الهجرة النبوية المباركة - مواقف وعبر
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق،
والصلاة والسلام على إمام التقى والداعي إلى الهدى
والرسول المجتبى
سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابه أولى الوفا.
يقول الله تبارك وتعالى:
"{إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمةُ الله هي العليا والله عزيز حكيم}.
أطلت علينا الهجرة النبوية الشريفة بظلالها الوارفة، وغلالها الوافرة، وهي تتألق بتباشير الفجر، وملامح الفرج، تتهادى على أجنحة الأنسام، تنبعث من تاريخ يفيض بالعزة ويشمخ بالجلال.
أطلت هذه الهجرة المباركة بكل ما تحمل من عبر وعظات ودروس، فجعلتنا نقف ونتدبر فيما يرويه التاريخ لنا عن الدعوة المحمدية وصاحبها الذي أمره ربه عز وجل أن يبث كلمة لا إله إلا الله، وينشر معاني التوحيد، ويبطل مظاهر الإشراك، ويحارب عادات الكفر والإلحاد.
وقد سعى المشركون بكل عزمهم وأموالهم أن يصدوا الناس عن دين الحق، وأن يوقفوا مسيرة الإيمان والتوحيد، ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح وانتصر الحق وارتفع نداء التكبير.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى دين الله كله ثقة بالله عز وجل وتوكلٌ عليه. وها هو بعد ذهابه إلى الطائف لدعوة الناس إلى الهدى وتعرضه لأقبح رد منهم يأتيه جبريل ويقول له:" إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت". فيقول الحبيب المصطفى:" بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا".
وقد تحمل نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم الأذى الشديد من المشركين وهو صابر ثابت يدعو إلى دين الله، وكذلك تعرض أتباعه وأصحابه لصنوف شتى من التنكيل والاضطهاد وهم ثابتون على ما هم عليه من الإيمان، رافضون أن يرجعوا إلى عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر شيئا.
وجاءت الهجرة المباركة لتعلن نهاية عهد طويل من الاستبداد والتنكيل والاضطهاد، ولتؤكد بأن الحق لا بد له من يوم تعلو فيه رايته، وترتفع كلمته، وينتصر رجاله بإذن الله.
كما أن الهجرة من مكة إلى المدينة أرست معالم عهدين: العهد المكي والعهد المدني. فأما العهد المكي فهو عهد تحمل فيه النبي الأعظم أعباء الدعوة إلى الله، صابرا محتسبا مجاهرا بالحق، دون أن يؤذن له بقتال من عاداه وءاذاه ورفَعَ سيف الاضطهاد والتنكيل بأصحابه المستضعفين المتشبثين بدينهم وإيمانهم. لقد صبر صلى الله عليه وسلم على اللأواء والبلواء والضراء، كما صبر أصحابه وتحملوا في سبيل الله، وهم يعلمون أن المؤمن إذا أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له.
وأما العهد المدني، وهي الفترة التي بدأت بوصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، فهو عهد تغيرت فيه الموازين، واشتد ساعد أهل الإيمان، فخاض المؤمنون وأبطال الإسلام الأشاوس الوقائع بكل صدق وإخلاص واندفاع، ومُني فيها أعداء الحق بالهزائم المتتالية رغم رجحان كفتهم باعتبار بعض الموازين.
لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته الواسعة وإرشاداته البليغة العظيمة أن يجمع الطاقات المستنيرة بنور الإيمان، ويستعملها للخير ونشر المعرفة النقية، والمبادىء السامية، والمفاهيم الراقية. وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابة بالتواد والتعاطف والتراحم، وأن يشد بعضهم أزر بعض، كما كان يأمرهم بالخلق الحسن، ويحذرهم من الغلو الذي أهلك من كان قبلهم، وهو الذي قال:" إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
فلماذا، والحال هذا، لا يقتبس اليوم أدعياء العمل الإسلامي أصحاب التطرف والغلواء من سيرة صاحب الرسالة؟!، فيتركوا التطرف أولا، ثم يعملوا على حشد النفوس المؤمنة نحو العمل الصالح وكل ما من شأنه جمع الكلمة وتوحيد الصف، بدل أن يخبطوا خبط عشواء، ويُمعنوا في جسد الأمة تقتيلا وتخريبا، وفي أوطانهم تفتيتا وشرذمة!!