اختار العرب وفضلهم لتكون الرسالة فيهم ابتداء، وهذا تكليف أكثر مما هو تشريف؛ حيث إن من نزل عليه الوحي ابتداء مكلف بنشره وأخذه بقوة، وليس هذا أيضاً تفرقة بين العرب وغيرهم بل الكل لآدم وآدم من تراب، وأكرم الناس أتقاهم لله، ولهذا كان في الإسلام بلال الحبشي، وسلمان الفارسي...الخ.
لذلك كله وغيره كان العرب أنسب قوم يكون بينهم النبي الخاتم، وكانت جزيرتهم أفضل مكان لتلقي آخر الرسالات السماوية، فالحمد لله الذي أكرم العرب بهذا الدين العظيم، وشرَّف جزيرتهم، فجعلها مهبط الوحي المبين.
هذا وصلى الله وسلم عل نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين،
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
أما بعد ...
من هنا أبداء أول درس من دروس السيرة النبوية .... وهو ..
الجزيرة العربية قبل البعثة ...
و يتحدث .. هذا الدرس اليوم .. عن ثلاثة مواضيع ... وهي ...
أول من غير دين ابراهيم .. عليه السلام ...
عبادة الأصنام لدى العرب ...
الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً للإسلام ..
أولاً : أول من غير دين ابراهيم ... عليه السلام ...
منذ أن بعث الله نبيه إبراهيم عليه السلام وأمره ببناء البيت على التوحيد، واستوطنت ذريته مكه، ومعظم العرب يدينون بدينه، ويتبعون ملته فكانوا يعبدون الله ويوحدونه، ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف، وظل الحال على ذلك قروناً من الزمان حتى بدأ الانحراف يدب إليهم مع طول العهد وتقادم الزمن.
وكان أول من غير ملة إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام، عمرو بن لحي الخزاعي ، حين قدم بلاد الشام فرآهم يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، فاستحسن ذلك وظنه حقاً، وكانت الشام آنذاك محل الرسل والكتب السماوية، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنماً يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم، حتى انتشرت الأصنام بين قبائل العرب، وقد ذُكر عنه أنه كان له رئي من الجن، فأخبره أن أصنام قوم نوح ـ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا ـ مدفونة بجدة، فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها، فأما ود: فكانت لكلب، بجَرَش بدَوْمَة الجندل من أرض الشام مما يلى العراق، وأما سواع: فكانت لهذيل بن مُدْرِكة بمكان يقال له:رُهَاط من أرض الحجاز، من جهة الساحل بقرب مكة، وأما يغوث: فكانت لبني غُطَيف من بني مراد، بالجُرْف عند سبأ، وأما يعوق:فكانت لهمدان في قرية خَيْوان من أرض اليمن، وخيوان: بطن من همدان، وأما نسر:فكانت لحمير لآل ذى الكلاع في أرض حمير.
وهكذا انتشرت الأصنام في جزيرة العرب حتى صار لكل قبيلة منها صنم، ولم تزل تلك الأصنام تُعبد من دون الله جل وعلا، حتى جاء الإسلام، وبُعث الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، نوراً وضياءاً للعاملين، فقام بتطهير البيت الحرام من الأصنام، وبعث السرايا لهدم البيوت التي أقيمت للأوثان، فبعث خالد بن الوليد لهدم صنم العزى وهو الطاغوت الأعظم لدى قريش بمنطقة نخلة، وبعث سعد بن زيد لهدم صنم مناة التي كانت على ساحل البحر الأحمر، وبعث عمرو بن العاص إلى صنم سواع الذي تعبده قبيلة هذيل، فهدمت جميعها.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مصير عمرو بن لحي وسوء عاقبته، كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه –أمعاءه- في النار، فكان أول من سيب السوائب ) ، وفي رواية: ( أول من غير دين إبراهيم) ، و-السوائب- جمع سائبة وهي الأنعام التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء.
وذكر الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } (الأنعام:144) أن أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي ، لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح .
وكان أهل الجاهلية مع ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، كتعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، وإن كان دخلها شيء كثير من شوائب الشرك والبدعة، ومن أمثلة ذلك أن نزاراً كانت تقول في إهلالها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله تعالى: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } (الروم:28).
ومنها أن قريشًا كانوا يقولون: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسهم الحُمْس ـ فلا ينبغى لنا أن نخرج من الحرم إلى الحل، فكانوا لا يقفون بعرفة، ولا يفيضون منها، وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة وفيهم أنزل الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (البقرة:199)..
هذا الوضع الذي كان سائدا في جزيرة العرب، حتَّم وجود رسالة سماوية تنتشل الناس من ضلالهم وتردهم إلى فطرتهم وتمحو مظاهر الشرك والوثنية من حياتهم، فكانت الرسالة الخاتمة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
ثانياً : عبادة الأصنام لدى العرب ..
مع أن الله سبحانه قد ميز الإنسان وكرمه على غيره من المخلوقات، وسخر له من النعم ما ظهر منها وما بطن، وفطره على فطرة نقية سليمة، إلا أن كثيراً من الناس انحرفوا عن طريق الفطرة، وأبوا إلا الضلال، واتبعوا الشيطان، العدو القديم، وعبدوا الأصنام بشتى أنواعها، وجميع أصنافها.
لقد عبدت طوائف من العرب الأصنام التي انتقلت إليهم من الأمم السابقة مثل : ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، والتي كانت في قوم نوح، وانتشرت عبادة تلك الأصنام بين القبائل العربية، كما دل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمْدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكَلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتَنَسَّخَ العلم عُبدَت) رواه البخاري .
وكانت العرب تعبد إضافة إلى تلك الأصنام أصنام قريش كاللاَّت، والعزَّى، ومناة، وهبل:
فصنم مناة - وهو أقدم أصنامهم - كان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل، بقديد بين مكة والمدينة . وكانت العرب تعظمه، ولم يكن أحد أشد تعظيماً له من الأوس والخزرج، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فهدمه عام الفتح .
أما صنم اللات فقد كان في الطائف، وهو عبارة عن صخرة مربعة، وكان سدنتها ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بيتاً، فكان جميع العرب يعظمونها، ويسمون الأسماء بها، فكانوا يقولون: زيد اللات، وتيم اللات، وهي في موضع منارة مسجد الطائف . فلما أسلمت ثقيف، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها، وحرقها بالنار.
أما صنم العزى فإنه أحدث من اللات، وكان بوادي نخلة ، فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتاً، وكانوا يسمعون منها الصوت، وكانت قريش تعظمها . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، بعث خالد بن الوليد فأتاها فعضدها، وكانت ثلاث سمرات، فلما عضد الثالثة : فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها، تضرب بأنيابها، وخلفها سادنها، فقال خالد : يا عز كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك، ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة - أي رماد-، ثم قتل السادن.
أما صنم هبل فقد كان من أعظم أصنام قريش في جوف الكعبة وحولها، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان، وكانوا إذا اختصموا، أو أرادوا سفراً : أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده . وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد : اعل هبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : ( الله أعلى وأجل ) رواه البخاري .
ومن الأصنام التي كانت تُعبد :إساف ونائلة، قيل أصلهما : أن إسافاً رجل من جرهم، ونائلة امرأة منهم، دخلا البيت، ففجر بها فيه . فمسخهما الله فيه حجرين، فأخرجوهما فوضعوهما ليتعظ بهما الناس، فلما طال الأمد عبدا من دون الله.
ومع انتشار عبادة الأصنام بقي أناس حفظهم الله من عبادة غيره سبحانه استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: { رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (ابراهيم:35)، واستمرت عبادة تلك الأصنام في بلاد العرب حتى ختم الله رسالاته بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي طهر الله به البلاد، ووجه العباد إلى المعبود بحق، الذي لا يجوز أن يُعبد أحد غيره، أو يشرك في عبادته أحد، { والله متم نوره ولو كره الكافرون } (الصف:8).
ثالثاً : الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً للإسلام ..
قبل الحديث عن الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً لرسالة الإسلام، من المناسب أن نلقي نظرة سريعة نتعرف من خلالها على واقع أمم الأرض حينئذ، وما كان من أمرهم وحالهم، وهل كانت تلك الأمم مؤهلة لحمل رسالة عالمية تخرج البشرية من طريق الغي والضلال الذي تعيش فيه إلى طريق الحق والرشاد...ثم لنعلم على ضوء ذلك أيضاً المؤهلات والمقومات التي جعلت من العرب وجزيرتهم صلاحية لحمل رسالة الإسلام.
كان يحكم العالم دولتان اثنتان: الفرس والروم، ومن ورائهما اليونان والهند.
ولم يكن الفرس على دين صحيح ولا طريق قويم، بل كانوا مجوساً يعبدون النيران, ويأخذون بمبادئ مذهبي : الزرادشتية والمزدكية، فكلاهما انحرفتا عن طريق الفطرة والرشاد، واتبعتا فلسفة مادية بحتة لا تقر بفطرة ولا تعترف بدين، فالزرادشتية مثلاً تفضل زواج الرجل بأمه أو ابنته أو أخته، والمزدكية من فلسفتها حلّ النساء، وإباحة الأموال، وجعل الناس شركة فيها، كاشتراكهم في الماء والهواء والنار والكلأ.
أما الروم فلم يكن أمرهم أفضل حالاً، فعلى الرغم من كونهم على دين عيسى عليه السلام بيد أنهم انحرفوا عن عقيدته الصحيحة، وحرفوا وبدلوا ما جاء به من الحق، فكانت دولتهم غارقة في الانحلال؛ حيث حياة التبذل والانحطاط، والظلم الاقتصادي جراء الضرائب، إضافة إلى الروح الاستعمارية، وخلافهم مع نصارى الشام ومصر، واعتمادهم على قوتهم العسكرية، وتلاعبهم بالمسيحية وفق مطامعهم وأهوائهم.
ولما كان الأمر كذلك لم تكن القوتان الكبيرتان في العالم آنذاك قادرتين على توجيه البشرية نحو دين صحيح، ولم تكونا مؤهلتين لحمل رسالة عالمية تخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ظلم العباد إلى عدل الواحد الديان.
أما اليونان وشعوب أوربا فقد كانت تعيش حياة بربرية، تعبد الأوثان، وتقدِّس قوى الطبيعة، فضلاً عن كونها غارقة في الخرافات والأساطير الكلامية التي لا تفيد في دين ولا دنيا.
أما بقية الشعوب في الهند والصين واليابان والتبت، فكانت تدين بالبوذية، وهي ديانة وثنية ترمز لآلهتها بالأصنام الكثيرة وتقيم لها المعابد, وتؤمن بتناسخ الأرواح.
وإلى جانب تلك الأمم كان هناك اليهود، وكانوا مشتتين ما بين بلاد الشام والعراق والحجاز، وقد حرفوا دين موسى عليه السلام , فجعلوا الله - سبحانه وتعالى - إلهاً خاصاً باليهود , وافتروا الحكايات الكاذبة على أنبيائهم مما شوَّه سمعتهم, وأحلَّوا التعامل مع غيرهم بالربا والغش, وحرَّموه بينهم .
ونتج عن ذلك الانحلال والاضطراب والضلال فساد وشقاء، وحضارة رعناء قائمة على أساس القيم المادية، بعيدة عن القيم الروحية المستمدة من الوحي الإلهي.
أما جزيرة العرب فقد كانت في عزلة عن تلك الصراعات والضلالات الحضارية والانحرافات، وذلك بسبب بعدها عن المدنية وحياة الترف، مما قلل وسائل الانحلال الخلقي والطغيان العسكري والفلسفي في أرجائها، فهي - وعلى ما كانت عليه من انحراف- كانت أقرب إلى الفطرة الإنسانية، وأدعى لقبول الدين الحق، إضافة إلى ما كان يتحلى به أهلها من نزعات حميدة كالنجدة والكرم، والعفة والإباء، والأمانة والوفاء.
هذا إلى جانب موقع جزيرة العرب المميز؛ إذ كان موقعها الجغرافي وسطاً بين تلك الأمم الغارقة التائهة، فهذا الواقع والموقع جعلها مؤهلة لنشر الخير وحمله إلى جميع الشعوب بسهولة ويسر.
وبهذا تجلت الحكمة الإلهية في اختيار العرب وجزيرتهم مهداً للإسلام، إذ كانت بيئة أميّة لم تتعقد مناهجها الفكرية بشيء من الفلسفات المنحرفة، بل كانت أقرب لقبول الحق، والإذعان له، إضافة إلى أن اختيار جزيرة العرب مهداً للإسلام فيه دفع لما قد يتبادر إلى الأذهان من أنّ الدعوة نتيجة تجارب حضارية، أو أفكار فلسفية.
ناهيك عن وجود البيت العتيق، الذي جعله الله أول بيت للعبادة، ومثابة للناس وأمنا، واللغة العربية وما تمتاز به، وهي لغة أهل الجزيرة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الله اختار العرب وفضلهم لتكون الرسالة فيهم ابتداء، وهذا تكليف أكثر مما هو تشريف؛ حيث إن من نزل عليه الوحي ابتداء مكلف بنشره وأخذه بقوة، وليس هذا أيضاً تفرقة بين العرب وغيرهم بل الكل لآدم وآدم من تراب، وأكرم الناس أتقاهم لله، ولهذا كان في الإسلام بلال الحبشي، وسلمان الفارسي...الخ.
لذلك كله وغيره كان العرب أنسب قوم يكون بينهم النبي الخاتم، وكانت جزيرتهم أفضل مكان لتلقي آخر الرسالات السماوية، فالحمد لله الذي أكرم العرب بهذا الدين العظيم، وشرَّف جزيرتهم، فجعلها مهبط الوحي المبين.
هذا وصلى الله وسلم عل نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..