أميمة أحمد الجلاهمة*
ليتني أستطيع استيعاب طبيعة سكان تلك الولاية الأمريكية التي طالب محلفو إحدى محاكمها بإنزال عقوبة السجن المؤبد على الباحث السعودي "حميدان بن علي التركي"الذي يملك وأسرته من المصداقية ومن علو الهمة ما يستحق أن يكون مثالا لغيره ... ليتني أعرف كيف تأتى لهؤلاء المطالبة بحكم يفرق جمع أسرة بهذه النوعية من التميز والفاعلية، وكيف قبلوا تشويه الحقائق في قضية قائمة في الأساس على أقوال متضاربة، فتارة تستند لأرض الواقع ،وتارة تسبح في عالم الخيال، قضية في وقائعها تخلو من أي أدلة دامغة يمكن الاعتماد عليها للوصول لمثل ذلك الحكم الجائر.
قصة اعتقال ثم محاكمة الباحث السعودي حميدان بن علي التركي وزوجته سارة الخنيزان، وترويع أطفالها الخمسة، قصة عجيبة.. وكيف لنا أن نستنكر...فأحداثها جرت في بلاد العم سام... بلد العجائب... قصة تصلح لأن تكون نواة لفيلم من أفلام الخيال الأمريكي الذي يسعى لقلب الموازين، ولخلط مفاهيم الحق بالباطل.
كلنا نعلم أن الشاب والباحث حميدان بن علي التركي ابتعث من قبل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،قسم اللغة الإنجليزية، لتحضير الدراسات العليا في الصوتيات، كما نعلم أنه حصل على الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف من جامعة" دنفر" وعلى جائزة (الأمير بندر بن سلطان للتفوق العلمي )، وأن بقاءه في أمريكا ما كان إلا لغرض إنهاء رسالة الدكتوراه في التخصص نفسه والجامعة نفسها.
ولكننا قد لا نعلم أن "علم الصوتيات" علم أثبت أن البصمة الصوتية لا تتكرر لأكثر من شخص، وأن علماء الصوتيات قادرون على التمييز بين النغمة الأصلية والمصطنعة، أي باستطاعتهم تمييز صاحب الصوت من الصوت المقلد له..ولأنه علم قد يكون له علاقة مباشرة وغير مباشرة بالشؤون الأمنية، كان منطقيا أن أصدق ما قيل لي من كون ("مكتب التحقيقات الفدرالية"سبق له أن عرض على حميدان التركي التعاون معه، فقابل عرضه بالرفض التام.. والنتيجة الويل والثبور له ولأهله).
وأنا إن كنت أعاتب الباحث حميدان التركي، فلا أعاتبه على رفض التعاون مع أولئك -على فرض أنه طلب منه ذلك - ولكني أعاتبه على تلك الثقة التي دفعته للبقاء هناك هو وأسرته، بعد أن كشرت تلك الأجهزة الرسمية عن أنيابها، أعاتبه على ثقته الحالية بعدالة القضاء الأمريكي، أعاتبه على التفاؤل الكامن في أن نتيجة حكم المحكمة ستكون لصالحه.
والواقع لا أفهم على أي أساس قال أولئك إن" حميدان التركي"إرهابي وهو الذي بادر بتصحيح مفاهيم الشباب المسلم المتعلقة بالإرهاب والتطرف مبينا أن الإسلام دين السلام، وهو من جاهد في معالجة قضايا إسلامية كثر اللغط حولها، فمن خلال"دار البشير للنشر والترجمة" التي يمتلكها، عمد لترجمة كتب عربية للغة الإنجليزية ونشرها، ومن خلالها أظهر سمو الشريعة الإسلامية التي تنظم علاقة المسلم الإنسانية بالآخر، كما توقف عند بيان حقوق الإنسان ،وحقوق وواجبات المرأة المسلمة، وبهذه السياسة نالت دار" البشير للترجمة والنشر"استحسان ورضى الجالية الإسلامية والعربية الشابة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان صاحبها يتمتع بحضور طيب مع الطلبة السعوديين وغيرهم من المسلمين.
ويشار إلى أن هذا الباحث الذي اتهم بأنه إرهابي يرفض الآخر، هو نفسه الذي سجل بناته في مدرسة عامة تتبع الكنيسة الكاثوليكية، ومن خلالها نلن تقدير القائمات عليها، فها هي" لمى بنت حميدان التركي" الطالبة المسلمة، الملتزمة بالنقاب تزكى على لسان،"ديبورا هورنينج" معلمة الأديان السماوية، والتي قالت إن"لمى" طالبة ذات خلق فاضل وسيرة حسنة، وهذا الوصف دعمته مديرة المدرسة ذاتها، "لمى" في حقيقة الأمر نتاج تربية ورعاية أسرة أساسها أب وأم هما حميدان التركي وسارة الخنيزان .. فماذا بعد هذا من دليل حسي على تميز أسرة استطاعت أن تربي أمثال"لمى" بارك الله بها ..
أما تلك الزوجة فبوركت أم أنجبت وربت مثيلاتها، فقد كانت وما زالت ثابتة محتسبة، مطيعة لزوجها، صابرة على مصابها داعمة لأولادها، واثقة بعدالة القضية، وهي قبل هذا وذاك متوكلة على المولى سبحانه، لقد عايشت سارة الخنيزان مسلسلاً طويلاً من الألم ما زال يتجدد للحظة ،فك الله سبحانه أسرها وأسر أسرتها، وأرجعهم للوطن إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ولمن لا يعرف تفاصيل القضية أذكر هنا ثلاثة مشاهد مأساوية، فالبداية كانت في شهر نوفمبر من عام 2004م، حيث اقتحم" 30" من مكتب التحقيقات الفدرالية مع رجال مكتب الهجرة منزل الدكتور حميدان، وبادروا على الفور بتهديد زوجته وتصويب السلاح لرأسها مستفسرين عن مكان سلاح زوجها، فعلوا ذلك وهم يعلمون يقينا أنه لا يملك أي سلاح.
المشهد الآخر من ذلك المسلسل، عملية اعتقال سارة مع زوجها حميدان فخلال هذه العملية لم يفسح المجال لهما بتدبر أمر أبنائهما الخمسة، وهكذا بقي الأطفال الصغار بمفردهم لفترة وصلت إلى 12 يوما، دون رعاية ولا مال، كما منع الأصدقاء والجيران حتى الأمريكيين منهم من تقديم الرعاية لهم.
كما جرت"أم تركي" للمحكمة وهي مرتدية الملابس البرتقالية الخاصة بالسجناء، وما أن وصلت للمحكمة حتى أمرت القاضية بنزع حجابها، ولتقف ابنتنا أمام الملأ حاسرة الرأس والنحر ..مما أثار غضب الجالية الإسلامية الحاضرة، فاضطرت السلطات لإعطائها حجاباً قدم لها من إحدى الحاضرات.
صور مبكية دامت لسنوات مرت على هذه الأسرة المسلمة، إلا أني لو تفرغت لكتابة فصولها لطال بي الزمان، صور كان آخرها إدانة الدكتور حميدان بن علي التركي بالتهم الموجهة إليه، مما يستدعي الحكم عليه بالمؤبد.
إدانة قامت على شهادة خادمة أجبرت على الكذب، بعد أن سئلت من قبل التحقيقات الفدرالية لأكثر من 12 مرة خلال ستة أشهر، أكدت خلالها أنها كانت تعامل كفرد من أفراد أسرة عائلة التركي ،ولتبدل أقوالها بعد ذلك فتكافأ بحصولها على 64ألف دولار أمريكي، وتأشيرة عمل سارية المفعول، وبوعد حكومي بعدم محاكمتها لمخالفتها أنظمة الهجرة.
ويشار هنا إلى أن حكومة المملكة العربية السعودية ولله الحمد، تكفلت بدفع ما يزيد عن مليون دولار ككفالة للدكتور حميدان وزوجته، وهي تتابع كل حيثيات القضية مع المحامي المكلف، وفي هذا المقام يطيب لي أن أوجه الشكر والدعاء لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله حفظه الله، والذي أولى قضية الباحث حميدان التركي جل اهتمامه كغيرها من قضايا الوطن، ونحن على ثقة تامة أنه قادر بحول الله سبحانه وقوته على إنهائها وإرجاع ابننا إلى دياره وأهله عزيزا مكرما.
كما أشكر وزارة الخارجية التي تقبلت اتصالي واستفساري حول هذا الشأن وللدكتور"جمال بن حسن العقيل"، الوزير المفوض في وزارة الخارجية، الذي أجاب عن أسئلتي بكل أريحية ..
وفي الختام أذكر القارئ أن أياماً قليلة تفصلنا عن موعد صدور الحكم النهائي في الدكتور حميدان، آمل أن نتمكن من صنع فرق بإيصال مواقفنا الثابتة من نصرة باحث سعودي متفوق وفاعل اجتماعيا، نال هو وأسرته تقدير من تعامل معهم وعرفهم عن قرب، إن قضية الدكتور حميدان بن علي التركي وأسرته قضية عامة،نأمل أن تصل قناعاتنا وبشكل يتناسب وعدالة هذه القضية لصاحب القرار الأمريكي، للإعلام الأمريكي، للإنسان الأمريكي البسيط ..لنفعل ذلك نصرة للدكتور حميدان ولأمثاله من أبناء الوطن.
* كاتبة وأكاديمية في جامعة الملك فيصل
جريدة الوطن </B></I>