والتوراة الموجودة في أيدي اليهود منذ مجيء الإسلام إلى اليوم هي الأسفار الخمسة الأولى مما يعرف اليوم بالعهد القديم (أسفار: التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية) وليس من ريب أن العلماء القائلين إنها لم تنلها يد التغيير والتبديل قد أخطأوا خطأ جسيما، إذ يكفي تصفح سريع لتلك الأسفار للتوصل إلى استنتاج قاطع بتحريفها. ولو كان الترابي اليوم يقول إن التوراة الحالية لا تزال طرية كما أنزلت من عند الله لاستبيح دمه. رغم أن هذا الخطأ الفادح وقع فيه في الماضي علماء أعلام من حجم الإمام البخاري والإمام الرازي. ورغم ذلك فلا تزال الأمة تجلُّهم، وحق لها ذلك، فهم أهل للإجلال والإكبار.
والخلاصة أن ما قيل من قول الترابي بإيمان أهل الكتاب مجرد سوء فهم لتمييزات اصطلاحية يستخدمها أحيانا لدواع لغوية أو لمناورات سياسية. وأن تكفيره والتشهير به بسبب ذلك ينافي العلم والعدل الواجبان في مواطن الخلاف.
إباحة الردة والخمر
ومما نسبه إلى الترابي خصومه تحاملا أو سوء فهم قولهم إنه يبيح الردة، وهو لم يبحها قط وما يستطيع مسلم أن يبيحها، وإنما يقول الترابي – شأن العديد من العلماء المعاصرين وبعض المتقدمين- إنه لا عقوبة دنيوية قانونية على الردة ما لم تتحول إلى خروج سياسي وعسكري على الجماعة. فالردة تبقى أعظم الذنوب في الإسلام، لأنها هدم لأساس الدين، ولا ينكر الترابي ولا غيره من المسلمين ذلك، لما ورد فيه من آيات محكمات، مثل قوله تعالى: "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"[20].
وغاية ما يقول به الترابي إن عقوبة الردة –إذا لم يصحبها خروج على الجماعة- محصورة في العقوبة الأخروية، وفي ذلك يقول: "وللمجتمع بمشيئته أن يؤمن أو يكفر بالرسالة الحاملة للشريعة، متروكا لأجَل القيامة وحسابها في مواقفه"[21]"ويخلِّي الشرع للإنسان أن يصرف رأيه تثبتا أو تعديلا أو تبديلا، ولو في أصل مذهبه مؤمنا، قد يؤاخَذ على ذلك غيبا في الآخرة، ولكن لا يؤذيه أحد في الدنيا بأمر السلطان"[22]. فالذي يدعي أن الترابي بهذا يبيح الردة، كالذي يدعي أن القرآن يبيح الردة بقوله تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"[23]وما أفدحه من خطإ وأعرجَه من فهم!!
إن هنالك فرقا شاسعا بين الذنب الواقع بين العبد وربه، وبين الجريمة بالمعنى الجنائي الذي يعاقب عليه الشرع عقوبة قانونية دنيوية، فعدد الكبائر في الإسلام حسب ما يروى عن ابن عباس يناهز السبعين، والشرع لم يجعل لأكثرها عقوبة قانونية دنيوية، ولم يقصد الترابي في حديثه عن الردة أكثر من ذلك.. لكن الذين لا يميزون بين القانون الخلُقي (حق الله) والقانون الحقوقي (حق العباد) في الإسلام يخلطون في هذا الأمر خلطا عظيما. وسنتحدث عن قول الترابي في عقوبة المرتد لا حقا في هذه الملاحظات، لأن ما يهمنا في هذه الفقرة هو بيان التحامل والتأويل السيء الذي لابس الجدل بين الترابي وخصومه.
وفي إطار التحامل وسوء الفهم يأتي اتهامهم للترابي بإباحة الخمر، وهو لم يبح الخمر قط، بل جاهد عقودا من الزمن لمحو الخمر من المجتمع السوداني المسلم الذي ابتلي بهذا الداء العضال منتصف القرن العشرين، حتى تحدث الدكتور عبد الوهاب الأفندي عن أن "ثقافة الجيش [السوداني]... كانت محكومة بقواعدها الخاصة التي تعتبر تعاطي الخمر وممارسة الزنا عنوانا للرجولة"[24].
ومرد سوء الفهم هنا هو الخلط بين القانون الخلُقي والقانون الحقوقي في الإسلام مرة أخرى. وهو لبس حاول الترابي في كثير من كتاباته إزالته، وبين أن تعاليم الإسلام أوسع كثيرا من أحكام الشريعة بالمعنى القانوني، فهي تشمل سلطة الضمير، وسلطة المجتمع، وسلطة القانون، أو بحسب تعبيره: "الوجداني الخاص للفرد، والاجتماعي الأخلاقي للمجتمع، والقطعي السلطاني للشريعة"[25]. وهو يؤكد ضمن هذه الرؤية أن القانون لا يطال شارب الخمر إلا إذا بلغت فعلته السلطان، فأصبحت بذلك أمرا عاما. وهذا قول صحيح، ولا يقصد به الترابي أكثر من كون استتار المذنب يجنبه العقوبة القانونية، وهو لم يقل إن ما فعله ذلك المذنب مباحا عند الله عز وجل. فعدم وجود عقوبة دنيوية على الذنب أو عدم إيقاعها لا يجعل الفعل مباحا، وكم من معصية شرعية نصبت لها الشريعة عقوبة أخروية، لكنها لم تعتبرها جريمة جنائية ولم ترسم لها عقوبة قانونية دنيوية. ومن المعلوم أن الشرع يأمر بالستر، ولا يبيح للحاكم التجسس على الناس وتتبع عوراتهم وذنوبهم، وإنما يأمره أن يأخذهم بما يجاهرون به. وقد ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله عز وجل، فإنه من يبد لنا صفحته نُقمْ عليه كتاب الله"[26] وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم"[27].
إسقاط الخمار عن المرأة
ومن هذا الصنف القول بأن الترابي لا يرى وجوب الحجاب (بمعنى غطاء الرأس)، في حين أن الرجل لم يقل سوى أن القرآن الكريم لا يستعمل لفظ الحجاب بمعنى الخمار، وهو يقصد أن الواجب على عامة المؤمنات هو الخمار أي غطاء الرأس، وليس الحجاب بالمصطلح القرآني الذي يراد به الساتر المادي بين الرجال والنساء، وقد استُعمل في القرآن الكريم ضمن الحديث عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. فكان كلام الترابي في هذه المسألة تحليلا لغويا لا فتيا شرعية، وهو كلام صحيح ودقيق. لكن المتحفزين لتتبع عورات الرجل حملوا كلامه على أنه إسقاط لوجوب الخمار، وكلام الرجل صريح بأنه لا يقصد ذلك ولا يؤمن به. فكتاب الترابي عن "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع" طافح بالدعوة إلى العفاف والستر بما في ذلك الخمار، وفيه يقول الترابي: "وهديُ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبدو من المرأة إلا الوجه والكفان"[28]. وقد بين الترابي المحامل السيئة التي حمل عليها خصومه كلامه عن الحجاب والخمار، فقد سألته صحيفة الشرق الأوسط يوم21/4/2006: "أثار حديثكم عن الحجاب جدلا واسعا، باعتبار أنه تغطية الصدر من دون الرأس.. فما حقيقة هذا الأمر؟" فرد الترابي: "هذه أكاذيب بعض الصحافيين الذين لم يحضروا الندوة التي تحدثت فيها عن بعض قضايا المرأة المسلمة. فهناك كلمات كُتبتْ لم أقلها، فبعض الصحافيين يستهويهم اسم الترابي فينسبون إلي ما لم أقله. فأنا في تلك الندوة ما كنت أتحدث عن أحكام أصلا، بل كنت أتحدث عن أن لغة القرآن نفسها اختلفت جدا في مصطلحات الناس.
فالقرآن تحدث عن الحجاب أنه في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نساء الرسول عليهن أحكام خاصة عن غير النساء وعلى الرسول نفسه أحكام خاصة من دون الرجال المؤمنين... فالحجاب هو ستار عام ليس هو زي في لبس المرأة. فهو حجاب عام قد يتخذ استعارة في اللغة كأن تصف أن بين الناس وبين القرآن حجابا... قلت في المحاضرة إذا تحدثنا عن زي المرأة لا تتحدثوا عن حجاب والمعركة حول الحجاب والمحتجبة، لكن تحدثوا عن الخمار، تحدثت هكذا بيانا للغة لا الأحكام... ولكن يطير بعض الناسب الأخبار (الترابي أنكر الحجاب) (الترابي يقول إن الحجاب للصدور فقط) كأني أريد أنيكون كل ما تحت الصدر أي من البطن كله يكون كاشفا!! ولكن هذا غباء عظيم وتزوير في الروايات عن الناس. ليت الصحافيين فقط يأخذون سماعة الهاتف ويسألونني ليتثبتوا من مثل هذه الأخبار... أنا لا أسميه أصلا حجابا، أسميه خمارا، لأن القرآن سماه لنا خمارا وسمى لنا الستار في الغرفة حجابا"[29]. ولولا ولع الترابي بالتدقيق اللغوي والاصطلاحي لما اهتم أحد بهذا الأمر أصلا. وعموما فهو لم يفعل هنا سوى أنه آثر استعمال الاصطلاح القرآني على الاصطلاح الفقهي السائد.
*****
القسم الثاني من المآخذ على الترابي قضايا فقهية فروعية يصلح الاختلاف فيها، وفيها خلاف قديم طمره تراكم الجهل وطول العهد وانبتات الأمة عن تراثها الزاخر، مثل قتل المرتد، وإمامة المرأة الرجال، وبقاء المسلمة في عصمة زوجها المسيحي، وتنصيف شهادة المرأة بشهادة الرجل في الأموال. وآراء الترابي فيها –في تقديري- منها ما هو مقبول ومستنده قوي رغم إغرابه وقلة القائلين به اليوم، مثل رفضه لقتل المرتد المسالم، وتسويته بين الرجل والمرأة في الشهادة، ومنها ما هو ضعيف المستند، لكنه يبقى من موارد الاجتهاد، وقد قال به علماء أعلام من قبل، فلم يجعلهم ذلك كفارا، ولا حتى أخرجهم شذوذهم عن دائرة "السنة والجماعة"، وهي دائرة أضيق كثيرا من دائرة الإسلام الواسعة. فتحويل هذا الأمر اليوم إلى قضية كفر وإيمان غلو وتهويل، وهو يدل على الروح السياسية والطائفية التي سادت هذا الجدل أكثر من الروح العلمية النزيهة.
إمامة المرأة الرجال
وخذ مثلا قضية إمامة المرأة الرجال. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل جوازها في بعض الظروف فيقول: "جوَّز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين، فتصلي بهم التراويح، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنا. وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها للحاجة. وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة"[30] ويقول ابن تيمية: "قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد. وفي سائر التطوعات روايتان"[31]. وهذا الإمام النووي يقول: "قال أبو ثور والمزني وابن جرير تصح صلاة الرجال وراءها حكاه عنهم القاضي أبو الطيب والعبدري"[32]. وهذا ابن رشد يقول: "اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال، واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك. وشذ أبو ثور والطبري فأجازا إمامتها على الإطلاق"[33]. فحديث قول الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان عن"إجماع الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أن المرأة لا تؤم الرجال" تعميم لا يصلح، وتجاهل لقول الإمام أحمد وغيره في هذا الباب.
لقد تمنيت لو أن خصوم الترابي تحدثوا في هذا الأمر بلغة فقهية مثل لغة ابن رشد إذ يقول: "وشذ أبو ثور والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق". فلم لا نقول: "شذ الترابي فقال بإمامتها على الإطلاق"، بديلا عن لغة التكفير والتشهير؟!؟ فليس من علماء الإسلام المعتبَرين إلا وله أقوال شاذة وغرائب، والشذوذ يسمى شذوذا ولا يسمى كفرا أو فسوقا. وكم من رأي فقهي كان شاذا في عصر ثم تلقاه الناس بالقبول في عصر آخر، فابن تيمية رحمه الله لقي عنَتا كثيرا من علماء عصره والعصور الخالفة من بعدهم، لقوله بعدم إيقاع الطلاق ثلاثا في لفظ واحد، لكن أغلب الفقهاء اليوم يقولون بقوله هذا.
وبالطبع فإن مستند الترابي في قوله بإمامة المرأة، هو ذاته مستند أبي ثور والطبري والمزني ممن قالوا بإمامة المرأة الرجال في الفرائض، ومستند الإمام أحمد في قوله بإمامتها في التراويح، وهو حديث أم ورقة رضي الله عنها أنها "كانت قد جمعت القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، وكانت تؤم أهل دارها"[34]وفي رواية: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها"[35] وفي رواية ثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا بنا نزور الشهيدة. وأذِن لها أن يُؤذَّن لها، وأنتؤم أهل دارها في الفريضة، وكانت قد جمعت القرآن"[36].
وقد تضمن حديث أم ورقة تعيين مؤذن لها مما يرجح صلاة رجل واحد على الأقل خلفها.. كما أن رواية ابن خزيمة تتحدث عن كونها " تؤم أهل دارها في الفريضة" وهو ما ينفي حصر إمامة المرأة الرجال في النوافل أو التراويح فقط.
فالذي أراه في هذا الأمر -والله أعلم بالصواب- أن إمامة المرأة الرجال في صلاة الفريضة بالمساجد لا تجوز قطعا، إذ الأصل في الشعائر التوقف، ولم يرد نص بإمامة المرأة الرجال في الفريضة بالمسجد، فيجب القول بتحريمه رغم أنف القائلين بالإطلاق، مثل أبي ثور والطبري والترابي.. وكل ما سوى ذلك -مثل إمامتها أهل بيتها رجالا ونساء في الفريضة، وإمامتها غير أهل بيتها من الأميين وهي قارئة في النوافل والتراويح- فهو من موارد الاجتهاد التي لا ينبغي التحريج فيها، فضلا عن التكفير والتشهير..
وقد بين الفقهاء القائلون بإمامة المرأة الرجال أنها إذا أمتهم فلا تكون أمامهم، بل خلفهم أو محاذية لهم، بل حتى لو أمت المرأة النساء فإنما تقف وسطهن لا أمامهن. وهذا الذي يدل عليه فعل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: ففي الحديث أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أمَّتا نساء فقامت أوسطهن[37].
وقد احتجت "الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان" على الترابي بضعف حديث أم ورقة، وهو احتجاج في غير محله. فقد حسن الألباني هذا الحديث كما رأينا، واعتبره ابن القيم مثالا على "السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات"[38]. كما احتج مفتي المملكة العربية السعودية على الترابي بحديث "ألا لا تؤمَّنَّ امرأة رجلا"، وهو احتجاج غريب منه، لأن جمعا من جهابذة علم الحديث صرحوا بضعف هذا الحديث، منهم البيهقي[39] والنووي[40] والمزي[41] والذهبي[42] وابن الملقن[43] وابن القيم[44] وابن كثير[45] وابن حجر[46] والشوكاني[47] والألباني[48]... وآخرون غيرهم.
قتل المرتد وقتاله
مثال آخر من مسائل هذا القسم من المآخذ التي أُخذت على الترابي، هو رفضه قتل المرتد. ومن حق الترابي أن يجتهد في موضوع عقوبة القتل على الردة، وله في ذلك مستند من آيات القرآن الكريم، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين. فقد أجمع الصحابة على قتل المرتد المحارب، كما هو واضح من حروب الردة التي قادها الصديق ضد المرتدين عن الإسلام الخارجين على سلطة الخلافة الراشدة. أما المرتد غير المحارب، فقد صح عن بعض الصحابة منهم أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ما يفيد قتل المرتد المسالم. ففي البخاري:"... زار معاذ أبا موسى، فإذا رجل مُوثَق، فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلمثمارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه"[49].
وفي المقابل صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يفيد عدم قتل المرتد المسالم، وهو واضح من قول عمر عن رهط من بني بكر بن وائل ارتدوا والتحقوا بالمشركين وقتلهم المسلمون في المعركة: "لأن أكون أخذتهم سِلْما كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء، قال:[أنس بن مالك]فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتَهم سلما؟ قال [عمر]: كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه، فإن أبوا استودعتهم السجن"[50]..والسؤال هنا هو: هل من الوارد أن يتأسف عمر على قتل مرتدين لو كان يؤمن بأن قتل المرتد حد من حدود الله؟ وهل سيتحدث عن إيداعهم السجن لو كان يؤمن بأن حد الردة القتل وهو من هو في الشدة والصرامة في الحق؟!؟ وهل يدرك المسارعون إلى المناداة بإهدار دم المرتد مغزى قول عمر: "لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء"؟!؟
فإذا أضفنا إلى ذلك أن اثنين من أعلام التابعين هما الثوري والنخعي أنكرا حد الردة وقالا بالاستتابة أبدا.. وأن بعض علماء الأحناف لا يرون قتل المرأة بالردة لأنها ليست محاربة.. ترجح لدينا ما يقول به الترابي وغيره من المعاصرين من التمييز بين الردة الفكرية، والردة السياسية-العسكرية، فالأولى لا عقوبة عليها في القانون الجنائي الإسلامي، والثانية لها عقوبة تعزيرية تترواح ما بين القتل والسجن وغير ذلك مما تقدره السلطة الشرعية العادلة. وعلة العقوبة هنا تفريق صف الجماعة والخروج على نظامها الشرعي، فهي عقوبة على الجريمة المصاحبة لتغيير الدين لا على تغيير الدين. أما تغيير الدين فعقوبته عقوبة أخروية عند الله تعالى، وهي أغلظ من أي عقوبة دنيوية يتخليها البشر. ومما يرجح التمييز بين الردة الفكرية والردة السياسية-العسكرية أن لفظ الردة في عهد النبوة كان يستخدم استخداما واسعا لا يقتصر على معناها الاعتقادي الذي شاع في كتب الفقه فيما بعد، ومن ذلك: "قال رجل أما سلمة فقد ارتدعن هجرته"[51].