العالم الكبير مصطفي محمود
مُصْطَفَى مَحْمُوْد (27 دِيْسَمْبَر 1921 - 31 أُكْتُوْبَر 2009)، مُفَكِّر وَطَبِيْب وَكَاتَب وَأَدِيب مَصْرِي. هُو مُصْطَفَى كَمَال مَحْمُوْد حِسِيْن آَل مَّحْفُوْظ، مِن الْأَشْرَاف وَيَنْتَهِي نِسْبَه إِلَى عَلِي زُيِّن الْعَابِدِيْن. وَكَان تَوْأَمَا لَأَخ تُوُفِّي فِي نَفْس عَام مَوْلِدُه. تُوُفِّي وَالِدِه عَام 1939 بَعْد سَنَوَات مِن الْشَّلَل، دّرْس الْطِّب وَتُخْرِج عَام 1953 وَتُخَصَّص فِي الْأَمْرَاض الْصَّدْرِيَّة ،وَلَكِنَّه تُفْرِغ لِلْكِتَابَة وَالْبَحْث عَام 1960 تَزَوَّج عَام 1961 وَانْتَهَى الْزَّوَاج بِالْطَّلَاق عَام 1973 رِزْق بِوَلَدَيْن "أَمَل" و"أَدْهَم". تَزَوَّج ثَانِيَة عَام 1983 مِن الْسَيِّدَة زَيْنَب حَمْدِى وَانْتَهَى هَذَا الْزَّوَاج أَيْضا بِالْطَّلَاق عَام 1987.[1]
أَلْف 89 كِتَابا مِنْهَا الْكُتُب الْعِلْمِيَّة وَالْدِّيْنِيَّة وَالْفَلْسَفِيَّة وَالِاجْتِمَاعِيَّة وَالْسِّيَاسِيَّة إِضَافَة إِلَى الْحِكَايَات وَالْمَسْرَحِيَّات وَقَصَص الْرِحْلَات، وَيَتَمَيَّز أُسْلُوْبِه بِالَجاذِبِيّة مَع الْعُمْق وَالْبَسَاطِة.
قَدِم الدُّكْتُوْر مُصْطَفَى مَحْمُوْد 400 حَلْقَة مِن بَرْنَامِجَه الْتِّلْفِزْيُونِي الْشَّهِيْر (الْعِلْم وَالْإِيْمَان) وَأَنْشَأ عَام 1979 مَسْجِدِه فِي الْقَاهِرَة الْمَعْرُوْف بـ "مَسْجِد مُصْطَفَى مَحْمُوْد" وَيَتَّبِع لَه ثَلَاثَة مَرَاكِز طِبِّيَّة تَهْتَم بِعِلَاج ذَوِي الْدَّخْل الْمَحْدُوْد وَيَقْصُدُهَا الْكَثِيْر مِن أَبْنَاء مِصْر نَظَرا لَسَمِعْتُهَا الْطَّبِّيَّة، وَشَكْل قَوَافِل لِلْرَّحْمَة مِن سِتَّة عَشَر طَبِيْبا، وَيُضَم الْمَرْكَز أَرْبَعَة مَرَاصِد فَلَكِيَّة، ومُتَحُفا لِلجِيُولُوجيّا، يَقُوْم عَلَيْه أَسَاتِذَة مُتَخَصِّصُون. وَيُضَم الْمُتْحَف مَجْمُوْعَة مِن الْصُّخُوْر الجْرَانْيتيَّة، وَالَّفَرَاشَات الْمُحَنَّطِة بِأَشْكَالِهَا الْمُتَنَوِّعَة وَبَعْض الْكَائِنَات الْبَحْرِيَّة، وَالِاسْم الْصَّحِيْح لِلْمَسْجِد هُو "مَحْمُوْد" وَقَد سَمَّاه بِاسْم وَالِدِه.
تَارِيْخِه الْفِكْرِي
في أَوَائِل الْقَرْن الْفَائِت كَان الْإِلْحَاد هُو التَّيَّار الْأَوْسَع انْتِشَارَا، تِلْك الْفَتْرَة الَّتِي ظَهَر فِيْهَا مَقَال لِمَاذَا أَنَا مُلْحِد؟ لـإِسْمَاعِيْل أَدْهَم وَأَصْدَر طَه حُسَيْن كِتَابِه فِي الْشِّعْر الْجَاهِلِي، وَخَاض نَجِيْب مَّحْفُوْظ أَوْلَى تَجَارِب المُعَانَاة الْدِّيْنِيَّة وَالْظَّمَأ الْرُّوْحِي.. كَان "مُصْطَفَى مَحْمُوْد" وَقْتِهَا بَعِيْدا عَن الْأَضْوَاء لَكِنَّه لَم يَكُن بَعِيْدا عَن الْمَوْجَة الْسَائِدَة وَقْتِهَا، تِلْك الْمَوْجَة الَّتِي أَدَّت بِه إِلَى أَن يَدْخُل فِي مُرَاهَنَة عُمْرِه الَّتِي لَا تَزَال تُثِيْر الَجَدَل حَتَّى الْآَن
بِدَايَاتِه
عَاش مُصْطَفَى مَحْمُوْد فِي مَدِيْنَة طَنْطَا بِجِوَار مَسْجِد "الْسَيِّد الْبَدَوِي" الْشَّهِيْر الَّذِي يُعِد أَحَد مَزَارَات الصُّوْفِيَّة الْشَّهِيْرَة فِي مِصْر؛ مِمَّا تَرَك أَثَرَه الْوَاضِح عَلَى أَفْكَارِه وَتَوَجُّهَاتِه.
بَدَأ حَيَاتِه مُتَفَوِّقا فِي الْدِّرَاسَة، حَتَّى ضَرَبَه مَدْرَس الْلُّغَة الْعَرَبِيَّة؛ فَغَضِب وَانْقَطَع عَن الْدِّرَاسَة مُدَّة ثَلَاث سَنَوَات إِلَى أَن انْتَقَل هَذَا الْمُدَرِّس إِلَى مَدْرَسَة أُخْرَى فَعَاد مُصْطَفَى مَحْمُوْد لِمُتَابَعَة الْدِّرَاسَة.وَفِي مُنْزَل وَالِدِه أَنْشَأ مُعْمِلا صَغِيْرا يَصْنَع فِيْه الْصَّابُوْن وَالْمُبِيْدَات الْحَشَرِيّة لِيَقْتُل بِهَا الْحَشَرَات، ثُم يَقُوْم بِتَشُرِيحَهَا، وَحِيْن الْتَحَق بِكُلِّيَّة الْطَّب اشْتُهِر بـ"المُشْرحُجي"، نَظَرا لَوْقُوْفِه طُوِّل الْيَوْم أَمَام أَجْسَاد الْمَوْتَى، طَارِحا الْتَّسَاؤُلات حَوْل سَر الْحَيَاة وَالْمَوْت
اتِّهَامَات وَاعْتِرَافَات
نَذْكُر هُنَا أَن مُصْطَفَى مَحْمُوْد كَثِيْرَا مَا اتُّهِم بِأَن أَفْكَارَه وَآرَاءَه الْسِّيَاسِيَّة مُتَضَارِبَة إِلَى حَد الْتَّنَاقُض؛ إِلَّا أَنَّه لَا يَرَى ذَلِك، وَيُؤَكِّد أَنَّه لَيْس فِي مَوْضِع اتِّهَام، وَأَن اعْتِرَافِه بِأَنَّه كَان عَلَى غَيْر صَوَاب فِي بَعْض مَرَاحِل حَيَاتِه هُو دَرَّب مِن دُرُوْب الْشَّجَاعَة وَالْقُدْرَة عَلَى نَقْد الذَّات، وَهَذَا شَيْء يَفْتَقِر إِلَيْه الْكَثِيْرُوْن مِمَّن يُصَابُون بِالْجُحُوْد وَالْغُرُوْر، مِمَّا يَصِل بِهِم إِلَى عَدَم الْقُدْرَة عَلَى مُوَاجَهَة أَنْفُسِهِم وَالاعْتِرَاف بَأَخْطَائِهِم.
مُصْطَفَى مَحْمُوْد وَالْوُجُودِيَّة
يَتَزَايَد التَّيَّار الْمَادِّي فِي الْسِتِّينَات وَتُظْهِر الْفَلْسَفَة الْوُجُوْدِيَّة، لَم يَكُن (مُصْطَفَى مَحْمُوْد) بَعِيْدَا عَن ذَلِك التَّيَّار الَّذِي أَحَاطَه بِقُوَّة، يَقُوْل عَن ذَلِك: "احْتَاج الْأَمْر إِلَى ثَلَاثِيْن سَنَة مِن الْغَرَق فِي الْكُتُب، وَآَلَاف الْلَّيَالِي مِن الْخَلْوَة وَالتَّأَمُّل مَع الْنَّفْس، وَتَقْلِيْب الْفِكْر عَلَى كُل وَجْه لَأَقْطَع الْطُّرُق الْشَّائِكَة، مِن الْلَّه وَالْإِنْسَان إِلَى لُغْز الْحَيَاة وَالْمَوْت، إِلَى مَا أَكْتُب الْيَوْم عَلَى دَرْب الْيَقِيْن" ثَلَاثُوْن عَاما مِن المُعَانَاة وَالْشَّك وَالْنَّفْي وَالْإِثْبَات، ثَلَاثُوْن عَاما مِن الْبَحْث عَن الْلَّه!، قَرَأ وَقْتِهَا عَن الْبُوَذِيَّة وَالْبَرَاهمّيّة وَالزَرادْشِيْتّة وَمَارَس تَصَوَّف الْهِنْدَوْس الْقَائِم عَن وَحْدَة الْوُجُوْد حَيْث الْخَالِق هُو الْمَخْلُوْق وَالْرَّب هُو الْكَوْن فِي حَد ذَاتِه وَهُو الْطَّاقَة الْبَاطِنَة فِي جَمِيْع الْمَخْلُوْقَات. الثَّابِت أَنَّه فِي فَتْرَة شَكُّه لَم يُلْحَد فَهُو لَم يَنْف وُجُوْد الْلَّه بِشَكْل مُطْلَق؛ وَلَكِنَّه كَان عَاجِزا عَن إِدْرَاكِه، كَان عَاجِزا عَن التَّعَرُّف عَلَى الْتَّصَوُّر الْصَّحِيْح لِلَّه، هَل هُو الْأَقَانِيم الْثَّلاثَة أُم يَهْوَه أَو (كَالِي) أَم أُم أَم.... !
لَاشَك أَن هَذِه الْتَّجْرُبَة صَهَرَتْه بِقُوَّة وَصَنَعْت مِنْه مُفَكِّرَا دِيْنِيّا خَلَاقْا، لَم يَكُن (مُصْطَفَى مَحْمُوْد) هُو أَوَّل مَن دَخَل فِي هِذِه الْتَّجْرِبَة, فَعَلَهَا الْجَاحِظ قَبْل ذَلِك, فَعَلَهَا حُجَّة الْإِسْلام أَبُو حَامِد الْغَزَالِي، تِلْك الْمِحْنَة الْرُّوحِيَّة الَّتِي يَمُر بِهَا كُل مُفَكِّر بَاحَث عَن الْحَقِيقَة، ان كَان الْغَزَالِي ظَل فِي مِحْنَتِه 6 أَشْهُر فَان مُصْطَفَى مَحْمُوْد قَضَى ثَلَاثِيْن عَاما !
ثَلَاثُوْن عَاما أَنْهَاهَا بِأَرْوَع كَتَبَه وَأَعْمَقَهَا (حِوَار مَع صَدِيْقِي الْمُلْحِد)، (رَحِلْتَي مِن الْشَّك إِلَى الْإِيْمَان)، (الْتَّوْرَاة)، (لُغْز الْمَوْت)، (لُغْز الْحَيَاة)، وَغَيْرِهَا مِن الْكُتُب شَدِيْدَة الْعُمْق فِي هَذِه الْمِنْطَقَة الْشَّائِكَة..الْمُرَاهَنَة الْكُبْرَى الَّتِي خَاضَهَا لَا تَزَال تَلْقَى بِآْثَارِهَا عَلَيْه حَتَّى الْآَن كَمَا سَنَرَى لَاحِقَا.
وَمِثْلَمَا كَان الْغَزَالِي كَان مُصْطَفَى مَحْمُوْد؛ الْغَزَالِي حَكَى عَن الْإِلْهَام الْبَاطِنّى الَّذِي أَنْقَذَه بَيْنَمَا صَاحِبُنْا اعْتُمِد عَلَى الْفِطْرَة، حَيْث الْلَّه فِطْرَة فِي كُل بَشَرِي وبَديهَة لَا تُنْكَر, يَقْتَرِب فِي تِلْك الْنَّظَرِيَّة كَثِيْرا مِن نَظَرِيَّة (الْوَعْي الْكَوْنِي) لِلْعَقَّاد. اشْتَرَى قِطْعَة أَرْض مِن عَائِد أَوَّل كَتَبَه (الْمُسْتَحِيْل)، وَأَنْشَأ بِه جَامِع مُصْطَفَى مَحْمُوْد بِه 3 مَرَاكِز طِبِّيَّة وَمُسْتَشْفَى وَأَرْبَع مَرَاصِد فَلَكِيَّة وَصُخُوّرا جْرَانْيتيَّة.