نعمة الأمن
الأمن: عدم توقُّع مكروه في الزمن الآتي، وأصله طمأنينة النفس، وزوال الخوف[1].
وهو مِن أبلغ نِعَم الله وأعظمها، وهي النِّعمة التي امتنَّ بها على قريش، ودعاهم بحقها إلى التوحيد فقال: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4]؛ إذ الخائف مُضطرب القلب، لا يستطيع سفرًا ولا غدوًّا ولا رواحًا؛ فلا يهنأ بعيش، ولا ينعَم بلذَّة.
وامتن الله - عز وجل - بها أيضًا على عباده المؤمنين في غزوة بدر؛ فقال تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴾ [الأنفال: 11]؛ إذ الخوف يَحول بين الإنسان والنوم، وكذا بينه وبين العبادة والاستمتاع بها، والأمن يبعث عليهما، ومنه قول ابن المبارك - رحمه الله -:
أطار الخوف نومَهم فقاموا
وأهلُ الأمن في الدنيا هُجوعُ
وفي تفسير قول الله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]، قال فريق من المُفسِّرين: "الأمن والصحة"[2].
والأمن للفرد وللمُجتمع وللدولة أهم ما تقوم به الحياة؛ إذ به يطمئن الناس على دينهم، وأنفسهم، وأموالهم، وأعراضِهم، ويَنصرِف كلٌّ منهم ويغدو إلى ما يرفع شأن أسرته، وينهَض بأمته.
لذا كان عمرو بن ميمون - رحمه الله - يدعو الله - عز وجل - فيقول: "اللهم إني أسألك السلام والإسلام، والأمن والإيمان، والهُدى واليقين، والأجر في الآخرة"[3].
من هذا المنطلق كان كل إنسان - مسلم أو كافر - يطلب الأمن، ويبحث عن الطرق المؤدية إليه، وقد كفلت الشريعة الإسلامية الغراء كل الطرق المؤدية إليه، وحثَّت المسلمين على إتيان ما يوفِّره، واجتِناب ما يُضاده ويَطرده، ومن ذلك الفتن والشرور وإثارتها؛ قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله))[4]، وقال - عز وجل - في شأن توفير الأمان للكفار: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6]، ولأجل الأمن: فُرضَت الإمامة، ووُضع القضاء، وأُقيمت الحدود.
وقد ذهب الفقهاء إلى أن أمن الإنسان على نفسه وماله وعِرضه شرطٌ في التكليف بالعبادات؛ وتحقيق ذلك: أن صلاة الجمعة فرض، إلا أنها لا تَجب على خائف على نفسه وماله، وكذا صلاة الجماعة تسقُط لخوف على نفس أو مال أو عِرض، ويُشترَط لوجوب الحج أمن الطريق في النفس والمال والعِرض، ويجوز تناول المحرمات إذا لم يجد الإنسان غيرها، وخاف على نفسه الهلَكة؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173]، ويجوز التلفُّظ بكلمة الكفر عند الإكراه المُلجئ إلى ذلك؛ قال - عز وجل -: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، ويجوز إلقاء المتاع من السفينة المُشرِفة على الغرَق.
[1] (94 / التعريف).
[2]قال ابن مسعود رضي الله عنه: "الأمن والصحة" (2 / 364 هناد في الزهد) (12 / 680 جامع البيان)، ويذكر أن أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه قال: "هو الأمن والصحة والعافية"، وقال ابن عيينة - رحمه الله -: "من تمام النعمة: طول الحياة في الصحة والأمن والسرور" (2 / 73 المستطرف)، وقال الثوري، والشعبي، ومجاهد - رحمهم الله -: "الأمن والصحة" (12 / 680 جامع البيان)، وهو مرويٌّ عن قتادة - رحمه الله - (4 / 149 شعب الإيمان).
[3] (4 / 150 حلية الأولياء).
[4]صحيح: (25 / الإيمان / البخاري) (22 / الإيمان / مسلم) كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي الباب: عن أبي هريرة، وجابر رضي الله عنهما، (21 / الإيمان / مسلم).