الفصل الثاني
خرج عن الطريق المسفلت، لتخوض سيارته في الرمال، وعجلاتها تحثي التراب على الجوانب وتصطدم بالحصى الصغير المبثوث في كل شبر، انطلق متعرجا ً مع تعريجات الطريق الذي حفظه من كثرة ما طرقه.
هدأ من سرعته عندما وصل شعيبا ً يقطع الطريق أمامه، وقد تناثرت على جوانبه أشجار شتى، وبدت أرضه رطبة ببقايا أمطار الأسبوع الماضي، سمى بالله ودفع سيارته إلى مكان آمن من الأرض تصلب بالحجارة وخرج صاعدا ً من الجهة الأخرى، ثم مضى ينهب الأرض التي بدأت تكتسي خضرة وورودا ً وأقاحا ً من كل جنس ولون.
أطربه المنظر البهيج والهواء اللطيف الذي يهب من نافذته التي فتحها بعدما أمن من غبار وحصى الأرض، فمشى مع الطريق المتعرج الذي شقته عجلات آلاف السيارات وهو يترنم بقصيدة شعبية شهيرة والسيارة ترتج من وعورة الطريق.
كان العصر قد ولى عندما وصل إلى المخيم، وألفى سيارتي مروان وعبدالعزيز متوقفة وهي مكسوة بالغبار، فيما مروان يبدو عند المشب منهمكا ً بإشعال النار ليصنع شايا ً، فيما كان عبدالعزيز يعيد نفض السجاجيد المفروشة داخل الخيمتين لتنضيفها من الحشرات والزواحف التي قد تكون باتت عليها منذ الأسبوع الفائت.
أوقف سيارته ونزل مبتسما ً فزعق مروان به:
- حمد... هات سيارتك هنا.
- سلام عليكم.
- وعليكم السلام... لا تطفئ سيارتك، تكفى وقفها هناك عند الأثلة حتى نحجز المكان، لا يقعد يجي أحد ويجلس فيها مثل الأسبوع اللي فات.
- طيب كان فرشت هناك زولية وحجزت المكان.
- الزولية يطيرها الهواء، وبعدين بكرة إذا قمنا الصبح لقينا أحد جالس فيها ويحوس علينا ظلالنا، وقفها هناك الله لا يهينك.
- طيب... طيب... أبو سعود، كيف الحال؟
قالها حمد لعبدالعزيز الذي خرج من إحدى الخيام بعدما أعاد الفرش إليها، فالتفت عبدالعزيز الذي كان طويلا ً له لحية خفيفة على جانبي وجهه كثيفة عند الذقن، وهو أكبرهم سنا ً، ولكنه أكثرهم طيبة قلب.
- هلا حمد، وراك واقف عندك؟
- بوقف السيارة تحت الأثلة، مثلك عارف أوامر مروان باشا.
ضحك عبدالعزيز فيما عاد حمد إلى السيارة وحمل أغراضه منها ووضعها على الأرض، ثم قادها إلى الأثلة ذات الفروع السامقة والظل الوارف والتي يعتبر ظلالها المكان الرسمي لشرب الشاي.
عاد إلى أغراضه فحملها ووضعها في خيمة النوم، ثم خرج إلى الخيمة الصغيرة التي كانت بمثابة مطبخ تكدست فيه أغراض الطبخ والمعلبات، وصافح عبدالعزيز الذي كان يغسل بعض الأواني، وجعل يساعده وهما يتحدثان حتى قطع عليهما صوت مروان الزاعق:
- الشاهي خلص... هاتوا معكم بيالات وتعالوا.
حمل عبدالعزيز معه زولية صغيرة ملقاة بإهمال في ركن الخيمة، فيما حمل حمد مجموعة من البيالات المغسولة وخرجا، كان مروان يمضي وهو يحمل الأبريق المسود بيد وطبق مكسرات باليد الأخرى إلى الأثلة حيث وقف هناك ينتظرهما حتى فرشا الزولية، ثم جلسوا والهواء يداعب ثيابهم بنسماته.
بدأو بإرتشاف الشاي، وفتح مروان طبق المكسرات وهو يقول:
- يا الله من فضلك... جو رايق، وشاهي يعدل المزاج، باقي الوجه الحسن.
حمد ضاحكا ً: أفا بس وأبو سعود مهوب وجه حسن؟
مروان: إلا أكيد أبو سعود فتنة للناظرين، والله يا بو سعود لولا الحياء لهاجني استعبار ولقرصت خدودك ذولي حيث أنهن كبار.
سقط حمد على ظهره ضاحكا ً، فيما قال أبو سعود:
- عاد تكفى هالوسامة اللي مقطعتك.
مروان: ولو يا بو سعود كلك ملح حتى وأنت معصب.
* * *
عندما غابت الشمس صلوا، ثم جاء ناصر ومحمد بسيارة واحدة فاكتمل عددهم، ناصر كان في مثل بدانة مروان، فيما كان محمد نحيفا ً جدا ً وله شارب خفيف، أضاءوا المصابيح الكهربائية وجلسوا بجانب الخيمة يتحدثون فيما مروان يصنع القهوة بالهيل.
كانوا يتحدثون في كثير من المواضيع، يتناقشون، يتجادلون ويضحكون على دعابات مروان، ومشاغباته لكل واحد منهم، حتى نهض عبدالعزيز وأذن لصلاة العشاء.
ثم بعدما فرغوا من الصلاة، بدأوا بإعداد العشاء حتى يتسنى لهم النوم مبكرا ً وخصوصا ً أن أكثرهم لم يناموا من الفجر إما لدراسة أو عمل، لذلك جعل مروان وناصر يتبلان ثلاث دجاجات كاملة، ثم يعلقونها في ثلاثة خطاطيف، قبل أن يدلوها في البرميل المدفون في الأرض والذي سعر محمد وحمد ناره، ثم يغطون رأسه مع ترك فتحة صغيرة للهواء حتى لا تنطفئ النار.
وعادوا إلى مجلسهم، وعندما جهزت الدجاجات، صفها مروان على صينية يتقاطر منها الماء، فيما كان حمد يحمل أرغفة الخبز التي سخنها على النار، وناصر يحضر المشروبات الغازية المدفونة تحت ركام الثلوج في الثلاجة الصغيرة، وعبدالعزيز ومحمد يصفان صحونا ً صغيرة من الفتوش والحمص أحضروها معهم من المنزل.
وبعد العشاء الحافل، صنع مروان شايا ً جعل يرتشفونه مع الحكايات، التي بدأت تثقل بتثاقل أجفانهم، وبدأ عددهم يتناقص حول النار، حتى نام آخرهم.
* * *
فتح حمد عينيه وجعل يحدق في سقف الخيمة المخطط تحت الضوء الخافت، كانت أصوات التنفس وشخير ناصر تتجاوب وسط السكون، نظر إلى ساعته كانت تشير إلى الساعة السابعة والربع، نهض برفق وخرج من الخيمة وهو يتمطى، كان الجو ذو برودة لطيفة.
قصد المطبخ وغسل وجهه، لن ينهض أحد من الشباب قبل الثامنة والنصف – قال لنفسه - هذا مؤكد، عاد إلى الخيمة وبرفق لبس بنطلونا ً وقميصا ً خفيفا ً ثم ألقى حول رقبته كوفية سوداء، ودس قدميه في حذاء الجري قبل أن يستخرج الأوراق التي طبع عليها البارحة رواية ( صفحات حب تذروها الرياح).
اختار بسكويتا ً خفيفا ً من المجموعة التي في المطبخ كتصبيرة، طوى الأوراق ودفعها في جيبه، ثم انطلق وهو يفتح البسكويت ويلتقم منه قطعة، تجاوز المخيم وانطلق حتى حاذى الشعيب القريب الذي كانت الأحجار التي جمعها المطر في قاعه تلمع تحت خيوط الشمس البازغة، فيما كانت العصافير تتطاير بين الأشجار.
نزل إلى الشعيب الحديث الجفاف، وهشمت خطواته الرمل الناعم المتماسك، مشى خطوات ثم انحرف صاعدا ً ليخرج مع الجهة الأخرى للشعيب، قاصدا ً مجموعة من الأشجار والأحراش والأعشاب التي افترشت رقعة صغيرة، كانت كجنة صغيرة أرضها لازالت رطبة من أثر الماء، وفرشها الزهور، ولا يقطع سكونها إلا زنين نحلة أو هسيس انزلاقة زاحفة لسحلية.
هنا مكانه المفضل الذي يقصده كلما جاء إلى المخيم، هنا تحت شجرة وارفة تمد أغصانها بكرم، وتلتف مجموعة من الأحراش حولها لتحجب المكان عن الأعين، هنا يأتي ليجلس متكئا ً على الجذع أو مستلقيا ً على البساط الرباني الأخضر، تاركا ً الزهور تعابث أذنه وعيناه تراقبان صفحة السماء الزرقاء الموشاة ببقايا الغيوم.
في هذا المكان جزء منه، هنا بكى عندما مات ابن عمه، وهنا ضحك عندما تم قبوله في كلية الآداب، وهنا يختلس ساعات ليقرأ وسط السكون غارقا ً في خضم أحداث الروايات، لينسى العالم بأسره، فتجده تارة يجوب مع بالداسار العالم بحثا ً عن الكتاب المفقود، و تارة يقطن غرفة ضيقة مع سجين تزمامارت، وأحيانا ً ينهب حقلا ً مع أحد الفرسان ذاهبين لتحرير جميلة ما.
واليوم وعندما ألقى بنفسه، أغمض عينيه قليلا ً وهو يسحب الهواء المنعش إلى جوفه، ويحتبسه قليلا ً قبل أن يزفر بقوة، ويمد يده إلى جيبه ليسحب الأوراق التي تجعدت قليلا ً وفقدت سخونتها، بعد مبيتها الليلي بين ملابسه، فردها ليطالعه العنوان متصدرا ً الصفحة ( صفحات حب تذروها الرياح)، قرأ أول جملة من الرواية " إلى كل المحبين في العالم أفيقوا"، اعتدل في جلسته أعجبته البداية، استند على الجذع وبدأ يقرأ.
* * *
بدأ يلتهم الصفحات غير شاعر بالوقت، كانت اللغة جميلة جدا ً شعرية، الأحداث تحكي قصة شاب بسيط يلج أحد المواقع الأدبية بالصدفة، ويقرأ قصة فتعجبه فيبدأ بمتابعتها، ثم لا شعوريا ً يبدأ بمحبة كاتبة القصة، ثم يفكر بأن يرسل لها رسالة تعبر عن مشاعره، ولكن عندما يبدأ في الكتابة يحس بالصدمة للغته الفقيرة وثقافته البسيطة مقارنة بصاحبته، فيبدأ بتثقيف نفسه والقراءة ومحاولة الكتابة للوصول إلى صيغة جيدة للرسالة تناسب حبيبته.
عندما انتهت الصفحات اكتشف أن للقصة بقية وأن ( قلم بلا اتجاه) لم يكتب سوى ثلاثة فصول منها، أسرته القصة ولم يستطع الفكاك من الروح التي تفيض منها، جمع الأوراق وأعادها إلى جيبه، ونظر إلى ساعته كانت تشير إلى 8.32 دقيقة، نهض من مكانه ونفض بنطلونه مما علق به، ومشى عائدا ً إلى المخيم.
كان من يراه من بعيد يظنه حزينا ً، فقد كان مطرقا ً يمشي ناظرا ً إلى الأرض، يفكر بأحداث الرواية ويستعيد في ذهنه بعض جملها وعباراتها، وقد ألهته عن ما يحيط به من ألوان الجمال، كما أنسته هبات النسيم واهتزازات الأعشاب.
عندما وصل إلى المخيم، وجد مروان ومحمد ملتفان حول النار، مروان يقلي بيضا ً بينما ينهمك محمد في تقطيع كبدة على صينية صغيرة، والشاي يكاد يغلي على جانب من النار، فيما جلس ناصر وعبدالعزيز على الزولية تتوسطهما دلة وفناجين قهوة ذات طراز قديم، وتمر مكنوز مغطى حتى لا يستوطنه الذباب.
- سلام عليكم.
- وعليكم السلام ( من الجميع).
ناصر: ما شاء الله... متى قمت؟
حمد: سبع وربع، وطلعت أتمشى.
عبدالعزيز: تقهو يا بن الحلال ( ومد له فنجانا ً مثلوما ً تتصاعد منه رائحة الهيل) شكل الفطور بيطول دام هالاثنين هم اللي يصلحونه.
شرب حمد جرعة من القهوة، وتناول بضع تمرات ليسكت جوعه، وهو ينظر إلى مروان ومحمد اللذان كانا يعملان وهما يكادان يتشاجران كعادتهما.
* * *
تناولوا إفطارهم، وفيما جلس محمد ومروان وعبدالعزيز يشربون الشاي، استقل محمد وناصر سيارتهم ليجلبوا بعض المستلزمات من أقرب محطة، بدأ مروان بمشاكسة عبدالعزيز الذي سرعان ما غضب ونهض معلنا ً أنه ذاهب ليتمشى، بقي حمد ومروان يتحدثان في مواضيع شتى حتى قال حمد:
- بصراحة موقع ( أقلام بلا اتجاه) رهيب، إذا رجعنا بسجل فيه بإذن الله، اليوم قريت رواية طبعتها وجبتها منه، بصراحة رواية روعة، أفضل رواية قرأتها على الأنترنت.
- أي رواية.
- صفحات حب تذروها الرياح لقلم بلا اتجاه.
- قريتها حلوة، بس ما أحس أنها مناسبة لمنتدى، يعني فلسفية ولغتها قوية وصعبة.
- وهذا اللي عجبني فيها، مع أنها توها في البداية وكل اللي كتب منها ثلاثة فصول لكنها حلوة.
- في روايات كثيرة حلوة في الموقع.
- مثل هذي ما أظن، وبعدين تعال أنت يا صاحب العلاقات، كاتبها تعرف عنه شيء.
- اللي أعرفه أنه من مؤسسي المنتدى، وهو على فكرة اللي صمم شكل الموقع، لكن ما أعرف عنه شيء غير كذا، الظاهر أنه ساكن في الشرقية.
- واضح ما تعرف أي شيء عنه، ههههههههههه، إلا وش اسم أمه.
- هيلة. ( قالها مروان وهو يرفع حواجبه، حيث أنه دائما ً ما يقول لحمد أنه سيتزوج أخته هيلة غصبا ً عنه).
- بايخ.
- ما قلت لي وش بتسمي نفسك؟
- ما أدري إلى الآن ما اخترت اسم.
- عندي لك اسم زين.
- وش هو؟
- محماس.
- والله أنك فاضي.
- لا... لا... هجاج، ههههههه.
* * *
ذهبوا عصرا ً إلى الجبل الذي يبعد كيلومترات عنهم، تسلقه حمد ومحمد، أما أصحاب الأوزان الثقيلة (مروان وناصر) فأكتفوا بالفرجة، استغرقهم الصعود عشر دقائق، فقد كان ارتقائه سهل، كما كانت قمته شبه دائرية وجرداء، وكان منحدرا ً بشكل خطر مع الجهة الأخرى.
عندما نزلا لم يجدا السيارة ولا الشباب، سارا في المنطقة ووقفا يراقبان رتلا ً طويلا ً ممتدا ً من النمل ذو الحجم الكبير، الذي كان يسير بإنتظام، تبعا الخط فوجدا أنه أشبه ما يكون بفرقة عمل لنقل أجزاء طائر ميت متحلل.
لمع زجاج السيارة القادمة من بعيد، كان مروان والبقية قد عادوا، ركبا وانطلقوا إلى أماكن أبعد مستمتعين بالطبيعة الوليدة، وكادت إطاراتهم أن تغوص في رمل ناعم أكثر من مرة، لولا أن تنبه مروان في اللحظة الأخيرة، ودفعه السيارة للخلف باحثا ً عن أرض أكثر تماسكا ً.
وعندما غابت الشمس عادوا إلى المخيم، ومع آخر غياب للشمس كان الأذان يرتفع بصوت عبدالعزيز مع لمعان المصابيح الكهربائية وهدير المولد.
* * *
صلوا المغرب، وبدأ مروان بطقوس إعداد القهوة، فيما جلس البقية على الزولية مستمتعين بالحديث على أنغام طقطقة الأخشاب وهي تتغلف باللهب، عندما لمع البرق جالدا ً صفحة السماء بسوطه ذي الشعب، ثم أعقبه هدير رهيب للرعد، غاصت في جوفه تكبيراتهم.
وبدأت السماء تمطر مطرا ً بدأ خفيفا ً قبل أن يبدأ بالهطول بقوة تصفع خيمتهم وتغسل الأرض، فيما انسحبوا بسرعة وهم يجرون زوليتهم خلفهم ليحتموا بسقف الخيمة المبطن، حتى مروان ترك قهوته تبرد على النار المنطفئة وتختلط بماء المطر.
وقفوا تلقاء الباب يتأملون الأرض وهي تتلقى القطر بشراهة، ثمة جعل يهرب إلى مخبئه وقد أفزعه الماء، والمصابيح يزداد لمعانها وهي تهتز مع أسلاكها برقصة مطرية.
استمر المطر يهطل وإن عاد خفيفا ً، وعندما داعبهم النوم، قنعوا بأن يأكلوا طعاما ً معلبا ً ويأووا إلى فرشهم على وشوشات الماء الذي ينقر على نسيج خيمتهم، وعندما غاب آخرهم في لجة النوم، كان آخر ما علق في ذهنه، صوت القدر الملقى في الخارج والماء يزبد على حافته ويفيض ليختلط مع تراب الأرض ويغور إلى الأعماق.
* * *
عندما نهضوا لصلاة الفجر كان المطر قد توقف، ولكن الرطوبة والماء يملأن ما حولهم، توضأ أحدهم من ماء المطر الذي احتجزه القدر، وقد بدا صافيا ً زلالا ً، ثم صلوا وعادوا يواصلون النوم.
وكعادته نهض حمد مبكرا ً، خرج ليجد الشمس محتجبة خلف السحب، والظلام يكاد يعتم الرؤية، أبدل ملابس النوم وخرج على الجوع غائصا ً في الوحل، تجاوز المخيم ومر من بجانب الأثلة التي كانت أغصانها تنقط الماء بعد حمامها الموسمي.
عندما وصل الشعيب، رأى الماء يجري فيه مهتاجا ً، مكسوا ً بلون التراب، سار بجانبه وهو يتأمل الماء الطافح بالأعشاب والأوراق والحشرات التي تعوم ثوان ٍ ثم تغوص ثم تعود للطفو وكأنها تصارع للنجاة.
قصد أضيق نقطة من الشعيب، وألقى جذعا ً جذبه خلفه أمتارا ً، وبخطوتين رشيقتين عبر الجذع المهتز إلى الجهة الأخرى في مغامرة غير محسوبة.
عرج على قرية للنمل رآها بالأمس، فوجد النمل يكد ليصلح ما فسد بالأمس، يعرض حبوبه للشمس المحتجبة حتى تجف، أقعى لحظات يتأمل دئبهم، وابتسم عندما طاف بذهنه منظر أصدقائه وهم نائمون فاغري الأفواه واللعاب يسيل من بين شدقي أحدهم.
قصد وكره الأثير، وجده غارقا ً بالماء، وقد حطت أوراق الأشجار فملئت الأرض، دار يتأمل الأوراق وهي تهتز، والأشجار وهي تنفض الماء عنها، والحشرات وهي منهمكة بتأمين نفسها.
عندما مرت ساعة عاد وتجاوز الشعيب كما فعل بالمرة الأولى، ثم قصد الخيمة وألقى نفسه في فراشه، حاول استدعاء النوم ولكن عندما تأبى عليه، جذب من حقيبته أوراق رواية ( صفحات حب تذروها الرياح) وعاد يقرأ كلماتها على الضوء الخافت، وهو يعيد رسم حروفها في ذاكرته.
* * *
عندما تناولوا إفطارهم ركبوا السيارة وجعلوا يجوسون المنطقة الغرقى بالماء، كانت الشمس التي تخلصت من حجاب السحب قد جففت مناطق وظلت مناطق عصية وبعيدة عن أشعتها.
وعند الظهر عادوا وصنعوا لهم غداءا ً ثم حملوه وأغلقوا المخيم على وعد باللقاء الأسبوع القادم، وانطلقوا إلى روضة قريبة، تحولت إلى شبه بحيرة، جلسوا قريبا ً من الشط وتناولوا غدائهم هناك وهم يكافحون الهوام وأسراب الحشرات التي جذبها الماء.
وأمضوا باقي اليوم في التجول بالمنطقة وعندما قاربت الشمس المغيب، ودع بعضهم بعضا ً وقفلوا إلى بيوتهم كنهاية عطلة آخر الأسبوع.
* * *
ألقى حمد عدة التخييم في المخزن في الخلف ثم دخل البيت قاصدا ً المطبخ، حيث كانت أمه تعد العشاء لأخوانه، ابتسمت عندما رأته قبل رأسها وأهوى بشفتيه على يديها، وهو يردد:
- كيف حالك يالغالية؟ وكيف أبوي وأخواني؟
- الحمد لله... كلنا بخير، وشلونك أنت؟ وشلون ربعك.
- الحمد لله بخير.
- أمطرت عندكم؟
- ايه والحمد لله... أمس طول الليل وهي تمطر.
- ما شاء الله... وشلون الربيع؟
- الأرض توها إن شاء الله تزين بعد أسبوعين.
- الله يوفقكم.
ثم انتبه حمد إلى اليدين الصغيرتين اللتين طوقتا ساقه، وأخته لمى تصرخ بفرح طفولي:
- آمد... آمد جاء.
تلقفها حمد ضاحكا ً وقبلها على خدها، فيما مد يده مصافحا ً إلى أخته هيلة التي جاءت على أثرها وهي تحتضن كتابا ً دراسيا ً، وعندما انتهت الترحيبات والأسئلة سأل عن أبيه، فقالت هيلة باسمة:
- في الصومعة.
ابتسم حمد للقب الذي تسمي به هيلة مكتبة أبيه، وناولها لمى وقصد المكتبة وسلم على والده، ثم صعد إلى الأعلى بحثا ً عن أخويه عبير وسعد، وعندما انتهى من المداعبات والقبلات، دخل إلى دورة المياه ونقع نفسه في الماء الساخن، وسكن هناك وسط الأبخرة، وأغمض عينيه وأحس بتعب
شديد وخدر ورغبة في النوم.
خرج من الحمام، وقصد المطبخ حيث كان العشاء معدا ً، تناوله مع أخوته، حيث أن أبوه لا يتعشى منذ سنة كإجراء لمكافحة كرش برزت له مؤخرا ً.
عندما انتهى كان فراشه الوثير يهمس له همسات غير مسموعة، وجفناه يغالبانه، فترك أخواته اللواتي كن يثرثرن بأحداث اليومين السابقين، وعندما حط برأسه على الوسادة خطرت له فكرة.
نهض وفتح جهازه الراقد، ثم عندما ظهر سطح المكتب الذي تمثله صورة لشاطئ من جزر الأزوريس، نقر نقرتين ليفتح المتصفح واختار من مفضلته منتدى ( أقلام بلا اتجاه).
جعل يفكر وهو يراقب المنتدى، ويتجاوز شروط التسجيل بمعرف له، ثم توقفت عيناه عند المؤشر الراقص، والعبارة التي تطالبه بإدخال اسم مستخدم، حدث نفسه، أريد اسما ً جميلا ً، اسما ً معبرا ً وغير تقليدي، غامض، يعبر عن شخصية متوازنة، ذكية.
توافدت إلى ذاكرته مجموعة من الأسماء رفضها كلها، كان ذهنه مجهدا ً، أحس برغبة شديدة في النوم، فكر في إرجاء التسجيل إلى الغد، ولكن فجأة لمع في ذهنه اسم ( ضوء في آخر النفق)، كتب الأسم بسرعة، لحظات ثم ظهرت أمامه العبارة الشهيرة ( ضوء في آخر النفق شكرا ً لتسجيلك سيتم إرسال.......)، أطفأ الجهاز وغاب في عالم الأحلام.
.. نهاية الفصل الثاني ..