أيتها النفس! كنت قبل أيام في صلاة وقيام، وتلاوة وصيام، وذكر ودعاء، وصدقة وإحسان، وصلة للأرحام، قبل أيام كنا نشعر برقة القلوب واتصالها بعلام الغيوب، كانت تتلى علينا آيات القرآن؛ فتخشع القلوب وتدمع العيون، فنزداد إيماناً وخشوعاً وإخباتاً لله سبحانه وتعالى، ذقنا حلاوة الإيمان، وعرفنا حقيقة الصيام، ذقنا لذة الدمعة، وحلاوة المناجاة في السحر .. كنا نصلي صلاة من جعلت قرة عينه في الصلاة، وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه، وكنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر، كنا وكنا مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك العظيم الذي رحل عنا. وهكذا نتقلب في أعمال الخير و أبوابه، حتى قال قائلنا: يا ليتني مت على هذه الحال؛ لما يشعر به من حلاوة الإيمان ولذة الطاعة. فتذكرت حينها قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما بكى في مرض موته، فسئل: ما الذي يبكيك؟ فقال رضي الله عنه: [إنما أبكي؛ لأنه أصابني في حال فترة -أي الموت- ولم يصبني في حال اجتهاد] كما في مجمع الزوائدللهيثمي .
تقصير النفس وتفريطها بعد رمضان:
وهكذا مضت الأيام ورحل رمضان، ثم ماذا؟ رحلت يا رمضان! ولربما رجع تارك الصلاة لتركه، وآكل الربا لأكله، وسامع الغناء لسماعه، ومشاهد الفحش لفحشه، وشارب الدخان لشربه. رحلت يا رمضان! ولربما نسينا لذة الصيام، فلا الست من شوال ولا الخميس والاثنين ولا الثلاثة الأيام. رحلت يا رمضان! ولربما لم نذق فيها طعم القيام. سبحان الله! أين ذلك الخشوع، وتلك الدموع في السجود والركوع؟ أين ذلك التسبيح والاستغفار؟ وأين تلك المناجاة لله الواحد القهار؟ رحلت يا رمضان! ولربما هجرنا القرآن، وقد كنا نقرأ بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وفي الليل والنهار، وها هو نصف شهر مضى فكم قرأنا فيه من القرآن؟
خليلي شهر الصوم زُمَّت ...مطاياه وسارت وفود العاشقين بمسراه
فيا شهر لا تبعد لك الخير... كله وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه
نشرق بدموع الفراق أيها الأحبة! فلا نستطيع أن نبث المشاعر والآلام والأحزان، لما نجده من فقد لذة الطاعة، وحلاوة الإيمان، هكذا حال الدنيا اجتماع وافتراق، ومن منا لا تؤلمه لحظات الفراق ودموع العناق؟! رمضان أيها الصديق! أيها الجليس الصالح! أيها الحبيب!
أحس بجرحي يا صديقي... كأنه يدب إلى أعماق قلبي ويوغل
ونفسي أمام المغريات قوية... ولكنها عند الأحبة تسهل
كأن فؤادي لو تأملت ما ...بـه بما فيه من شتى المشاعر معمل
رمضان كيف ترحل عنا وقد كنت خير جليس لنا؟! بفضل ربنا كنت عوناً لنا، ونحن بين قارئ وصائم ومنفق وقائم، وباكٍ ودامع، وداعٍ وخاشع. رمضان فيك المساجد تعمر، والآيات تذكر، والقلوب تجبر، والذنوب تغفر، كنت للمتقين روضةً وأنساً، وللغافلين قيداً وحبساً، كيف ترحل عنا وقد ألفناك وعشقناك وأحببناك؟! رمضان ألا تسمع لأنين العاشقين وآهات المحبين؟!
اسمع أنين العاشقين ...إن استطعت له سماعا
راح الحبيب فشيعته ...مدامع ذرفت سراعا
لو كلف الجبل الأصم... فراق إلف ما استطاعا
كلمات مضيئة في رحيل رمضان
قال ابن رجب في وداع رمضان، واسمعوا لقلوب السلف رضوان الله تعالى عليهم كيف كانت تتخرق لفراق هذا الشهر: يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق،
عسى وعسى من قبل يوم التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي
فيجبر مكسور ويقبل تائـب ويعتق خطاء ويسعد من شقي
انتهى كلامه رحمه الله. رحلت يا رمضان! والرحيل مر على الصالحين، فابكوا عليه بالأحزان وودعوه، وأجروا لأجل فراقه الدموع وشيعوه.
دع البكاء على الأطلال والدار... واذكر لمن بان من خل ومن جار
وذر الدموع نحيباً وابك ...من أسف على فراق ليال ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ...ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار
يا لائمي في البكاء زدني... به كلفاً واسمع غريب أحاديث وأخبار
ما كان أحسننا والشمل ...مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري