الحياة لا تتوقف أبداً .. تسير بسرعة وأحياناً متثاقلة تمشي الهوينا .
هذا الصباح لا رائحة له ولا نكهة , حتى الإذاعة التي تبث أغاني فيروز لم تفعل هذه المرة .
أفتح نافذتي , وألقي نظرة متفحصة , لا جديد .
منذ حزيران الماضي , وأنا كطفل تائه يبكي حتى يجف دمعه ويغلبه النوم , أصبحت كجسد بلا روح , أجد نفسي كل يوم أُحرق الكثير من السجائر وأهيم في الشوارع , وأتبادل الشتائم مع بائع الجرائد , وأظهر بمظهر خالي من الجمال , الكثير من التعب يكسو ملامحي , ملابسي مُهملة , ولم أحلق ذقني منذ شهر .
تُلقي بي أقدامي نحو مقهى مغمور هادئ , أجلس في ركنٍ فارغٍ بعد أن أطلب كوب قهوة , أبحر بعيداً بنظراتي الضائعة , عينيّ المُحمرتان خاليتين من أي معنى !
بُخار كوب قهوتي المُتصاعد ودُخان سيجارتي يتمازجان ولا أزال سارح البال فارغ الفكر .
يعبثُ بي الحنين ويُعذبني , غيابكِ يفعل بي الأفاعيل , ولحظات الإنتظار كسم زعاف يتسلل لعروقي ويقتلني ببطء .
حين التقت عينانا قبل مغيب الشمس في حديقة صغيرة , كنتِ مع جدتك , وكنتُ لوحدي , لم أشعر بأن قلبي الصغير ينبض بهذا التسارع إلا في ذلك المساء , وحينما ابتسمتِ كاد قلبي أن يطير ! , أحببت تلك الحديقة وأصبحتُ أتردد عليها كل يوم , في نفس التوقيت , يَمرُ يومٌ دون مجيئكِ بصحبة جدتكِ فأعود بخفي حنين وأقضي بقية يومي أفكر هل أنتِ بخير أم لا .
ذات يوم أخبرني صديق قديم أنه يَحٍنُ لوالدته الساكنة تحت الثرى , لم أكن أعي معنى الحنين , فكنتُ أبتسم مجاملاً مهوناً عليه , كان يلتفت لجهة أخرى وتتسلل يده نحو جيب بنطاله ليخرج منديلاً صغيراً يمسح به دموعه الحارة .
قهوتي تفقد حرارتها وأنا لم أعد من رحلة ذكرياتي التي لاتتوقف أبداً , أستنشق دخان سيجارتي بلذة مفقودة , وألقي بناظريَّ إلى المُشرد الجالس في زاوية المقهى , أذهب لأعطيه قهوتي .. وأعود لكرسيي المتهالك .
هُناك في ذات الكرسي الذي رأيتكِ فيه , كان لقائنا الأولْ , سألتكِ حينها أين تسكنين , وأجبتي بأنكِ تسكنين مع جدتكِ بالقرب من هُنا , وتبادلنا أطراف الحديث , لم يكن حديثاً عادياً , بل كأحاديث طفلين صغيرين , بالصدفة كنتْ أتحدث لك عن موت أختي الصغيرة الشهر الفائت , كانت عيناكِ مملوءة بدمع طاهر رغم أني لم أبكي , كلّ ذلك كان مؤثراً فيَّ جداً , لكنه لم يكن كحينَ أمسكتِ بيدي وشددتي عليها , وقلتِ : أنا معكْ .
أصبحت أهرب من الأماكن التي كنا نذهب إليها معاً , حتى هواياتي لم تعد كما هي , أحببت السياسة والثورة والقهوة وصرتُ أدخن بشراهة , لكنني أتعثر في كل محاولة لنسيانك ! اليوم هو اليوم الثلاثين مُذّ رحلتي , وأنا أنتظركِ .
يُخبرني حدسي بأنها سُتمطر وأنه يتوجب عليّ العودة للبيت بسرعة , أكره المطر ورائحته التي تذكرني بمعطفك ومظلتك السوداء , كنتِ تُحبين اللعب تحت المطر وكنتُ أصرخ بأن عليك الكفَّ عن ذلك حتى لا تمرضي .
أنا لن أنسى ذلك اليوم الذي قُلتِ لي فيه : أُحِبُكْ , أقسم بأني لم أستطع النوم في تلك الليلة , وحين جاء الفجر كنت انتظرك في ذات المكان , في كرسي الحديقة , تأتين مستعجلة معتذرة عن التأخر , لكني أفاجئك وأحتضنك بعمق .كنا نذهب لتأمل شروق الشمس وتناول الإفطار , ونلتقي نهاية اليوم لرؤية مغيبها , وأقضي كل ليلي معك !
يشغل بالي سؤال لم أجد له إجابة ..ألم تفتقديني ؟
أنا أفتقِـدُكِ جداً .
يا من يحن إليك فؤادي
هل تذكرين عهود الوداد ؟
هل تذكرين ليالي هوانا
يوم ألتقينا و طاب لقانا
حين الوفا للأغاني دعانا
طاف الجمال على كل وادي
هل تذكرين غداة الورود
حنت علينا و طابت وعود
كانت لنا في الغرام عهود
صارت حديث الربى و الشوادي