((غرفة جلوس، أثاثها يدلّ على أنه لم يتغير منذ ثلاثين عاماً. ساعة الجدار تشير إلى الساعة الثامنة، مقداد رجل في السبعين من عمره، أستاذ فلسفة متقاعد، يجلس أمام جهاز التلفزيون المطفأ، تدخل زوجته عطرية في الستين من عمرها، وهي أستاذة كيمياء، متقاعدة، لا تزال فيها مسحة جمال، تحمل صينية عليها فنجاني قهوة)).
عطرية : القهوة يا مقداد.
مقداد : كيف هي؟
عطرية : سادة، السكري في صعود معك.
مقداد : السكري في صعود، وتفاؤلي بالحياة في هبوط، هل نام الأولاد.
عطرية : أولاد! لم يبق عندنا أولاد، نهى تزوجت، وأحمد سافر إلى رومانيا ليتم دراسة الطب، وهذا كل ما لدينا من أولاد.
مقداد : لكن لا مانع أن تتفقدي غرفة نومهم، على الأقل لنشعر أننا أسرة، ولا أسرة بدون أولاد.
عطرية : حاضر.
((تخرج عطرية، يشعل مقداد مسجلة، فينبعث صوت صالح عبد الحي بأغنية حبيبي هوّا، تدخل عطرية)).
عطرية : الأولاد في أحسن حال، أسرّتهم نظيفة، مرتّبة، وصقيلة كالمرآة.
مقداد : هل ناموا؟
عطرية : نعم.
مقداد : وتعشوا؟
عطرية : وتعشوا.
مقداد : كم الساعة؟
عطرية : الثامنة وخمس دقائق.
مقداد : عظيم، حان وقت النوم.
عطرية : إيه يا مقداد، لا يوجد عندك سوى اليقظة والنوم، لنسهر ليلة واحدة، ليلة واحدة في السنة.
مقداد : نسهر؟! وهل نحن أطفال، أو مراهقون، للسنّ حقّه يا عطرية، نمْ باكراً، واستيقظ باكراً، وانظر كيف تصير الصحة.
عطرية : وما الفائدة من الصحة إن لم يتبعها عمل؟
مقداد : إنني أعمل.
عطرية : بمَ؟
مقداد : أذهب عند صديقي أدهم، أتفقّده، وأطمئن على أنه لا يزال حياً. لا تنسي أنني لم أذهب يوماً لعند صديقي مصطفى، فتوفي، ودفن دون أن أعلم، يجب أن أطمئن على أصدقائي كل يوم، على أنهم لا يزالون أحياء، وهم قلِّه، أدهم، وغسان، وزياد.
عطرية : زياد مات.
مقداد : حقاً!
عطرية : منذ سنوات. أم أنك قد نسيت.
مقداد : لم أنس، لكنني أرفض أن أعتبره ميتاً، لذلك كل يوم أمرّ قرب باب منزله، لا طمئن عليه.
عطرية : دعك من هذه الحماقات، فالمهم العمل.
مقداد : أي عمل؟
عطرية : العمل يا مقداد، أم نسيت ما هو العمل؟
مقداد : آه، بداية كل شهر أذهب إلى مركز البريد لأحضر راتب التقاعد، أمرّ على المقهىـ أجلس فيه وحيداً، منفرداً، لأثبت لأشجار المقهى أنني لا أزال حياً، ماذا تريدين أن أفعل غير ذلك.
عطرية : سأرشدك إلى ما يجب أن تفعله.
((تنهض عطرية))
مقداد : إلى أين؟
عطرية : إلى المطبخ، وسنمضي ليلة ممتعة. بعد أن أعود من المطبخ.
مقداد : لا فائدة، مزاج المرأة غريب، فيه كثير من الجنون، والعبث، بل حتى الفوضى.
((تدخل عطرية حاملة حوض سمك صغير، أقرب إلى إناء كروي، تضعه على الطاولة أمام مقداد)).
عطرية : انظر يا مقداد، ما أجمل حياة السمك.
مقداد : حقاً إنها جميلة، إيه، سبحان من خلق السمك والماء، فلو خلق الماء بدون سمك، أو السمك بدون ماء، لكانت مشكلة.
عطرية : ماذا يعجبك في السمك؟
مقداد : حركته.
عطرية : حركته؟
مقداد : أجل، لا يكفّ عن الحركة، رغم أنّ الإناء صغير الحجم فالسمك دائم الحركة، إنه يتحرك كما لو أنه يسبح في بحر واسع، أو محيطٍ لا متناهي الأطراف، لعل حياتنا هي هكذا، نسبح في مكان ضيّق، وزمان، أضيق، لكن الاستغراق في السباحة يجعلنا نشعر أننا نسبح في محيطٍ هائل من الماء، مع أن نقرة بسيطة على طرف الإناء، تنهي مأساة الحياة. مأساة الإنسان، مأساة الوجود، وهي في صميمها ملهاة.
عطرية : لقد أفضت في الشرح، لكنك ترتكب دائماً بعض الأخطاء، ودائماً تهرب من الموضوع المهم.
مقداد : أي موضوع يا عطرية، إنني منهك، ويجب أن أنام، لا تعذبيني بمزيدٍ من الكلام.
عطرية : كلامي معك صار عذاباً، إننا يا حبيبي نتغازل.
مقداد : نتغازل بمَ، ولم؟
عطرية : لم؟ تعود لأخطائك اللغوية، تقول السمك يتحرك، كما لو أنه قطيع هائل يسبح في بحر كبير، وهذا تضليل، تضليل متعمد منك، وينمّ عن نوايا سيئة، وخبيثة، الأصح أن تقول إنهما يتحركان. فهذا الوعاء لا يحتوي إلاّ على سمكتين، لا تكفان عن الحركة ليل نهار، انظر يا عزيزي أتدري أيُّهما الأنثى؟
مقداد : متعصبة دائماً للأنثى.
عطرية : لأنها أصل الوجود، والمخلوقات.
مقداد : إن أردت، فإن السمكة الأنثى هي تلك السمكة السوداء، القبيحة، الطويلة الجسم، أما السمكة الذكر، فهي تلك الصغيرة الحجم، ذات الألوان الذهبية والصفراء الجميلة، انظري، حتى في السمك، الذكر أجمل وأبهى.
عطرية : وأكثر نشاطاً.
مقداد : أكثر نشاطاً بمَ؟
عطرية : بالنشاط.
مقداد : بدأت تنحرفين يا عطرية، إيه، النوم سترة للإنسان.
((ينهض)).
عطرية : اجلس يا مقداد، إننا نتسلى.
مقداد : فقط.
عطرية : فقط.
مقداد : سأجلس إذن.
عطرية : انظر إلى هاتين السمكتين، أليس أمرهما غريب. منذ أشهر أراقبهما، وأتساءل عن السر ما الذي يدعو السمك الذكر لمطاردة السمكة الأنثى.
مقداد : لعله دافع غبي وأحمق، بل ربما دافع مجنون بالأصل، ضد العقل والمنطق والحضارة.
عطرية : خسارة يا مقداد، أحياناً أتساءل، ماذا لو كنّا سمكاً، أنا وأنت.
مقداد : ما هذا يا عطرية، لقد كرّمنا الله لأننا بشرٌ.
عطرية : لقد كرمنا حقاً، لكن نشاط السمك أمرٌ جميل، وخارق، بل هو مذهل، ويعطي للزمان معنى آخر، هل تساءلت يا مقداد لم لا تشعر هاتان السمكتان بالملل.
مقداد : ربما رغبة السمك الذكر بالانتحار، وممارسة.
شهوة الفناء، والهلاك.
عطرية : لتنظرْ يا عزيزي للأمر من ناحية فيزيائية، وكيميائية، ودعك من الفلسفة فهي طريق الكآبة والشرود، والمأساة، انظر إلى تلك الحركة الجميلة، وتلك المطاردة الأجمل، هذا التناغم في الكرّ والفر، يعطي للماء إحساساً حياً، متوثباً، إنها كيمياء الرغبات وهي تسري في ذبذبات الشحنات السالبة.
إنه التفاعل الحيّ في الخلية الأولى، لبدء مسيرة التطور والارتقاء، ولادة الإنسان بعد مليارات السنين، ما هو الهدف الأعلى للتطور والبقاء.
مقداد : ظهور العقل
عطرية : أنت بلا عقل هذه الليلة. أنت تغالط نفسك، وتخدعها، إنك لم تعد قادراً على مجاراة حتى السمك في السباحة والنشاط.
مقداد : يا عطرية، إنك تسألين ما الذي يدفع السمك الذكر لمطاردة السمك الأنثى ليل نهار، والأصح أن تسألي ما الذي يجذب السمك الذكر لأن يطارد السمك الأنثى ليل نهار، تسألين عن الدفع ولا تسألين عن الجذب، وماذا يتبقى من الجاذبية والجذب بعد أربعين سنة زواج، مخلص، ونزيه، هل الخلية الحية الأولى كانت متفائلة أنها ستلد إنساناً، لا يصيبه الملل، والخواء، والاعتياد القاتل مثلنا.
عطرية : لا تتشاءم يا عزيزي، فالتيارات الكهربائية، والكهرطيسية، والسحب من الشوارد، والفوتونات، ستقذف بلا ملل مراكز الغدد الصم، ومراكز التحكم في دماغنا. نشاط الكائن الإنساني لا متناه. لكن شرط أن يتخلى عن الفلسفة، ويؤمن بالفيزياء والكيمياء، خاصة الكيمياء الحيوية، والحية، والفعّالة، أتدري يا حبيبي لم نشعر بالممل أنا وأنت؟.
مقداد : لا.
عطرية : أرأيت، الفلسفة تفشل عن تقديم الجواب لكن الفيزياء تقدّم، إنه تماثل الأقطاب.
مقداد : تماثل الأقطاب.
عطرية : أجل، في بداية عمرنا كنت وإياك قطبين مختلفين، فكنا متجاذبين ليل نهار، لكن بعد الستين والسبعين أمسينا قطبين متماثلين، فصرنا متنافرين، متشائمين فالحل إذن في تغيير الأقطاب، فنعود لسيرتنا الأولى. نماثل السمك في نشاطه. بل أكثر نشاطاً.
مقداد : لدي يا عطرية نظرية أكثر دقة.
عطرية : ما هي؟
مقداد : حين يشيخ المغناطيس. فإنه يصبح وحيد القطب كهذا العالم الشائخ الذي يهيمن عليه قطب واحد. هو رمز مسير الحضارة نحو الدمار، والموت البطيء.
عطرية : يا أستاذ الفلسفة العتيق، كفَّ عن التفكير بمنطق الفلاسفة العميق، وكنْ إنساناً مرة واحدة، وأنت على عتبات السبعين.
مقداد : الثمانين.
عطرية : حسناً يا حبيبي، النجاة أن أتحد أنا وإياك. أنت الفلسفة الميتافيزيقية وأنا الكيمياء العضوية وحين يتحد حمضي بآزوت عظيم تتولد مركبات السماء الأساسية، وينطلق البخار. معلناً لنجاح التفاعل والاتحاد. فلنبدأ إذن من التفاعل والاتحاد. فهو بدء الخلاص.
مقداد : كنت أحلم أن أتزوج شاعرة، أو رسّامة، أو حتى عارضة أزياء. طويلة، أنيقة، تحب الموسيقى، والأناقة، لكن، آه. فحموضك تذيب تفاؤلي وانسجامي مع الزمن.
عطرية : وأنا كنت أحلم أن أتزوج لاعب كرة تنس، وإن تعذر فلاعب كرة طائرة، إنهم يجيدون صفع الكرات جيداً. وإن لم يكن فلاعب كرة سلة يجيد القفز ورمي الكرة في السلة بإحكام، وإن تعذر كل ذلك فلاعب كرة قدم، يقذف بالكرة من منتصف الملعب فتستقر في المرمى. وأقفز في الهواء صائحة. هدف.. آه، ما أجمل تسجيل الأهداف في حياة المرأة. الفرح هدف، والسعادة هدف، والحلم هدف، والطفل الذي حرمت منه طوال عمري هدف. وما أكثر الأهداف التي خسرتها.
مقداد : لم تخسري الهدف الأخير.
عطرية : أنت هدفي الأخير. وأنا مصممة على أن أربحك، أيها العجوز الحكيم، نعم يا مقداد، ضاق الزمن حتى صار عينيك، وضاق المكان حتى صار ابتسامتك، لعلنا بدأنا نعرف الحب الحقيقي الآن، لأننا غريقان متشبثان بخشبةٍ واحدة، إن تركها أحدنا، غرق الآخر.
مقداد : بدأت تتكلمين بلغتي، ومصطلحاتي.
عطرية : أجل، والمعذرة، لأنني تعودت عليك طيلة أربعين عاماً حتى لم أعد أدري، أجسدي الذي استقرّ بي أم جسدك، أعقلي الذي أفكر به أم عقلك.
مقداد : لنبتعد عن بعض. فقد نعثر على بعض.
عطرية : لم يبق أمامنا زمن. سوى أن تسحقني أو أسحقك. لم يعد لدينا زمن لتجربةٍ جديدة، أو حلم جديد، ضيّعنا كل الإمكانيات حين كانت الفرص تطاردنا في الطريق لنقتنصها، ونحن كنا نرفضها بحجة الوفاء الزوجي.
مقداد : لقد كنتُ وفياً لك، لم أخنك طوال عمري. وهذه مأساتي، وأنا آسف لأنني ضيعت فرصةً، أن أعرف امرأةً غيرك.
عطرية : وأنا كنت وفيةً لك، ولم أخنك طوال عمري، وهذه مأساتي، لكنني لست آسفة لأنني ضيعت فرصاً كثيرة للتعرف على رجال غيرك.
مقداد : ما العمل إذن؟
عطرية : لا أدري. إنني تائهة. وضائعة يا مقداد. أحياة هي التي قدمتها لي أم هو انتحار طويل.
((ينهض مقداد. يحمل حوض السمك، يذهب إلى المطبخ صوت تحطيم حوض السمك يدخل بكامل تماسكه النفسي، وتركيزه العقلي والإرادي))
عطرية : كسرتَ حوض السمك يا مقداد؟
مقداد : أجل.
عطرية : والسمكتان؟
مقداد : ماتتا.
عطرية : قتلتهما؟!
مقداد : نعم.
عطرية : لمَ؟
مقداد : كي أنقذك من حوض السمك. ووهم السمك.
عطرية : ألا ترى يا مقداد أنني أنا وأنت نحيا في حوض سمك كبير اسمه هذا المنزل، وأننا نسبح أسرى هذا الحوض، وأن النجاة كما فعلت، تكمن في تحطيم أسر المكان.
((لحظة صمت))
مقداد : ما رأيك برحلة؟
عطرية : إلى أين؟
مقداد : إلى بلد عربي مجاور. أو حتى اليونان، لدينا مدخرات تكفي لذلك.
عطرية : بالسفينة؟
مقداد : بالسفينة.
عطرية : وأنظر إلى الماء؟
مقداد : تنظرين إلى الماء.
عطرية : وأرى السمك يسبح في الماء.
مقداد : وترين السمك يسبح في الماء.
عطرية : وأرمي نفسي في الماء، فأصير سمكة تسبح في البحر؟
مقداد : وترمين نفسك في الماء، وتصيرين سمكة تسبح في البحر.
عطرية : وتطاردني جموع الأسماك؟
مقداد : وتطاردك جموع الأسماك.
عطرية : إنني موافقة يا مقداد، وأنت؟
مقداد : إنني موافق.
عطرية : آه، كم أحبك يا مقداد.
مقداد : وأنا أحبك يا سمكتي الصغيرة.
عطرية : وأنا أحبك يا صائد السمك، تصيدني عصراً، وتغني وأنت على الشطّ، صيد العصاري، يا سمك يا بنّي.
مقداد : إيه، صدق من قال، الكون حوض سمك كبير، تصبحين على خير أيتها السمكة الذهبية الجميلة.
عطرية : تصبح على خير. أيها الدلفين الذكي الحكيم.
((يدخل مقداد إلى غرفة نومه))
إيه، الآن أشعر أنني سمكة، أسبح في بحر الحريّة، بحر الحياة الكبير، أنني أحقق ذاتي
((إنّها تقلّد السمك في سباحته))