كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما حضَّ عليه الإسلام في تعامُل المسلمين مع بعضِهم البعض.
ومَن كانت هذه صفَته فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة والرفعة؛
لأنَّ النبيَّ قال:
((ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه)) رواه مسلم
وفي لفظٍ لأحمد: ((ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره))
فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة، وهذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها.
إنها رِفعة وعِزّة في الدنيا والآخرة،
كيف لا وقد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه:
"وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْوَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُوَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِوَالضَّرَّاءِوَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِوَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ"[آل عمران:133، 134]؟!
والكاظِمونَ الغيظَ ـ اخوتى ـ
هم الذين لا يُعْمِلون غضَبَهم في الناس، بل يكفّون عنهم شرَّهم، ويحتسِبون ذلك عند الله عز وجل،
أمّا العافون عن الناس فهم الذين يعفونَ عمَّن ظلمَهم في أنفسهم،ومن كانت هذه سجيَّته فليبشِر بمحبَّةِ الله له حيث بلَغَ مقامًا من مقاماتِ الإحسان،
"وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ"[آل عمران:134].
ألا إنَّ مَن أحسن فقد أحبَّه الله، ومن أحبَّه الله غفَر له ورحمه،
"إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ"[الأعراف:56].
العفو ـ اخوتى ـ
شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل وبسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ وإكبار لمن هذه صفتُه وهذا خلقه
إنَّ العفو عن الآخرين
ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها
لقوله تعالى:
"وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ"[الشورى:41]،
غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات.
ومِن هنا يأتي التميُّز والبراز عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي،
((من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء))
فإنّ العفو والتجاوز
لا يقتضِي الذّلَّةَ والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار،
فقد بوَّب البخاريّ رحمه الله
في صحيحه بابًا عن الانتصارِ من الظالم لقوله تعالى:
"وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ"[الشورى:39]،
وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله:
"كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا"،
قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما:
(لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه)
وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله:
"لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحد،"
ثم إنَّ بعض الناس ـ اخوتى ـ
قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد أو يتجاوَز عنه،
لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام والتشفِّي،
ليس إلاوإذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه، يغضِبُه الجرمُ الخفيّ، ولا يرضيه العذرُ الجليّ، حتى إنّه ليرَى الذنبَ وهو أضيقُ من ظلِّ الرمح، ويعمَى عن العذرِ وهو أبيَنُ من وضَح النهار.
ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ ويضطرب، ويحجبُ عن الأخرَى العذرَ ولو كان له حجّةٌ وبرهان. ومَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه،
وقد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي،
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها:
ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز وجل. رواه مسلم
وقد أطلق القران
على الظاهر لفظَ العفو، وأطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح، والعفوُ والصفح بينهما تقارُبٌ في الجملة،
إلاَّ أنَّ الصفحَ أبلغ من العفو؛
لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الذنبِ بالكلية واعتباره كأن لم يكن،
أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن
، ولذا أمَر الله نبيَّه به في قولِه: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ"[الحجر:85]،
وهو الذي لا عتاب معه.
وقد جاءتِ الآيات ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو
كما في قولِه تعالى:
"فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ"[المائدة:13]،
وقوله:
"فَاعْفُواوَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ" [البقرة:109]،
وقوله سبحانه:
"وَلاَيَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْوَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَىوَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِوَلْيَعْفُواوَلْيَصْفَحُوا أَلاَتُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْوَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[التوبة:22]،
وقوله سبحانه:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْوَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْوَإِن تَعْفُواوَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[التغابن:14].