الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله.
عن عِتبان رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله» متفق عليه.
في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدةً بقوله : خالصاً من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين.
فإنّ حقيقة التوحيد انجذابُ الروح إلى الله تعالى جملةً، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأنَّ الإخلاص هو انجذابُ القلب إلى الله تعالى بأن يتوبَ من الذنوب توبة نصوحا.
فإذا مات على تلك الحال نال ذلك؛
فإنه قد تواترت الأحاديثُ بأنه «يخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة».
وتواترت بأنَّ كثيراً ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها.
وتواترت بأن الله حرَّم على النار أن تأكل أثرَ السجود من ابن آدم؛ فهؤلاء كانوا يُصلون ويسجدون لله.
وتواترت بأنه يُحرِّمُ على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن جاءت مقيّدةً بالقيود الثِّقال.
وأكثرُ من يقولها لا يعرف الإخلاص!، وأكثر من يقولها إنِّما يقولها تقليداً أو عادةً، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه.
وغالبُ من يُفتنُ عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء؛ كما في الحديث: «سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف 23] .
وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مُصرَّاً على ذنب أصلا؛ فإنَّ كمالَ إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فلا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله.
وهذا هو الذي يَحرُم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإنَّ هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنباً إلاّ محي عنه كما يمحو الليل النهار.
فإذا قالها على وجه الكمال المانعِ من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غيرُ مصرٍّ على ذنب أصلاً، فيُغفر له ويُحرَّم على النار.
وإن قالها على وجه خلُص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنةُ لا يقاومها شيءٌ من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه.
وهذا بخلاف من رجحت سيئاتُه بحسناته، ومات مُصراً على ذلك، فإنه يستوجب النار وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصاً لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك. بخلاف المخلص المستيقن؛ فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرّاً على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة .
وإنما يُخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة فيضعُف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانعٍ من جميع السيئات، ويُخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سَلِم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيُضيف إلى ذلك سيئاتٍ تنضمُّ إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تُضْعِفُ الإيمان واليقين، فيضعف قول: لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يُحسِّن صوته بآية من القرآن من غير ذوقِ طعمٍ وحلاوة. فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقُضُ ذلك، بل يقولونها من غير يقين وصدق ويموتون على ذلك، ولهم سيئاتٌ كثيرة تمنعهم من دخول الجنة.
فإذا كثُرت الذنوب ثقُل على اللسان قولهُا، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقُل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأنَّ إلى الباطل، واستحلى الرَّفث، ومخالطةَ أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثلُ هذا إذا قالها، قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.
قال الحسن: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فمن قال خيراً وعمل خيراً قُبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يُقبل منه".
وقال بكر بن عبد الله المزني: "ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيامٍ ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه".
فمن قال: لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوباً، وكان صادقاً في قولها موقناً بها - لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه - وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئاتُ على هذه الحسنة، ومات مصرّاً على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق.
والذين يدخلون النار ممن يقولها: إمّا أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التامِّين المنافيين للسيئات، أو لرُجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئاتٍ رجحت على حسناتهم، ثم ضعُف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصا.
وهذا المعنى ذكره طائفة من أهل العلم كشيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب وغيرهم رحمة الله عليهم.