سورة الفاتحة
قال تعالى ( افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) محمد 24 .
يقول ابن القيم : لو رُفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن واستنارت فيها مصابيح الإيمان وعلمت علماً ضرورياً أنه من عند الله ، تكلم به حقاً وبلَّغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد ، فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد .
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم ) العنكبوت 49 .
وقوله ( أفمن يعلم أنما أُنزل إليك من ربك الحق كمن هو اعمى ) الرعد 19 .. وغيرها من الآيات .
كلنا كمسلمين نقرأ القرآن لكن هل نتدبر معانيه ونحاول فهم مدلولاته ؟
سورة الفاتحة .. هذه السورة التي لا تصح الصلاة إلا بها والتي من كثرة تكرارها قد نأخذ الأمر عادة فلا نتدبر معانيها ولا نفهم سر عظمتها كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم .
بصراحة أنا من الناس الذين ظلوا لفترة ليست بالقصيرة يقرأون الفاتحة كشيء روتيني يجب أن يتم دون الشعور بكلماتها وكلما قرأت عنها أكثر أو سمعت كلما تحسن الوضع معي بعض الشيء ، واليوم من خلال هذا الموضوع حاولت جمع بعض ما كُتب وقيل في عظم هذه السورة ومكنونات معانيها على هيئة نقاط علّه يحقق الفائدة في الارتقاء بنفسي وأنفسكم ويكون نفعاً لي ولكل من يقرأ .
أخرج البخاري وأحمد من حديث أبي سعيد ابن المعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لأعلّمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد ، فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله ألم تقل لأعلّمنك أعظم سورة في القرآن . قال : ( الحمد لله رب العالمين ) هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أُوتيته )
وأخرج مسلم من حديث ابن عباس قال : بينا رسول الله عنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه ( أي صوتاً كصوت الباب إذا فُتح ) فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا بابٌ من السماء فُتح اليوم ، لم يُفتح قط إلا اليوم ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيته )
قيل أنها أول سورة نزلت جملة واحدة – أي نزلت كاملة – .. سُميت بالفاتحة لكون المصحف أُفتتح بها كما انها تعتبر مفتاح القرآن فكل كنوز القرآن فيها وكل القرآن مُفصلاً وشارحاً لمعانيها ، فكما يقول العلماء إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد والأحكام والجزاء وطرق بني آدم .. وغير ذلك ، لذا سُميت ( أم القرآن ) والمرجع للشيء يُسمى أماً .
كما أن من أسمائها .. الحمد ، الصلاة ، الواقية ، الكافية ، الشافية ، السبع المثاني وقد أُختلف في سبب تسميتها بالسبع المثاني فقيل لأن المصلي يثني بها أي يعيدها في كل ركعة من صلاته ، وقيل لأن المصلي يثني بها على الله عز وجل أي يمدحه ، وقيل لأنها أُستثنيت على هذه الأمة فلم تنزل على قبلها .
* هي حوار بين العبد وربه كما جاء في الحديث القدسي في صحيح مسلم ( قُسمت الصلاة – والمقصود بالصلاة الفاتحة – بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي ، فإذا قال العبد : الرحمن الرحيم ، قال الله : أثنى عليّ عبدي ، فإذا قال العبد : مالك يوم الدين ، قال الله : مجدني عبدي ، فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين ، قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )
فأعطانا الله سبحانه وتعالى كلاماً نحاوره به في هذه السورة ومطالب عظيمة نعيش بها في هذه الحياة .
ومن الأشياء الجميلة المذكورة في هذا السياق ما قيل عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقرأ الفاتحة ويسكت بين الآية والأخرى وحين سُئل عن سبب سكوته قال : لأستمتع برد ربي !
* الفاتحة كلها دعاء وهو أحسن الدعاء حيث الثناء على الله ثم السؤال ، لذا نقول في نهايتها آمين ( اللهم استجب ) .
* سورة الفاتحة قُسمت ما بين العبد وربه وهكذا هي الصلاة حيث أن الركوع وما قبله لله والثناء عليه وما بعد الركوع للعبد حيث الدعاء في السجود ومابين السجدتين … قال صلى الله عليه وسلم ( ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقمن أن يستجاب لكم ) رواه مسلم .
* معنى الحمد : الثناء باللسان على الجميل وهو يختلف عن الشكر في أن الشكر يكون مقابل نعمة أما الحمد فيكون لكمال المحمود ويكون مع المحبة والتعظيم ولو في غير مقابل نعمة لذا يُشكر العباد ولا يُحمد إلا الله عز وجل ، فأنت عندما تقول الحمد لله رب العالمين فإنك تثني عليه في كل أحوالك في السراء والضراء ، تحمده على أنه رب العالمين فلو كان للكون آلهين لهلك من فيه ، فالكون كله يديره الله عز وجل ، الحمدلله على أنه سيُسير هذا الكون برحمته ، الحمدلله على كل ما سيأتي في هذه السورة .
* الرحمن الرحيم : الرحمة هي عطف يقتضي إحسان على المخلوق بما يصلحه ويسعده ، في الفرق بين الرحمن والرحيم أن الرحمن ذو الرحمة الواسعة التي تشمل كل الكون والرحيم هي الرحمة الخاصة للمؤمنين ، وفي تفسير ابن عثيمين رحمه الله أن الرحمن ذو الرحمة الواسعة لهذا جاءت على وزن فعلان الذي يدل على السعة والرحيم أي الموصل للرحمة لمن يشاء من عباده لهذا جاءت على وزن فعيل الدال على وقوع الفعل فإذا اقترنت الرحمن بالرحيم كان الرحمن صفة لذاته والرحيم صفة لفعله .
* ( مالك يوم الدين ) وفي قراءة ( مَلِك يوم الدين ) قيل أن ملك أعم وأبلغ من مالك لأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه أي أن المالك لا يتصرف في مُلكه إلا بتدبير الملك ، وقيل أن مالك أبلغ لأنه يكون مالكاً للناس وغيرهم ، والأصح أن الفرق بين الوصفين أن المَلِك صفة لذاته والمالك صفة لفعله ، ويوم الدين أي يوم القيامة ، فهو الملك المالك لهذا اليوم فلا ملوك ولا مالكين غيره ( لمن الملك اليوم ) غافر 16 فلا يجيب أحد فيقول سبحانه ( لله الواحد القهار ) غافر 16، يوم يُدين الله العباد بأعمالهم أي يجازيهم بها وايضاً الحمد له على ذلك حيث لا ظلم وإنما كل العدل .
* ( إياك نعبد وإياك نستعين ) هي الآية التي قُسمت بين العبد وربه .
العبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والعرب تقول : طريقٌ معبد أي مذلل ، فالحب بغاية الذل والخضوع لا يكون الا لله عز وجل ، والعبادة بمعناها العام فعل كل ما أمر الله به وترك كل مانهى عنه .
والاستعانة تجمع أصلين الثقة به والاعتماد عليه ، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس لكن لا يعتمد عليه في أموره لاستغنائه عنه أو لعدم حاجته إليه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاجه رغم أنه غير واثق منه .
فالثقة والاعتماد تجتمع في التوكل وذلك كله حقيقة ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهذان الأصلان العبادة والتوكل ذُكرا مقترنان في عدة مواضع في القرآن ، كقوله تعالى ( ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ) هود 123 .
وقوله ( ربنا عليك توكلنا وإليك انبنا وإليك المصير ) الممتحنة 4 ، … وغيرها .
* تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ أن العبادة هي غاية العباد التي خُلقوا لها والاستعانة وسيلة إليها فلن يستطيع العبد القيام بالعبادة بدون عونه عزو جل ، ولأن ( إياك نعبد ) قسم الله تعالى فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله ، و ( إياك نستعين ) قسم العبد فكان من الشطر أو القسم الذي هو له ، ولأن الاستعانة جزء من العبادة فالعبادة أشمل وأتم ، ولأن ( إياك نعبد ) له و ( إياك نستعين ) به ، وما له مُقدم على ما به .. فما له متعلق بمحبته ورضاه وما به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمشيئته ، فالكون كله مُتعلق بمشيئته الملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي ، اما المتعلق بمحبته هم المؤمنون وطاعاتهم .
* ذكر ابن القيم كلاماً جميلاً حول منازل ( إياك نعبد ) حيث أن العبودية تبدأ :
( باليقظة ) وهي انزعاج القلب من رقدة الغافلين وبهذا الاحساس ينتبه العبد من غفلته فينتقل لمنزلة ( العزم ) وهو أن يعقد العزم جازماً على المسير في اليقظة والبدء الفعلي ويستعد ليفارق كل قاطع ومعوق لطريقه ويرافق كل معين وموصل وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه وبحسب قوة عزمه يكون استعداده فإذا عزم على اليقظة وتمكن انتقل لمنزلة ( الفكرة ) وهي تحديق القلب وتركيزه نحو المطلوب الذي قد استعد له وعزم فتأتي منزلة ( البصيرة ) وهي نور في القلب يُبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه ، فيبصر الناس وهم قد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق وقد نزلت ملائكة السماء فأحاطت بهم ، وقد جاء الله ، وقد نُصب كرسيه لفصل القضاء ، وقد أشرقت الأرض لنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ، وقد نُصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه ، ولاح الحوض ونُصب الجسر للعبور ، فالناجون والهالكون … فينفتح في قلبه عين يرى بها كل ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يُريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم .
* اشتملت الفاتحة على المطالب العالية في العبادة :
ففي قوله تعالى ( الحمد لله رب العالمين ) حوت كمال المحبة له سبحانه بحمده على كل الأمور .
وفي قوله ( الرحمن الرحيم ) كمال الرغبة فيما عنده من الرحمة كما فُصل بالأعلى .
وفي قوله ( مالك يوم الدين ) كمال الرهبة منه سبحانه حيث يفكر العبد قبل مخالفته في أن كل شيء سيحاسب عليه في الآخرة .