بسم الله الرحمن الرحيم
[IMG][/IMG]
1 من وحي الأحداث الكويتية [ضحى]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
كانا متحابين متعاهدين ، على السراء والضراء ’ زميلان بالجامعة ، ولكل واحد منهما أمل وطموح، وهذا الأمـل والطمـوح ، يتمثل في التخرج من الجامعة ، ثمّ مواصلة الدراسة العليا بعد الحصـول على الوظيفة .
لأنّ كل واحد منهما لم يكن بأحسن حال من الآخـر ، في المجال الاقتصادي ، إلا أنّ ياسر وضحى قد جمع الله بينهما لأول نظرة ، حتى أنّ بعض زملائهما ، يعتقـد بأخوّ تهـما ، بل قال آخـر لولا اختلاف اسميهما لقلت أنهما شقيقان .
ويلاحظ ذلك من تلازمهما داخل الحرم الجامعي يدا بيد ،وكأن أحدهم ظل للآخـر ، وكلّ هذا التلازم والاتفاق ، لم يحدث ، إلا داخـل مكتبة الجامعة أو محيطهـا ، أمّا إذا انتهت الدّراسة ينتهي بانتهائها كل شيئ بينهما ، ومن الغريب أنّ أحدهما لايعرف عن الآخر شيئا ، لاعن مقره ولاعن عشيرته ، ولا إلى أي قبيلة ينتمي ’ أو في أي حي أوحارة يسكن .
وقدمنع مابينهما من حب واحترام السؤال عن الفوارق الفردية والاجتماعية ، واكتفى كلّ واحد منهما بصدق الزمالة وطيب التعامل ، وكانت دراستهما في مجال الطب ، وكل واحد منهما تخصص في مجال الأطفال .
2
وتقفل الجامعة أبوابها ، ويبدأ الاستعداد للعطلة الصيفية ، فيودع ياسـر زميلته ضحى وتودعـه ، وكلّ واحـد منهـما يتمنى لولم تكن هناك عطلة .
ولكن نظـام الجامعة يعطي بعض الدكاترة الحق ، بأخذ إجازة صيفية يقضيها مع أهله وذويه ، وهكـذا هي سنة الجامعة ، في خططها للعام الدراسي وكمـا تعود عليهـا ياسـر وضحـى.
وماهي إلا أيّام قليلة من هذة الإجـازة الصيفية حتى وقعت الواقعت الواقعة على دولة الكويت في يو الخميس 11 \ 1\1 141 هـ الموافق 2\ 8 \1990 م ..
والناس في إجازاتهـم داخـل الوطن وخارجـه ، ومنهـم من يمـارس عمله كالمعتـاد ، وحين أشـرقت الشمس ، وخـرج الناس لقضاء حوائجهم ، وإذا بهم يفـاجئون بجنود لم يروهـم من قبل
وتساءلوا مالذي حدث ياترى ؟
وظهـر للجميع كأنّ هناك انقلابا عسكريا في دولة الكويت ، إلا أنّ المواطن الكويتي ، لم يألف الانقلابات العسكـرية ، ولـم يصدق مايشاهد ويرى ، جنود مدججون بالسلاح ، يحيطون بكل
شارع وساحة .
صورهـم غريبة ، وملابسهم العسكرية غريبة ، ومدرعات ودبابات هنا وهناك ، تقصف بمدافعها الثقيلة المباني المرتفعة ، وكلّما خرج مواطن كويتي إلى عمله ، ردّ على عقبيه وهدد بالسلاح .وخرج ياسر مثل أولئك الذين يقضون حوائجـهـم كالمعتاد ، ذهب مبكـّـرا ولم يكن قد نمـا إلى خلده أنّ الجيش العراقي قد احتلّ الكويت ، وذهب ياسر إلى بنك الخليج ليصرف بعض النقود من حسابه الخاص ، فوجد البنك محاطا بالجنود والمدرعات ، فلم يأبه بهم ، ظنا منه أنهم كويتيون ،
وأخذ يشق طريقه إلى البنك ، ولم ينتبه إلا وقد وجّه إليه أحد الجنود السلاح وأمره بالرجوع إلى الخلف ، قال : ياسر وبسذاجة عفوية وبأمر من أرجع ؟
قال : الجندي بأمر سيدي صدّام حسين ! قال : ياسـر وما دخل صدّام بالكويت ؟
فسحبه جندي آخر وقال : يابه إرجع قبل أن تموت ، فرجع ياسر إلى أهله مذعورا يفكّر بما آل إليه الوطن ، وأخـذ يضرب أخماس أسداس ، أمعقول هذا؟ أيحتلّ صدّام الكويت ؟ ولم يصدّق ماحدث من هول مالحق به من سخريّة وهوان ، فرجع إلى بيته مهموما محطـّـم المشاعر، يضع ألف سؤال وسؤال ، أيعقل أن يحتلّ صدّام الكويت ؟ وما ذنب الكويت ؟ لقد وقفت إلى جانبه في كثير من المـواقف ، وكلّ كويتي يرى في صدّام المدافع الأول عن العرب في القادسية والفاو ..
وهذه الأفكار وغيرها دارت بذهن ياسـر ، ولم يجـد لها جـوابا ، ومـاذا يصنع الآن ؟...
3
لقد أحيط بالكويت من كل جانب ،ونهبت المخازن والمؤن ، ولم يبق إلا مـا دّخـره المواطن لنفسـه ’ قبل الاحتلال ليوم أوليومين ، فهل يقبع ياسـر في منزله دون حراك ، ويضع يده على خـدّه ، كما يفعل المغلـوب على أمـره ، ويقفل عليه باب داره ، ولايشا رك الناس همـومهم ،..
إنّه طبيب ولديه مبادئ في مجال الطب ، ولكنّه متخـوّف كأمثاله من الشباب ، متخـوّف على نفسه ، متخوف على أسرته ، ولم يفته التفكير بزميلته ضحى وأسرتها ...
ولكنه ..
لم يعرف أين تسكن ، ولم يعرف أهلها ، وأخـذ منه الحزن والأسى عليهـا كلّ مأخـذ ، ولكن هول المصيبة ، أنست كلّ فرد أن يفكـّر بصاحبه ،في هذا الوقت العصيب ، وقرر ياسربعد هدوء ورويّة،
أن ينخرط مع جماعة الإغاثة والمساعدة ، في حارته فكان يطمئن المنزعج ، ويساعد العاجز ، ويمسح دمعة الصغير، ولمّا طال أمد الاحتلال ، أخذ ياسر على نفسه توزيع المؤن الغذائية ، وجلب الطحين وقرر أن يكون خبّاز الحارة ، ولم يسبق له أن امتهن هـذه المهنـة ...
فأخـذ يعجن العجين ، ويخبز الخبز ، ويوزعه وهو يشعر بسعادة غامـرة ، بما يصنع ، وكأنّه لم يكن ذلك المثقف ، الذي راوده طموحه ، بحياة الرخاء والمجـد ، وبسبب توزيع الخبز على الجيران ، فقد تعرّضت حياته عدة مرّات للخطر ، وبسبب ما يأتي إليه من الجنود ، ويأخذون مايجدونه مخبوزا في المخبز أمامهـم .
وبرغم هذه الظروف لم ينس زميلته ضحى ، فلم يزل ينظر إلى الطوابير ، الغريبة التى تأتى إلى مخبزه ، من الحارات المجاورة ،فلعلّها تحمل إليه نبأ عن حبيبته ضحى ، أو لعله يجدها في وسط الزحام ، إلا أنّ ذلك لم يكن ، وفقد بذلك الأمل في رؤيتها ، ومع ذلك لم يسل قلبه عنها لحظة واحدة .
4
لقد خرجت ضحى مع أسرتها في الأسبوع الثالث من الاحتلال ، إلى الإمارات العربية ، واستقرّت بمدينة العين ، عند أحد أقاربها ، خالها بالأحرى ، خرجت عبر الطريق البري ، بين السعودية والكويت ، عن طريق مزارع الوفرة ، كما خرج غيرها من النازحين ، لخوفهم من البطش والاعتداء من الجيش العراقي .
إلا أنّ ضحى لم يكن حضّها موفقا مع أسرتها قي الهروب ، ففي إحدى نقاط السيطرة والتفتيش للجيش العراقي .
رأت الجنود العراقيين يطلقون النار على سيّارة أوقفوها ، وقد أخرجوا منها ركاّبها وأمروهم بالرجوع إلى الكويت سيرا على الأقدام فأصيبت ضحى بالّذّعر ، وكانت هي التي تقود سيّارتها إلى الحدود السعوديّة ..
فانطلقت بأقصى سرعة لها ممكنة ، فوجّه الجنود إلى سيّارتها بنادقهم ، فأصابت طلقة رأس أمّها العجوز ، وكانت بالكرسي الخلفي ، فلفظت أنفاسها ، على تربة الوطن ، قبل الوصول إلى الحدود السعوديّة ، ولم تشعر بموت أمّها ، إلا بعد أن نبهها عامل الجمارك بالحدود السعودية ،أنّ أمها قد فارقت الحياة بأثر طلق ناري ..
فأصيبت ضحى بالانهيار العصبي ، وكان موقفا مؤ سفا ومحزنا في آن واحـد ..
وأخذت ضحى العلاج والمساعدة ، ثمّ سلّمت أمها إلى اللجنة الكويتية المقيمة بمدينة الخفجي السعودية . وحمل جثمانها إلى الإمارات العربية حسب رغبة ضحى ...
وقضت ضحى سنة كاملة بالإمارات العربية ، وهي تعاني من الاكتئاب النفسي ، وبرغم حسن الضيافة من أهل البلد ، وبرغم ماحباه الله للإمـارات العربية ، من مناظر طبيعية ، ومنتزهات ترفيهية بمدينة العين ، تبعث في النفس البهجة والسرور ، إلا أنّ ضحى لم تنس ارتباطها بوطنها الكويت ،
فأخذت تعاني من الغربة والضياع وتتساءل متى يتحرر الوطن ؟
5
إلا أنّ الاحتلال طال أمده ، وأصبح الكويتي يرى أنّ رجوعه صعب المنال ، ويرى آخر أنّ الصبر والأمل مطلوب ، ولا يأ س مع الأمـل ، وأخذ قادة مجلس التعاون بمناشدة صدّام بالخروج من الكويت ، ولكن لاحيا ة لمن تنادي ، وفقدوا الصبر ، فأصرّوا على رجوع الكويت ، وطمأنّ الخليجيون بموقف قادتهم وعلموا بتصميمهم على تحريرالكويت وما هذه الأحداث إلا سحابة صيف .
وسوف تعود الكويت ويعود أميرها إلى قصر دسمان ، كما كان في سابق عهده ، وفي يوم الأربعاء الموافق 13 \8 \ 1411 هـ
وهو اليوم المسمى 26 \ فبراير | 1991 م ..
تمّ تحرير الكويت وطرد العراقيين شرّ طردة ’ ورفرف علم الكويت وبجانبه أعلام مجلس التعاون الخليجي والدول الحليفة وكان رجوع الكويت يوم عيد مشهود ’ شمل كلّ تلّة مرتفعة وبرج مشيد . وعمّت البهجة أبناء الكويت ، ووصل التحرير إلى مسمع ضحى بالإمارات العربية ،
فكان سرورها عظيما بعودة الوطن ، وبدأت ا لتفكير بالعودة
6
عودة النازحين الكويتيين إلى أرض الوطن ، وبدأ الاستعداد والتنظيم من قبل الحكومة الكويتية وجمع الله شمل النازحين بالقاعدين ، واجتمعت الأم بأبنائهـا والوالد بأولاده ،وعمت البهجة والسرورقلوب المواطنين الكويتيين ، وكانت سعادتهم أكبر وأكبر بسلامة قيادتهم وتماسكها عند العودة بأميرهم جابر وولي عهده سعد .
ولكن هالتهم السحب الكثيفة التي حوّلت النهار إلى ظلام دامس ، فقد حجبت الشمس ، وتحولت الأشجار والرّمال إلى قار أسود ، وأصيب الكثير منهم بالغثيان والتقيوء من روائح الآبار المشتعلة ولكن ّ الله سلّم ولطف ..
وأخذ المهندسون الكويتيون على عاتقهم إ عادة الماء والكهرباء والخدمات الصحيّة وإزالة المتفجّـرات والألغام الخادعة من ملاعب الأطفال والحدائق العامة ، وعادة الكويت إلى سابق عهدها في زمن وجيز ، وتنفس الناس الصعداء وبدأت المدارس والجامعات بفتح أبوابها ، وذهب ياسر إلى جامعته بعد التحرير واستقرار الأمور ، فرحا مسرورا ، لعلّه يشاهد زميلته ضحى .
ولكنه لم يجدها ، فسأل عنها شئون الطلاّب فلم يصل إلى نتيجة أوأثر ، فقد احترقت سجلات الطلاّب وعناوين منازلهم .
وشعر ياسر بخيبة الأمـل والوجوم الذي عقد لسانه ولكنّه لم ييأس فقرر أن يبحث عنها في كلّ مكان ، وفي كلّ شارع ومتجـر ، وفي كل مخفر ومصحة ، فلم يجـد لها عنوانا ، ولم يجد من يدله عليها بخبر أوسبب .
7
فلم ييأس ورجع في اليوم التالي إلى الجامعة لمواصلة دراسته ، ولكنّه لم يشعر بالاستقرار ، أو الرغبة في الدراسة ، وأحسّ أن ضحى هي ملهمة أفكاره بالفعل .. ولكنها لم تكن موجودة بالجامعة ، ولاحظ كأن الجميع يتساءل عنها ، كما يتساءل هو ، ويطلبون منه الجواب ، ألم يكن معها دائما وأبدا ؟
قبل الأحداث في حرم الجامعة ، فأصيب بالقلق والانطواء، وقرر ترك الوطن والسفر إلى بريطانيا لإكمال دراسته في مجال طب الأطفال ، قبل أن يكسل ويفتر طموحه ، وتضعف عزيمته بسبب تفكيره في ضحى ، وقد يهدم ذلك المستقبل الذي اتفق مع زميلته ضحى في تحقيقه ، وأخذ يفكر ، بالسفر كما لازمه التفكير بالبقاء والبحث عن ضحى..
لقد اعتراه الخبال بسبب ما يتوارد إلى ذهنه متذكّرا مرحها ، وابتساماتها العذبة ونظراتها الذابلة الساحرة ، لقد خالجت هذه النظرات ، كلّ قطرة من دمه ، وكلّ خاطرة من وجدانه ، لقد تيّم بالفعل ولكنّه لم يعرف أن هذا هو الوله والهيام ..
8
فقرر الابتعاد والسلو ، قرر السفر إلى الغرب ، إلى بريطانيا ، وودع أسرته وذويه ، بعين دامعة وقلب كليم ، وأغلقت الطائرة أبوابها ، وطارت به على مدينة الكويت ، فنظر من النافذة إلى الأمكنة التي أحبّها ، ولاسيّما مباني الجامعة التي كان يلتقي بها مع زميلته ضحى ..
ووصل إلى بريطانيا ومكث هناك في بريطانيا ، يدرس بجد في مجال تخصصه النمو عند الأطفال .
وبعد سفره بأيام قليلة رجعت ضحى إلى الكويت ، تفكّر في طريق العودة وتقول في نفسها ، أأجد داري سليمة ؟
أأجد جيراني كما عهدتهم ؟
أأجد الناس الذين منحتهم الحبّ ، ومنحوني التقدير ؟
ولكنني مصابة بأغلى الناّس عندي أمي الحبيبة .
وعند وصولها إلى الكويت ن بادرت إلى الجامعة لمواصلة الدّراسة ، ولكن الحال قد تغيّر ، تغيّر كل شيئ في نظرها ، أعضاء الجامعة ، وأشجار ها ، قاعاتها خاوية ، وفصولها حزينة ، تبعث في النفس الخوف والحزن ،
ولكنها تلاحظ أنّ الجميع يؤدي عمله في صمت وهدوء ، وسألت عن زميلها ياسر فقالوا لها ، لقد ترك الدراسة ولا نعلم عنه بعد ذلك شيئا ..
شعرت ضحى بخيبة أمل ، وكيف أنّ كل شيئ قد تغيّر بالكويت بسبب هذا الغزو العراقي الغاشم
وشعرت بهزّة عاطفية عنيفة ، في أعماق قلبها ، أيقضت فيها الحزن الذي بد أ يخفّ عند فقدها لأمها .
وهاهي الآن تفقد زميلا مخلصا كان يقف معها ، جنبا إلى جنب في صنع المستقبل، فأغمضت عينيها ، برهة وهزّت رأسها وتأست بالصبر والاحتساب ، وذرفت على خدها دمعة كحبّة لؤ لؤ مسحتها براحة كفّها حتى لايشعر بها أحد .
وواصلت دراستها كغيرها بالجامعة في هدوء وصمت وحصلت على شهادة التخرّج من الجامعة بتقدير متميّز ومشرّف .
9
وأخذت مكانها في الخدمة الوطنية ، فعملت ، فعملت طبيبة أطفال في أحد المستشفيات الحكومية ولم تقطع ارتباطها بخالها بالإمارات ، فكانت تزوره بصحبة أختها الصغرى ، كلّما سنحت الفرصة أثناء الإجازة ، فعرض عليها خالها أن تتزوج بالإمارات وتعمل بإحدى مستشفياتها لتكون قريبة منه .
ولكنّها اعتذرت لخالها ، وعللت ذلك بأنها كويتية وتعلّمت بالكويت وهي الآن طبيبة وللوطن الحقّ في رد الجميل ، ولو حدث أن تزوّجت فلن يتولّى العقد غيره ، وطلبت من خالها عدم الإلحاح عليها بالزواج ، فهي لازالت مشغولة بأختها التي تدرس بالمرحلة الإبتدائية ، وأنّها ستقف بجانبها حتى تأخذ نصيبها من التعليم ..
10
وبعد فترة من الزمن يعود ياسر ، من دراسته بالخارج ، وقد حمل شهادة الزمالة ، في الطب في الطب ، من أشهر جامعة في بريطانيا لطب الأطفال ، عاد إلى الوطن مسرورا ، لاتكاد الأرض أن تحمل فرحته بالنجاح ، وفرحته برؤية الوطن ،وفرحته برؤية والديه، وجيرانه ، وأصدقائه، ولضحى في مخيّلته نصيب كبير ، في تفكيره ووجدانه ، تلك التي زرعت فيه روح الطّموح والتحدّي ,
إنّه لم يتغيّربحصوله على الدرجة العلمية الكبيرة ، فهو ياسر ذلك الشخص البسيط المتواضع كما كان في الجامعة في الجامعة مع زميلته ضحى .
لم تغيره بيئة الغرب ، ولم يتأثر بطباعهم ، ومشاعرهم الباردة فهو يسأل عن أصدقائه وأحبابه، يسأل عن كل صغير وكبير ، وكأنّه حفظ أسماءهم في قاموس الوفاء ، فوفاؤه هو وفاؤه ، وقيمه هي قيمه ، ففي كل ّ صفاء جو ، ونسمة نسيم ، يعاوده حنين الذكريات ، إلى زميلته ضحى ، فيقف فجأة ، يتحدّث عنها في أعماق قلبه، وكأنّه يراها على الحقيقة ، يتحدّث معها حديثا قلبيا طويلا ينتهي ذلك الحديث ، بابتسامة لايكاد يراها أحد إلا هو ..
وهويعرف معنى الابتسامة ، لاغيره من البشر إنّها تخرج من أعماق قلبه تكاد تشتعل ، من أنفاسه الحارة ، ثمّ يعود فيرعوي برغم هزّة الحنين والذكريات كالطفل الوديع ، وبعد وصوله إلى أرض الوطن ، وبفترة قصيرة قدّم شهادته إلى وزارة الصحة الكويتية فعيّن طبيبا بالمستشفى الأميري ، وعمل ثلاثة أشهر بكلّ جد ّ وإخلاص ، دون كلل أوملل يخدم أطفال الوطن .
وتميّزت شخصيته الطبيّة بالنجاح فعرفه مرضاه وذاع صيته ، ولم ينس الترفيه عن نفسه في أوقات فراغه ، فكان يخرج منفردا بعد الغروب ، ويصعد إلى قبة برج الكويت ، والذي يعدّ معلما سياحيا هاما ومتنفّسا لأبناء الكويت والزوّار من خارجها ...
11
وأهميّة البرج شموخه وارتفاعه ، وكأنّه يرمز إلى الحرّية والأمل كما أنّه يشرف على المدينة ، ويكشف معالمها ، فيأتي ياسر ويجلس في تلك القبة المتحرّكة ، يستمتع بمنظر البحر وأمواجه
المتلاحقة والمتكسّرة ، على أرصفة الشاطئ البحري ، ثمّ ينظر إلى الشوارع المضاءة ، والسيّارات التي تشبه حبّات الخرز المتناثرة على المواقف ، وتلك التي تسير مسرعة في يسر وسهولة
في خطوط متوازية وترتيب فريد ، وكأنها تأتمر بأمر سائقيها يسارا ويمينا ، لاتحيد عن المسار المرسوم لها في منظر عجيب يبعث الأمل والإعجاب في نفس ياسر، وحمد الله أنّ أزمة الاحتلال قد ولّت ، واستقرالأمن والأمان ، وأخذ يتأمل المدينة واتساعها ، والشوارع وحركتها ، والبحر في اضطرابه وسكونه ، أخذ يتامّل مرّات عديدة ، وبينما هوكذلك شارد في تأملاته وهمومه
اقتربت إليه فتاة صغيرة ، وطرقت يده بطرقات خفيفة من يدها الصغيرة فتنبه لها وأفاق من سيطرة التأمل وابتسم لها فناولته آلة تصوير صغيرة ، وطلبت منه أن يأخذ صـورة لها
فقال :نعم
فصوّرها ثمّ طلب منها أن تأخذ له ، هو الآخـر صورة في نفس المكان وبنفس المنظر ، فقالت لامانع لدي ولكن كيف أوصلها إليك ؟
والآلة لاتصوّر على الفور ، قال : ياسر : أنا آتي هنا مساء كلّ جمعة ، فإذا انتهيت من طبع الصور فستجديني بانتظارك هنا ، ولكن بشرط أن يكون طبع الصور على حسابي ، فرفضت الطفلة ، ولكنّ ياسر صمم أن تأخذ عشرة دنانير وتواعدت معه على اللقاء ، ومن عادة الأطفال الوفاء..
وفي المساء قصت الطفلة على أختها أنّها التقت برجل مضحك ، أعطاها عشرة دنانير مقابل صورة واحدة ، ربما تكون قد طمست من الفلم ، وطلب تسليمه الصورة يوم الجمعة المقبلة .. فقالت أختها الكبرى أنت ياسعاد تهوين التصوير وأنا خائفة عليك ، ولاتنسي أنّ بعض الناس
سيئو ا الطّباع ولاسيّما أنّك بالبرج ، ويدخله أجناس مختلفون من البشر ، فقالت سعاد : لايبدو عليه علامات الخبث والمكر، بل الهدوء والسكينة ، وقد ابتسم لي ولا أظنّه كذلك ، وماعليّ سوى تسليمه صورته ، كما وعدته فساعديني .
فقالت ضحى : إذن إذا طبعتي الصورة فاخبريني ..
وطبعت سعاد الصورة ، ثمّ أرتها أختها ضحى ، وقالت هاهي صورة الشخص الذي صورته بالبرج ..
فأخذتها ضحى وكانت جالسة فوقفت ، وصرخت قائلة : هذا غير ممكن .. غير معقول !
ثمّ أطبقت عليها يديها ، وأغمضت عينيها .. ودقّ قلبها دقّات فرح واستبشار ، وكأنّها في حلم
فقالت أختها سعاد : وماهوالشيئ الذي غير ممكن وغير معقول ؟ فأخذت ضحى أختها سعا د وضمتها بأحضانها ، وقبلتها على خدها . وقالت صاحب هذه الصورة ، من أفضل زملائي بالجامعة ، وقدترك الـدّراسة واختفى ، ولابدّ أن آتي معك لنسلّمه صورته .. وأخذت ضحى تعدّ الدقائق والساعات ليأتي مساء الجمعة الموعود ،
ولكن ياسر لم يف بوعده ،مع الطفلة ، فقد أعطاها الدنانير من باب الممازحة والإعجاب ببراءتها
وأخذت ضحى وأختها سعاد يترددان على البرج في كلّ مساء جمعة وأوشكا أن يفقدا الأمل في العثور على صاحب الصورة ، وفي ذات مساء حانت لحظة اللقاء ،وفي نفس الموعد الذي حدد للطفلة ، وبعد الغروب لشمس مساء الجمعة من يوم آخر ، من أيام الأسبوع ، يفاجأ ياسر بالطفلة سعاد ، وهي تربت على يده كالمعتاد .
وترفع في وجهه صورته وبجانبها حبيبته وزميلته ضحى ، والتى فقد الأمل في العثور عليها ،
وكانت لحظة لقاء تعطّلت عندها لغة الكلام ، فقال : ياسر أأنت ؟ ولم يكمل واغرورقت عيناه بالدموع ..
قالت ضحى : أجل وهذه أختي سعاد ، التي نعدها لتكون صحفيّة ممتازة، فقال ياسر : إنّـها سعاد بالفعـل ، واتفقوا على النزول من البرج ..