يالله الجنة
12-08-2008, 08:11 AM
تبريرات المنتكسين ، وأسباب انتكاسهم ، و خداعهم لأنفسهم &
11-8-2008
الهدايةُ إلى دين الله من أعظم النعم ، ولهذا بين الله سبحانه وتعالى في فاتحة الكتاب أن الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نطلبَ من الله أن يهدينا إليه هو صراط الذين أنعم الله عليهم ؛ قال تعالى : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )[الفاتحة : 7]
وقد يهتدي كثيرٌ من الناس في أول حياتهم أو في أول سماعهم للحق ثم ينكصون على أعقابهم عائدين إلى ما كانوا عليه أو قريباً منه اتباعاً لأهوائهم وشهواتهم ثم يبررون انتكاسهم وخذلانهم بإلصاق التهم بالدين أو بالصالحين ، والأمثلة في ذلك كثيرة ، والقصص التي حدثت عجيبة ؛ فمن ذلك تلك القصة التي أخبرنا الله بها في كتابه الكريم للذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ؛ قال الله تعالى :
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [الأعراف : 176]
فحين انسلخ من آيات الله ضرب له أسوأ الأمثال ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث )
ومن القصص أيضاً في الذين نكصوا على أعقابهم قصة جبلة بن الأيهم و هو آخر أمراء بني غسان من قبل هرقل وكان الغساسنة يعيشون في الشام تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم يحرضونهم دائما على غزو الجزيرة العربية، وخاصة بعد نزول الإسلام. ولما انتشرت الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل العربية في الشام تعلن إسلامها فبدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضا، فأسلم وأسلم ذووه معه. وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بها زمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحله، وغضب الأمير الغساني لذلك- وهو حديث عهد بالإسلام- فلطمه لطمةً قاسيةً هشمت أنفه، فأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حل به، فأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث، فقال له عمر: ما دعاك يا جبلة أن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟ فأجاب بأنه قد ترفق كثيرا بهذا البدوي وأنه لولا حرمة البيت الحرام لقتله، فقال له عمر: لقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل، وإما أن اقتص له منك ، فزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري وقال: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك! فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.فقال جبلة: لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية ، فقال الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم تُرضِ الرجل اقتصصت له منك.فقال جبلة: إذاً أتَنَصّر.
فقال عمر: إذا تنصرت ضربتُ عنقَك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك.
وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام، وفر إلى القسطنطينية، فوصل إليها متنصراً، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم ،وقال شعراً معبراً عن ندمه:
تنصرت الأشراف من أجل لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنـفني مـنها لجاجٌ ونـخوةٌ ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدنـي وليتـني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليـتـني أرعى المخاض بقفرةٍ ... وكنت أسيرًا في ربيعة أو مضـر
(الوافي في الوفيات جزء 1- صفحة 1503)
وقصص المنتكسين الناكصين على أعقابهم كثيرة ، فمنهم رجلٌ نصراني أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ البقرة ، وآل عمران ، وكان يكتب الوحي للنبي -صلى الله عليه وسلم- فعاد نصرانيا ، فكان يقول : ما يدري محمد إِلا بما كتبت له ، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فأُعجبوا به، فرفعوه، فما لبث أن قَصَم الله عُنُقه فيهم ، فحفروا له ، فَوَارَوْهُ ، فأصبَحَتِ الأرض قد نَبَذته على وجهها ، ثم عادوا ، فعادت - ثلاث مرات - فتركوه منبوذا ».، وفي رواية : فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : اللهم اجعله آية. فأماته الله ، فدفنوه ، فأصبح ، وقد لفظته الأرض ، فقالوا : هذا فعل محمد وأصحابه ، لما هَرَب منهم نبشوا عن صاحبنا، فألقوه ، فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبحوا ، وقد لفظته الأرض. فقالوا مثل الأول. فحفروا له وأعمقوا فلفظته الثالثة فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه بين حجرين ، ورضموا عليه الحجارة ». أخرجه البخاري، ومسلم .
وما زال في الدنيا من ينتكس عن الحق بعد أن عرفه وينكص على عقبيه بعد أن ذاق طعم الهداية وعرف الحق ، فينكص مرتداً مطيعاً هواه وشيطانه ومخلداً إلى الأرض ، ولذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله الثبات على الدين حتى نلقاه ، وأخبرنا أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، فمن يرد الله هدايته يشرح صدره للإسلام ويثبته عليه ، وأرشدنا ربنا سبحانه وتعالى أن نقول : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )[آل عمران : 8]
وقد دأب المنتكسون خاصةً في عصرنا الحاضر على تبرير انتكاستهم ونكوصهم بتبريرات واهية ، هي أقرب أن تكون حيلاً نفسية يقنعون أنفسهم فيها ، ويبررون عدم صبرهم على التكاليف وعلى طاعة الله وعدم صبرهم عن اقتراف المعاصي والذنوب ، ويغفل المساكين عن أن تبريراتهم تلك تضيف أحياناً ذنوباً إلى ذنوبهم ، و أن من الخذلان أن يحاولوا تشويه سمعة عباد الله الصالحين ، وصد الناس عن طريق الحق بإيجادهم المبررات الواهية التي يتمسك بها المخذولون من أمثالهم .
( يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ) [البقرة : 9]
فمن تبريراتهم :
1- زعمهم أنهم إنما انتكسوا بسبب ما رأوه من بعض الملتزمين بدين الله من تقصير أو خداع أو مخاتلة بالدين ، و الرد على شبهتهم هذه ناصعٌ نصوع الشمس لو كانوا يعقلون ، فإننا حين نلتزم بدين الله يكون ذلك استجابةً لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا اتباعاً وتقليداً لأمثالنا من البشر ممن يعتريهم النقص ، فلا يضرنا حتى لو انتكس عالمٌ أو مفتٍ من المفتين .. فانتكاسة المنتكس على نفسه ، وذنب المذنب عليه ولا يوصم دين الله بأخطاء المقصرين و لا يقدح في كمال الدين أن يوجد من يلبس لباس المتدينين وليس منهم ، ولا نكره ديننا مهما حاول مخطئ أو مذنبٌ الإساءة إليه ، بل نعلم أن الخطأ يعود لصاحبه أما دين الله فكاملٌ ومن أراد لنفسه النجاة فلا يصده عن دينه نكوص مخذول أو خيانة مخادع.
2- يزعم بعضهم أنه انتكس بسبب جفاء أخلاق بعض المتدينيين وقسوتهم ، وهذا زعمٌ كاذب فإن أغلب المتدينيين - بحمد الله - أصحاب أخلاق فاضلة ، وحتى لو فرضنا أنه واجه سوء تعامل من أهل الدين فهل التزم بالدين من أجل أن يحصل على المعاملة الحسنة في الدنيا ولأجل أن يعظمه الآخرون أم التزم بالدين ليحظى برضوان رب العالمين ويرث جنة الفردوس ، فإن كانت الدنيا هدفه فإنه ينكص لأنه لم يحصل على ما أراد منها ، ومن أراد وجه الله لم تثنه المصاعب عن طاعة ربه.
3 - من مزاعمهم أيضاً أنهم إنما ينتكسون لما يرونه من ضعف حال المسلمين وتسلط الأعداء عليهم ، وأنهم تسرب إليهم الشك فما دام الإسلام هو الدين الحق فلماذا يُضطهد أتباعه في كل مكان ، وزعمهم سببه ضعف إيمانهم وقلة علمهم ، وأنهم ينظرون بمنظار محدود في زمن محدود هو في الغالب زمنهم الذي يعيشون فيه ، ولو أنهم قرأوا التاريخ لعلموا أن المسلمين تسيدوا العالم قروناً ، ولو كانوا يؤمنون حقاً بكتاب الله لأيقنوا أن النصر قادمٌ لا محالة ، وأن ما يصيب الأمة إنما هو اختبار ليعلم الله الصادق من الكاذب ، فالصادق ثابتٌ على إيمانه ودينه في الرخاء وفي الشدة ، أما الكاذب فيعبد الله على حرف ، مؤمنٌ في الرخاء فقط ، ضعيفٌ مفتونٌ عند الابتلاء ، قال تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )[الحج : 11]
وقال تعالى مبيناً حتمية الابتلاء والتمحيص ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت : 2]
من أهم أسباب الانتكاس :
أولاً : تزيين الشيطان وتسويله لهم فقد بيّنَ الله أنَّ ذلك من تزيينِ الشيطانِ، (( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ )) (محمد: 25).
ثانياً : زيغ الإنسان عن الحق واتباعه لشهواته وهواه سببٌ لأن يزيغ اللهُ قلبه، قال تعالى (( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) (الصف: 5) .
وقال تعالى ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (التوبة: 115).
وقال تعالى :(( ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون )) (التوبة: 127).
ثالثاً : الكبر من أعظم أسباب الانتكاس وأكثرها شيوعاً ، قال تعالى (( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )) (الأعراف: 146).
أبواب التوبة مفتوحة و الله لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره فعد إلى ربك منيباً تائباً
ومن رحمة الله سبحانه ولطفه بعباده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، وأنه سبحانه يقبل توبة التائبين ، و يمهل من عصاه ، و يناديه أن لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي .
فلا ييأسن من رحمة الله عاصٍ ولا منتكس ، فإن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، واغفر لنا ذنوبنا ، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا .
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين ، وارزقنا شرف التمسك بدينك والصبر على طاعتك ، والصبر عن المعاصي ، و زدنا شرفاً بالدعوة إليك و اغفر لجميع المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً.
11-8-2008
الهدايةُ إلى دين الله من أعظم النعم ، ولهذا بين الله سبحانه وتعالى في فاتحة الكتاب أن الصراط المستقيم الذي أُمرنا أن نطلبَ من الله أن يهدينا إليه هو صراط الذين أنعم الله عليهم ؛ قال تعالى : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )[الفاتحة : 7]
وقد يهتدي كثيرٌ من الناس في أول حياتهم أو في أول سماعهم للحق ثم ينكصون على أعقابهم عائدين إلى ما كانوا عليه أو قريباً منه اتباعاً لأهوائهم وشهواتهم ثم يبررون انتكاسهم وخذلانهم بإلصاق التهم بالدين أو بالصالحين ، والأمثلة في ذلك كثيرة ، والقصص التي حدثت عجيبة ؛ فمن ذلك تلك القصة التي أخبرنا الله بها في كتابه الكريم للذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ؛ قال الله تعالى :
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [الأعراف : 176]
فحين انسلخ من آيات الله ضرب له أسوأ الأمثال ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث )
ومن القصص أيضاً في الذين نكصوا على أعقابهم قصة جبلة بن الأيهم و هو آخر أمراء بني غسان من قبل هرقل وكان الغساسنة يعيشون في الشام تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم يحرضونهم دائما على غزو الجزيرة العربية، وخاصة بعد نزول الإسلام. ولما انتشرت الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل العربية في الشام تعلن إسلامها فبدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضا، فأسلم وأسلم ذووه معه. وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بها زمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحله، وغضب الأمير الغساني لذلك- وهو حديث عهد بالإسلام- فلطمه لطمةً قاسيةً هشمت أنفه، فأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حل به، فأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث، فقال له عمر: ما دعاك يا جبلة أن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟ فأجاب بأنه قد ترفق كثيرا بهذا البدوي وأنه لولا حرمة البيت الحرام لقتله، فقال له عمر: لقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل، وإما أن اقتص له منك ، فزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري وقال: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك! فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.فقال جبلة: لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية ، فقال الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم تُرضِ الرجل اقتصصت له منك.فقال جبلة: إذاً أتَنَصّر.
فقال عمر: إذا تنصرت ضربتُ عنقَك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك.
وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام، وفر إلى القسطنطينية، فوصل إليها متنصراً، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم ،وقال شعراً معبراً عن ندمه:
تنصرت الأشراف من أجل لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنـفني مـنها لجاجٌ ونـخوةٌ ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدنـي وليتـني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليـتـني أرعى المخاض بقفرةٍ ... وكنت أسيرًا في ربيعة أو مضـر
(الوافي في الوفيات جزء 1- صفحة 1503)
وقصص المنتكسين الناكصين على أعقابهم كثيرة ، فمنهم رجلٌ نصراني أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ البقرة ، وآل عمران ، وكان يكتب الوحي للنبي -صلى الله عليه وسلم- فعاد نصرانيا ، فكان يقول : ما يدري محمد إِلا بما كتبت له ، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فأُعجبوا به، فرفعوه، فما لبث أن قَصَم الله عُنُقه فيهم ، فحفروا له ، فَوَارَوْهُ ، فأصبَحَتِ الأرض قد نَبَذته على وجهها ، ثم عادوا ، فعادت - ثلاث مرات - فتركوه منبوذا ».، وفي رواية : فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : اللهم اجعله آية. فأماته الله ، فدفنوه ، فأصبح ، وقد لفظته الأرض ، فقالوا : هذا فعل محمد وأصحابه ، لما هَرَب منهم نبشوا عن صاحبنا، فألقوه ، فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبحوا ، وقد لفظته الأرض. فقالوا مثل الأول. فحفروا له وأعمقوا فلفظته الثالثة فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه بين حجرين ، ورضموا عليه الحجارة ». أخرجه البخاري، ومسلم .
وما زال في الدنيا من ينتكس عن الحق بعد أن عرفه وينكص على عقبيه بعد أن ذاق طعم الهداية وعرف الحق ، فينكص مرتداً مطيعاً هواه وشيطانه ومخلداً إلى الأرض ، ولذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله الثبات على الدين حتى نلقاه ، وأخبرنا أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، فمن يرد الله هدايته يشرح صدره للإسلام ويثبته عليه ، وأرشدنا ربنا سبحانه وتعالى أن نقول : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )[آل عمران : 8]
وقد دأب المنتكسون خاصةً في عصرنا الحاضر على تبرير انتكاستهم ونكوصهم بتبريرات واهية ، هي أقرب أن تكون حيلاً نفسية يقنعون أنفسهم فيها ، ويبررون عدم صبرهم على التكاليف وعلى طاعة الله وعدم صبرهم عن اقتراف المعاصي والذنوب ، ويغفل المساكين عن أن تبريراتهم تلك تضيف أحياناً ذنوباً إلى ذنوبهم ، و أن من الخذلان أن يحاولوا تشويه سمعة عباد الله الصالحين ، وصد الناس عن طريق الحق بإيجادهم المبررات الواهية التي يتمسك بها المخذولون من أمثالهم .
( يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ) [البقرة : 9]
فمن تبريراتهم :
1- زعمهم أنهم إنما انتكسوا بسبب ما رأوه من بعض الملتزمين بدين الله من تقصير أو خداع أو مخاتلة بالدين ، و الرد على شبهتهم هذه ناصعٌ نصوع الشمس لو كانوا يعقلون ، فإننا حين نلتزم بدين الله يكون ذلك استجابةً لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا اتباعاً وتقليداً لأمثالنا من البشر ممن يعتريهم النقص ، فلا يضرنا حتى لو انتكس عالمٌ أو مفتٍ من المفتين .. فانتكاسة المنتكس على نفسه ، وذنب المذنب عليه ولا يوصم دين الله بأخطاء المقصرين و لا يقدح في كمال الدين أن يوجد من يلبس لباس المتدينين وليس منهم ، ولا نكره ديننا مهما حاول مخطئ أو مذنبٌ الإساءة إليه ، بل نعلم أن الخطأ يعود لصاحبه أما دين الله فكاملٌ ومن أراد لنفسه النجاة فلا يصده عن دينه نكوص مخذول أو خيانة مخادع.
2- يزعم بعضهم أنه انتكس بسبب جفاء أخلاق بعض المتدينيين وقسوتهم ، وهذا زعمٌ كاذب فإن أغلب المتدينيين - بحمد الله - أصحاب أخلاق فاضلة ، وحتى لو فرضنا أنه واجه سوء تعامل من أهل الدين فهل التزم بالدين من أجل أن يحصل على المعاملة الحسنة في الدنيا ولأجل أن يعظمه الآخرون أم التزم بالدين ليحظى برضوان رب العالمين ويرث جنة الفردوس ، فإن كانت الدنيا هدفه فإنه ينكص لأنه لم يحصل على ما أراد منها ، ومن أراد وجه الله لم تثنه المصاعب عن طاعة ربه.
3 - من مزاعمهم أيضاً أنهم إنما ينتكسون لما يرونه من ضعف حال المسلمين وتسلط الأعداء عليهم ، وأنهم تسرب إليهم الشك فما دام الإسلام هو الدين الحق فلماذا يُضطهد أتباعه في كل مكان ، وزعمهم سببه ضعف إيمانهم وقلة علمهم ، وأنهم ينظرون بمنظار محدود في زمن محدود هو في الغالب زمنهم الذي يعيشون فيه ، ولو أنهم قرأوا التاريخ لعلموا أن المسلمين تسيدوا العالم قروناً ، ولو كانوا يؤمنون حقاً بكتاب الله لأيقنوا أن النصر قادمٌ لا محالة ، وأن ما يصيب الأمة إنما هو اختبار ليعلم الله الصادق من الكاذب ، فالصادق ثابتٌ على إيمانه ودينه في الرخاء وفي الشدة ، أما الكاذب فيعبد الله على حرف ، مؤمنٌ في الرخاء فقط ، ضعيفٌ مفتونٌ عند الابتلاء ، قال تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )[الحج : 11]
وقال تعالى مبيناً حتمية الابتلاء والتمحيص ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت : 2]
من أهم أسباب الانتكاس :
أولاً : تزيين الشيطان وتسويله لهم فقد بيّنَ الله أنَّ ذلك من تزيينِ الشيطانِ، (( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ )) (محمد: 25).
ثانياً : زيغ الإنسان عن الحق واتباعه لشهواته وهواه سببٌ لأن يزيغ اللهُ قلبه، قال تعالى (( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) (الصف: 5) .
وقال تعالى ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (التوبة: 115).
وقال تعالى :(( ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون )) (التوبة: 127).
ثالثاً : الكبر من أعظم أسباب الانتكاس وأكثرها شيوعاً ، قال تعالى (( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )) (الأعراف: 146).
أبواب التوبة مفتوحة و الله لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره فعد إلى ربك منيباً تائباً
ومن رحمة الله سبحانه ولطفه بعباده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، وأنه سبحانه يقبل توبة التائبين ، و يمهل من عصاه ، و يناديه أن لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي .
فلا ييأسن من رحمة الله عاصٍ ولا منتكس ، فإن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، واغفر لنا ذنوبنا ، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا .
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين ، وارزقنا شرف التمسك بدينك والصبر على طاعتك ، والصبر عن المعاصي ، و زدنا شرفاً بالدعوة إليك و اغفر لجميع المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً.