تعددت الأصنام والشرك واحد
تعددت الأصنام والشرك واحد
أمـرنـا الله ـ عـزّ وجلّ ـ بالـتأسِّي بإمام الحـنـفاء إبراهيم ـ عليه السلام ـ في قوله ـ تعالى ـ:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ..} [الممتحنة: 4]،
وقال ـ عزّ وجلّ ـ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ }. [النحل: 321]
وكان إبراهيم ـ عليه السلام ـ كثير التضرُّع والتأوُّه إلى الله ـ تعالى ـ وحده: {إنَّ إبْرَاهِيمَ لَـحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 57]،
وكان من دعاء إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 53]،
قال إبراهيم التيّمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟
والأصنام تتنوع صورها، وتتعدد أشكالها؛ إذ ليست الأصنام مجرد أحجار وأشجار فحسب؛ إذ الصنم قد يكون مالاً، وكما قـال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: لكل أمة صنم، وصـنم هذه الأمة الدينـار.
وقال أيضاً: والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصـنام بعد عبادتهم للرحمن ـ تعالى ـ بحبهم الدنيا
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ عبد الدرهم، تَعِسَ عبد القطيفة، تَعِسَ عبد الخميصة، تَعِسَ وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش، إن أُعطي رضي، وإن مُنع سخط»
بل ربما كان الصنم أعمَّ من الأحجار والأموال، فإن الهوى صنم كما قال ـ سبحانه ـ:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 32]،
وقال ـ تعالى ـ عن اليهود: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 39].
فالصنم منه ما يكون منحوتاً من حجر، وأشده ما يكون منحوتاً في القلب.
ولابـن القـيم فـي هذا المقـام تحرير بليغ حيث يقول:
(إن التوحيد واتِّباع الهـوى متضـادان؛ فإن الهـوى صـنم، ولكل عبد صـنم في قلبه بحسـب هواه،
وإنما بعث الله رُسله بكسر الأصـنام وعـبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله ـ تعالى ـ كسر
الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلـب، بل المراد كسرها من القلب أولاً..
وتأمَّلْ قول الخليـل ـ عليه السلام ـ:
{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 25]،
كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله.
قال تعالى ـ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}[الفرقان: 34].
والمقصود أن اختزال حقيقة (الصنم) بشجر أو حجر يورث قصوراً في الفهم، وضيقاً في الأفق. وسبيل السلامة من ذلك أن يُعنى بتحرير الحدود وضبط التعريفات والقواعد، ومن ذلك:
أن ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لما قرر أن أسـاس الشرك هـو التعـلق بغـير الله ـ تعـالى ـ جعل من ذلك ما كان واقعاً مشاهَداً في القديم والحديث؛ من التعلُّق بالمناصب والصور.. قال ـ رحمه الله ـ: (وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخِط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرّق والعبودية في الحقيقة هو رقُّ القلب وعبوديته، فما استرق القلبَ واستعبده، فالقلبُ عبده).
وقال في موضع آخر: (إن المتَّبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه ويبقى أسير ما يهواه.. فما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه، فيبقى قلبه مستغرقاً في تلك الصورة
وقال في موضع ثالث: (لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان، والله ـ تعالى ـ إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين، والعاشق المتيّم يصير عبداً لمعشوقه، منقاداً له، أسير القلب له)
لقد حذَّر شيخ الإسلام وأنذر من عبودية الصور، فكيف لو أدرك عصرنا الحافل بأصنام التصاوير الآسرة والفاتنة للقلوب والأجساد؛ من صور الفضائيات والإنترنت والمجلات والأزياء والأسواق.. إلخ، إذ إن كثيراً من الناس على هذه الصور (عاكفون)، وفي سبيلها (يطوفون) البلاد ويجوبونها؟
ولما عرّف ابن القيم الطاغوت بقوله:
ما تجاوز به العبد حدّه من معبود أو متبوع أو مطاع ـ فليس الطاغوت محصوراً في ساحر أو كاهن أو نحوهما ـ نجد أن ابن القيم عالج نوازل عصره من خلال هذا الاستيعاب في التعريف، فجعل من الطواغيت ما يلي:
دعوى أن ألفاظ الوحيين لا تفيد اليقين، وتقديم العقل عند تعارض النقل والعقل، والمجاز.. ثم قام عليها بالكسر والإبطال كما هو مبسوط في كتابه (الصواعق المرسلة). وماذا عسى أن يقول ابن القيم عن مثل دعاوى (الإنسانية) و (التعايش) في هذا العصر التي تجاوزت حدودها فصارت مطيّة لإسقاط الولاء والبراء، والارتماء في أحضان الكفار والمنافقين، وإلغاء شعيرة الجهاد في سبيل الله؟؟؟
ومما يعالج هذا القصور أن يُنْظَر إلى حقائق الأمور، فالعبارات لا تغيّر من الحقائق شيئاً، فمن صرف العبادة لغـيـر الله ـ تعالى ـ فـهـو مشـرك، وإن ســمَّى شركه توسُّلاً أو كرامة أو نحـوهـما. يقـول العلاَّمة محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ:
(الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به ـ سبحانه ـ سواءٌ أُطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية؛ كالصنم والوثن، أو أُطلق عليه اسم آخر؛ كالولي والقبر والمشهد)
ويقول العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين ـ رحمه الله ـ:
(فمن صرف لغير الله شيئاً من أنواع العبادة، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهاً، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فرَّ من تسمية فعله ذلك تألّهاً وعبادة وشركاً، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغيّر أسمائها، فالشرك إنما حُرِّم لقبحه في نفسه، وكونه متضمناً مسبَّة الربّ، وتنقُّصه، وتشبيه المخلوقين به عز وجل، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه؛ كتسميته توسُّلاً، وتشفُّعاً، وتعظيماً للصالحين)
ويقول العلاَّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي:
« إن الوثن اسم جامع لكل ما عُبد من دون الله، لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية، ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع وهو العبادة فإنها حق الله وحده، فمن دعا غير الله أو عبده فقد اتخذه وثناً وخرج بذلك عن الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام، فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد وكافر ومنافق، والعبرة بروح الدين وحقيقته لا بمجرّد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها)
ومما يرفع هذ اللَّبْس أن يُتحدث عن الانحرافات المعاصرة والواقعة، والتي تُعدّ صوراً حاضرة لأصنام هذا الزمان، فقد يُؤْثِر البعضُ السلامةَ فيتحدثون عن شرك السابقين، ويُعرِضون عن مظاهر الشرك المعاصر، مع أنها أشنع من شرك الأولين وأكثر وقوعاً، فيظنّ العامة المخاطَبون أن هذه المظاهر ليست شركاً ولا تنديداً. وقد عُني الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بتقرير توحيد العبادة والتحذير مما يضاده، وتقريبه للمخاطَبين حسب واقعهم وحالهم. يقول ـ رحمه الله ـ:
(وأما قولي: إن الإله الذي فيه السر، فمعلوم أن اللغات تختلف، فالمعبود عند العرب، والإله الذي يسميه عوامنا «السيّد» و «الشيخ» و «الذي فيه السرّ» والعرب الأولون يسمّون الألوهية ما يسميه عوامنا «السر»؛ لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يُدعى ويُرجى و يُخاف ويُتوكل عليه..).
وبيَّن العلاَّمة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن مقصودَ جدّه ـ الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ
في هذا الشأن فقال:
(وإنما قال الشيخ: إن المشركين الأولين يقصدون من لفظ الإله ما يقصده أهل زماننا بلفظ «السيد»
وهذا صحيح، فإن «السيد» عند أكثر المشركين في هذه الأزمان هو الذي يُدعى ويُستغاث به في
الشدائد، ويُرجى للنوازل، ويُحلف باسمه، ويُنحر له على وجه التعظيم والقربة، وبعضهم يطلق على
ذلك اسم الولي .
فاللهم إنّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.