أ.محمد العبدلي
02-04-2010, 06:17 AM
سعيد وسعيده
ـــــــــــــــــــــــــــ
تنشر الشمس أشعتها على قرية ريفية صغيرة ، لم تغزها الحضارة إلا بمصابيح كهربائية بسيطة ، تضيئ ليلا بمولد كهربائي صغير ، اشتراه شيخ القرية وهورجل كبير في السن ’ ميسور الحال .
أتت السنوات على وجهه المتجعّد وشعره الناصع البياض ، إلا أنه يحتل منزلة عظيمة في نفوس قومه لما له من الهيبة والوقار في نفوسهم .
وكان منزله الكبير ’ وسط القرية لايضم ّسوى ذكريات قديمة ، تتمثل في سيف قديم ، وقطعة سلاح أثرية
قد أكل جوانبها الصّدأ ، وفي البيت زوجته وهي سيدة طاعنة في السن ، إذا رأيتها أوحت إليك نظراتها الحاد ة الواثقة ، أنها كانت هي الأخرى سيدة عصرها أثناء شبابها ، لما تراه على محيّاها من قسمات الجمال ، لم تستطع السنوات القاسية طمس معالم ذلك الجمال وتشويهـه .
وعندما تحبّ أن ترى ابتسامتهـا سل هـا عن أحد أبنائها وخاصة ولدها الصغير سعيد ، ستجدها تكيل إليك بمدحه ، والثناء عليه ، وهي مزهوة بذلك ..
ليس لكون أبنائها قد حققوا بعض المناصب والجاه بين أقرانهـم ، وإنما لكونهـم أولادها وهذا هو المهـم في رأيهـا ..
وتختلق الأعذار الواهية التي قد تقنعك وقد لاتقنعك ، بنجاح ولدها سعيد والذي هـو الآن في آخـر سنة من الإعدادية ومن يعرفه يقول: عنه كان من المفـروض أن يكون بالمرحلة ا لثا نوية ..
(1 )
تقول : أم سعيد أنّ عيب الرجل في جيبه ، ودائما ماترد د مثل هذا الكلام ، وابنهـاسعيد ميسور الحال ، وتراها في الصباح جاهدة وهي توقظه من نومه ، ليواكب زملاءه الذين بكّروا إلى المدرسة ، ولكن سعيدا لايصغي لأحد سوى سلطان النوم الذي هيمن عليه فتملك إحساسه وبلّد مشاعـره .
وعندمـا ترى أمّه وهي توقظه ، وتترنّـم بكلـمات لاهي من الشعر ، ولاهي من النثر، فتقول : سعيد يا سعدي .. يافلذة الكبدي .. قم وتنشط ترى الوقت يمضي ..
فيردّ سعيد وهومغمض أجفانه ، سعيد ما أنكده .. وقد أتت توقظه .. أف لذي المدرسه .. ويغطي رأسه ، ولمـا يسمع صوت أبيه ينطلق من سريره ، و كأنه أطلق من عقال ، خوفا منه لما عرفه من أبيه من شدّة وغلظة ، ويصلي ركعات سريعة ولايدري أهي اثنتين أو واحدة ، ويلتقط يد أبيه ويقبلهـا مبديا الطاعة والاحترام فيقول : أبوه ..
أنا غاضب منك أيقظتك فجـرا للصلاة ولم تقم وقد زجرتني أمك العجـوز عن أيقاظك وقالت أنك نمت متأخرا بسبب المذاكرة . ولكنّك الآن رجلا ولابدّ من الصلاة جماعة في المسجد
، يطرق سعيد برأسه ويهزّه و يعتذر ويتقبل النصح ،ويتناول إفطاره ويجري إلى مدرسته مسرعا لتأخره
ويلتقي وهو في طريقه إلى المدرسة عبر الحقول بابنة عمه سعيدة ،وهي فتاة لم يكن لها نصيب من التعليم ، لما يراه أهل القرية ، في تعليم الفتاة من سخف وجهالة
وإنما الفتاة مكانها مع أمّها تساعدها في خدمة المنزل
لتكون ناجحة في منزل أهل زوجها .
(2 )
وكانت سعيدة تحاول لفت نظر ابن عمهـا سعيد ، إليهـا فهو شاب وسيم ومتعلّم وقد كتبت له كزوجة منذ طفولتها على عادة عرف القبيلة في زواج ابنة العم من ابن عمّها
وقد تزوّج إخوته من أخوات سعيدة ، ولم تبق سواها كما أنّ أخوات سعيدة تزوجن وسافرن مع أزواجهنّ إلى المدينة وسعيدة تتشوق اللحاق بأخواتهـا ، وماكان لسعيد أن يرفض الزواج بهـا ويرفض قرار والده وعمّه ، مع كونهـا أقلّ أخواتهـا جمـالا .
ودائما عندما يلتقي بها في الحقل يسألها متى تستيقظين ؟
فتقول : قبل شروق الشمس ساعدت أمي بإعداد إخوتي وها أنا أتجه على الحقل بغنمي .
ضحك سعيد وقال : أنت مجنونة ليس ثمة ما يدعو إلى استيقاظك ، مبكـّرة مادام أنه ليس لديك مدرسة مثلي ، ضحكت سعيدة وقالت : لقد تعودنا على هذه الحال ، فقال : مارأيك أترك المدرسة وأذهب معك إلى المـرعى
خالجت السعادة نفس سعيده ،واستحسنت الفكـرة ، فمعنى هذا أنه يكن لهـا معزّة في قلبه ،وهي كذلك ولكنها قالت : لا تترك مدرستك وعند عودتك ستجدني بانتظارك عند الوادي الكبير .. وضحك سعيد وواصل طـريقه إلى المدرسة ..
وهزّت سعيدة عصاها عاليا وأشارت إلى كلبها بالانطلاق ، وانطلقت وراء القطيع وهي تمنّي نفسها بزواجها من ابن عمّها ، وجلست على ربوة مرتفعة تنظـر إلى صفاء السماء وأغنامهـا أمـامهـا
،وأخذت تتذكـّر زواج أخواتها من أبناء عمومتها وكيف تمّ سفرهـم للمدينة ، وعند زيارتهنّ للقرية يحملنّ معهنّ أجمل الهدايا
، ويلبسن ّ أجمل الثياب ، وينقضي النهار وهي تنسج بمخيّـلتها البسيطة خيوط مستقبلها ،وكيف أنها لو تزوجت وسافرت للمدينة ستكون سعيدة مع سعيد
، فقد تتخلّص من هذا العمل الرتيب وهو الرعي من الفجـر إلى الغروب ثمّ الحلب في المساء والصرّ في الصباح ، ثمّ تلقي بجسمها مجهدة في المساء ، لاتشعر بما يتحرّك من حولها
وترى في ابن عمها سعيد خلاصها من هذا الشقاء ولاسيّما أنه سينقل دراسته إلى المدينة بعد أيام كما سمعت من معارفها وقد سمعت أنّ الحياة في المدينة سهلة ووادعة وراحة وهناء لاحلب ولاصر...
ينمن النسوة من الفجر إلى الظهر ، ولا يوقظهنّ أحـد إلا القيام للأكل ...
وهذا أمر محرّم ومعيب في القرية وعلى سعيدة بالذات فهي في حركة ودأب صباحا ومساء
وتمضي الساعات وسعيدة بانتظار سعيد بالوادي الكبير ، ولم يحضر ونسيها بل سلك طريقا آخر في الرجوع إلى منزله ، وتعود من الوادي الكبير وهي تختلق له الأعذار وتحسن الظن به لطيب قلبها ، وتجد قدمها تسوقها إلى بيت عمّها ...
فيقابلها عمها مبتسما ، وينظر إليها متعجبا ، وقد استوى عودها فتسأله عن عمتها أم سعيد ، وأحوالها فيفهم مقصدها فيقول : ذلك الكسول لقد عاد ونام ، عمتك غير موجودة حاليا ،ابلغي سلامي لوالدك وقولي له أنّ الزرع قد استوى ووجب حصاده ،..
وتنطلق عائدة إلى بيت أبيها فيسألها عن تأخرها فتقول: ذهبت للسلام على عمي وأخبرني أن أبلغك أنّ الزرع قد استوى ووجب حصاده ، ضحك أبوها وقال : لاعليك هذه عادة عمك ، ويمضي العام ويرحل سعيد إلى المدينة للإلتحـاق بمدرسة عند إخوته ، وتمضي السنة والسنتان ، ولم يحقق نجاحا ويكره التعليم ويرسل إلى أبيه قراره الأخير بترك الدراسة والبحث عن عمل ولكن والده يرفض ، رأيه ويقول: الذي يفشل في الدراسة يفشل في الوظيفة ، ويجب العودة إلى الدراسة وبذل كل جهد وإن كان هناك مشكلة مالية فوالده على استعداد لتذليلهـا
ولم تكن مشكلة سعيد ، هي المادة ، بل مشكلته في نفسه ، اتكاليا على والديه في القرية اتكاليا على إخوته في المدينة ، في نومه وأكله ، ويقظته وإيقاظه ، وترتيب حجرته .. وقد عانى منه إخوته مشكلة عويصة ، وتمنوا عودته للقرية وعاد للقرية بعد ثلاث سنوات من الغربة عاد بخيبة أمل ، وشهادة طرد من المدرسة ..
(3)
وبعد مشادة بين أبيه وأمّه ، أقسم أبوه على تزويجه بنت عمّه سعيده ، لتصلح من أحواله ويتحمّل مسئوليته بنفسه ، ويرفض سعيد العرض ولكنّ أباه صمم على ذلك ولامفرّ من زواجه ، ولاسيّمـا أن سعيدة بانتظاره منذ زمن
، ورأى سعيد أنّه لامحيص من هذا الزواج ،لكونها بنت عمه ، وسمعت سعيدة بقدوم سعيد ، وعاد قلبها يخفق شوقا لرؤيته لقد تقدّم لخطبتها الكثير ، ولكنّ والدها يرفض كما هو العرف المتبع في القرية أنّ بنت العمّ لابن عمها شاءت أم أبت ..
وبينما هي في أفكارها هذه
طـرق الباب فأسرعت تفتحه فوجدت سعيدا بالباب صحبة أبيه ، فظلّت متمسكة في الباب تنظر إليهما واجمة فدفع والد سعيد الباب ، وسألها أين أبوك ؟ فعاد إليها وعيها وقالت سيحضر حالا ،وانطلقت إلى أبيها ’
فأقبل والد سعيدة ، مرحبا بأخيه وولده ، فهو لم ير سعيدا منذ زمن ، وقال : مازحا وهاهو قد عاد ببياض أهل المدينة ،
وضحك الجميع وبعد ذلك سمعت سعيدة ، الزغاريد فعرفت أنّهـا قد خطبت حقا ، وأنّها ستزفّ إليه قريبا وأنّ أهل القرية قد علموا بهذا النبأ السار ، وانقضت أيام العرس ..
وتهيأت سعيدة للسفر وركبت الطائرة التي لم ترها إلا في السماء ولم تعرف كيف تحمل الركاب مع أمتعتهم وقالت لسعيد أسرع إلى الطائرة فقد لا نجد مكانا لنا ولا لأمتعتنا . فضحك منها وقال : تحملنا جميعا الطائرة لا عليك ، وبدأ قلبها يدق خوفا من هذا العالم الجديد . الذي سوف تخوض غماره ،
وتنظـر من خلال النافذة ، وقد ارتفعت الطائرة في عنان السماء ،فلا ترى إلا أكواما من السحب ، ونظرت إلى الأرض فرأت أن الجبال والأكواخ والقصور أصبحت لا ترى بالعين المجرّدة لقد صغرت جدا ، كل شيئ أصبح صغيرا ، فقالت لسعيد يا له من عالم صغير !
أهكذا هي السماء ؟ هل أنا أحلّق في الفضاء حقا ، إنني مندهشة وغير مصدقة ، هل تستحق الحياة كل هذا التعب ؟
إنـّا كنـّـا نشـقي أنفسنا في الأرياف وأهل المدينة يتمتعون بالراحة ، ضحك سعيد من كلماتها وقال : أنا سعيد بك يا سعيدة ، وأعد ك بالسعادة في حياتك، ولكن بشرط أن تغيري من طيبتـك الزائدة وملابسـك الخشنة ، فنحن لسنا في القرية ،
قالت : ملابسي من المعقول تغييرها ، ولكن طيبة الإنسـان كيف يغيّرها ؟ وهبطت الطائر دون أن تحظ بإجابة من سعيد ..
(4)
هبطت الطائرة في مطار جدة ، فهالها زحام الناس وسـخب المدينة وأزيز الطائرات وأبواق السيارات فتذكرت هدوء القرية ، ورأت أنّ المدينة تختلف كل الاختلاف عن القرية وعمّا رسمته في مخيلتها من هدوء وراحة بال ، فأضواءهـا ساطعة ،وعماراتها شاهقة ، وطرقهـا معبّدة ، وحدائقها متسقة ، وكل شيئ فيها يختلف عن القرية اختلافا شاسعــا ، حتى أناسي المدينة يختلفون عن أولئك البسطـاء من أهل القرية ،
وعند وصولها حضر إليها معارفها ، بالمدينة وكأنها تقابلهم لأول مرّة فلبسهم ومظهرهم ، ليس كما عرفتهم بالقرية ، حتى نفوسهم تغيّرت فقد شعرت بأنهم مختلفون عنهـا ، وشعرت بالغربة والخوف ..
وبعد فترة وجيزة من الاستقرار حاولت محاكاة بنات جنسهـا ولاسيما معارفها من الذين سبقوها إلى الحياة المدنية ، فقد حاولت تقليدهم في ترتيب منزلها ، وملبسها وتقول: إنـّهـا رغبة سعيد في التغيير، يريدني أن أكون أفضل من الذين سبقوني إلى المدينة .
وسعيد لم يقصر في شراء أدوات زينتها وعطورها وملابسها ولاسيما عند زيارتها للآخـرين ، وليتباهى أمامهم أنّه لم يكن مقصّرا معها ، ولو حدث أي تقصير فهو منها لجهلهـا وعدم اهتمامها ، واستمرّت الحال وسعيدة تحاول إرضاء سعيد وهي بين تطوّر وتأخـر، تحاول التكيّف مع مجتمعها الجديد ، ولكن ّ سعيد يريد من سعيدة أن تكون متحضّرة بين عشية وضحاها ، وأحيانا ينتقدها أمام الآخرين على أتفه الأسباب كترتيب ثوبها ومكياجها ، وماترتديه من ملبس لا يتناسب وتنا سق الأ لوان والمكياج ، وهي تحمل كل ّ هذا من قبيل الاهتمام والتعليم ، فتتصنع الابتسامة ، وتتقبل الانتقاد بصدر رحب ، ...
وتبدأ سنته الدراسية الجديدة ، وتبدأ معاناة سعيدة ، في إيقاظه للمدرسة ، فأحيانا تشتد عليه ، وأحيانا تلاطفه ، عند شعورها بالخوف منه ، ومن حدّة لسانه ، وأحيانا ينتهي الأمر بمشاجرة تنتهي بهزيمتها على كل حال ، وبضربها إذا لزم الأمـر
ولكنّها لم تيأس منه واستمرّت جاهدة تبذل قصارى جهدها ، ليتمّ دراسته كما وعدها أن يكون ..
ولم يمض نصف العام إلا وقد ظهـر فشله ، في متابعة دراسته ، وبد أ أقرباءه في المدينة يهـزأ ون منها ، بسبب إخفاقه في الدراسة ، ولكنّها لم تعر أحدا منهم أي اهتمام ، ولم تفتح مع أحد صفحة للنقاش حول زوجها ، وقرر سعيد البحث عن عمل ..
وأرسل إلى والده يستأذنه في البحث عن عمل ، فغضب والده ، ومنع مساعدته المالية له ، وصبّ اللوم على زوجته التي أخفقت في توجيهه التوجيه الصحيح ،ووجدت سعيدة نفسها تعاني من مشاكل حقيقية ، فلم تستطع دفع سعيد للنجاح كما أنّها لم تستطع أن تلبي رغباته المتقلبة المزاج ، وبقي سعيد أمام ناظريها ينام نهارا ويسهر ليلا ،وأصبح البيت خاليا من القوت الضروري ،الذي لا تستمر الحياة بدونه ، إلا ما جاء هدية من بيوت جيرانها ومن أخواتها أو إخوته ،
ولما رأى أخوه الأكبر أنه لا أمل من دراسته وأنّها غير ممكنة توسّط له عند أحد أصدقائه ، في إيجاد عمل له ، فلم يخيّب ذلك الصديق ظنّه ،ووظّفه في شركته الناشئة ،بأجر يوفـّر منه إيجار سكنه ، وفرحت سعيدة لسعيد ، لعله يستقيم أمره ، بعد الآن ويحافظ على هذا الأجر المغري ، وكان عمله مساء ليتناسب مع أوقات صحوه ، ولكنّ سعيدا بدأ يتأخّر ليلا ويتخذ العمل ذريعة في التأخـر عن المنزل ، فبعد أن ينتهي عمله في السا عة العاشرة ،
لم يعد إلى منزله إلا في تمام الثانية فجـرا
فضاقت سعيدة بالأمـر وبدأت تسأله عن خروجه ودخوله ،وتحدد له الزمن وكل هذا من باب حرصها على سلامته ، وشعورها بالوحشة والخوف في بيت مقفر من الأطفال ، وشعر سعيد أنّها بدأت تفرض شخصيتها عليه ، وعلى تصرفاته ، فأخبرها أنّه متعب ، ولا يريد مناقشة شيئ معها .
وبدأ بالتهديد والوعيد ، وبدأ بينهما خلاف وشجار وصل صيته إلى جيرانهم وألقى بنفسه على الفراش ولم يقم حتى لصلاته حاولت سعيدة جاهدة في التكتّم والصبر ، وعدم فضح سعيد ، عند الآخـرين ..
ترى سعيدة بفطرة أبناء الريف أنّ الصلاة واجبة ،وأنّ تركها كفر يوجب العقاب وأنّ العمـل في سبيل العيش الكـريم واجب ، ولا مجال للضعيف والكسول في الحـياة ..
وقد نصحتها أمّهـا قبل زواجـهـا بأن لا تبوح بسر من أسرار زوجها ، أو تطلع أحدا على تصرفاته ،فهو زوج وابن عم ، وخاصة أنّها شعرت بوجود طفل في أحشائها قد يزيد من هموم هذا البيت البسيط ، وأنجبت طفلها الأول ، وأخذت تتابع الإنجاب
وشعر سعيد ، بالفزع لقد كبرت أسرته ، وكثرت أعباءه مما دعاه إلى حملها على عدم الإنجاب ففي خلال ست سنوات من زواجهما أنجبت خمسة أطفال .. مما سبب تغيّرا في وزنها وترهلا في أعضائها وزادت هوة الخلاف بينهما ، وضاع ما كان من حب ، وكثر شجارهما أمام أطفالهما ، وبدأ يتخلّف عن عمله ، ويشكو ويتذمّـر من الحياة الزوجية .
فضاق به صاحب العمل ذرعا ، وبسبب غيابه وتأخـره فقد استغني عنه بموظف آخــر ،وفقد بذلك وظيفته ومصدر رزق أطفاله ، فتحامق سعيد ، وبدأ يكيل الشتائم لصاحب العمل ، الذي لفت انتباهه أكثر من مرّة على تأخـره وغيابه ، وأرسل إليه من ينصح له ويوجهه ، ولكنّه لم يرتدع .
وتوجه سعيد إلى أخيه الأكبر يشكو إليه معاملة صديقه صاحب الشركة ، وأنّه لم يكن طيّبا معه كبقية الموظفين ، وقرر استقالته عن طيب خاطر وعزة نفس ، فهدأ أخوه من روعه ووعده بتدبر الأمـر وحلّ المشكلة ، ولما عرف من أمـر سعيد وتهجمه على صاحب الشركة ..
قرر أخوه أن يجعل له عملا مستقلا يقوم هو بنفسه عليه ..
وجمع له بعض المال وأدخله شريكا في بعض الأعمال التجارية مع صديق آخـر يدعى راضي .
وقد عرف عن راضي كـرمه وحسن معاملته ، وطيب قلبه وقد سحر راضي الآخرين بلباقته ، وتصرّفه الحسن في التجارة
ناهيك عن زوجته التي لها دور كبير في نجاح تجارته ، بسبب علاقاتها الاجتماعية المتحررة ، وتمت الشراكة بين سعيد وراضي ، وبدأ راضي يثني على سعيد ، ويطريه أمام زوجته ليلى ..
وازدهرت تجارتهما وأصبح راضي وسعيد كالأخوين لا يختلفان في رأي ، وذات ليلة طلب راضي من سعيد السهر معه في منزله لقد أصبحا أخوين حميمين بل أشدّ أخوة .
وحضر سعيد إلى منزل راضي وعرّفه راضي بزوجته ليلى وقال : له لا تستهين بها فهي تاجرة ماهرة وقالت : عند رؤيتها لسعيد إنّ زوجي دائم الثناء عليك ، وما أظنّك إلا وقد سحرته ، وأظنّ عنده حق في مدحك لأني أرى فيك الذكاء والنباهة ..
وسعيد يشكرها ويتحاشى النظر إليها أمام زوجها ويرى أنّ الحضـر هذه هي أخلاقهم ، وهي تختلس النظر وتحاول لفت انتباه سعيد إليها ببعض الابتسامات التي لم يتعوّد عليها سعيد ،
وانتهت هذه السهرة وأحس أنها أجمل سهرة في حياته ، وعاد سعيد إلى بيته وكأنّه لم يشاهد امرأة قط في حياته غير ليلى ، ويتمتم بكلمات في نفسه قائلا : ما هذا الطول الفارع ؟ والجمال البارع ؟والخصر النحيل ؟والنظرات الفاتنة؟ والكلام المعسول الذي يتغلغل إلى أعماق الوجدان ، هذه فتاة أحلامي التي أبحث عنها منذ زمن إلا أنها متزوجة .. وأفاق من هذيانه على دخول زوجته سعيدة ، فتغيّرت ملامح وجهه ، وسألته عن شريكه الجديد ، وكيفية العمل معه . فأجابها بأنّه رجل كريم وزوجته امرأة رائعة .
وعاد بالسؤال عن الأطفال وحالهم ، وملاطفة سعيدة بحديث يتصف بالاحترام ،ويحمل في معانيه نوعا من الهدوء والعقلانية ، لم تتعود على مثله من سعيد .
وبعد خروجها عاوده طيف ليلى والتفكير بها ..
ليلى زوجة شريكه راضي .. وأخذ في التخبّط والتفكير ، يطرح أسئلة على نفسه ثمّ يجيب عليها .. ليلى متزوّجة..
ولو لم تكن كذلك لخطبها لنفسي وأتخذها زوجة لي .. ولكنها زوجة راضي .. وتكررت دعوات راضي لسعيد والسهر معه بمناسبة وبغير مناسبة لقد أصبح واحدا من الأسرة بدعوى الشراكة .
واستمر التواصل وسمح له راضي بدخول منزله متى شاء حتى وإن لم يكن موجودا فهما إخوة وشركاء ..
وحدث ما كان يتوقعه سعيد ، ويوسوس به ، لقد مالت ليلى إليه ، وفاتحته بحبّها ، فتلعثم ثمّ كررت عليه أنها هي السبب بتجارة زوجها ، وهي التي أخرجته إلى المجتمع
وأخذت تشكو وتتذمر من زوجها راضي وأنه يهينها ويشتمها ، وقد تزوجها عندما كان والدها فقيرا وأغراه بالمال وأقنعه بلسانه وأنا غير راضية ولمـا رأيتك أحسـست كأني أعرفك منذ زمن بعيد
ووجدت هذه الكلمات ترحيبا في قلب سعيد، وأخذ هو الآخـر يفاتحها بأسراره الزوجية ، ويشكو لها أنه يعاني مما تعانيه تماما بتمام ، وسواء بسواء
فقد تزوج ابنة عمّه وهو لا يريدها وإنّما فرضت عليه بسبب العادات القبلية البالية ، وزوجته امرأة جاهلة ساذجة لا تفهم شيئا من أمور الحياة ، وهو الآن لا يشعر نحوها بأي ارتباط عاطفي ..
وانتهى الحديث بينهما بتبادل الغرام ، ثمّ تبادل الهدايا في الخفاء ، فسعيد يبذل المال وهي تبذل الدلال
ووجد عند ليلى الحنان المصطنع الذي افتقده عند سعيدة ابنة عمه ، وأم أطفاله ، وبدأ سعيد يتغيّر رويدا رو يدا على زوجته
لا يقابلها إلا عابسا متجهمـا ويختلق المشاكل دون أدنى سبب
ويحمل فراشه بنفسه إلى مجلس الضيوف ، ثمّ ينام منفردا وهي تنام مع أطفالها حاضنة لهم وتداري دموعها على أمل أن يعود إليها كزوج وابن عم عطوف حنون
ولكنّه تمادى أياما وليا ليا حتى ألف الانطواء بنفسه ، وعندما تحاول إرضاءه يمنعها من الدخول عليه ، وصوّر له عقله أنّ سعيدة لم تعـد تصلح له ، وهو لم يعد يصلح لها ، وهي السبب في كل ما لحق به من فشل وتعاسة ، وسمع بمرض والده ..
فذهب لزيارته بالقرية .. وتعطّلت سيّارته على قارعة الطريق ، فمرّ عليه أحد شباب القرية وقدّم له يد العون في تصليح سيّارته وأقسم عليه هذا الشاب أن يمرّ معه إلى داره المجاورة للطريق فوافق وذهب معه إلى داره ،فدعاه الشاب للتعرّف على شخص يدّعي أنّه له دور كبير في تربية سعيد في صغره
، فوافق سعيد ليستوضح الأمـر ، فوجد عجوزا شمطاء قد أكل الدهر عليها وشرب ، وتسأله عن إخوته وبنات عمّه وعن سعيدة بالذات ، فأخبرها أنّ الجميع بخير وعافيه ، وأنّه تزوّج سعيدة ، فقالت ويحك يا سعيد أتتزوج سعيدة وهي أختك من الرضاعة ...
(5 )
لقد أرضعتكما معا من صدري هذا وسل أمّك .. أعتقد أنّها تدري ، فقد كنت أخدم في منزلكم ،فأصيب سعيد بالدهشة ولاستغراب ، ثمّ ترك منزلها وتوجه إلى منزل أبيه وأمّه
وبعد الاطمئنان على صحة أبيه ، سأل أمّه عما سمع من تلك العجوز ، فقالت أمه أنّها كانت تعمل لدينا، ولكن عليك بأم زوجتك فهي عندها الخبر اليقين ، أمّا أنا فلا علم لي .
توجّه سعيد إلى أمّ زوجته سعيدة ، فقالت أنّها تكذب فكيف أرضعتك مع ابنتي وأنت أكبر منها بسنتين ، وترك سعيد بيت أم زوجته ، وبعد أن اطمأن على أبيه وأمّه ،وعاد إلى المد ينه ، وهـو بين مصدق ومكذّب ، بما أوحت إليه تلك العجوز ، وعند وصوله إلى إلى منزله بالمد ينه أخبر زوجته بما سمع من تلك العجوز ، فكادت تفقد عقلها ولكنّها تماسكت وقالت ربما هذا يا سعيد من باب الكذب والمزاح
ولكنّ سعيدا أكّـد لها ذلك .
وأنّ تلك العجوز أقسمت له يمينا مغلظة أنّها أرضعتنا معا ، فضربت سعيدة يدا بيد وقالت : لقد طلّقتني أولّ مرّة ورأيت ضياع أطفالنا
والآن جئت تختلق الرضاعة تريد التخلّص مني ، فحسبي الله ونعم الوكيل ، وتدعي الآن أنني أختك من الرضاعة ، بهذه السرعة تريد التخلص مني ياسعيد ، يالها من كارثة ، حلّت علي وعلى هؤلاء الأطفال ، فصبر جميل .
وبدأ سعيد يتصنّع الحزن والأسى ، ويفتعل الألم ، وينشر خبر الرضاعة ،ليشفق عليه النّاس ، ويقفون إلى جانبه ، ونظـروا إلى زوجته نظرة إشفاق ، وهي اعتزلت مخالطة الجيران
وأغلقت بابها ولم ترد على أي متطفّل أوسائل ،ولم تبح بما في صدرها لأحد ، ولجأت إلى الصبر و الصلاة ، ودعت على تلك العجوز العقيم ، وأين كانت عندما تزوجت سعيدا ؟ ولماذا لم تدل بشهادتها في ذلك الحين ؟
رغم علمها بزواجها وقرب منزلها من قريتهـم ... ولكن بلغ بهـا الكبر والخرف حتى أصبحت تهذي بما لم تعلم ، وتتخيّل الأمور الغريبة وتختلق حكايات ، لتجعل لنفسلها شأنا عند الآخرين ، لقد أفن رأيها ولم يعد أحـد يصدّق قصصها ، وحكاياتها الغريبة ،عن ماض مليئ بالخرافات المختلقة ،
أمّا سعيد. فقد أعدّ لنفسه غرفة في المنزل ، وعاش مع سعيدة كما يعيش الأخ مع أخته ، وسعيدة تندب حظّها العاثر ، بعد زواج أثمـر عن خمسة أطفال .. ورضي سعيد بهذا الوضع ولم يحرّك ساكنا ،بل خضع للأمر الواقع وصدّق ما قالته تلك العجوز الخرفة ، وشعرت سعيدة بعدم مبالاة سعيد وبرودته واستسلامه ، فقررت دفعه للبحث عن الحقيقة ، فلا يجوز أن تبقى الحياة بينهما على هذا الوضع مع خمسة أطفال ، وأعدّت العشاء لسعيد ووضعت يدها على باب غرفته لتقدّم له العشاء .
وإذا بأذنها تلتقط همس سعيد بالهاتف بقوله آلو ليلى ، إذا ذهب زوجك للعمل أعدي الجلسة أنا قادم ، فشهقت شهقة تفطـّـر لها كبدها . فأحس سعيد بها
فرمى بالسماعة بعيدا عنه وخرج يستطلع الأمـر ،فإذا بسعيدة مغشي عليها ، فحاول أن يفيقهـا فصرخت في وجهه بهستيرية قائلة . يا بن عم إذا كان أمر محاكاتك في الخفاء بينك وبين معشوقتك ليلى تسعدك
فما ذنبي وأطفالي ؟ أتختلق قصة الرضاعة هذه لتبعدنا عنك أنا وأطفالي ؟ أنا لا أمانع في زواجك ، زواجا مباحا
ولكن أمانع في العلاقة المشينة بينك وبين زوجة صديقك الذي فتح لك صدره وداره ،من أي الرجال أنت لا تستحق أن تكون أبا لخمسة أطفال ،واستمرّت في بكاء محزن مرير ..
ويعتذر سعيد لها عذر الخجول ،ويقسم أنّه حسن النيّه ، فلم تصغ إليه وأغلقت أذنها بقبضتها عن اعتذاره ، كما أغلقت قلبها عن تقديره واحترامه ، في هذه اللحظة .
وأخذ يرجوها ويتوسـّـل بأن لا تفضح أمـره ، وأنّها نزوة عابرة وقد انتهت ، ووعدها بالذهاب إلى تلك العجوز بصحبتها وإنهاء المشكلة لأنها لو لم تعف عنه ستفضح نفسها وقد يلحقها الضرر ويلحق أطفالها بإعادتهم إلى حياة القرية ، تحت رحمة الطبيعة القاسية والحرارة المتوهجة وشظف العيش
فقبلت المساومة
وسافرت معه إلى تلك العجوز ،وواستها وأخذت بخاطرها ،وأهدت إليها قليلا من المال مع كسوة لا بأس بها كهدية من المد ينه ، واستحلفتها عن حقيقة الرضاعة فقالت العجوز : لا أذكـر أني أرضعتك مع سعيد ، ولكنّك عند زواجك لم تتذ كري كسوتي وأنا خادمتك المخلصة ، فاختلقت هذا الخبر لتقومي بزيارتي وشراء هدية لي من المد ينه ،وها أنت فعلت ولو لم أفعل لما فعلت ...
وهكذا تراجعت تلك العجوز عن أقوالها بكل بساطة .. وعادت سعيدة مع زوجها وقد حققت بعض المكاسب ، إلا أنّ قلبها ينزف دما لم يشعر به أحد سواها ، وعيناها لوتأملتها لوجدت بها دمعة جامدة ، ووجهها فقد بهاءه ورونقه ، بسبب ماواجهته من عقبات وصعاب مع سعيد ..
(6 )
وظنت سعيدة ، أنّ مشاكلها قد انتهت وأنّ زوجها سيتغيّر ويفي بما وعد ،بالمحافظة عليها وعلى شرفه وأطفاله ، وأنّ علاقته بليلى قد انتهت ولن يرفع عليها سماعة الهاتف مرّة أخـرى ..
ولكنّه بعد أن شعر بالأمان والاطمئنان من جانب سعيدة ، عاد إلى نزواته مرّة أخـرى واستمرّ يواعد ليلى ويتصل بها ، ولكن ليس من بيته هذه المرّة ، ويذهب إليها ويسامر زوجها، بل وعاد الجفاء من جديد بين سعيد وسعيدة ،
فلم تعد سعيدة تهتم به ولم تسأله عن تأخره وتركت له الحبل على الغارب ، وسفره وبقاءه بين أطفاله سيان عندها ،
ولجأت إلى أطفالها تفيض عليهم بحبّها وحنانها ، الذي لم ينضب ، ولم تعد تعير سعيدا أي اهتمام وكأنه مات منذ زمن بعيد ،
وفي ذات يوم حضر سعيد إلى منزله غاضبا يضرب الباب بقدمه ويصرخ في وجوه صبيته ، ويضرب هذا ويدفع ذاك ، فسألته عن سبب هيجانه وغضبه ، صرخ في وجهها أنت السبب .. أنت تعلمين ..
ألم تخبري إخوتي بعلاقتي مع ليلى ؟ فقالت : لـم أخبر أحدا . قال : أنت كاذبة .. وإلا لما أخبرني زوجها بفسخ الشراكة ،
نظرت إليه باحتقار ، وتركته وذهبت عنه ، لحق بها وقال : أنا أخاطبك وشدّها من كتفها وأهوى على خدّها بصفعة قويّة ، أفقدتها الإحساس بالألم ، نظرت إليه واغرورقت عيناها بالدموع ، ..
وكأنّها ترى آخـر معقل من حياتها الزوجية يتهاوى .. ولكنّها ابتسمت وقالت : هل علم راضي بعلاقتك مع زوجته ، وتابعت سيرها ...
زمجر سعيد ببعض الكلمات وأخذ يضرب بيده جدار غرفته ، ثمّ لحق بها مرّة أخـرى وقال : اسمعي ياسعيدة ، لقد طفح الكيل ولم أعد أتحمّل تصرفك الأحمق ، ومادمت قد أفشيت سرّي فأنت طالق .. طالق ..
هزّت رأسها وكأنها تنتظر آخر كلمة من طلاقها ، ولكم حاولت أن تتحاشى مثل هذا الموقف ، فالطلاق في نظرها شيئ مخيف ومخجل مع وجود الأطفال ، الذين هم بحاجة إلى تعاون الأبوين ورعايتهم ،
ومرّ أمام ناظرها ، أحداث زواجها ومافيه من سعادة وشقاء ، كما يمرّ الفلم السينمائي بصوره المتحركة والثابتة ، وأخذت تتساءل في نفسها ...
أهذا سعيد الذي أحببته ؟ أهذا ابن عمي ؟ أهذا والد أطفالي ؟ لقد حافظت عليه وهـو لم يفعل ، لقدغيّرت ملابسي القروية بالحضرية كما أراد .. ولكنني حقا لم أفلح في تغيير طيبتي كما ذكر .. وهذه هي النتيجة .. طلاق وفراق ، وخصام وشقاق
وأخذت تفكّـر .
في مصيرها بعد هذا الطلاق الذي لارجعة فيه ، أيأخذ أطفاله معه ؟ ..أيتركهم لي؟ وكيف أعيش بدونهم ؟
وذهب سعيد بعد هذا الموقف العصيب
إلى أحد أصدقائه وشرح له الأمر ،وطلب منه أن يسمح له بالمكوث عنده ليوم أويومين ريثما يتدبر له مسكنا غير مسكنه الذي تسكنه طليقته وأطفالها ، وقد تعودت سعيدة على مثل هذا الموقف ، من سعيد فهي عادة ما تحمل عبأ مشا كلها وحيدة دون معين ، أوناصح أمين ، وفي شروق اليوم الثاني ..
غربت الشمس على أفضع حريق شهدته المدينة كانت بطلته سعيدة ، أنقذت بعض أطفالها وأخرجتهم من الجحيم المستعـر ، وذهبت مرّة أخـرى إلى الحجرة الداخلية
فيها طفلان رضيعان فاحتضنتهما وهمّت بالخروج ،ولشدّة الألم واشتداد ألسنة اللهب لم تشعر بعد ذلك فوقعت أمام باب حجرة نومها .. فانحنت على الر ضيعين بين ألسنة اللهب المتصاعد ،فقضت نحبها هناك ، وبعد إخماد الحريق وجدت سعيدة ملتصقة بالأرض ،ووجد طفلا ها بين ذراعيها ،وكأنّها تقبلهما بقبلات الوداع ،
وكأنّها أحست أنّ هذه النّار المشتعلة أدفأ من حضن سعيد، الذي برد برود الجليد
وسمع سعيد ، بحريق منزله وهو ملتجئ في بيت صديقه ، فخرج يعدو وقلبه يخفق خوفا وقلقا فلما وصل إلى منزله
وجده كومة من رماد ، وسأل عن زوجته وأطفاله ، فسلّمه الإطفا ئي المسئول .. أكياسا سوداء بها هياكل عظمية متشابكة وكأنها في عناق ، وأخذه المقربون بعيدا عن تلك الأكياس ، وعلل بالصبر والتشجيع ، وكان موت سعيدة غامضا كغموض مشاعرها ،وماتت معها الحقيقة .. وأخذ الناس يتحدثون عن موتها بحديث بني على الحدس والتخمين ،
فمن قائل أنّها انتحرت بسبب طلاقها ، ومن قائل تسرّب الغاز في منزلها ، ومن قائل زيادة في حمولة الكهرباء فانفجر الفريون باأحد المكيفات ، والبيت يحمل أسلاكا كهربائية قديمة ،
ولم يتوصّل أحد إلى القرار الصحيح وبقي سعيد ، يدفع ثمن وزره وحماقته وسوء عشرته برؤية ثلاثة من أولاده ،يجلبون له الحسرة والندامة صباح مساء عند رؤيته لهم ،
بل يرى أولاده أنّه المتهم الوحيد الحقيقي في رحيل والدتهم
بقلم | أ,محمد العبدلي
ـــــــــــــــــــــــــــ
تنشر الشمس أشعتها على قرية ريفية صغيرة ، لم تغزها الحضارة إلا بمصابيح كهربائية بسيطة ، تضيئ ليلا بمولد كهربائي صغير ، اشتراه شيخ القرية وهورجل كبير في السن ’ ميسور الحال .
أتت السنوات على وجهه المتجعّد وشعره الناصع البياض ، إلا أنه يحتل منزلة عظيمة في نفوس قومه لما له من الهيبة والوقار في نفوسهم .
وكان منزله الكبير ’ وسط القرية لايضم ّسوى ذكريات قديمة ، تتمثل في سيف قديم ، وقطعة سلاح أثرية
قد أكل جوانبها الصّدأ ، وفي البيت زوجته وهي سيدة طاعنة في السن ، إذا رأيتها أوحت إليك نظراتها الحاد ة الواثقة ، أنها كانت هي الأخرى سيدة عصرها أثناء شبابها ، لما تراه على محيّاها من قسمات الجمال ، لم تستطع السنوات القاسية طمس معالم ذلك الجمال وتشويهـه .
وعندما تحبّ أن ترى ابتسامتهـا سل هـا عن أحد أبنائها وخاصة ولدها الصغير سعيد ، ستجدها تكيل إليك بمدحه ، والثناء عليه ، وهي مزهوة بذلك ..
ليس لكون أبنائها قد حققوا بعض المناصب والجاه بين أقرانهـم ، وإنما لكونهـم أولادها وهذا هو المهـم في رأيهـا ..
وتختلق الأعذار الواهية التي قد تقنعك وقد لاتقنعك ، بنجاح ولدها سعيد والذي هـو الآن في آخـر سنة من الإعدادية ومن يعرفه يقول: عنه كان من المفـروض أن يكون بالمرحلة ا لثا نوية ..
(1 )
تقول : أم سعيد أنّ عيب الرجل في جيبه ، ودائما ماترد د مثل هذا الكلام ، وابنهـاسعيد ميسور الحال ، وتراها في الصباح جاهدة وهي توقظه من نومه ، ليواكب زملاءه الذين بكّروا إلى المدرسة ، ولكن سعيدا لايصغي لأحد سوى سلطان النوم الذي هيمن عليه فتملك إحساسه وبلّد مشاعـره .
وعندمـا ترى أمّه وهي توقظه ، وتترنّـم بكلـمات لاهي من الشعر ، ولاهي من النثر، فتقول : سعيد يا سعدي .. يافلذة الكبدي .. قم وتنشط ترى الوقت يمضي ..
فيردّ سعيد وهومغمض أجفانه ، سعيد ما أنكده .. وقد أتت توقظه .. أف لذي المدرسه .. ويغطي رأسه ، ولمـا يسمع صوت أبيه ينطلق من سريره ، و كأنه أطلق من عقال ، خوفا منه لما عرفه من أبيه من شدّة وغلظة ، ويصلي ركعات سريعة ولايدري أهي اثنتين أو واحدة ، ويلتقط يد أبيه ويقبلهـا مبديا الطاعة والاحترام فيقول : أبوه ..
أنا غاضب منك أيقظتك فجـرا للصلاة ولم تقم وقد زجرتني أمك العجـوز عن أيقاظك وقالت أنك نمت متأخرا بسبب المذاكرة . ولكنّك الآن رجلا ولابدّ من الصلاة جماعة في المسجد
، يطرق سعيد برأسه ويهزّه و يعتذر ويتقبل النصح ،ويتناول إفطاره ويجري إلى مدرسته مسرعا لتأخره
ويلتقي وهو في طريقه إلى المدرسة عبر الحقول بابنة عمه سعيدة ،وهي فتاة لم يكن لها نصيب من التعليم ، لما يراه أهل القرية ، في تعليم الفتاة من سخف وجهالة
وإنما الفتاة مكانها مع أمّها تساعدها في خدمة المنزل
لتكون ناجحة في منزل أهل زوجها .
(2 )
وكانت سعيدة تحاول لفت نظر ابن عمهـا سعيد ، إليهـا فهو شاب وسيم ومتعلّم وقد كتبت له كزوجة منذ طفولتها على عادة عرف القبيلة في زواج ابنة العم من ابن عمّها
وقد تزوّج إخوته من أخوات سعيدة ، ولم تبق سواها كما أنّ أخوات سعيدة تزوجن وسافرن مع أزواجهنّ إلى المدينة وسعيدة تتشوق اللحاق بأخواتهـا ، وماكان لسعيد أن يرفض الزواج بهـا ويرفض قرار والده وعمّه ، مع كونهـا أقلّ أخواتهـا جمـالا .
ودائما عندما يلتقي بها في الحقل يسألها متى تستيقظين ؟
فتقول : قبل شروق الشمس ساعدت أمي بإعداد إخوتي وها أنا أتجه على الحقل بغنمي .
ضحك سعيد وقال : أنت مجنونة ليس ثمة ما يدعو إلى استيقاظك ، مبكـّرة مادام أنه ليس لديك مدرسة مثلي ، ضحكت سعيدة وقالت : لقد تعودنا على هذه الحال ، فقال : مارأيك أترك المدرسة وأذهب معك إلى المـرعى
خالجت السعادة نفس سعيده ،واستحسنت الفكـرة ، فمعنى هذا أنه يكن لهـا معزّة في قلبه ،وهي كذلك ولكنها قالت : لا تترك مدرستك وعند عودتك ستجدني بانتظارك عند الوادي الكبير .. وضحك سعيد وواصل طـريقه إلى المدرسة ..
وهزّت سعيدة عصاها عاليا وأشارت إلى كلبها بالانطلاق ، وانطلقت وراء القطيع وهي تمنّي نفسها بزواجها من ابن عمّها ، وجلست على ربوة مرتفعة تنظـر إلى صفاء السماء وأغنامهـا أمـامهـا
،وأخذت تتذكـّر زواج أخواتها من أبناء عمومتها وكيف تمّ سفرهـم للمدينة ، وعند زيارتهنّ للقرية يحملنّ معهنّ أجمل الهدايا
، ويلبسن ّ أجمل الثياب ، وينقضي النهار وهي تنسج بمخيّـلتها البسيطة خيوط مستقبلها ،وكيف أنها لو تزوجت وسافرت للمدينة ستكون سعيدة مع سعيد
، فقد تتخلّص من هذا العمل الرتيب وهو الرعي من الفجـر إلى الغروب ثمّ الحلب في المساء والصرّ في الصباح ، ثمّ تلقي بجسمها مجهدة في المساء ، لاتشعر بما يتحرّك من حولها
وترى في ابن عمها سعيد خلاصها من هذا الشقاء ولاسيّما أنه سينقل دراسته إلى المدينة بعد أيام كما سمعت من معارفها وقد سمعت أنّ الحياة في المدينة سهلة ووادعة وراحة وهناء لاحلب ولاصر...
ينمن النسوة من الفجر إلى الظهر ، ولا يوقظهنّ أحـد إلا القيام للأكل ...
وهذا أمر محرّم ومعيب في القرية وعلى سعيدة بالذات فهي في حركة ودأب صباحا ومساء
وتمضي الساعات وسعيدة بانتظار سعيد بالوادي الكبير ، ولم يحضر ونسيها بل سلك طريقا آخر في الرجوع إلى منزله ، وتعود من الوادي الكبير وهي تختلق له الأعذار وتحسن الظن به لطيب قلبها ، وتجد قدمها تسوقها إلى بيت عمّها ...
فيقابلها عمها مبتسما ، وينظر إليها متعجبا ، وقد استوى عودها فتسأله عن عمتها أم سعيد ، وأحوالها فيفهم مقصدها فيقول : ذلك الكسول لقد عاد ونام ، عمتك غير موجودة حاليا ،ابلغي سلامي لوالدك وقولي له أنّ الزرع قد استوى ووجب حصاده ،..
وتنطلق عائدة إلى بيت أبيها فيسألها عن تأخرها فتقول: ذهبت للسلام على عمي وأخبرني أن أبلغك أنّ الزرع قد استوى ووجب حصاده ، ضحك أبوها وقال : لاعليك هذه عادة عمك ، ويمضي العام ويرحل سعيد إلى المدينة للإلتحـاق بمدرسة عند إخوته ، وتمضي السنة والسنتان ، ولم يحقق نجاحا ويكره التعليم ويرسل إلى أبيه قراره الأخير بترك الدراسة والبحث عن عمل ولكن والده يرفض ، رأيه ويقول: الذي يفشل في الدراسة يفشل في الوظيفة ، ويجب العودة إلى الدراسة وبذل كل جهد وإن كان هناك مشكلة مالية فوالده على استعداد لتذليلهـا
ولم تكن مشكلة سعيد ، هي المادة ، بل مشكلته في نفسه ، اتكاليا على والديه في القرية اتكاليا على إخوته في المدينة ، في نومه وأكله ، ويقظته وإيقاظه ، وترتيب حجرته .. وقد عانى منه إخوته مشكلة عويصة ، وتمنوا عودته للقرية وعاد للقرية بعد ثلاث سنوات من الغربة عاد بخيبة أمل ، وشهادة طرد من المدرسة ..
(3)
وبعد مشادة بين أبيه وأمّه ، أقسم أبوه على تزويجه بنت عمّه سعيده ، لتصلح من أحواله ويتحمّل مسئوليته بنفسه ، ويرفض سعيد العرض ولكنّ أباه صمم على ذلك ولامفرّ من زواجه ، ولاسيّمـا أن سعيدة بانتظاره منذ زمن
، ورأى سعيد أنّه لامحيص من هذا الزواج ،لكونها بنت عمه ، وسمعت سعيدة بقدوم سعيد ، وعاد قلبها يخفق شوقا لرؤيته لقد تقدّم لخطبتها الكثير ، ولكنّ والدها يرفض كما هو العرف المتبع في القرية أنّ بنت العمّ لابن عمها شاءت أم أبت ..
وبينما هي في أفكارها هذه
طـرق الباب فأسرعت تفتحه فوجدت سعيدا بالباب صحبة أبيه ، فظلّت متمسكة في الباب تنظر إليهما واجمة فدفع والد سعيد الباب ، وسألها أين أبوك ؟ فعاد إليها وعيها وقالت سيحضر حالا ،وانطلقت إلى أبيها ’
فأقبل والد سعيدة ، مرحبا بأخيه وولده ، فهو لم ير سعيدا منذ زمن ، وقال : مازحا وهاهو قد عاد ببياض أهل المدينة ،
وضحك الجميع وبعد ذلك سمعت سعيدة ، الزغاريد فعرفت أنّهـا قد خطبت حقا ، وأنّها ستزفّ إليه قريبا وأنّ أهل القرية قد علموا بهذا النبأ السار ، وانقضت أيام العرس ..
وتهيأت سعيدة للسفر وركبت الطائرة التي لم ترها إلا في السماء ولم تعرف كيف تحمل الركاب مع أمتعتهم وقالت لسعيد أسرع إلى الطائرة فقد لا نجد مكانا لنا ولا لأمتعتنا . فضحك منها وقال : تحملنا جميعا الطائرة لا عليك ، وبدأ قلبها يدق خوفا من هذا العالم الجديد . الذي سوف تخوض غماره ،
وتنظـر من خلال النافذة ، وقد ارتفعت الطائرة في عنان السماء ،فلا ترى إلا أكواما من السحب ، ونظرت إلى الأرض فرأت أن الجبال والأكواخ والقصور أصبحت لا ترى بالعين المجرّدة لقد صغرت جدا ، كل شيئ أصبح صغيرا ، فقالت لسعيد يا له من عالم صغير !
أهكذا هي السماء ؟ هل أنا أحلّق في الفضاء حقا ، إنني مندهشة وغير مصدقة ، هل تستحق الحياة كل هذا التعب ؟
إنـّا كنـّـا نشـقي أنفسنا في الأرياف وأهل المدينة يتمتعون بالراحة ، ضحك سعيد من كلماتها وقال : أنا سعيد بك يا سعيدة ، وأعد ك بالسعادة في حياتك، ولكن بشرط أن تغيري من طيبتـك الزائدة وملابسـك الخشنة ، فنحن لسنا في القرية ،
قالت : ملابسي من المعقول تغييرها ، ولكن طيبة الإنسـان كيف يغيّرها ؟ وهبطت الطائر دون أن تحظ بإجابة من سعيد ..
(4)
هبطت الطائرة في مطار جدة ، فهالها زحام الناس وسـخب المدينة وأزيز الطائرات وأبواق السيارات فتذكرت هدوء القرية ، ورأت أنّ المدينة تختلف كل الاختلاف عن القرية وعمّا رسمته في مخيلتها من هدوء وراحة بال ، فأضواءهـا ساطعة ،وعماراتها شاهقة ، وطرقهـا معبّدة ، وحدائقها متسقة ، وكل شيئ فيها يختلف عن القرية اختلافا شاسعــا ، حتى أناسي المدينة يختلفون عن أولئك البسطـاء من أهل القرية ،
وعند وصولها حضر إليها معارفها ، بالمدينة وكأنها تقابلهم لأول مرّة فلبسهم ومظهرهم ، ليس كما عرفتهم بالقرية ، حتى نفوسهم تغيّرت فقد شعرت بأنهم مختلفون عنهـا ، وشعرت بالغربة والخوف ..
وبعد فترة وجيزة من الاستقرار حاولت محاكاة بنات جنسهـا ولاسيما معارفها من الذين سبقوها إلى الحياة المدنية ، فقد حاولت تقليدهم في ترتيب منزلها ، وملبسها وتقول: إنـّهـا رغبة سعيد في التغيير، يريدني أن أكون أفضل من الذين سبقوني إلى المدينة .
وسعيد لم يقصر في شراء أدوات زينتها وعطورها وملابسها ولاسيما عند زيارتها للآخـرين ، وليتباهى أمامهم أنّه لم يكن مقصّرا معها ، ولو حدث أي تقصير فهو منها لجهلهـا وعدم اهتمامها ، واستمرّت الحال وسعيدة تحاول إرضاء سعيد وهي بين تطوّر وتأخـر، تحاول التكيّف مع مجتمعها الجديد ، ولكن ّ سعيد يريد من سعيدة أن تكون متحضّرة بين عشية وضحاها ، وأحيانا ينتقدها أمام الآخرين على أتفه الأسباب كترتيب ثوبها ومكياجها ، وماترتديه من ملبس لا يتناسب وتنا سق الأ لوان والمكياج ، وهي تحمل كل ّ هذا من قبيل الاهتمام والتعليم ، فتتصنع الابتسامة ، وتتقبل الانتقاد بصدر رحب ، ...
وتبدأ سنته الدراسية الجديدة ، وتبدأ معاناة سعيدة ، في إيقاظه للمدرسة ، فأحيانا تشتد عليه ، وأحيانا تلاطفه ، عند شعورها بالخوف منه ، ومن حدّة لسانه ، وأحيانا ينتهي الأمر بمشاجرة تنتهي بهزيمتها على كل حال ، وبضربها إذا لزم الأمـر
ولكنّها لم تيأس منه واستمرّت جاهدة تبذل قصارى جهدها ، ليتمّ دراسته كما وعدها أن يكون ..
ولم يمض نصف العام إلا وقد ظهـر فشله ، في متابعة دراسته ، وبد أ أقرباءه في المدينة يهـزأ ون منها ، بسبب إخفاقه في الدراسة ، ولكنّها لم تعر أحدا منهم أي اهتمام ، ولم تفتح مع أحد صفحة للنقاش حول زوجها ، وقرر سعيد البحث عن عمل ..
وأرسل إلى والده يستأذنه في البحث عن عمل ، فغضب والده ، ومنع مساعدته المالية له ، وصبّ اللوم على زوجته التي أخفقت في توجيهه التوجيه الصحيح ،ووجدت سعيدة نفسها تعاني من مشاكل حقيقية ، فلم تستطع دفع سعيد للنجاح كما أنّها لم تستطع أن تلبي رغباته المتقلبة المزاج ، وبقي سعيد أمام ناظريها ينام نهارا ويسهر ليلا ،وأصبح البيت خاليا من القوت الضروري ،الذي لا تستمر الحياة بدونه ، إلا ما جاء هدية من بيوت جيرانها ومن أخواتها أو إخوته ،
ولما رأى أخوه الأكبر أنه لا أمل من دراسته وأنّها غير ممكنة توسّط له عند أحد أصدقائه ، في إيجاد عمل له ، فلم يخيّب ذلك الصديق ظنّه ،ووظّفه في شركته الناشئة ،بأجر يوفـّر منه إيجار سكنه ، وفرحت سعيدة لسعيد ، لعله يستقيم أمره ، بعد الآن ويحافظ على هذا الأجر المغري ، وكان عمله مساء ليتناسب مع أوقات صحوه ، ولكنّ سعيدا بدأ يتأخّر ليلا ويتخذ العمل ذريعة في التأخـر عن المنزل ، فبعد أن ينتهي عمله في السا عة العاشرة ،
لم يعد إلى منزله إلا في تمام الثانية فجـرا
فضاقت سعيدة بالأمـر وبدأت تسأله عن خروجه ودخوله ،وتحدد له الزمن وكل هذا من باب حرصها على سلامته ، وشعورها بالوحشة والخوف في بيت مقفر من الأطفال ، وشعر سعيد أنّها بدأت تفرض شخصيتها عليه ، وعلى تصرفاته ، فأخبرها أنّه متعب ، ولا يريد مناقشة شيئ معها .
وبدأ بالتهديد والوعيد ، وبدأ بينهما خلاف وشجار وصل صيته إلى جيرانهم وألقى بنفسه على الفراش ولم يقم حتى لصلاته حاولت سعيدة جاهدة في التكتّم والصبر ، وعدم فضح سعيد ، عند الآخـرين ..
ترى سعيدة بفطرة أبناء الريف أنّ الصلاة واجبة ،وأنّ تركها كفر يوجب العقاب وأنّ العمـل في سبيل العيش الكـريم واجب ، ولا مجال للضعيف والكسول في الحـياة ..
وقد نصحتها أمّهـا قبل زواجـهـا بأن لا تبوح بسر من أسرار زوجها ، أو تطلع أحدا على تصرفاته ،فهو زوج وابن عم ، وخاصة أنّها شعرت بوجود طفل في أحشائها قد يزيد من هموم هذا البيت البسيط ، وأنجبت طفلها الأول ، وأخذت تتابع الإنجاب
وشعر سعيد ، بالفزع لقد كبرت أسرته ، وكثرت أعباءه مما دعاه إلى حملها على عدم الإنجاب ففي خلال ست سنوات من زواجهما أنجبت خمسة أطفال .. مما سبب تغيّرا في وزنها وترهلا في أعضائها وزادت هوة الخلاف بينهما ، وضاع ما كان من حب ، وكثر شجارهما أمام أطفالهما ، وبدأ يتخلّف عن عمله ، ويشكو ويتذمّـر من الحياة الزوجية .
فضاق به صاحب العمل ذرعا ، وبسبب غيابه وتأخـره فقد استغني عنه بموظف آخــر ،وفقد بذلك وظيفته ومصدر رزق أطفاله ، فتحامق سعيد ، وبدأ يكيل الشتائم لصاحب العمل ، الذي لفت انتباهه أكثر من مرّة على تأخـره وغيابه ، وأرسل إليه من ينصح له ويوجهه ، ولكنّه لم يرتدع .
وتوجه سعيد إلى أخيه الأكبر يشكو إليه معاملة صديقه صاحب الشركة ، وأنّه لم يكن طيّبا معه كبقية الموظفين ، وقرر استقالته عن طيب خاطر وعزة نفس ، فهدأ أخوه من روعه ووعده بتدبر الأمـر وحلّ المشكلة ، ولما عرف من أمـر سعيد وتهجمه على صاحب الشركة ..
قرر أخوه أن يجعل له عملا مستقلا يقوم هو بنفسه عليه ..
وجمع له بعض المال وأدخله شريكا في بعض الأعمال التجارية مع صديق آخـر يدعى راضي .
وقد عرف عن راضي كـرمه وحسن معاملته ، وطيب قلبه وقد سحر راضي الآخرين بلباقته ، وتصرّفه الحسن في التجارة
ناهيك عن زوجته التي لها دور كبير في نجاح تجارته ، بسبب علاقاتها الاجتماعية المتحررة ، وتمت الشراكة بين سعيد وراضي ، وبدأ راضي يثني على سعيد ، ويطريه أمام زوجته ليلى ..
وازدهرت تجارتهما وأصبح راضي وسعيد كالأخوين لا يختلفان في رأي ، وذات ليلة طلب راضي من سعيد السهر معه في منزله لقد أصبحا أخوين حميمين بل أشدّ أخوة .
وحضر سعيد إلى منزل راضي وعرّفه راضي بزوجته ليلى وقال : له لا تستهين بها فهي تاجرة ماهرة وقالت : عند رؤيتها لسعيد إنّ زوجي دائم الثناء عليك ، وما أظنّك إلا وقد سحرته ، وأظنّ عنده حق في مدحك لأني أرى فيك الذكاء والنباهة ..
وسعيد يشكرها ويتحاشى النظر إليها أمام زوجها ويرى أنّ الحضـر هذه هي أخلاقهم ، وهي تختلس النظر وتحاول لفت انتباه سعيد إليها ببعض الابتسامات التي لم يتعوّد عليها سعيد ،
وانتهت هذه السهرة وأحس أنها أجمل سهرة في حياته ، وعاد سعيد إلى بيته وكأنّه لم يشاهد امرأة قط في حياته غير ليلى ، ويتمتم بكلمات في نفسه قائلا : ما هذا الطول الفارع ؟ والجمال البارع ؟والخصر النحيل ؟والنظرات الفاتنة؟ والكلام المعسول الذي يتغلغل إلى أعماق الوجدان ، هذه فتاة أحلامي التي أبحث عنها منذ زمن إلا أنها متزوجة .. وأفاق من هذيانه على دخول زوجته سعيدة ، فتغيّرت ملامح وجهه ، وسألته عن شريكه الجديد ، وكيفية العمل معه . فأجابها بأنّه رجل كريم وزوجته امرأة رائعة .
وعاد بالسؤال عن الأطفال وحالهم ، وملاطفة سعيدة بحديث يتصف بالاحترام ،ويحمل في معانيه نوعا من الهدوء والعقلانية ، لم تتعود على مثله من سعيد .
وبعد خروجها عاوده طيف ليلى والتفكير بها ..
ليلى زوجة شريكه راضي .. وأخذ في التخبّط والتفكير ، يطرح أسئلة على نفسه ثمّ يجيب عليها .. ليلى متزوّجة..
ولو لم تكن كذلك لخطبها لنفسي وأتخذها زوجة لي .. ولكنها زوجة راضي .. وتكررت دعوات راضي لسعيد والسهر معه بمناسبة وبغير مناسبة لقد أصبح واحدا من الأسرة بدعوى الشراكة .
واستمر التواصل وسمح له راضي بدخول منزله متى شاء حتى وإن لم يكن موجودا فهما إخوة وشركاء ..
وحدث ما كان يتوقعه سعيد ، ويوسوس به ، لقد مالت ليلى إليه ، وفاتحته بحبّها ، فتلعثم ثمّ كررت عليه أنها هي السبب بتجارة زوجها ، وهي التي أخرجته إلى المجتمع
وأخذت تشكو وتتذمر من زوجها راضي وأنه يهينها ويشتمها ، وقد تزوجها عندما كان والدها فقيرا وأغراه بالمال وأقنعه بلسانه وأنا غير راضية ولمـا رأيتك أحسـست كأني أعرفك منذ زمن بعيد
ووجدت هذه الكلمات ترحيبا في قلب سعيد، وأخذ هو الآخـر يفاتحها بأسراره الزوجية ، ويشكو لها أنه يعاني مما تعانيه تماما بتمام ، وسواء بسواء
فقد تزوج ابنة عمّه وهو لا يريدها وإنّما فرضت عليه بسبب العادات القبلية البالية ، وزوجته امرأة جاهلة ساذجة لا تفهم شيئا من أمور الحياة ، وهو الآن لا يشعر نحوها بأي ارتباط عاطفي ..
وانتهى الحديث بينهما بتبادل الغرام ، ثمّ تبادل الهدايا في الخفاء ، فسعيد يبذل المال وهي تبذل الدلال
ووجد عند ليلى الحنان المصطنع الذي افتقده عند سعيدة ابنة عمه ، وأم أطفاله ، وبدأ سعيد يتغيّر رويدا رو يدا على زوجته
لا يقابلها إلا عابسا متجهمـا ويختلق المشاكل دون أدنى سبب
ويحمل فراشه بنفسه إلى مجلس الضيوف ، ثمّ ينام منفردا وهي تنام مع أطفالها حاضنة لهم وتداري دموعها على أمل أن يعود إليها كزوج وابن عم عطوف حنون
ولكنّه تمادى أياما وليا ليا حتى ألف الانطواء بنفسه ، وعندما تحاول إرضاءه يمنعها من الدخول عليه ، وصوّر له عقله أنّ سعيدة لم تعـد تصلح له ، وهو لم يعد يصلح لها ، وهي السبب في كل ما لحق به من فشل وتعاسة ، وسمع بمرض والده ..
فذهب لزيارته بالقرية .. وتعطّلت سيّارته على قارعة الطريق ، فمرّ عليه أحد شباب القرية وقدّم له يد العون في تصليح سيّارته وأقسم عليه هذا الشاب أن يمرّ معه إلى داره المجاورة للطريق فوافق وذهب معه إلى داره ،فدعاه الشاب للتعرّف على شخص يدّعي أنّه له دور كبير في تربية سعيد في صغره
، فوافق سعيد ليستوضح الأمـر ، فوجد عجوزا شمطاء قد أكل الدهر عليها وشرب ، وتسأله عن إخوته وبنات عمّه وعن سعيدة بالذات ، فأخبرها أنّ الجميع بخير وعافيه ، وأنّه تزوّج سعيدة ، فقالت ويحك يا سعيد أتتزوج سعيدة وهي أختك من الرضاعة ...
(5 )
لقد أرضعتكما معا من صدري هذا وسل أمّك .. أعتقد أنّها تدري ، فقد كنت أخدم في منزلكم ،فأصيب سعيد بالدهشة ولاستغراب ، ثمّ ترك منزلها وتوجه إلى منزل أبيه وأمّه
وبعد الاطمئنان على صحة أبيه ، سأل أمّه عما سمع من تلك العجوز ، فقالت أمه أنّها كانت تعمل لدينا، ولكن عليك بأم زوجتك فهي عندها الخبر اليقين ، أمّا أنا فلا علم لي .
توجّه سعيد إلى أمّ زوجته سعيدة ، فقالت أنّها تكذب فكيف أرضعتك مع ابنتي وأنت أكبر منها بسنتين ، وترك سعيد بيت أم زوجته ، وبعد أن اطمأن على أبيه وأمّه ،وعاد إلى المد ينه ، وهـو بين مصدق ومكذّب ، بما أوحت إليه تلك العجوز ، وعند وصوله إلى إلى منزله بالمد ينه أخبر زوجته بما سمع من تلك العجوز ، فكادت تفقد عقلها ولكنّها تماسكت وقالت ربما هذا يا سعيد من باب الكذب والمزاح
ولكنّ سعيدا أكّـد لها ذلك .
وأنّ تلك العجوز أقسمت له يمينا مغلظة أنّها أرضعتنا معا ، فضربت سعيدة يدا بيد وقالت : لقد طلّقتني أولّ مرّة ورأيت ضياع أطفالنا
والآن جئت تختلق الرضاعة تريد التخلّص مني ، فحسبي الله ونعم الوكيل ، وتدعي الآن أنني أختك من الرضاعة ، بهذه السرعة تريد التخلص مني ياسعيد ، يالها من كارثة ، حلّت علي وعلى هؤلاء الأطفال ، فصبر جميل .
وبدأ سعيد يتصنّع الحزن والأسى ، ويفتعل الألم ، وينشر خبر الرضاعة ،ليشفق عليه النّاس ، ويقفون إلى جانبه ، ونظـروا إلى زوجته نظرة إشفاق ، وهي اعتزلت مخالطة الجيران
وأغلقت بابها ولم ترد على أي متطفّل أوسائل ،ولم تبح بما في صدرها لأحد ، ولجأت إلى الصبر و الصلاة ، ودعت على تلك العجوز العقيم ، وأين كانت عندما تزوجت سعيدا ؟ ولماذا لم تدل بشهادتها في ذلك الحين ؟
رغم علمها بزواجها وقرب منزلها من قريتهـم ... ولكن بلغ بهـا الكبر والخرف حتى أصبحت تهذي بما لم تعلم ، وتتخيّل الأمور الغريبة وتختلق حكايات ، لتجعل لنفسلها شأنا عند الآخرين ، لقد أفن رأيها ولم يعد أحـد يصدّق قصصها ، وحكاياتها الغريبة ،عن ماض مليئ بالخرافات المختلقة ،
أمّا سعيد. فقد أعدّ لنفسه غرفة في المنزل ، وعاش مع سعيدة كما يعيش الأخ مع أخته ، وسعيدة تندب حظّها العاثر ، بعد زواج أثمـر عن خمسة أطفال .. ورضي سعيد بهذا الوضع ولم يحرّك ساكنا ،بل خضع للأمر الواقع وصدّق ما قالته تلك العجوز الخرفة ، وشعرت سعيدة بعدم مبالاة سعيد وبرودته واستسلامه ، فقررت دفعه للبحث عن الحقيقة ، فلا يجوز أن تبقى الحياة بينهما على هذا الوضع مع خمسة أطفال ، وأعدّت العشاء لسعيد ووضعت يدها على باب غرفته لتقدّم له العشاء .
وإذا بأذنها تلتقط همس سعيد بالهاتف بقوله آلو ليلى ، إذا ذهب زوجك للعمل أعدي الجلسة أنا قادم ، فشهقت شهقة تفطـّـر لها كبدها . فأحس سعيد بها
فرمى بالسماعة بعيدا عنه وخرج يستطلع الأمـر ،فإذا بسعيدة مغشي عليها ، فحاول أن يفيقهـا فصرخت في وجهه بهستيرية قائلة . يا بن عم إذا كان أمر محاكاتك في الخفاء بينك وبين معشوقتك ليلى تسعدك
فما ذنبي وأطفالي ؟ أتختلق قصة الرضاعة هذه لتبعدنا عنك أنا وأطفالي ؟ أنا لا أمانع في زواجك ، زواجا مباحا
ولكن أمانع في العلاقة المشينة بينك وبين زوجة صديقك الذي فتح لك صدره وداره ،من أي الرجال أنت لا تستحق أن تكون أبا لخمسة أطفال ،واستمرّت في بكاء محزن مرير ..
ويعتذر سعيد لها عذر الخجول ،ويقسم أنّه حسن النيّه ، فلم تصغ إليه وأغلقت أذنها بقبضتها عن اعتذاره ، كما أغلقت قلبها عن تقديره واحترامه ، في هذه اللحظة .
وأخذ يرجوها ويتوسـّـل بأن لا تفضح أمـره ، وأنّها نزوة عابرة وقد انتهت ، ووعدها بالذهاب إلى تلك العجوز بصحبتها وإنهاء المشكلة لأنها لو لم تعف عنه ستفضح نفسها وقد يلحقها الضرر ويلحق أطفالها بإعادتهم إلى حياة القرية ، تحت رحمة الطبيعة القاسية والحرارة المتوهجة وشظف العيش
فقبلت المساومة
وسافرت معه إلى تلك العجوز ،وواستها وأخذت بخاطرها ،وأهدت إليها قليلا من المال مع كسوة لا بأس بها كهدية من المد ينه ، واستحلفتها عن حقيقة الرضاعة فقالت العجوز : لا أذكـر أني أرضعتك مع سعيد ، ولكنّك عند زواجك لم تتذ كري كسوتي وأنا خادمتك المخلصة ، فاختلقت هذا الخبر لتقومي بزيارتي وشراء هدية لي من المد ينه ،وها أنت فعلت ولو لم أفعل لما فعلت ...
وهكذا تراجعت تلك العجوز عن أقوالها بكل بساطة .. وعادت سعيدة مع زوجها وقد حققت بعض المكاسب ، إلا أنّ قلبها ينزف دما لم يشعر به أحد سواها ، وعيناها لوتأملتها لوجدت بها دمعة جامدة ، ووجهها فقد بهاءه ورونقه ، بسبب ماواجهته من عقبات وصعاب مع سعيد ..
(6 )
وظنت سعيدة ، أنّ مشاكلها قد انتهت وأنّ زوجها سيتغيّر ويفي بما وعد ،بالمحافظة عليها وعلى شرفه وأطفاله ، وأنّ علاقته بليلى قد انتهت ولن يرفع عليها سماعة الهاتف مرّة أخـرى ..
ولكنّه بعد أن شعر بالأمان والاطمئنان من جانب سعيدة ، عاد إلى نزواته مرّة أخـرى واستمرّ يواعد ليلى ويتصل بها ، ولكن ليس من بيته هذه المرّة ، ويذهب إليها ويسامر زوجها، بل وعاد الجفاء من جديد بين سعيد وسعيدة ،
فلم تعد سعيدة تهتم به ولم تسأله عن تأخره وتركت له الحبل على الغارب ، وسفره وبقاءه بين أطفاله سيان عندها ،
ولجأت إلى أطفالها تفيض عليهم بحبّها وحنانها ، الذي لم ينضب ، ولم تعد تعير سعيدا أي اهتمام وكأنه مات منذ زمن بعيد ،
وفي ذات يوم حضر سعيد إلى منزله غاضبا يضرب الباب بقدمه ويصرخ في وجوه صبيته ، ويضرب هذا ويدفع ذاك ، فسألته عن سبب هيجانه وغضبه ، صرخ في وجهها أنت السبب .. أنت تعلمين ..
ألم تخبري إخوتي بعلاقتي مع ليلى ؟ فقالت : لـم أخبر أحدا . قال : أنت كاذبة .. وإلا لما أخبرني زوجها بفسخ الشراكة ،
نظرت إليه باحتقار ، وتركته وذهبت عنه ، لحق بها وقال : أنا أخاطبك وشدّها من كتفها وأهوى على خدّها بصفعة قويّة ، أفقدتها الإحساس بالألم ، نظرت إليه واغرورقت عيناها بالدموع ، ..
وكأنّها ترى آخـر معقل من حياتها الزوجية يتهاوى .. ولكنّها ابتسمت وقالت : هل علم راضي بعلاقتك مع زوجته ، وتابعت سيرها ...
زمجر سعيد ببعض الكلمات وأخذ يضرب بيده جدار غرفته ، ثمّ لحق بها مرّة أخـرى وقال : اسمعي ياسعيدة ، لقد طفح الكيل ولم أعد أتحمّل تصرفك الأحمق ، ومادمت قد أفشيت سرّي فأنت طالق .. طالق ..
هزّت رأسها وكأنها تنتظر آخر كلمة من طلاقها ، ولكم حاولت أن تتحاشى مثل هذا الموقف ، فالطلاق في نظرها شيئ مخيف ومخجل مع وجود الأطفال ، الذين هم بحاجة إلى تعاون الأبوين ورعايتهم ،
ومرّ أمام ناظرها ، أحداث زواجها ومافيه من سعادة وشقاء ، كما يمرّ الفلم السينمائي بصوره المتحركة والثابتة ، وأخذت تتساءل في نفسها ...
أهذا سعيد الذي أحببته ؟ أهذا ابن عمي ؟ أهذا والد أطفالي ؟ لقد حافظت عليه وهـو لم يفعل ، لقدغيّرت ملابسي القروية بالحضرية كما أراد .. ولكنني حقا لم أفلح في تغيير طيبتي كما ذكر .. وهذه هي النتيجة .. طلاق وفراق ، وخصام وشقاق
وأخذت تفكّـر .
في مصيرها بعد هذا الطلاق الذي لارجعة فيه ، أيأخذ أطفاله معه ؟ ..أيتركهم لي؟ وكيف أعيش بدونهم ؟
وذهب سعيد بعد هذا الموقف العصيب
إلى أحد أصدقائه وشرح له الأمر ،وطلب منه أن يسمح له بالمكوث عنده ليوم أويومين ريثما يتدبر له مسكنا غير مسكنه الذي تسكنه طليقته وأطفالها ، وقد تعودت سعيدة على مثل هذا الموقف ، من سعيد فهي عادة ما تحمل عبأ مشا كلها وحيدة دون معين ، أوناصح أمين ، وفي شروق اليوم الثاني ..
غربت الشمس على أفضع حريق شهدته المدينة كانت بطلته سعيدة ، أنقذت بعض أطفالها وأخرجتهم من الجحيم المستعـر ، وذهبت مرّة أخـرى إلى الحجرة الداخلية
فيها طفلان رضيعان فاحتضنتهما وهمّت بالخروج ،ولشدّة الألم واشتداد ألسنة اللهب لم تشعر بعد ذلك فوقعت أمام باب حجرة نومها .. فانحنت على الر ضيعين بين ألسنة اللهب المتصاعد ،فقضت نحبها هناك ، وبعد إخماد الحريق وجدت سعيدة ملتصقة بالأرض ،ووجد طفلا ها بين ذراعيها ،وكأنّها تقبلهما بقبلات الوداع ،
وكأنّها أحست أنّ هذه النّار المشتعلة أدفأ من حضن سعيد، الذي برد برود الجليد
وسمع سعيد ، بحريق منزله وهو ملتجئ في بيت صديقه ، فخرج يعدو وقلبه يخفق خوفا وقلقا فلما وصل إلى منزله
وجده كومة من رماد ، وسأل عن زوجته وأطفاله ، فسلّمه الإطفا ئي المسئول .. أكياسا سوداء بها هياكل عظمية متشابكة وكأنها في عناق ، وأخذه المقربون بعيدا عن تلك الأكياس ، وعلل بالصبر والتشجيع ، وكان موت سعيدة غامضا كغموض مشاعرها ،وماتت معها الحقيقة .. وأخذ الناس يتحدثون عن موتها بحديث بني على الحدس والتخمين ،
فمن قائل أنّها انتحرت بسبب طلاقها ، ومن قائل تسرّب الغاز في منزلها ، ومن قائل زيادة في حمولة الكهرباء فانفجر الفريون باأحد المكيفات ، والبيت يحمل أسلاكا كهربائية قديمة ،
ولم يتوصّل أحد إلى القرار الصحيح وبقي سعيد ، يدفع ثمن وزره وحماقته وسوء عشرته برؤية ثلاثة من أولاده ،يجلبون له الحسرة والندامة صباح مساء عند رؤيته لهم ،
بل يرى أولاده أنّه المتهم الوحيد الحقيقي في رحيل والدتهم
بقلم | أ,محمد العبدلي