من آداب المراقبة
وقال أعلا الأعمال في الدرجات ان تعبد الله على السرور بمولاك ثم على التعظيم له ثم على الشكر ثم على الخوف وآخر الاعمال التي
تكون بالصبر
والصبر على وجوه تصبر وصبر جميل ثم تخرج الى الخوف والشكر ثم الى التعظيم ثم السرور
ومن أراد الزهد فليكن الكثير مما في أيدي الناس عنده قليلا وليكن القليل عنده من دنياه كثيرا وليكن العظيم منهم اليه من الاذى صغيرا وليكن الصغير منه إليهم عنده عظيما
وقال إذا دعتك نفسك الى ما تنقطع به عند حظك فاجعل بينك وبينها حكما من الحياء من الله تعالى
وقال إن الاكياس إذا دعتهم النفوس الى ان تقطهم بخدائعها عن سبيل نجاتهم حاكموها الى الحياء من الله تعالى فأذلها حكم الحياء
وقال مخرج الاغترار من حسن ظن القلب ومخرج حسن ظن القلب من القيام لله على ما يكره ثم من كذب النفس
وقال من النصح ان تحب ان يكون الناس كلهم خيرا منك
وقال ذكر عند ابن المبارك عابد تعبد بلا فقه فقال ليت بيني وبينه بحرا
وقال من انقطع الى الله لم يصبر على الناس ومن انقطع الى غير الله لم يصبر عن الناس
وقال كرز من قرأ القرآن ما له ولكلام الناس
وقال إنما هي ايام قلائل فما على الإنسان لو وهب نفسه لله
وقال التواضع لله ذل القلب
وقال اول النعم معرفة العلم الذي به تؤدي فرائض الله ثم الصحة والغنى ثم العقل
وقال ليس للعبد أن يرد على مولاه شيئا من أحكامه وعليه ان يرضى بما ورد عليه من حكم مولاه فإن لم يرض صبر فللعبد حالان حال يوافق منه رضا على ما يحب وحال يوافق منه صبرا على ما يكره
العدل والفضل
شرائع العدل وشرائع الفضل
بسم الله الرحمن الرحيم يروى عن بعض الحكماء أنه قال طريق الآخرة واحد والناس فيه صنفان فصنف اهل العدل وصنف أهل الفصل
والعدل عدلان عدل ظاهر فيما بينك وبين الناس وعدل باطن فيما بينك وبين الله
وطريق العدل طريق الاستقامة وطريق الفضل طريق طلب الزيادة
والذي على الناس لزوم العمل به طريق الاستقامة وليس عليهم لزوم طريق الفضل
والصبر والورع مع العدل وهما واجبان والزهد والرضى مع الفضل وليسا بواجبين والانصاف مع العدل والاحسان مع الفضل
ومن شغله العدل عن الفضل فمعذور ومن شغله الفضل عن العدل فهو
مخدوع متبع لهوى نفسه وعلى الانسان معرفة العدل وليس عليه معرفة الفضل إلا تبرعا
وهكذا كل عمل لا يجب على العبد فعله لا يجب عليه علمه
صفات اهل العدل
ولا يكون العبد من أهل العدل إلا بثلاث خصال بالعلم حتى يعلم ما له مما عليه وبالفعل وبالصبر
فمفتاح العدل واولاه بالعبد و اوجبه عليه ان يعرف قدر نفسه فلا يكون لها عنده قدر فوق منزلتها و ان الشبه سريرته علانيته
وأحزم الناس فيه واقربهم منه مأخذا المراجع لنفسه في كل خطرة تهواها نفسه أو تكرهها فينظر في ذلك ان لو اطلع الناس على حالته هذه فاستحيا أو كرهها تحول من تلك الحالة الى حالة لا يستحيا منها فإن الذي لا يستحيا منه ضد الذي يستحيا منه
فإذا تحول واستمر فلينظر فإن اشتهت نفسه أن يطلع الناس عليه تحول منه الى ما لا تشتهيه نفسه فإن الذي تشتهيه ضده فيكون أبدا في
ضد ما تشتهيه نفسه
أبعد الناس من العدل
وأبعد الناس من العدل اشدهم غفلة عن هذا واقلهم محاسبة لنفسه وأبعد الناس من العدل وأطولهم غفلة عن هذا اشدهم تهاونا به
ولو عقلت من الذي تراقب ثم تقطعت أعضاؤك قطعا وانشق قلبك او سحت في الارض لكنت بذلك محموقا
فلما لم تعقل لم تجد مس الحياء والخوف في مراقبة الله تعالى ومطالعته على ضميرك وعلمه بما تجلبه حواسك على قلبك وقدرته المحيطة بك ثم أعرضت بعد ذلك كالمتهاون به الى مراقبة من لا يطلع على سرك ولا علم له بما في ضميرك فقلت لو اطلع الناس على ما في قلبي لقلوني ومقتوني فمسك الحياء والخوف منهم حذرا من نقصان جاهك وسقوط منزلتك عندهم فكنت لهم مراقبا ومنهم خائفا ومن مقتهم مشفقا إذ لم تجد مقت الله لك وسقوط منزلتك وجاهك عنده ومقت الله اكبر
ثم إذا عملت شيئا من الطاعات التي تقرب الى الله زلفى فإن هم اطلعوا
عليها عقدت بقلبك حب حمدهم على ذلك وأحببت اتخاذ المنزلة عندهم بذلك
وإن كان شيئا يتقرب به الى الله من طاعة بعقد ضمير او اكتساب جوارح فإن كان ذلك سرا أحببت أن يطلعوا عليه ليحمدوك ويقوم به جاهك
فلم تقنع باطلاع الله عز وجل ولا بثوابه في عمل السر ولا في عمل العلانية وانت قانع بذلك راض به غافل متماد معتز مخدوع وكانت هذه الحالة عندك احسن احوالك واحزم امورك
ولو استغنيت بالله وحده وباطلاعه عليك وبجزيل ثوابه لاهل طاعته ومحبته لهم وتوفيقه لهم وتسديده إياهم و راقبته لاغناك ذلك عمن لا يملك لك ولا لنفسه ضرا ولا نفعا
وقد رضي منك بذلك وليتك تضبطه
فاولى الفضائل بك وانفعها لك ان تكون نفسك عندك دون قدرها وأن تكون سريرتك افضل من علانيتك وأن تبذل للناس حقوقهم ولا
تأخذ منهم حقك وتتجاوز عما يكون منهم وتنصفهم من نفسك ولا تطلب الإنصاف منهم
وإنما هو التطهير ثم العمل والتطهير أولى بنا من العمل
التطهير والعمل
أهمية التطهر من الافات قبل العمل
والتطهير هو الانتقال عن الشر الى الاساس الذي يبنى عليه الخير وقد يمكن ان يسقط البناء ويبقى الأساس ولا يمكن ان يسقط الاساس ويبقى البناء
ومن لم يتطهر قبل العمل فإن الشر يمنع العبد من منفعة الخير فترك الشر أولى بالعبد ثم يطلب الخير بعد
والنفس تجزع من التطهير وتفر الى اعمال الطاعات لثقل التطهير عليها وخفة العمل بالطاعات بلا طهارة
فإذا كانت الطهارات متقدمة امام العمل بالطاعات بعد خفته عليها
لمكان الطهارة فالحاجة الى معرفة الاسباب التي يطلب منها الخير وتوصل الى الله شديدة
فمن كانت له عناية بنفسه وخاف عليها التلف طلب لطائف الاسباب بدقائق الفطن وغائص الفهم حتى يصل اليها فإذا وصل اليها تمسك بها وعمل عليها لان المعرفة لآفات العمل تكون قبل العمل ومعرفة الطريق قبل سلوكه وحاجة العبد الى معرفة نفسه وهواها وعدوه ومعرفة الشر أشد إن كان كيسا وهو الى ذلك افقر إن كان فطنا معنيا بنفسه
لانه ليس العمل بكل الخير يلزم العبد والشر كله لازم للعبد تركه ومن ترك الشر وقع في الخير وليس كل من عمل بالخير كان من أهله
ومعرفة العبد للشر فيها علم الخير والشر وليس في معرفة الخير العلمان جميعا لان كل من ميز الخير من الشر فعزله واعتزله فكل ما بقي بعد ذلك فهو خير كله وقد يمكن أن يعلم الخير ولا يحسن ان يميز ما فيه من الشر من الافات التي تفسده وتبطله لان الخير مشوب ممازج بالشر والشر شر كله
الشيطان يضل الناس بالخير وبالشر
وقد اضل العدو الخبيث عن الله كثيرا من الناس بالخير واضل كثيرا منهم بالشر وإنما اضل من أضل منهم بالخير لقلة معرفتهم بما يمازج الخير من الشر فجهلوا معرفة ذلك و أوهمتهم انفسهم أنهم على خير وهدى وطريق محبة وسبيل واستقامة وهم ضالون عن الله عادلون عن طريق محبته وسبيل الاستقامة اليه
وإنما ذلك من كثرة الافات التي تلحق الاعمال وقلة علم العمال بها فإنا لله وإنا اليه راجعون
الطلب على قدر المعرفة
ما أغفل الناس عن أنفسهم وعن اهوائهم وعن عدوهم فنعوذ بالله من الغفلة والسهو والنسيان الذي يردي ويفسد الأعمال
والحري أن تارك الشر يكون تركه له على قدر ما يعرف من ضرره وهو قائم بفرض تقرب إقامته من الله زلفى وطالب الخير يكون طلبه على قدر ما يرجو ويعرف من منفعته ومن أن العلم شئ والعمل شئ والمنفعة شئ وربما كان علم ولم يكن صاحبه به عاملا وربما كان علم وعمل ولم تكن منفعة وربما كان علم وعمل ومنفعة ثم يكون بعد ذلك إبطال وإحباط وربما علم العبد وعمل وانتفع وسلم وتم
الخصال التي يطلب منها الخير
وطالب الخير لا يستغني عن خمس خصال سوى ما يحتاج فيه الى علم حدود الاعمال واحكامها وادائها الى الله تعالى خالصة مخلصة مشوبة بالصدق كما امر وفرض وسن في الاوقات التي امر وفرض
صاحب الخير العامل به لا يستغني عن الصدق والصواب والشكر والرجاء والخوف
الصواب
اما الصواب فالسنة والسنة ليس بكثرة الصلاة تدرك ولا بكثرة الصيام والصدقة ولا بالعقل والفهم ولا بغرائب الحكمة ولا بالبلاغ والموعظة ولكن بالاتباع والاستسلام لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والائمة الراشدين من بعده
وليس شيء اشد تهمة ولا اكثر ضررا على السنة من العقل فمتى
اراد العبد ان يسلك سبيل السنة بالعقل والفهم خالفها واخذ في غير طريقها
الصدق
واما الصدق ففي اربعة اشياء
تعمل العمل ثم لا تريد على ذلك جزاء ولا شكورا الا من الله تعالى ولا تبطله بالمن والاذى ومنه صدق اللسان في الحديث وقد يصدق في حاله بلسانه وهو عاص لله تعالى في صدقه وهو المغتاب والنمام
الشكر
واما الشكر فمعرفة البلوى فإذا عرف ان كل نعمة فهي من الله
لا غيره وانما هي بلوى يختبر بها عبده شكر ام كفر وكل سوء صرف عن العبد فالله تعالى صرفه ليشكره عبده او يكفره فهذا من الشكر
فإذا عرف العبد هذا انه من الله وعده من نعمه عليه ولم يدخل فيه احدا نفسه لا غيرها فقد شكره فالشكر متفاوت والناس فيه متباينون متصاعدون وهذا ادناه واما اعلاه فلا يبلغه احد وليس له حد
ومنه ايضا وهو يشبه ما وصفنا الا انه اصل الشكر ان يعرف العبد ان ما به من نعمة فمن الله بقلبه علم يقين لا تخالطه الشكوك فإذا عرف بقلبه ذلك ذكره بلسانه فحمده عليه ثم لم يستعن بشيء من نعم المنعم على شيء مما يكره المنعم
واعلا من ذلك من الشكر ان تعد كل بلاء نزل بك نعمة لان لله من البلاء ما انزله بغيرك اشد واعظم من الذي انزله بك
والناس يحتاجون عند ذلك الى الصبر وهو قائم بالشكر
الرجاء
واما الرجاء فهو ان ترجو قبول الاعمال وجزيل الثواب عليها
وتخاف مع ذلك ان يرد عليك عملك او يكون قد دخلته آفة أفسدته عليك
والراجون ثلاثة
رجل عمل حسنة وهو صادق في عملها مخلص فيها يريد الله بها ويطلب ثوابه فهو يرجو قبولها وثوابها ومعه الاشفاق فيها
ورجل عمل سيئة ثم تاب منها الى الله فهو يرجو قبول توبته وثوابها ويرجو العفو عنها والمغفرة لها ومعه الاشفاق الا يعاقبه عليها
واما الثالث فهو الرجل يتمادى في الذنوب وفيما لا يحبه لنفسه ولا يحب ان يلقى الله به ويرجو المغفرة من غير توبة وهو مع ذلك غير تائب منها ولا مقلع عنها وهو مع ذلك يرجو
فهذا يقال له مفتر متعلق بالرجاء الكاذب والاماني الكاذبة والطمع الكاذب
والقيام على هذا يقطع مواد عظمة الله من قلب العبد فيدوم اعراضه عنه ويأنس بجانب مكر الله ويأمن تعجيل العقوبة وهذا هو المفتر المخدوع المستدرج
واما امثالنا من الناس فينبغي ان يكون الخوف عندهم اكثر من الرجاء لان الرجاء الصادق انما يكون على قدر العمل بالطاعات
الخوف
والخوف على قدر الذنوب فلو كان الرجاء يستقيم بلا عمل لكان المحسن والمسيء في الرجاء سواء وقد قال الله تعالى { الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } وقال { إن رحمة الله قريب من المحسنين }
ومعنى الحديث الذي جاء لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا ينبغي ان يكون خاصا بين اهله وهو قبل الحديث الاخر المؤمن كذي قلبين قلب يرجو به وقلب يخاف به فإنما هو اذا احسن رجا واذا اساء خاف مع التوبة والندم والاقلاع
فأما من عرف نفسه بكثرة الاساءة فينبغي ان يكون خوفه على قدر ذلك ورجاؤه على قدر ما يعرف من نفسه من الاحسان لان الرجاء على قدر الطلب والخوف على قدر الهرب
البلوي والاختبار
القرآن يقرر الابتلاء بالدنيا كلها
واعلم أيقن أن الدنيا كلها كثيرها وقليلها حلوها ومرها وأولها وآخرها وكل شيء من أمرها بلوى من الله تعالى للعبد واختبار
وبلواها وان كثرت وتشعبت واختلفت فهو مجموع كله في خلتين في الشكر والصبر فإما ان يشكر على نعمة او يصبر على مصيبة
قال الله تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا }
وقال { ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض }
وقال { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم }
وقال { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون }
وقال { خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا }
وقال { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم }
واكثر من ذلك في كتاب الله تعالى
وانما كانت بلوى آدم عليه السلام أقل من آية في كتاب الله تعالى { ولا تقربا هذه الشجرة } وهو كله لك بلوى
اكثر الفتنة في الناس
وان اكثر ما بلي به العبد من اهل الدنيا الناس وافتن الناس لك واكثرهم لشغلك انما هو بمعارفك منهم واشغل معارفك لك واكثرهم عليك فتنة من انت بين ظهرانيهم ينظرون اليك وتنظر اليهم ويكلمونك وتكلمهم
فإنك من لم يعرفك من أهل زمانك ولم تعرفه ولم تسمع به كأنك
لم تبتل بهم وكأنهم لم يبتلوا بك وكأنهم لم يكونوا من هذه الدنيا التي انت فيها
فأرجع في صبرك إلى الله واستعن به وانقطع اليه واستانس بذكره وأقلل من الخلطاء ما استطت بل اترك القليل أيضا تسلم لقول الله تعالى { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا } فاهرب من الفتنة
فرجع صبرك الى معارفك ومن انت بين ظهرانيهم فنظرك اليهم فتنة ونظرهم اليك فتنة وكلامك معهم فتنة وكلامهم معك فتننة وجفاؤك لهم فتنة وجفاؤهم لك فتنة وكرامتهم لك فتنة وكرامتك لهم فتنة لك
واعتبر من ذلك بموضع تمر فيه فيه معارفك وموضع تمر فيه ليس فيه احد يعرفك
وهكذا شهوات المطعم والملبس وشهوات العين ما يحل النظر اليه وما لا يحل النظر اليه مما كان من ذلك في غير البلدة التي انت فيها فأنت منها سليم وفتنتها مصروفة عنك ان شاء الله تعالى لان مؤنتها ساقطة وهكذا انت في جميع امورك
الابتلاء في العمل
وعملك الذي تعمل انما هو فتنة انت فيه تريد ان توقي اعين الناس واكثرهم من يعرفك بالخير فأعمالك لك فتنة
ان حججت فكنت خاليا ليس معك من يعرفك بالخير وتعرفه كان اسلم لك والا فهو فتنة فانظر كيف تسلم منها
وان خرجت من بلدة انت فيها معروف بالخير فخرجت منها وهم لا يعلمون اين تريد فهو اسلم لك وان علموا فهو فتنة فانظر كيف تسلم منها
وكذلك الغزو وبلوى اهل الغزو وما ينوبهم في مغازيهم من الفتنة والبلية اعظم من بلية غيرهم من الذين يعملون اعمال البر وهم قبل ان يدخلوا في هذه الاشياء في عافية فإذا دخلوها جاءت الفتنة من التحاسد بعضهم لبعض وطمعهم فيما يرجون من السهام وطمعهم في الحملان وما يجعل للناس في سبيل الغزو
ولقد سمعت رجلا من المذكورين من اهل الغزو وممن له غناء عند لقاء العدو واسم عظيم في المطوعة يقول الخيل قد خرجت ولم
يقض لي الخروج فيها أما السلامة فأحب ان يسلموا ولكني أكره أن يغنموا وليس أنا فيهم
ولقد رأيت من يغار على ما يقوى به بعض الغزاة حيث لم يعط هو وأعطي غيره كما يغار الرجل على بعض حرمه ولقد رأيت من غزا ولم يغنم ود ان لم يكن غزا
ولا يؤمن يا أخي على كل من دخل في عمل من أعمال الدنيا والاخرة جميعا إذا لحقتهم في عملهم الآفات التي تفسد الاعمال ان يدخل عليهم الشيطان فيها من العيوب والفتن مثل هذا وأكثر من هذا
فليحذر الرجل على كل عمل يعمله من أعمال الدنيا والاخرة وليراقب الله فيه ويعامله بضمير خالص ويحذر اطلاع الله على فساد ضميره ويحذر اطلاع المخلوقين على عمله فإن كناس الحشوس أكرم من هذا الصائم وهذا المصلي وهذا القائم وهذا الغازي الذي يكره ان ينال المسلمون من غنائم الروم والجالس في بيته ببغداد يحب ان يغنموا منهم
فاحذر رحمك الله من قرب منك وقربت منه فإن الذين بعدوا منك وبعدت منهم سلموا منك وسلمت منهم
يود أقوام غدا انهم لم يكونوا سمعوا بآذانهم كثيرا من أعمالهم التي هي
في رأي العين يرجى لصاحبها عليها الثواب الجزيل والدرجات الرفيعة ويغيطون من لم يكن عمل مثل ما عملوا كثيرا من حسناتهم وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحسبون
كيف يهلك العبد بأعمال البر
يقال إنها أعمال من البر كانوا يرون انها منجيتهم فكانت هي مهلكتهم لما مازجها من الرياء وحب المحمدة من المخلوقين واتخاذ المنازل بالطاعات وإقامة الجاه وحب القدر والميل الى ثواب المخلوقين
فلما وردوا على الله عز وجل وجدوه قد أحبط أعمالهم وهم لا يشعرون لأنهم كانوا قد تعجلوا ثواب اعمالهم من المخلوقين في الدنيا فافتضحوا وفضيحة ما هناك باقية ولم يجدوا من ثواب اعمالهم إلا كما وجد صاحب السراب وصاحب الرماد
فليس اسم الأعمال يراد ولا تزيين ظاهرها ولكن تقوى الله وما يقرب اليه زلفى فليت بين العبد وبين كل عمل يباعد من تقوى الله ومن الله بعد المشرقين
قال العدو الخبيث ثم لآتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فلو لم يكن في
الكتاب من صفات إبليس إلا هذا قد كان ينبغي للناس أن يحذروه
ولو نظرت في اكثر الناس لوجدت أن أكثرهم إنما يؤتى من قبل البر وقلة العناية بتصفية الاعمال وما قد استحلت النفس من حب المحمدة من المخلوقين
وقد يؤتى قوم كثير من قبل الآثام إلا أن علامة الفتنة في الناس جميعا مختلفة وأكثر الناس إنما يعرفون من قد فتن بالآثام ولا يعرفون من فتن بالبر إلا القليل من الناس من أهل النور والفطن والفراسة والتوسم والكياسة
وذلك ان الذي يعمل بأعمال البر وهو يحب فتنتها أكثر من الذي يخاف فتنتها والذي يجهل فتنتها اكثر من الذي يعلم فتنتها
ومن الناس من يعلم فتن الاعمال ومبطلاتها ثم يغلبه الهوى ومنهم من يعلم وتقل عنايته فيغفل
واعلم ان الذي يعمل وقد علم الافات التي تفسد الاعمال ومعه العناية بنفسه وعمله ومعه التيقظ وإزالة الغفلة وهو مع ذلك مشفق خائف من الافات ما يكاد يسلم إلا من عصم الله تعالى فكيف الذي يجهل ويغفل ويغلبه الهوى ويحب دخول الافة
شمول الفتنة وخطرها
وقد طلبت الدنيا في زماننا خاصة بكل جهة بالبر والاثم جميعا افتتانا فاحذر فتنة البر والاثم جميعا لئلا ينزل بك ما نزل بغيرك في الترك والطلب
فلتكن همتك في النظر في مرآة الفكر كالهمة بالعمل وأكثر من ذلك فإنه ليس شهوات الذنوب والسيئات وشهوات المطاعم والمشارب والملابس والبناء والمراكب والمناكح والذهب والفضة بأغلب على اصحابها من شهوات الجاه وحب الرئاسة وإقامة القدر واتخاذ المنزلة وقبول الامر والنهي وقضاء الحوائج وحب العدالة عند الجيران والاصحاب والاخوان والمدحة على اصحاب البر في حسناتهم
وقد تجد الرجل يغلب شهوة الذنب فيترك الذنوب ويصير الى اعمال البر فيضعف عند تصفيتها وتغلبه شهوة ما فيها فيعمل حسنات كثيرة بقوة واقتدار عليها وظمأ شديد وسهر فلا يقدر على ان يغلب شهوته على تصفيتها فإنا لله وإنا إليه راجعون مما قد نزل بنا وما اعظم خطرنا
وما أغفلنا عن عظيم الخطر
أحذر خداع الشيطان وهوى نفسك
ثم اعلم أني لست أزهدك في طلب اعمال البر لأن كل عمل لا تعمله اليوم لا تجد ثوابه غدا ولكني احذرك خداع الشيطان وهوى نفسك الأمارة بالسوء
وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه وقد قال تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }
وقال { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير }
وقال { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال }
{ وكذلك سولت لي نفسي } وقال { فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } وقال { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } وقال { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } وقال { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقال { واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقال { وكذبوا واتبعوا أهواءهم }
مع اشياء كثيرة في ذكر عداوة إبليس وذم النفس والهوى
