::
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
و
مساء يوم وأنا ابن السابعة أن لم تخني الذاكرة
والدي بعد صلاة المغرب يقول لي : مشينا ؟
أرد تلقائياً وبدون تحقيقات أطفال اليوم
وكما تعودنا في ذلك الزمن البعيد الجميل
ابشر
.
نركب السيارة الداتسون موديل ( 78 )
وعيناي تحاولان اختراق الظلام لمتابعة حركات والدي القيادية للسيارة
يمد والدي يده اليسرى ويسحب ازرار النور ليشعله
فنتحرك تاركين قريتنا خلفنا متجهين إلى حيث لا أعلم في تلك اللحظات .
والدي : نهار .. ترانا رايحين وأنا أبوك لــ ِ ( ابن .....فلان ) عنده عشا ما اوصيك خلك عاقل
طبعاً ( ابن فلان هذا ) لم أسمع به أو أعرفه من قبل .
مسافة نصف ساعة تقريباً بطريق صحراوي تخلله
( شل ابوك حط ابوك وتجّود قدامنا غراز لازم نسرع و جربوع رايح وجربوع جاي
وهذي حية وهذي عقرب ويا قلب لا تحزن )
اقتربنا من معزبنا المقصود وقبل أن نصله بعدة أمتار تصل إلى العشرين تقريباً
أخذنا فوق تحت حتى نوقف السيارة باتجاه أهلنا
كعلامة مميزة لطريقة إيقاف البدو لسياراتهم في ذلك الزمن
إذ بإمكانك معرفة اتجاه منزل كل منهم حسب اتجاه وقفة سيارته .
والسبب في ذلك ( عدم معرفتهم لطريقة ارجاع السيارة للخلف )
ننزل من السيارة ونحن لا نكاد نرى مواقع أقدامنا من شدة الظلام ،
يرحب بنا المعزب بأعلى صوته ويستقبلنا بكشاف ( تريك ) ليضيء لنا الدرب
نصله نسلم عليه ويكثر من الترحيب ويصحبنا إلى مجلسه هناك
حيث سبعة أو ثمانية من الرجال نسلم عليهم ويبادلهم والدي السلام والمزاح
الضوء خافت في المكان ، لم َ لا فهذا الرجل كغيره من البدو الرحل في ذلك الحين
لا يملك أحدهم إضافة إلى إضاءة بصيرته
عدا سراج خافت لا يفي بالغرض كما يجب وإن جار عليه صاحبه
ونار يشعلها بما يجمعه بعرق جبين مشقة تضاف إلى مشقة حياته اليومية .
فنجال قهوة وقصة فقصيدة ، فنجال من الشاي وسالفة وآخرى
يستأذننا بعدها المعزب للآذان لصلاة العشاء
يؤذن على بعد أمتار منا ويخط بعصاه المسجد
يتوضأ منا من توضأ ويتسنن من تسنن ثم يقيم الصلاة ويصلى بنا
ننتهي من الصلاة ونبقى في مكاننا للتهليل والتسبيح
حدقتا عيناي تتسعان بعض الشيء
فآرى من بعيد ورغم الظلام الدامس أشباح بيوت من الشعر
وسواد بعض الأغنام تتحرك من هنا وهناك
دقائق و ننتقل إلى حيث كنا ،
وفنجال كيف وسالفة وآخرى وفنجال شاهي وابتسامة ومثلها
يقاطعنا صوت المعزب من أمتار مرحبا هلا تفضلوا على عشاكم ،
الساعة المباركة ، يقوم الجميع ويتقاربون على الصحن
ويجبرني المعزب على المشاركة بصفتي الصغير الوحيد القادم من بعيد على حد قوله .
المعزب وبعد تكاملنا ، سموا الله يحييكم بمناسبة تسجيل ابو ( فلان ) ( مراسل بمدرسة الديره )
وسامحونا بالقصور حلف علي واختصرتها والساعة المباركة اللي جمعت الجميع .
ـ العشاء مفطح هريفي ما أكل كيماوي في حياته قط ،
على رز ٍ مخبوص وإيدام مرقه بيضاء تجيب العافية
( وتبون الصدق طعمه بالرأس )
ـ تعشينا كأطيب ما يكون العشاء ، خلّف الضيف وخلّفنا معه ،
غسلنا وأخذنا على كاسة شاهي
استأذنا فودعنا بدخان العود الأزرق وصاحبنا بكشافه ( التريك ) حتى السيارة ومشينا .
هنا كانت بدايات معرفتي بهذا الرجل المدرسة
وبقي أن أقول لكم شيئاً حدث واستمر منذ حضورنا وحتى وداعنا
( شعلة من النشاط لأبناء له أربعة كلٍ يخدم الضيوف بجهة حسب ما دربهم به والدهم ،
كبيرهم في الثامنة عشر من عمره تقريباً وأصغرهم في السابعة أو الثامنة )
ـ عام واحد تقريباً ويقنع هذا الرجل من يقنعه بالنزول في القرية ويتم ذلك
الليلة عشاء أبو فلان عندنا ( فرحة بقربه ) وطبعاً لسنا الوحيدين فالقرية كلها بمن فيها فرحت بمقدمه وقدمت له الواجب
سنوات سبع أو ثمان لم نر من هذا الرجل ولا عائلته ما يغيض أحداً ،
رجل متدين ، حكيم ، حليم ، كريم ،صبور ،
وأغرب ما فيه الابتسامة المتدفقة حتى مع صغار السن وحبهم المفرط له لقاء ذلك
( بالرغم من بنيته الجسمية الضخمة التي لو كانت مع غيره لأرهبت من رآه وخصوصاً الأطفال )
.
بعد تلك السنوات الثمان تقريباً
وفي ليلة ألم من ليالي ابتلاء هذا الشامخ
يرتب سلاحه
عشاء صيد يريده غداً
فتقوم قائمة الرصاص لتخترق يده وتأكل أصابع يده اليمنى
أيام مستشفى يعيشها
بتحمله المعهود وصبره اللامحدود
ليعود إلى القرية وكأن شيء لم يحدث .. ملامح رضاه بادية على محياه
.
مرض السكر يداهمه بعد سنة تقريباً من هذا الحادث
وجرح لأصبع قدمه اليمنى أيضاً
يتآكل رغمـ كل الجهود الطبية
وبعد مضي أشهر في المستشفى يضطرون لقطع رجله من أعلى الكعبين
ويخرج من المستشفى بعد أيام وفيض رضا يرافقه
ليشغلك عن سؤاله عن حاله بسؤالك عن أحوالك وليخلق أجواء من الراحة والطمأنينة
لا تستطيع معها إلا أن ترى الأمر عادياَ والوضع طبيعياً
.
أنتقل أنا وأهلي عن القرية التي يسكنها
ونودعه
بروح المعجب المحب
.
وأنشغل أنا بالدراسة لمدة أربع سنوات لا أعود فيها لأهلي إلا في الإجازات
ولم التقه خلالها
لظروف دراستي أولاَ وكما اسلفت ولبعد منطقته عن منطقتنا الجديدة ثانياً
وثالثاً : لقصور تفكيري الشبابي فلو كنت في تعقلي الآن لقهرت الظروف ووصلته فمثله لا يُترك
.
المهمـ
سأختصر ما بقي
،
،
في تلك السنوات الأربع تقريباً
فقد الرجل ثلاثة من ابنائه الأربعة بحوادث متفرقة وأوقات متفاوته
ربما لكل عام ( ألم فقد )
ولم يتبق منهم ألا أصغرهمـ
و
تصوروا معي
بذات الوقت وبعد دفن الثلاثة يدخل المستشفى لـ استمرار تآكل مرض قدمه
اليمنى ليضطر بالموافقة على قطعها من الفخذ
ولا حول ولا قوة إلا بالله
.
يشاء الله وتحصل الصدفة
وفي سفر لنا وأثناء تخطينا لسيارة آخرى
ومعي والدي
ليقول لي :
نهار... وقف السيارة اللي طفنا
هذا ( ابن ............ )
كنت أعلم كل ما أصابه من خلال سؤال والدي عن أحواله
وكم تتخيلون ارتعاد فرائصي
وضيق صدري
واقشعرار جلدي للحظة اللقاء هذه
نذهب إليه
يتقدمني والدي
يفتح باب الراكب هو محاولاً النزول وولده يسرع ليفتح له
والدي يسبق ويحلف عليه إلا ينزل
يبقى في السيارة والباب مفتوح ويتكأ على العصا البديل لقدمه المبتورة
أسلم عليه
وقد نحل جسمه وتغيرت ملامحه
ولكن المفاجأة بالنسبة لي
.
.
.
رضا روحه
وإيمانه بقدره خيره وشره
سبحان الله هو هو ذلك الطود لم تزده تلك الابتلاءات إلا قوةً
وصلابة
والابتسامة الراسمة للأمل لكل من قابله من قبل
لم تزل تشرق من محياه
دقائق معدودة يا أخوان ويا أخوات وينقلنا من الواقع المؤلم أمام أعيننا
والدموع التي تسكن محاجرنا
إلى
الضحك
والتعليق والمزح وذكريات الماضي السعيدة
وطموح المستقبل المأمول بإذن الله
.
لنطيل الوقفة معه ونودعه بعد اتفاقنا معه على الزيارة المتبادلة وحسب الظروف
.
وما هي إلا أياماُ معدودة
حتى يشاء الله ألا لقاء بيننا
وينتقل إلى جوار ربـــــــه
رحمه الله رحمة واسعة
وكأني بـه عاش حياته بتفاصيلها مستحضراً
حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
عن صهيب رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عجباً لأمر المؤمن ،إن أمره كله خير له ، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له (( رواه مسلم
.
رسالة
لا تنسوا الدعاء لهذا الرجل المدرسة
،
ودمتم بحب
محبكم
ن
ه
ا
ر