اخر المواضيع

اضف اهداء

 

العودة   منتديات الرائدية > المنتديات الإبداعية > منتدى القصص والروايات
 

إضافة رد
مشاهدة الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29-05-2006, 03:15 PM   رقم المشاركة : 1
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

Post رحلةٌ إلى مرافئ النجوم

رحلةٌ إلى مرافئ النجوم

بعد معاينة دقيقة حذرة، لملم الطبيبُ أشياءَه نظر إلى وجهي بأسىً،ثم التفت إلى أخي الأكبر ، وهمس في أذنه كلمات غير مقتضبة ، سمعتُ منها شيئاً ، وغابت عن مسمعي أشياء.. استطعتُ التقاط آخر جملة تهدّجت بها شفتاه.. كان يتكلم بحسرة ظاهرة.. وكان أخي يقف ذاهلاً عن كل شيء، يلتمسُ كلماتٍ مطمئنةً من صديقه الطبيب، وينظرُ إليَّ بحنانٍ لم أشهد مثيلاً له... كنتُ أنقّلُ عينيَّ الكليلتين بينهما، منتظراً كلمة تنهي هذا الصراع المريرَ الطويلَ مع المرض والألم..‏

افترسَ الصمتُ جوَّ الغرفة.. الكآبةُ والخوف يعتصران أخي.. وأنا أشبه بخرقة بالية ملقاة في جوف السرير، لاأقوى حتى على الأنين... اعتصرَ الطبيب بكفيه كتفي أخي، وقفزت من بين شفتيه كلمات متوترة حادّة: "لافائدة ترجى.. تشجّع.. ساعاتٌ قليلة وينتهي كلُّ شيء." وقعت تلك الكلمات في سمعي المتعبِ بكل وضوح.. لست أدري لماذا كنت مُرهفَ السمع آنذاك.. لعلي عرفتُ بحدسي أن كلماتِ الطبيب الأخيرة هي النطق بالحكم النهائي غير القابل للاعتراض أو الطعن.. غرستُ عينيَّ في الجدار المقابل، ورحتُ أستعيد قرار الحكم النهائي كلمة كلمة.. لم أجد في داخلي رَغْبةً في البكاء، أو خوفاً من المصير العاجل المحتوم، فلقد قضيت سنواتِ عمري في صراع مع الفقر والقمع والأزمات المتتالية حتى سقطتُ أخيراً بين مخالب المرض.. لعلّي الآن فقدتُ الإحساس بالحزن والفرح معاً، ولم أعد أميّز بين الأمل واليأس، ورحتُ أنتظر قدوم ضيف لايرغب فيه أحد.. كان الطبيب يشدُّ أخي محاولاً إبعاده عن الغرفة، لعلّه كان يخشى عليه، وهو يرى دموعه السخيّة وانهياره وشحوبَه.. أفلَتَ أخي من بين يدي الطبيب.. اقبل نحوي يستهدي بغبش دموعه، وضع كفّاً باردة مرتجفة على رأسي، ومسح على شعري بليونة وضعف.. لم أرَ أخي في سنوات عمري القصيرة.. متهدَّماً، منهاراً، ذليلاً.. كما أراه الآن... أغمضتُ عيني، وأدرتُ وجهي كيلا تسحقني أكثر، ملامحُ الحزن الجليديِّ في عينيه... لم أدر كم من الوقت مضى، وأخي ثابتٌ إلى جانبي، لايتحرّك، كجذع شجرة عتيقة.. كنتُ أسمع انفاسَ صدره تعلو وتهبط دون انتظام، واحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. دون انتظام، وأحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. ظلّت تطوقني وتدغدغ حواسّي المتلاشية شيئاً فشيئاً حتى سبحتُ في جوٍّ هيوليٍّ متأرجح.. ورحتُ أغوصُ في دهاليزَ متداخلةٍ لاحدود لها.. جدّفتُ عبر بحيراتٍ دافئة متلاحقة.. كل واحدة تفضي إلى الأخرى، ومياهٍ عميقة هادئة لها سعة المدى.. داخلني إحساس أنني أقف على تخوم مستنقع الموت.. وأنني أُطلُّ على العالم الآخر عبر كوّات واسعةٍ لاحصر لها.. تابعتُ السباحة في خضمِّ البحيراتِ الواسعة...‏

ليس للماء طعُم الملوحة.. لزوجةٌ دافئة تطلقُ بخاراً يعطّر الكون من حولي بعبير خاص.. الحياة هنا لها طعم آخر.. شعرتُ أنني قد تعبتُ من السباحة، وتذكرتُ أن الهيولى التي أضربُ فيها لاتحدّها شواطئ ولارمال... لُذْتُ بكوّة من الكوى المنتشرة على تخوم العالم الآخر.. تمسّكتُ بحوافيها.. مددتُ رأسي بحذر شديد.. لم أتبيّن شيئاً.. أكلتني الدهشة.. ماذا أرى؟!! فضاءٌ سحيق لانهاية له.. أتعبتني الرؤية.. سحبتُ عينيَّ الزائغتين وغطيتهما بجماع كفّي.. فجأة تناهى إلى سمعي أصواتٌ متداخلة تعلو حيناً وتنخفض أحياناً.. أصختُ السمع جيداً.. لم أفهم شيئاً.. اقتربتُ من الكوّة من جديد، نظرتُ من خلالها إلى الطرف الآخر، لاحت لي أشياءٌ تتحرك تشبه الأشباح.. غريبٌ ماأرى؟!! من هؤلاء؟؟ ماذا يعملون هنا؟!!.. انتصب في خاطري سؤال: ماذا لو انتقلتُ إلى الطرف الآخر؟؟.. حشرتُ جسدي عبر الكوّة.. لم تمنعْني من العبور.. وجدتُ نفسي أسبحُ في هلام من نوع آخر.. غمرني دفءٌ ونور أيقظا إحساسي وروحي، أبعداني عن التبلّد والخوف.. جميلة هي الحياة هنا!!.. ولكن.. ألا يوجد أحد؟؟ أين الناس؟؟ أين توارت الأشباح؟!! لابأس.. سرتُ وحيداً.. سعادةٌ غامرة ملأت كياني.. شعرتُ برَغْبة في الغناء.. لم أستطع.. وجدت أنَّ الكلماتِ تموت في حلقي.. أقنعتُ نفسي بأن الغناء ليس تعبيراً مطلقاً عن السعادة.. الصمتُ هو حالة الاكتمال.. فجأة نبتت أمامي مجموعة من الرجال.. أحاطوا بي من كل جانب.. سقطتُ في مستنقع خوفٍ مزلزل.. تفرستُ في وجوههم، رأيتُهم يبتسمون.. داخلني بعض الاطمئنان.. هتف بي أحدهم: أأنت القادم الجديد؟؟.. لم أنبس بكلمة.. كان الخوف مايزال يلازمني.. اقترب منّي أحدُهم..‏

قبّلني ببشاشة ورقّة.. قال لي:‏

-.. اطمئن.. فقد أتينا لاستقبالك.‏

نظرت إليه ببلاهة.. قلتُ بصوت مرتجف:‏

-... ولكن، من أنتم؟؟..‏

أجاب بصوت مشجعّ:‏

-... لاعليك.. كن واثقاً.. نحن هنا لجنةُ الاستقبال.‏

سألته والدهشة تغمرني:‏

-.. لَجنةُ الاستقبال!! أتعني أنكم تستقبلون الموتى؟!!‏

أجابني بكل هدوء:‏

-.. لا.. إنك لم تمت بعد.. نحن نستقبل الزوّار فحسب.‏

زايلني الخوف إلى حدٍّ بعيد.. سرّني أنني لم أمت بعد.. استمدّيتُ من ابتسامته وهدوء ملامحه كثيراً من الطمأنينة.. قلتُ له:‏

-.. أنا جديد العهد هنا . فهل لي أن أتعرف إلى شؤون حياتكم ؟‏

نظر إليَّ بعطف شديد ، غرس في جسدي روحاً جديدة . قال :‏

- عليك بادئ ذي بدء، أن تتخلّى عن كل مالازمك في حياتك هناك.. نحن نعرف كيف كنت تعيش.‏

صعقتني جملته الأخيرة، نظرتُ إليه بحيرْةٍ وغباء.. قلتُ له:‏

-.. لم أفهم ماتقصُد.‏

ضحك ملءَ فمه.. قال لي بنبرة هادئة:‏

-.. يبدو أنك لم تطمئنَّ بعد.. وأخرج من جيب سترته ورقة مطوية فردها أمامي وتابع:‏

-.. عليك أن تتخلّى عن كل هذا، وإلا فلن تستطيع التعايش معنا...‏

أخذتُ الورقة.. قرأتُ مافيها بصوت مرتفعٍ، أخذ يتلاشى شيئاً فشيئاً: الخشية -الكذب- القلق- الشعارات المزيّفة.. كما قرأتُ أشياء خطيرةً جداً.. قادتني إلى انفصام وضياع شديدين.. سألتهُ بصوت خفيض:‏

-.. وكيف يعيش المرءُ بعيداً عن هذه الأشياء؟؟.‏

هزَّ رأسه.. ابتسم برقّة.. أجاب بحزم:‏

-.. سترى.. أن هذه العناصر لاوجود لها عندنا.. القادمون مثلُك يحملونها إلينا فقط.. الحياة هنا شيءٌ آخر‏

عاجلته بسؤال كبير:‏

-.. وهنا.. من يضطهد مَنْ؟؟.‏

أجاب بوقار جادّ:‏

-.. لاأحد.. هنا ليس لدينا حكومات وشعوب.. ولادولٌ قوية وأخرى ضعيفة..‏

-.. ومن يحكمُ التجارة ودواوين الدولة، ويسيطرُ على الأسواق والاسعار؟؟.‏

ضحك ملء فمه.. وقال:‏

-.. نحن.. لانعرف شيئاً عن هذه المصطلحات.‏

غطستُ من جديد في بحرٍ من الدهشة والاستغراب.. أيعقُلُ ذلك؟!!.. وعاجلته بسؤال ممزّق:‏

-.. والنفط.. ألم يستعبدكم.. ألم يسحق الإنسان فيكم.. ألم يغيّر أسلوبَ حياتكم؟؟.‏

أجاب بسرعة مذهلة:‏

-.. النفط!! وماحاجتنا إليه؟. نحن لانعرفه، نعيش في عالم من النور والدفء، والحبِّ والحنان...‏

تابعتُ باندفاع شديد:‏

-.. وأزمةُ السكن، وأسعارُ المنازل؟؟..‏

ضحك بصوت مرتفع، اشعرني بالخجل من الموقف ومن نفسي ومنه.... بدا لي أن هذا المخلوقَ الغريبَ، يدفعني إلى عالم الوهم والخيال.. حاولتُ التملّصَ منه بسؤال خلتُه سيسدُّ عليه منافذَ الاستعلاء:‏

-.. وماشأنكم مع الحرية، والسجون والمعتقلات والأبرياء، ودول العدوان؟؟..‏

قاطعني بنبرة واثقة حازمة:‏

-.. يبدو أنك لن تفهمنا إلا بعد حين، ولن تستطيع التحرّر من علاقات حياتك السابقة.‏

استدار وتركني وانضمَّ إلى رفاقه.. ظللتُ وحيداً أتلفّتُ حولي.... كان الهلام المحيط بي يزداد نوراً وعبيراً... وشعرتُ بالندم.. آلمتني المفارقاتُ العجيبة.. قررّت أن أتخلّى عن ذاتي السابقة، سبحتُ بخفّة ورشاقة، ووقفتُ قريباً من لجنة الاستقبال.. رحّبوا بي ثانية.. حاولتُ أن أعتذر.. قاطعني أحدهم:‏

-.. نحن هنا، لانحب الاعتذار، تعالْ.‏

وقفتُ بينهم.. سألني ذاك الذي يقف بجانبي:‏

-.. ألا تريدُ أن تتعرّف إلى عالمنا؟.‏

أجبته:‏

-.. بكل سرور... ولكنني لاأزال خائفاً.‏

ضغط على يدي، أشار بإصبعه إلى البعيد البعيد.. قال:‏

-.. الخوف هناك.. يفصلنا عنه هذه الكوى الكثيرة المنتشرة على التخوم.. أمّا نحن فلانعرف الخوف..‏

سرنا متجاورين.. التفتُّ إلى الوراء حيث كنّا نقف.. لم أجد أحداً.. تساءَلتُ في داخلي: أين ذهبَ الآخرون؟؟ كنتُ أسير إلى جانبه والذهول يملأ كلَّ جوانبِ عقلي وجسدي.. التفتَ إليّ وسألني:‏

-.. أين تريدُ أن نذهبَ الآن؟..‏

فكرتُ ملّياً، وقد ساورني حنين طاغٍ إلى القراءة والكتابة.. سألته بشوق:‏

-.. اليس لديكم صحفٌ ومجلات؟؟..‏

أجاب:‏

-.. بلى.. ولكنك لن تستطيع قراءة مايُكتبُ فيها.. لأن كتّابنا يكتبون من داخلهم بلاخوف ولامداورة ولاتكلّف.‏

فتحتُ فمي عجباً ، وسألته بسرعة:‏

-.. والرقابة؟؟..‏

-.. ماذا تعني؟!!.. نحن لانعرف شيئاً اسمه الرّقابة.‏

كدتُ لاأصدق ماأسمع.. أصحيحٌ ذلك؟!! أم أنه يُدخلني في الوهم أكثر.. أشحتُ بوجهي، واحتميتُ بالصمت.. لعل مرافقي أحسَّ بما يجول في خاطري فتوقف فجأة، كمن تذكّر شيئاً، وسألني:‏

-.. ماذا كنت تعمل عندما كنتَ هناك؟.. وأشار بيده عبر الكوى:‏

-.. كنتُ معلماً.‏

-.. وأين كنتَ تعلّم؟.‏

-.. في مكان مامن الكرة الأرضيّة.‏

انفجر ضاحكاً، التفت إليَّ وقال:‏

-.. يبدو أنك ماتزال خائفاً!!‏

حنيتُ رأسي.. تابع يسألني:‏

-.. وماذا كنت تعلّم؟..‏

-.. أُعلّم كلَّ شيء. كلَّ مايُكتبُ في كتبنا.‏

انفرجت أساريره عن ابتسامة عريضة.. قال لي:‏

-.. هناك مدرسة قريبة.. هل ترغبُ في زيارتها؟..‏

اجبتُه بسرعة طفولية.‏

-.. نعم... نعم... أريد أن أزور مدرسة.. أيّةَ مدرسة.‏

بعد قليل، كنّا نلج بابَ مدرسة كبيرة جداً.. سرنا بحذر شديد، على رؤوس أصابعنا، كنتُ أخشى أن أخدشَ الهدوء، واعكرّ صفو الأصوات الواثقة، وأسيءَ إلى النظافة التي عمّدت كل شيء.. تجولت كثيراً... وقفتُ أمام نوافذ عديدة.. أصختُ السمعَ حتى كدتُ أن أهرشَ أذنيَّ ورأسي.... سمعتُ كلاماً وكلاماً كثيراً، لم أفهم منه شيئاً بادئ الأمر.. لم أسمع أحداً يتحدث عن البرابرة والفاندال، ولاعن غزة وأريحا...‏

ركبني دوارٌ شديد، لذتُ بمقعد قريب أستريح إليه.. أقبل صاحبي يواسيني ويشجعني... قال لي:‏

-.. أما قلتُ لك... يجب أن تتخلص من أُمورٍ كثيرةٍ حتى تستطيع الحياة بيننا.. سألته وقد بدأتُ أشعر بالهزيمة والاحباط:‏

-.. ومتى أستطيع ذلك؟؟.. هل سيطول بي الزمن؟‏

أجاب بهدوء:‏

-.. تستطيع ذلك، عندما تنفّذ ماقرأتهُ في الورقة قبل قليل..‏

عُدْتُ إلى الورقة أتصفّحها.. يالَلغرابة!! وجدتُ فيها مفرداتٍ لم أقرأْها سابقاً.. قرأتُ فيها: لاتخن وطنك -لاتسرِق -لاتكذب -لاتتآمر... انفجرتُ في وجهه صارخاً:‏

-.. هذه حفظتُها منذ صباي.‏

قاطعني بحزم:‏

- لكنك لم تنفّذ واحدة منها..‏

بدأتُ أشعر بالانهيار والتلاشي.. تمنيتُ أن أخلو إلى نفسي وأستريحَ من عناء هذه المفارقات الرهيبة.. سألته بصوت متهدّج:‏

-.. هل لي أن أذهبَ فأنامَ قليلاً؟‏

-.. لك ماتريد.‏

-.. ولكن أين سأنام؟.‏

-.. في غرفتك الخاصة.‏

لم يمهلني لأتماهي مع الدهشة، قادني إلى جوار واحدة من الكوى الكثيرة وأشار بيده إلى بناء صغير جميل وقال:‏

-.. إلى اللقاء ..أدخل هنا..‏

دخلتُ.. تجولتُ في المنزل الجميل وحديقته وشرفاتِه.. سُرعان ما تعرّفتُ إلى غرفة النوم الأنيقة الهادئة، وغطستُ في نوم خدرٍ لذيذ...‏

بدأتُ أتسلّقُ صخوراً عاتية.. لاأدري متى سأصل إلى قمتها.. كان الخوف يخلع قلبي.. البحرُ في الأسفل.. والصخورُ شاهقةٌ ملساء.. كنتُ أغرسُ أظافيري في الصخر الأصم.. وأنفاسي تتلاحق بعنفٍ وقسوة.. وأعصابي مشدودةً كأوتار رفيعة.. فجأة زلّت بي القدم، ورحتُ أتدحرجُ باتجاه البحر.. أحسستُ بأنني أصرُخُ من الأعماق صراخاً حادّاً.. استيقظتُ بخوفٍ وألم شديدين، كان جسدي النحيلُ المكدودُ يسبحِ في رذاذ من العرق البارد..وعينايَ الواهنتان تلوبان بحثاً عن شيء ما.. وعَبْرَ النفسِ المتقطّع والنظر الكليل والجسد المتلاشي.. شاهدتُ أخي ينحني فوقي، ودموعُه تغسل وجهي وعنقي، وإلى جانبه إخوتي الصغار، وأشباحاً أخرى ترتدي ملابس بيضاء..‏

حاولتُ أن أتكلم، فلم أستطع..حركت أصابع يدي اليمنى ...ثبّتُ ناظريَّ في الوجوه الماثلة أمامي كانت واضحة حيناً، وضبابيّة أحياناً أخرى.. أخذتِ الصور تتلاشى من أمامي.. تتلاشى.. وتتلاشى.. عندئذ أدركتُ أنني بدأتُ أدخلُ في طقوسِ موتٍ حقيقي..‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:21 PM   رقم المشاركة : 2
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

أجــمل النســـــــاء

يستعيد خالد تفاصيل ما حدث، ذات يوم. كان مدعوّاً إلى حفلة أقامها لـه الأصدقاء، وقبل أن ينهض الجميع معلنين انتهاء السهرة. كانوا قد تحدّثوا في أكثر المواضيع أهمية. استعادوا تاريخ المنطقة، وما يحدث في الجنوب، فكان لأطفال الحجارة نصيب، للمقاومة وللشهداء نصيب، ولم يفت الحاضرين الحديث، عن حقّ سيعود إلى أصحابه، إن عاجلاً أو آجلاً، فهناك من يقدّم ذاته فداء لكل شبر من أرض الوطن.‏

كان خالد ضيف السهرة، ومحطّ اهتمام الحاضرين، فإلى جانب ما يربطه بأكثرهم من صداقات، يحمل فكراً واعياً، وهمّا وطنياً، ويحلم بزيارة معالم المنطقة، والتعرّف عن كثب على المواقع المتضرّرة، وما ألحق بها من تدمير.‏

حين نهض الجميع، دعته منى للمبيت عندها. شدّت على يده برغبة وثقة. تلك اللحظة طاف بنظراته فوق الوجوه، وجدهم متحمّسين، فمنى امرأة مضيافة لا يخلو بيتها من الأصدقاء المميّزين.‏

لم يكن خالد يدري ما يفعله، وهو ينساق وراءها بجسدها الممشوق، وشعرها الكستنائي المنسدل. شعر بنشوة وهو يسير بتلقائية، ولا يتجاسر على التفكير، فلم يسبق أن دعته امرأة للمبيت عندها، بهذه الثقة والعلنية والوضوح.‏

صعدا الدرج إلى الطابق الثاني. ابتسم حين التقت عيونهما، كانت تدير مفتاح الباب وقد رفعت كفّها الأخرى تلامس كتفه تحبّباً. شعر بقشعريرة، وتابع الخطا بذهول.‏

بدا المكان واسعاً، وزعت فيه الأرائك، ومقاعد خشبية ومنضدة، وفي إحدى الزوايا برّاد قديم الشكل. تركته منى وهي تشير إلى أنها ستغيب قليلاً، وعليه التصرّف بحرّية ريثما تجهز غرفة النوم.‏

خفق قلبه. نهض. دار في مكانه، فهو لا يدري ما يفعل. مسح رأسه. استطاع استراق نظرة من زجاج النافذة المغلق. هل يبدو وسيماً؟ اكتشف أنه لا يقوى على التفكير، أو أن السهرة استنزفت كل قواه. هو لا يريد أن يفكّر، لا يريد أن يحسب، فهي ستعود كما قالت، تذكّر أصدقاءه في تلك السهرة. هم شجّعوه على مرافقتها. توقّف فجأة عن التفكير.‏

فتح زجاج النافذة. عبقت رائحة أشجار الصنوبر. كان الليل يزحف، وضوء قمر يتسلّل خلف غيمة. تحرّك نحو البرّاد. فتحه. كان فارغاً. أغلقه. ثمّة شعور كالخدر يعبر جسده. إنه مشتاق للحب، لمعانقة امرأة. تذكر نصيحة أصدقائه، منى ستحتفي بك! بالأمس كان حامد وقبله زياد، وغيرهما.‏

لم ينمّ عن البيت همسة واحدة. كل شيء يوحي بأن منى تعيش بمفردها. تلك اللحظة عصفت به الرهبة. هل يكون فخّاً؟ تذكّر الطريق المؤدية إلى البيت، كانت متفرّعة عن الشارع العام، وسط غابة الصنوبر. لم يجل بذهنه خاطر. كان مأخوذاً بسحر الطبيعة في ضوء القمر، وبرفقة امرأة واثقة تضجّ بالأنوثة والجمال.‏

سمع خطواتها. ارتبك. بدت تسبقها ابتسامة. خفق قلبه بشدة. وارى بصره. استطاع التقاط تفاصيل جسدها تحت قميص النوم المنسدل، بذلك سيتخيّل أكثر مساحة من فخذها الأبيض الذي ارتسم بشكل مغر، تحت القماش الناعم.‏

فوجئ بها تقول بطريقة لا تخلو من الجديّة:‏

-لابدّ أنك تعب. باستطاعتك النوم متى تشاء. لقد جهّزت لك الغرفة.‏



نهضت والابتسامة لا تفارقها. قالت:‏

-نلتقي صباحاً. اتبعني لأريك مكان نومك.‏

ولج الغرفة. أقسم أنه لم ينم تلك الليلة. كان يعدّ نسمات الليل، وثواني الساعات، وكان ينتظر حدثاً ما. حاول الاستلقاء، غير أن جملة من المشاعر والأحاسيس تربّصت به، وجملة من الأفكار تصارعت في رأسه وأعماقه. كانت اللحظات تمر، وكأنه ينهض في كل لحظة من إغفاءة طويلة. من هذه المرأة؟ من هو؟ لماذا تورّط في ليلة كهذه؟ وهو الذي غادر بلده ليجد الراحة والسلام. من دفعه لهذا المصير؟ لماذا يجتاحه القلق والأرق. ضاقت الغرفة به. نهض. خرج. ألقى نظرة على الأمكنة. تفحّص كل شيء، النافذة المطلّة على ساحات الصنوبر. السماء بنجومها المتلألئة. غيمات تغادر باطمئنان. القمر يرحل، وهو يقتعد ويطيل التفكير والنظر.‏

كيف يخرج ممّا هو به؟ هو لا يريد شيئاً. يريد أن يغفو. أن يرتاح. لكن.. لماذا يعتقد بقدوم منى إليه؟ قدومها كأنثى. إنهما رجل وامرأة، وحيدان. لم لا يكون الشيطان ثالثهما؟ لابد من ذلك؟ ستأتي. فقد خالجتها مشاعر وأحاسيس مشابهة. كان غارقاً في التأملات حين اكتشف أن لكل شيء من حوله صوتاً. للجدران. للأرض. للمقاعد. خطوة إثر خطوة، ومضى قسم كبير من الليل، لكن منى لم تأت.‏

أقسم ثانية أنه لم ينم، وحين خرج من الغرفة صباحاً، تأكّد من حركة في البيت قد حدثت. كانت سلّة من الورد الجميل فوق المنضدة، وكانت اللمسات واضحة فوق الأرائك والمقاعد، وحين نظر إلى البرّاد شعر بالعطش. هرول يفتحه، وجده مليئاً بالأطعمة والفاكهة. أغلقه مجفلاً. التفت نحو الصوت القادم. كانت منى مليئة حيويّة وهي تلقي عليه تحيّة الصباح، لاحظ تورّد خديّها. اكتشف أنها غفت باطمئنان طويلاً. قالت:‏

-هل نمت جيّداً؟‏

أجاب بارتباك:‏

-طبعاً.‏

قالت بثقة:‏

-هنا ينام المرء ملء جفنيه.‏

-أجل. أجل.‏

نادت أحد الرجال لإحضار القهوة الجاهزة، وخلال دقائق تسنّى لـه مراقبتها. كانت جميلة، نقيّة البشرة، وكانت أشعة شمس دافئة تغزو المكان، حين اكتشف ولأول مرّة نظرة أسى في عمق عينيها، فقال متشجّعاً:‏

-أرى حزناً في عينيك؟‏

رشفت قهوتها. تنفّست بعمق. قالت:‏

-هكذا يقولون لي. لكني لا أشعر به، وربما أعرف أسبابه.‏

حافظ على دهشته، وتلهّف للاستماع، فبدا منصتاً، وهو ينظر إلى عينيها. تابعت:‏

-السبب يا صديقي.. أنني وحيدة أخوتي الذكور الأربعة الذين يقطنون في الخارج.‏

صمتت برهة. فتساءل بهدوء، وقد رسم ابتسامة فوق وجهه:‏

-هل يسبّب هذا حزناً؟‏

-أجل. حين يقف ذلك عثرة في طريق اخترتها بصدق وإيمان. لكن. دعنا من هذا الآن.‏

-كما تشائين.‏

حلّ صمت قصير. تذكّر خالد ليلته الطويلة. تململ. سألها بتهذيب واضح قائلاً:‏

-هل يعيش أحد معك؟... أقصد. من جلب الورد؟ و...‏

ضحكت. قالت:‏

- رفاقي!‏

- أين هم؟‏

- في أول طابق من هذا المبنى.‏

تابعت بعد صمت قصير:‏

- المبنى كبير، إنه إرث من جدّي.‏

مضى الوقت سريعاً. كان خالد يفكّر بمنى. لم تكن تتعدّى الخامسة والعشرين من عمرها. جميلة، وربما ثريّة. لكنّها حزينة لسبب ما. كان مصرّاً على الخوض ثانية. قال:‏

- أعتقد أن أخوتك يحبّونك كثيراً!‏

- وأنا أعتقد هذا.. قصّتي تشبه الدبّ الذي قتل صاحبه، لقد كلّفتني محبّتهم ثمناً غالياً.‏

تساءل بلهفة:‏

- ثمن ماذا؟‏

أجابت بلا تردّد، وقد ازداد الأسى بعينيها:‏

- بقائي حيّة.‏

قال بذهول:‏

- لم أفهم؟!‏

لنترك هذا الآن. ألا تريد الإفطار؟‏

كان يمضغ اللقمة بصعوبة. شعر بأنه يعيش لغزاً. أخذ يستعيد كلمات أصدقائه. يعيش لحظات المساء والليل. يستجمع قواه ليعرف ويدرك، وقبل أن ينتهيا من الإفطار كانت منى تتحدّث وتسهب، فهي لم تفكّر منذ ذلك اليوم بما كان. ما تذكره أنها كانت مهيّأة لكل شيء.‏

حفظت المواقع والطريق. كان جسدها وعقلها متّفقين. كان عليها أن تتّجه في الصباح الباكر. تقود سيّارتها المفخّخة. وتتّجه إلى ذلك الموقع الذي رسمته مئات المرّات، وحفظت خطوطه ومعابره، وهناك تفجّر نفسها، وتفجّر مزيداً من مواقع العدو.‏

تمتمت:‏

-أشعر بأنني في عالم آخر. أتحدث وأضحك وأفكر.. لكن جسدي ليس لي. ليس معي، وكأنني مت ذلك اليوم.‏

ظلّ مشدوهاً. كانت يداه تتقلّصان وهو يعيدهما إلى حجره، وقد تيبّست الحروف فوق شفتيه، ومنى تتابع:‏

-إنهم أخوتي.. تدخّلوا في قراري. استطاعوا التأثير على المعنيين بالأمر، وإثارة الجانب العاطفي، لأني وحيدتهم الغالية، فاستبدلت في الساعات الأخيرة بزميلة، كانت تنافسني باستمرار على الاستئثار بشرف الموت والشهادة.‏

تابعت وقد شردت قليلاً:‏

-تلك الفترة دخلت في صمت طويل. لم أكن أريد الحياة. كنت -ودون أن أدري- أرفض المتابعة، والاستمرار، وكأنني أهجم على الموت. أسترد أرضي وكرامتي.‏

كان خالد مستغرقاً ومشدوهاً، حين سألته وفوق وجهها ملامح الجد:‏

-إنني منى.. الشهيدة الحية.. ألا تعرف هذا؟‏

أقسم أيضاً.. إنها أجمل النساء، وإن الهالة التي أحاطت بوجهها وأغفل عنها منذ المساء، وجدها في عيون أصدقائه، فهي منى.. التي تابعت مهمّتها، ورفضت التراجع. إلى أن استشهدت وهي تعبر أرضها السليبة. لكنها أيضاً لا تدري كيف عادت لتحمل شرف البقاء والاستمرار.‏

كان صوتها يتسلّل إلى كل خلية في جسده (إنني منى.. الشهيدة الحيّة.. ألا تعرف هذا؟)‏

ردّد بوجل:‏

-أجل يا سيّدتي... لن أنسى هذا أبداً.‏

عبق المكان برائحة الصنوبر، وكانت النسمات تتوالى بفرح.‏

مازال خالد يستعيد ما حدث، وذكرى ذلك اللقاء، تجعله أكثر عشقاً وهياماً، بامرأة ليس كمثلها بين النساء.‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:23 PM   رقم المشاركة : 3
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

الطائر الذي أراد الحياة

ها هو يوم آخر. نهضت بعد أرق الليل. تحركت كما في الأمس. احتسيت القهوة. ارتديت ملابسي، فتحت الباب، وخرجت.‏

مشيت كما في كل يوم. أحياناً تحت المطر، وأحياناً بلا مطر، قد يكون برد أو حر، أرى وجوهاً مبتهجة، أو بلا صفات، أتجاهل كل أمر، لا فرق إن أزبد البحر أم أمطرت السماء، إن زلزلت الأرض أم سكن الفضاء، ففي منطقة ما من الداخل يوجد مؤشّر يعيد الأشياء إلى الصفر أو النقطة التي تبلّدت عندها الأحاسيس وانعدمت الأحلام، فالأمور في طريقها إلى الحقيقة حيث يتحول إلى كل شيء إلى لا شيء.‏

كان الشارع مكتظّاً بالناس، بعربات الباعة الجوّالين، أطلت النظر نحو البعيد، كل شيء مسطّح، الأبنية والأشجار، الأعمدة والجدران، سكينة تخترق الطريق، أقدام متعبة، رؤوس منكّسة، المسافات بعيدة، والنهايات واحدة، وأنا نقطة في بحر الحياة، أتحرك مستسلمة للآتي، للقادم، مذ ماتت الأسئلة وتوقف البحث، أمشي، أكرر الأرقام، وراء كل خطوة، واحدة، اثنتان، ثلاث، أعود ثانية إلى البداية، أعدّ، أعدّ، لا شيء يجدّد الحياة، كل الأمور تصب في بوتقة واحدة، كل الناس نحو هدف واحد، الجائع والمتملّق، الصغير والكبير، كل شيء بعيد عن الجمال، اختلفت المعاني، الحب والحاجة والأهداف، تعدّدت الأسباب والمنطلقات، لا شيء يستحق التفكير، لا شيء يستحق الاهتمام.‏

في غمرة ما أنا به، سحبني صوت ارتطام على الأرض، ملت بلا مبالاة، وجدت طائراً يتخبط وقد فرد جناحيه وكأنه في النزع الأخير.‏

هبطت بطريقة لا شعورية، حملته، عدت أدراجي نحو البيت، نحو صنبور الماء، وبأصابعي نقلت القليل إلى جوفه، ربما ينتعش أو ينفي مظاهر الموت، غير أنه مات.‏

عدت للطريق ببساطة، للفراغ الطويل، لا يعنيني أحد، أو مكان، قدماي وعيناي تعرفان الطريق، اكتشفت بأنني لا أعرف التفكير أو أنني لست مهيأة لذلك، وخلال ومضة فوجئت بالسؤال القديم، ما الذي شتّت ذهني؟ أو ما الذي بعثر مشاعري؟ لماذا غادرني الشوق؟ لماذا احتلّني الضياع؟ استغربت، إذن أنا أبحث عن سبب، وهذا يعني تأشيرة خروج من الحالة المزمنة التي أعيشها، أبحث عن شيء لا أدري ما هو، لكنه موجود في مكان ما، في زمن ما، غير أنه لا يشبه ما أنا به في شيء.‏

كانت السماء مغبرة قليلاً. إنه الغروب، غروب الصباح، مثلما تغرب شمس النفوس، وشمس السماء، الناس والطبيعة متآزران، فكرت، هذا مزيد من التشاؤم، سأفكر بأشياء مختلفة تزاحمت الصور في ذاكرتي بسرعة، متسوّلة تحمل طفلها وهو عاري الرأس والقدمين، طفل آخر يسأل العون، فتيات يتسكعن بوجوه مصبوغة، رجل يحتج على فواتير الهاتف والكهرباء، خادمة لا تتعدى العاشرة من عمرها، سمسار يمتطي سيارته الفاخرة.‏

أبعدت الصور عن عيني، ذلك لا يعنيني في شيء، أن يسقط عامل من طابق عاشر، أو يموت جاري بمرض عضال، أن أصل إلى القمة أو أسقط إلى الهاوية، أن تدّق الطبول أو تقرع الأجراس، كل الأمور تنتهي أخيراً، يطويها الزمن والنسيان، ربما كانت في استمرار، غير أن اللحظة تختلف، تتبدل وتتغير، تحمل الجديد، نهاية لشيء، وبداية لآخر، تتكرّر الأحداث، لكن بصور وأزمان وحقائق مختلفة، قال لي أحد الزملاء يجب الابتعاد عمّا هو مؤلم، يجب أن نتذكر ما هو جميل، فكرت بالنسمة التي كان لها فيما مضى فعل السحر، والكلمة التي تحمل أعذب الألحان، كان كل شيء عذباً فأرى نفسي منخرطة مع الآخرين، في الفرح والحزن وأكتشف في كل مناسبة ما في أعماقي من حب وعطاء، وأتلمس في لحظات الهدوء سعادة هي في جلب البهجة إلى المحيط، وإزاحة الأسى، ومقدرة على المشاركة وأنا مشحونة بالثقة والأمل.‏

هاجمتني صورة الطائر الذي مات، شعرت باللامبالاة، انتقلت إلى غبرة السماء التي ملأت مساحة عيني، إلى الحر المشتّد، صدح صوت بائع الغاز، بائع الحظ، وقعت عيناي على ملصقات الجدران، مطرب وراقصة، متوفّون، لافتات، أشحت ببساطة، كانت قدماي تتجهان نحو مقر عملي، لا أحمل ذكرى أو أفكاراً.‏

دخلت الغرفة كالعادة، الجو مكتظّ بدخان السجائر، قرقعة أقداح القهوة، ردّت إحدى الزميلات تحيّة الصباح، تساءل آخر عن تأخري، نظرت إلى ساعة الحائط، ببساطة، جلست ألملم بعض الأوراق، وخلال دقائق كنت أشغل نفسي بالعمل.‏

بدا الجو ساكناً، للعمل نكهة العدم، كما لعقم الأيام، كل الأشياء متشابهة، الليل والنهار، الدقائق والساعات، أشياء تشبه التعوّد والتكرار، تشبه الملل، يتساوى الرفض والقبول، الحب والكره، التوقّف أو الاستمرار.‏

في تلك السكينة، التقطت عيناي شيئاً ما يعبر خلف النافذة، رفعت رأسي، كان طائر يروح ويجيء، ذكّرني بطائر الصباح، وبطريقة لا شعورية رحت أراقبه، كان مختلفاً، يبدو قوياً، يطير بحركة دائرية، يعود في كل مرة إلى الشرفة المطلّة على الغرفة، يخفق بجناحيه، فيبدو وكأنه يشارف على السقوط، غير أنه يصرّ على المحاولة والطيران من جديد بطريقته الهندسية اللافتة، وخلال ثوان هيِّئ لي أن مصيره قادم كما حدث للآخر، فكرت ببساطة، لماذا تموت الطيور هذا الصباح؟‏

نهضت. وقفت عند الباب. جذبتني حركة في أرض الشرفة، حدّقت، كان فرخ طائر صغير فقد التوازن، يتمايل بجناحين، ملأهما ريش أسود ناعم، بدا في حركته وكأنه يستجدي العون، ارتجف فجأة وقنط، كنت قد فتحت الباب وهممت بالخروج، نقلت نظري بينه وبين العش المبني بدقّة في الأعلى وبين الطائر الذي مازال يدور في الفراغ، كان رأسي يعمل بسرعة، وقد تجسّد المشهد لعيني، بيت وأسرة، أم وأطفال، راقبتهما لحظات وأنا مكتوفة الأيدي، كان الطائر يذهب في رحلة أمتار ويعود إلى الشرفة، واثقاً جريئاً، يرخي جناحيه فوق الصغير، يرفرف بقوة ويعود إلى البداية، في حين سكن هذا، والتصق بالأرض ليبدو أقل حجماً، برأسه المتمايل، وريشه الموزع بدقة، وجسده الضئيل المنكمش.‏

بدا الطائر مصرّاً حتى النهاية، وهيِّئ لي بأن المشهد قد طال، خاصّة وهو يعود في كل مرة أكثر جرأة وقوة. كان جميلاً بريشه الأسود اللمّاع، بجناحيه المصفّقين، وبإصراره، كأنه يريد شيئاً، أن يقوم بفعل ما، مازال الصغير في أرض الشرفة، يرفع رأسه إلى الأعلى ينتظر شيئاً، يصفّق بجناحيه الصغيرين، ويراقب الطائر الذي يتعمّد الدوران فوقه، قبل أن يعود ويكرّر المحاولة من جديد.‏

أتاني شعور أن الطائر في مأزق، ويقين بأهمية ما يقوم به. وجدت نفسي أغوص في التساؤلات، وخلال ومضة، دفعني شعور غامض نحوه، إنه يطلب المساعدة، بل إنه يريد الحياة، له هدف، وطريق، وبداية واستمرار، ودون أن أدري شعرت بشيء يهزّني، شيء يدفعني للمشاركة، اندفعت، هبطت نحو الصغير، وضعته فوق كفي، كنت أرتجف وأنا أهمس له بالاطمئنان، وأبسطه إلى الأمام مواجهاً للطائر المحلّق، وكأنني نقطة في مسيرته المرجوّة، انتظر اقترابه بتحفّز مشوب بالرهبة.‏

ازدادت السرعة فجأة، ضاقت الدائرة، اتجه الطير نحو راحة كفي، اقترب، لامس جناح الصغير، ابتعد ثانية ليعيد الكرّة من جديد، خفق قلبي بشدّة، شعرت بأنني نقطة الوصل، كل شيء في أعماقي يتدفّق، يأمل، تقلّصت أصابعي، تململ الصغير، وقف، رفرف قليلاً، اقترب الطير للمرة الأخيرة، لامس أصابعي بجناحيه، مال نحو الصَّغير الذي رفرف بقوة، ثم اندفع يلحق بالطائر بين دهشتي، وما حملته خلال الدقائق القليلة.‏

حضنت كفي، شيء في أعماقي يتدفّق، شيء أكبر من الدهشة والإعجاب، شيء يشبه الوجل، لم أكن أسمع شيئاً آخر، كان قلبي يخفق وهما يبتعدان، تلاحقهما عيناي بحب، كل الأشياء جميلة، السماء والشجر، الأرض والبشر، شعرت بالبهجة، حملت أشيائي وعدت، طالعتني الابتسامات العذبة، الآملة، تلك اللحظات، مرّ شريط طويل من الذكريات، بما فيها الحب والأمل، الحزن والشقاء والفرح، شعرت برغبة الاستمرار، برغبة المتابعة، كان لي قدرة على الطيران والتحليق، نظرت إلى الجميع بحب، وابتسمت.‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:24 PM   رقم المشاركة : 4
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

لن أشعل النار ثانية

لاح الجدّ في طرف الممشى الترابي.. خفق قلب مدى. أسرعت تركض نحوه مبتسمة.‏

مسح رأسها محتفظاً بابتسامته. كانت فرحة ومتحفّزة في آن واحد. تذكّرت أفراد الأسرة الذين يحبّونه ويحتفظون أمامه بالجد. تذكّرت حديث أمها وخوفها على صحّته، وقرارها بزيارة القرية التي تبعد عن المدينة بضعة كيلو مترات والتي يقطنها الجدّان، ولا يغادرانها إلا في المناسبات.‏

ردّدت بحب وبراءة قائلة:‏

ـ ألست مريضاً يا جدّي؟‏

ابتسم. مسح فوق رأسها بسعادة. أجاب:‏

ـ قليلاً..‏

ـ ألا تخاف البرد يا جدّي؟‏

ضحك. رفع الشال الذي حاكته الجدّة ذات شتاء إلى كتفه. وقال:‏

ـ هذا البرد يحمل إلي المداعبة.‏

بدت منهمكة وهي تتابع مؤكّدة:‏

ـ قالت أمي إن البرد يضرّ بكّ!..‏

ضحك. تساءل بتحبب:‏

ـ وماذا قالت أيضاً يا مدى؟‏

ضحكت. ردّدت:‏

ـ أنت لا تفكّر بالراحة. تعتقد أنك شاب.‏

ضحك الجد أكثر. بينما مدى تراقب ثيابه الخاصة بالعمل، وتنهمك بإزالة بعض بقع الغبار عن أطراف سترته. ردّدت بطريقة تشبه اللوم قائلة:‏

أمي غاضبة لأنك لا تتوقّف عن العمل.‏

ردّد بثقة:‏

حين أعمل أصبح شاباً، فأهزم المرض.‏

أخذ بيدها وسارا. قطعا الطريق القصيرة على مهل. كانت مدى تراقب قدميه وهما تتحاشيان الطين. تعتلي الحجارة المرصوفة التي تتلقّى خطوات الجد بصداقة محببة، وعلاقة ودّ طويلة. اتجها نحو زاوية البستان، حيث أقام منشأة صغيرة لصنع حجر الخفّان.‏

لم يمض وقت حتى كانا بين العمال. دبّ هرج قصير الزمن. بعض العمال يرحّب بهما. ابتسمت. إنهم أصدقاء جدّها. راحت تراقب عجينة الرمل والحصى وهي تخرج قوالب طريّة، وتنشر متباعدة ريثما تجف، وتفكّر. كيف ستمضي النهار؟ وتتسلّق الأشجار؟ حيث تنظم بين أغصانها المساكن، وتقيم مآدب التين الأخضر، شعرت فجأة بالفرح. تذكّرت مقام الشيخ (عبدالله).‏

يمسح الجد رأس مدى، يجيبها على كل سؤال. قال:‏

ـ كان الشيخ عبد الله رجلاً مميزاً.‏

تتضخّم الصورة في رأسها الصغير. يسحبها الجد من الشرود قائلاً:‏

ـ اختلف عن الآخرين بنهجه للحق والخير والصدق. كان يهتم بالجميع، ويحب الجميع، خاصّة الأطفال.‏

أجمل الأيام تلك التي تقضيها مدى في القرية، تمنّي النفس بعطلة مميّزة، فتخضع مع أمها لحوار حول المدرسة والاجتهاد، وتفوّق يرتبط مع تحقيق الأحلام. تحزن أحياناً أو تغضب، غير أنها تقول دائماً:‏

ـ سأنجح وأتفوّق وأذهب إلى القرية.‏

يقع بيت الجد في أجمل مكان في القرية، أو هكذا تراه مدى تستلقي في ساعات القيلولة أمام فسحة الدار الواسعة، حيث تتدلّى دالية العنب بإغراء لافت، فيخطر لها قطف بعض الحبّات الحامضة، وتدرك أن الجدّة التي حفظت عدد العناقيد ومواقعها ستنهرها بشدة. تضحك من أعماقها وتسترسل في التفكير، أو ترسل بصرها عبر الفراغات، أجمل ماكان يروق لها في ساعات الهدوء تلك اللحظات الصامتة. تبحر عبر السماء الممتدّة. تعيش المواعيد الجميلة قرب غيمة أو أكثر، فتعبق النسمة من حولها بعطر الورد والياسمين، وتهبّ من الطرف الآخر للبستان رائحة بخور... تتذكّر ضريح الشيخ عبد الله. تنهض. تفكر بزيارة سريعة إلى هناك.‏

كان الصيف حاراً،وأشعة الشمس محرقة، شعرت بسعادة وهي تتفيأ في ظل شجرة، فقد حملت لها تلك الوقفة مزيداً من الأفكار، إذ اكتشفت وعلى مساحات متفرّقة مزيداً من النباتات والأعشاب اليابسة، متجمّعة حول الضريح وبين الأشجار، وخلال وقفة صغيرة حمّلت نفسها، مسؤولية جلب البهجة إلى المكان. لم يطل الوقت حتى راحت تلبّي أهم قرار أملاه تفكيرها، مندفعة إلى قلع مايحيط بالضريح من عشب ونباتات، تمنع عنه‏

الجمال والتميز.‏

باءت محاولاتها بالفشل. لم يمنعها ذلك من التمادي، ازدادت صلابة أمام تصلّب الأعشاب، معتقدة أن الدفاع عن جمال الضريح، جزء لا يتجزّأ من إيمانها بعظمته، وما تلك المقاومة، سوى نوع من تجربة، تنتهي باختبار هام، يحقق صدق مشاعرها. كان لابدّ من التفكير، فتمهيد الأرض وتنظيفها أهم أمر. سخّرت عقلها وذهنها، إلى أن تحقّقت الفكرة، فأشعلت عود ثقاب في أقرب يباس حول الضريح.‏

لم يطل الانتظار، تعالت صيحات النار تعلن عن نهم وجوع شديدين. شعرت برعب، المكان ينذر بالغضب، بالعقاب، نار تبتلع الجذوع والأغصان، صدى وأصوات، ركض ورجال، الجد، العمال. الأطفال. النساء.، وكلهم يهرعون لإخماد النار، تصاعد خوفها. هربت. سقطت في فراشها، وكأنها تغطّ في نوم عميق.‏

نادها الجد حين عودته، بدا مجهداً، منهكاً، اقتربت مطرقة الرأس. قال:‏

ـ أخمدنا الحريق. خفنا من امتداد النار!‏

لم ترفع رأسها. تابع:‏

ـ كان عملاً ضرورياً!‏

لم تحرّك ساكناً. غير أنها تساءلت بعد برهة:‏

ـ أي عمل يا جديّ؟‏

ردّد واثقاً:‏

ـ نزع الأعشاب اليابسة.‏

تابع:‏

ـ إنهم يبحثون عمّن أشعل النار. إنه حتماً من الجوار.‏

لم تجب. تابع قائلاً:‏

ـ إنه الطمع.‏

لم تجب أيضاً. تابع:‏

ـ يحرقون الغابة بغية توسيع أراضيهم!‏

توسّعت مقلتاها.. نظرت نحوه بدهشة.. ردّدت بعفوية؛‏

ـ لا ياجدي!‏

ـ قال:‏

ـ هذا ما أعتقده!‏

صمت. كانت تستمد الجرأة. تساءلت بصوت خافت مشوب بالخوف متسائلة:‏

ـ ماذا سيحدث للفاعل يا جدّي؟‏

بدا جاداً. ردّد:‏

ـ يعود ذلك لدوافعه.‏

تجزّأت. قالت:‏

ـ كان يقصد خيراً.‏

ردّد بطريقة أقرب إلى المزاح:‏

ـ تبدين على معرفة به!‏

قالت بخوف:‏

ـ لا.‏

غادرها قائلاً:‏

ـ انتهت مشكلة الحريق. نحن ننتظر اعتراف الفاعل.‏

لم تلحق جدّها كعادتها، جلست تنتظر المساء. تستعيد زياراتها للقرية الجميلة. حبّها للأرض الممتدّة. لساعات اللعب. حواراتها مع جدّها. ذكرياتها قرب الضريح. فكّرت بالحريق.تراءت الصور. الناس. الجد. العمال. النار. الخوف. الهروب. طمع الجوار. قفزت ذكرى الشيخ عبد الله. كان يحب الأطفال. يحب الصدق. إنهم ينتظرون الاعتراف. كانت تقصد خيراً، وكان في أعماقها شيء يشبه القرار، يكبر وينتظر.‏

ذلك المساء. عانقها الجد بعد حوار طويل بينهما، وبعد أن نقل لها كل فكرة راودته خلال أحداث النهار. كان موقناً من أنها التي سبّبت الحريق، وواثقاً من اعترافها، غير أنه أراد امتحان مقدرتها على الصدق أولاً، ثم نفي الرعب من عينيها، وهو يستمع إلى صوتها جريئاً، قوياً، وبلا خوف.‏

كانت هادئة، بينما ترن في سمعها، آخر الكلمات، وهي تردّد بصدق:‏

ـ لن أشعل النار ثانية.. أبداً يا جدّي.‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:25 PM   رقم المشاركة : 5
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

قبعة جدّتي.

باغتني وميض حلم فتفاءلت. حلم يراودني في أوقات القلق والحاجة والوحدة. فيسهل الصعب، ووطء العيش، ويتحوّل كابوس الحياة وضغطها، إلى تجارب هامة ونقلة حياة غنيّة. فأضحك لذكرى الجرذ أو لمضايقاته، ويتحوّل تلصّصه عبر علب العدس والبرغل إلى مزاح، وتنقّلاته إلى أسلوب في التحبّب. أرى ابتسامته العريضة، وشواربه التي تتقن الرقص بعد وجبة غنيّة، من مؤونات المطبخ الحافلة بالكائنات الحيّة، وزغب الحبوب المتجمّع والملتصق على جوانب العلب. أستشهد بوقفته الصامدة إلى جانبي، خصوصاً بعد رحيل أمي، وسقوطي في الفراغ الذي لم يملأه سوى وجود الجرذ، ضيفي الخفيف.‏

التقت عيناي بعينيه في إحدى الليالي الطويلة. كان الفجر يقترب وأنا في رحلة مع الأرق والتفكير، كنت متحفّزة، متفائلة، مملوءة نشاطاً، يفوق قدرتي‏

عشرات الأضعاف.‏

أجلس بعينين مفتوحتين. أعبّ من هواء الغرفة نفساً مفعماً بالأفكار، وقد توصّلت إلى مواجهة هامّة مع تعايش لابدّ منه، إذ حللت عبر الحلم، أكثر ما ترتّب علي من ديون، خلال مرض أمي وعلاجها الضروري، فالهموم تلاحقني في ساعات القنوط، فأضطر للبحث عن طريق وأساليب مغرية، عبر دراسة وتمحيص، أؤجّل تحقيقها إلى فرص لاحقة، أزيّن بها الخطّة، أحيك الطرق، أحوم حول أهم مادّة تستحق الاهتمام والاحتفال اللائق، فتبرز في كل مرّة قبّعة جدتي.‏

تصبح أجمل وأهم، تستيقظ أحلامي حين أتذكّرها، أو حين أقارنها بقطع فنيّة نادرة، وأكتشف باستمرار طابعها الخاص، المميّز، أو أسترجع مواصفاتها عبر التذكّر، فجدّة جدّتي اعتمرتها في المناسبات، اختالت بها، افتخرت، إذ حاكتها أمهر يد، وصنّعها أسلوب فنّان. أنتشي مع ومضات الأمل، تُحلّ مشاكلي عبر احتفال أو استعراض. تدخل القبعة في مزاد، أو تهافت علني، كاحتفالات في الذاكرة، يُخضع مثيلاتها لما يعود بالنفع، أو الفخر، أو كليهما، فتحلو لعيني القبّعة، أهرع إلى الدرج الخشبي، أحاورها، أرفق بملمسها. أصل إلى قناعة بتغيير جذري في أمور حياتي، أستجلب الطمأنينة، إذ سأفاجئ الجميع بمسببات الراحة.‏

أجفلت في اللحظة التي التقت عيناي بعينيّ الجرذ، غير أنه لم يجفل، استقبلت أفضل فكرة هاجمتني، وأنا أشحن نفسي بتهديده. أزحت الغطاء بقوّة أثبت وجودي. حملقت بعينيه متحدّية. تحفّزت. صرخت. لم يعبأ بي. كان عند الباب الذي لا يبعد عن السرير كثيراً، جريئاً، قوياً، حرّك ذنبه وشاربيه، تملّكتني جرأة، نهضت، أصبحت في منتصف الغرفة.خطوت. خطا. تحفّزت، تحفّز. أدار ذنبه وقفز. قفزت وراءه، كان سميناً، له رأس وذنب متعاكسان في الحركة. أدرك تعقّبي. تباطأ، أصبحت المسافة بيننا واحدة. اقترب من مملكته العظيمة. دخل المطبخ. تخفّى فوق أحد الرفوف، ليظهر شاربه مهتزّاً بثقة. وخلال رهبة قادمة، تملّكني شعور بالضحك واليقظة معاً. تسمّرت في مكاني.‏

دخلت اللعبة معه. استطعت التوصّل إلى عالمه الليلي، هو أرق وضجر مثلي، يهوى اللعب والمزاح. أقصى أحلامه تنتهي هنا، حيث يمتلك أسباب العيش، وأقصى أمانيّ تدور حول شعور مواز لأحلامه، شعور ينهض بي، يرفع الضغوط عن كاهلي، أقهر الحاجة، وأقهره، فقد تمادى أكثر، وكبر أكثر، أصبح أكثر جرأة، ونداً لي، يراقبني يتحداني، شعرت بالخوف. هربت. أغلقت باب المطبخ. عدت أدراجي نحو السرير.‏

لم تكن القبعة وليدة المصادفة، بل تخضع لمدّ وجزر، بين الحاجة والاكتفاء. أول الشهر وآخره. تتكرّر وتصبح هاجساً وحلماً، وفكرة مؤجلّة من خوف قادم، أو مناسبة أهمّ، فشقوق البيت تهدّدني، ومؤجّره يهدّدني، والجرذ مذ أصبحنا أكثر من كائن، ومذ خبر الحياة، وتعلّم، واعتاد السمّ، وتحاشى المصيدة التي وصفها جزّار الحي بالخبرة والاحتيال، أيضاً يهدّدني.‏

كتبت رسالة في إحدى عشيّات التفاؤل، إلى صديقتي التي تسكن بلداً شقيقاً، وتعمل لكسب المال، حدّثتها عن أحلامي القادمة، عن الفكرة، عن شوق وخطط لتحقيق الأمنيات. حدّثتها عن قبعة جدتي. وصفتها، لونها، عمرها، صناعتها. ستهبط الثروة ذات يوم وأغتني. لم يفتني تذكّر الجرذ، الذي سيهاجر في أول مناسبة، وختمت الرسالة بالتمنيات.‏

غفوت على حلم عذب الصورة.. عوالم لا حدود لأفراحها، قبعة ومزاد وجماهير، أصابع تتسابق. أرقام تعلو، وجوه تتحفّز. عيون تنتظر، وأنا بين الحقيقة والحلم، بين قبعة جدتي والثروة، العوز والاكتفاء، الحاضر والمقبل، استيقظت.‏

بدا ما حولي، وعلى اتساع عيني، وحشاً ضخماً، غولاً بشعة، فركت عيني، هززت رأسي، قلبي يخفق، أحلامي تنأى، تساقطت آمالي دفعة واحدة. نهضت كالمشدوهة، ألاحق آخر محاولات صديقي الجرذ، الذي ملأ شدقيه بطرف القبعة، وكان يهرول. يطوف في البيت، وزواياه، زرع الأرض، المطبخ، حاول دخول الجدار المتصدّع، مجاهداً، مناضلاً، مخلفاً لي الأسى، وبقايا إرث اندثرت عنه المعالم والأحلام.‏

أغمضت عيني، ورحت في إغفاءة عبر الحلم الذي لا أدري إن كان سيتجدّد.







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:27 PM   رقم المشاركة : 6
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

نظرات ليلى الحزينة

يجول سمعي عبر الليل. يهرب بي إلى الزوايا. أبحث عن الأمان. أعود. أنصت. ألتقط الكلمات. يهتز زجاج نافذتي. يعصف بي الوجع. يحاصرني الألم. أخبئ عيني. أبتعد. يطل وجهها بلا ألوان. يشيع الرعب في نفسي. يهزّني. أقفز بقدمين عاريتين. أشق الستارة. أبحث عن وجه ليلى. تقابلني الشرفة الموصدة:‏

ـ سيزوّجونني!‏

ـ يجب أن لا يحدث.‏

ـ ربما يحدث.‏

ـ مستحيل ستنتظرينني!‏

ـ لا عذر لي.‏

ـ اخلقي عذراً .. أرجوك.‏

يناديني الصوت. أختبئ بذعر. تهاجمني قصص حديثة ومشابهة. أجفل. ستتزوّج ليلى. أنكمش. تتردّد في أوصالي أصداء المستحيل. أقف مشدوهاً، مسلوباً، يغدق الليل صور الطفولة، صوراً أزلية الملامح.‏

ابتسم لي أبوها ذات مرّة، كان يناديني بالشقي. سألني وكنّا على أبواب الامتحانات. قال:‏

ـ كيف استعدادك؟‏

ـ لابأس!‏

ـ ستتفوّق ليلى عليك!‏

ـ أنا مجتهد.‏

ـ سنرى!‏

ناداها من بيننا نحن الأطفال. حضنها. أسندت رأسها إلى كتفه. سألها إن كانت ترغب بشيء ليلبيه. عانقها بسعادة، بدا مبتهجاً قبل المغادرة، وهو يملي علينا ضرورة مراعاة الفتيات. كان يضحك من أعماقه، وكان أخوها يتوارى أحياناً، أو يتحفّز لنقاش جريء، فيرد بطريقة لا تخلو من الغيرة. قائلاً:‏

تعودّت وجود ليلى بحكم علاقة الجوار بين أسرتينا، وتعودّت هي وجودي، وحين هاجمتنا مشاعر الحب لم نفاجأ. كان تأكيداً على استمرار العلاقة بيننا، واعترافاً ترجمه الصدق الطويل. لا أذكر أنني عانقتها عمداً، أو بعد تخطيط، كانت لقاءاتنا عفوية، لا تتعدّى اللمسة، فتشعل في جسدي رغبة اللقاء، وأدرك أنها تشاركني المشاعر، فنغرق في التحام قصير. تهرب على إثره، وأوقن أن اللقاء سيحدث. أعدّ سنوات الدراسة، أفكر بالعمل، بالمستقبل، وتهاجمني فكرة الزواج. أفرح. أخاف. يتدخّل وجه ليلى نقياً، صافياً، ( لا أريد شيئاً يا أبي). كان الأمل يدفعني للدراسة، لتحقيق الحلم، خاصّة وأن أسباب المعيشة في بيتنا، تضني أبي باستمرار، وتوقعه في متاهات التفكير، فيمنّي النفس في ساعات الأمل، بيوم أشاركه عبء الحياة والمعيشة.‏

مازلت في مكاني، أستند إلى الجدار الباهت، وعند الوسادة غفت بعض أوراق شقيّة تفتقد اللون والأمل، كوجه ليلى المستنجد بي.‏

ـ إني محاصرة.. لا عذر لي.‏

ـ افعلي شيئاً.‏

ـ وأنت؟‏

ـ سأفعل.. ليس الآن.‏

بكل أشيائها تقتحم ضعفي. أخاف. أرتجف. أفكّر بأبيها الذي يشابه أبي، بظروف حياته وأحلامه، وشعوره بالمسؤولية، كان طيّباً كأبي، حدّثاني معاً عن ليلى التي ستتزوّج. استمعت إلى مؤهّلات الزوج. فكّرت بمؤهّلاتي. تراجعت. منّيت النفس بموقف ليلى التي ستصرّ على الرفض. كنت واثقاً أن حبنا محصّن ضدّ الصعاب، والهجمات، ولسوف يخترق صوتها جميع الجدران بجرأة وقوّة. عانقت الأمل تلك الليلة. كان وجهها يملأ ساحات عيني. وكنت أكتب لعينيها أجمل الكلمات. سطّرت الشعر والقصيدة. عزفت نشيد النصر، فلن يتجرّأ الليل على حبنا، لن يتجرّأ شيء، وكنت أشبهها بفراشة تواجه الريح، ولا تخشى العواصف، فأعدها بالفرح، والحب، والأمل، وحين غفوت. كانت صورة ليلى الطفلة التي لا يرد لها طلب تزغرد في أوصالي، وتملأ جوانحي.‏

هل كنت أحب ليلى؟ هل كانت تحبني؟ أذكر أنني استيقظت ذلك الصباح على أولى الزغاريد، تبعتها العشرات. أصوات. بهجة. أفراح تنبئ عن حدث سعيد. تعلن مجيء الفرح، وقوعه، وكانت ليلى ستتزوّج.‏

أذكر أنني سقطت وكأني أهوي في فراغ. كنت نقطة في دوار، يأخذني عبر دوائر بعيدة، لا أعرف الرجوع، لا أعرف الاستمرار، كانت أذناي تتلقّف قذائف الزغاريد، بينما الدوي يشقّ الحواجز. ويقطع المسافات، يصل كل الأسماع، ويعلن للمرّة الألف أن ليلى ستتزوّج، وترحل، وتغيب.‏

********‏

سألني والد ليلى في إحدى جلسات المساء الهادئة، وقد حنّ إلى الذكرى قائلاً:‏

ـ اعتقدت في يوم مضى، أنك وليلى على اتفاق سينتهي بالزواج، وأبعدت الفكرة حين لم تحرّك ساكناً.‏

ضحك والدي الذي تجلّى حنينه قائلاً:‏

ـ أتاني شعور مشابه أيضاً، انتفى مع صمت مطبق حلّ على الاثنين.‏

نظرت إليهما طويلاً، كانا قد شاخا، نهضت أغادر المكان، ونظرات ليلى تلاحقني، كأنها تحمّلني ذنوب المقبل من الأيام.‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:28 PM   رقم المشاركة : 7
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

هــو.. وليلى.

أشار إلى صدره بأصابع دقيقة. قال بصوت أجشّ:‏

-أنا رجل ناجح، لي اسم وهوية. أتحرك. أكبر. أما أنت؟ تابع باستخفاف:‏

-أنت شبح، لا اسم لك ولا عنوان.‏

أصلح وضع المرآة. حدق في العينين المنفرجتين. تنبّه إلى نظرات الرجل القابع خلف الصفحة الزجاجية. ابتعد محتفظاً بآخر انطباع. ارتمى في فراشه وهو يتمتم:‏

-أكره هذه الصورة.‏

*******‏

منذ أيام وهو على حالته هذه. يستلقي في الفراش. ينهض. يواجه المرآة. يحدث نفسه. يفكّر بليلى التي غادرته. يحاورها. تهرب منه. يناديه رجل المرآة. ليلى محقّة. ينتفض. إنه يريدهما معاً. ليلى ورجل المرآة.‏

دخل الغرفة يسترق الخطوات. أغلق الباب بتأن. يتبعه ظل. يسبقه. يدخل الصفحة الزجاجية. رجلان متحفّزان. يفصل بينهما جسم لامع.‏

آثار الليل أنهكت الوجه والعينين. حدّق إلى الشعر الأشعث. إلى الابتسامة الهازئة. انقبض. أدار وجهه متمتماً:‏

-لقد قررّت.. وتابع:‏

-قرّرت الاستمرار في عملي.‏

صمت. عاد ينظر إلى المرآة. بدا الرجل غاضباً. كان قد اتهمه بالأمس. وصف أعماله بالسطو. كانت ليلى تشارك رجل المرآة الرأي. إنهما يتّهمانه معاً.‏

كان جاداً ومستغرباً. إنه رجل مختلف. حباه الله بالذكاء والفطنة. أخضع تجاربه للعمل، لكشف الخبايا. إنه قوي بالمعرفة، ويعرف ما يريد. لا يهمه رأي رجل المرآة، أو ما تقوله ليلى. أتاه صوت واثق. قال:‏

-ألا تريد ليلى؟‏

صمت. تذكّر لقاءاته معها. أصبحا يتشاجران في كل لقاء. هي ورجل المرآة متآزران. استرق نظرة من المرآة. فكّر:‏

-سيكون الجدال عقيماً. لن نتّفق أيضاً.‏

ارتدى سترته. خرج.‏

في الطريق أيضاً تذكر ليلى. هو لا يذكر زمن وجودها في حياته. شبّهها بنفسه، بقطعة من كيانه. لم يلحظ التصاقها به. لاحظ مغادرتها. أدهشه ذلك التلازم بين الاكتشاف والمغادرة. رجل المرآة يصرّ. إنها الأجمل. برحيلها يرحل الحب والخير والجمال.‏

*******‏

منذ زمن لم يعترض حياته شيء صعب. يصل دائماً إلى مبتغاه. لا يعنيه المستحيل. لا تهمه العقبات. مذ شبّ وعارك الحياة. مذ عرف التملّك ورسم لنفسه الطريق. أما طفولته؟ ابتسم للذكرى. حين أحب مرآته. تلك اللحظات المدهشة. مرآته كانت المنفذ. والقوة. كان طفل المرآة يشبهه. يحبّه. يهمس له بالأسرار. يشكو آلامه. كلما تذكّر يشعر بالأسى. كان طفلاً بائساً. لا يحب التفكير بالأطفال البائسين. لا يحب هذه الذكريات. تقلّص وجهه. لوّح ذراعه في الفراغ. شتم رجل المرآة الذي تغيّر. سمعه يدافع عن نفسه. ويقول بسخرية (الألم يلد الحب والعطاء، وآلامه هو أنجبت مزيداً من الآلام).‏

عاد إلى البيت منهكاً. لملم بقايا الأمس. صحون. زجاجات. ألقى نظرة على الغرفة. أجواء تعبق بالروائح. ألقى نظرة فيما حوله. النوافذ المحكمة. الستائر. استغرب تجاهله لكل ما يتعلّق بالعمل. انقبض. أغلق الباب. وهن في قدميه. في جسده. ارتمى في الفراش. غاب عن عمله أياماً.‏

*******‏

أزاح الغطاء عن جسده. لم يكن مرهقاً أو حزيناً. اتجه نحو المرآة باسترخاء. ألقى نظرة سريعة. أشاح. فكّر! لماذا فقد ليلى؟ لماذا فقد أشياءه الجميلة؟ مرّت الصور كشريط واه. نهض متثاقلاً. كان في ذهنه رجل المرآة. اتجه نحوه. نظر بعينيه طويلاً. قال بأسى:‏

-لماذا تكره نجاحي؟‏

-هذا صحيح! والأسباب كثيرة.‏

تململ. قال:‏

-أنا لا أستغلّ أحداً. لست أنانياً. لست وصولياً. أريد التعويض للطفل الحزين الذي يسكن أعماقي!‏

شعر رجل المرآة بالغضب، غير أنه تمالك نفسه وهو يؤكد قائلاً:‏

-طفلك بحاجة لأمان. للحب.‏

طال مكوثه في البيت. أحكم إغلاق النوافذ والأبواب. لم يشأ الرد على الهاتف الذي يرنّ باستمرار. كان جسده حاراً وعيناه ذابلتان. مشتت الذهن والتفكير. منهوك القوى، وحين ارتمى في الفراش، لا يدري كم مرّ من الوقت. حلم بكوب ماء، ويد تمسح فوق جبينه. حلم بكلمة صدق وفرح تجلبهما الحبيبة. برد في جسده وصقيع. وهن ووجع. لماذا يرتجف؟ دثّر جسده. رأسه. لم لا تكون ليلى زوجته؟ حاول استرجاع أحاديثها، مواقفها. كانت تشبه رجلاً في الذاكرة. تشبه رجل المرآة، وكأنهما اتفقا منذ الأزل.‏

-حدّثني عن عملك؟‏

-أصنع المعجزات! أسيطر على من أتعامل معهم. أنا الرابح باستمرار.‏

سألته بحزن:‏

-كيف؟‏

-إني أحفظ اللعبة جيداً. أحوم حول نقاط الضعف. أخطط. أستغل الظرف.‏

امتلأت عيناها بالدموع. كانت تفكر بالخير والحب، بالصدق والعطاء، وكان يفكر بامتلاك كل شيء، طالما حفظ طريق الوصول.‏

*********‏

لا يدري لماذا تهاجمه ذكريات الطفولة. كان يحلم باللعب كبقية الأطفال. يشتاق لحضن أم. لتمرّد. لعصيان. للمطالبة بما يحب ورفض مالا يحب. كان يعرف أن للأطفال أمهات يغفرن الذنوب، ويتحملن الصعاب، فيلجأ إلى تلك المرآة. كان يريد لنفسه أماً. لماذا ماتت أمه؟ ولماذا تزوج أبوه؟ قال له: (هي في مكانة أمك). لم يصدّقه. اختلف معه طفل المرآة. كان يحثّه على المبادرة:‏

-ثابر على الحب.. إنه عدوى.‏

ويصمتان من جديد.‏

حلم في طفولته بيوم يمسح فيه حزن الأيام. كان لا يغفو قبل التسكّع في الأزقّة. يصبح رجلاً هاماً. يأخذ بيد طفل، بيد شيخ. يعاقب الظلم. يقتل الأحزان.‏

بكى ذات مرّة، وقبل أن يغفو، حلم بيد أمه الغائبة تمسح جبينه. كان في عينيها نظرة تشبه الاعتذار. قال له طفل المرآة في الصباح:‏

-أمك لم تمت.. تراقبك من بعيد.‏

صمت. لكنه لم يصدّقه.‏

******‏

مذ دخلت ليلى حياته، وهو يشبّهها بأمه التي لا يذكرها. ربما تحمل ملامحها. كانت أمه جميلة، يجب أن تكون جميلة، وليلى جميلة أيضاً.‏

ها هي ليلى لا تفارق ذاكرته. كأنها أمامه الآن. بابتسامتها العذبة. بعينيها الصافيتين. بأحاديثها. بأحلامها. كانت تحلم بطفل ينجبه الفرح. طفل ذكي الملامح. يكبر، ويكبر معه الحب.‏

قال له أبوه ذات يوم:‏

- حين مرضت أمك، حاصرها الهم.‏

تساءل ببراءة:‏

- لم؟‏

- كانت تحبك وتخاف عليك.‏

اغرورقت عيناه. تابع أبوه:‏

- حاول أن تسعدها!‏

تساءل ببراءة:‏

- كيف؟‏

- كن طفلاً طيباً.. ورجلاً طيباً.‏

*****‏

لم ينم تلك الليلة، ومع استمرار الذكريات، أحاط به أكثر من وجه. كان موقناً من وجود أمه، وطفل المرآة، وليلى. هيئ له أن الجميع بصحبته، وليلى التي لم تفارقه. رافقته حتى الصباح. مسحت جبينه أكثر من مرة. أحضرت له الماء، سامرته. وكان مندهشاً ومغتبطاً.‏

استيقظ باكراً. آثار دموع فوق وجهه. حرّك ذراعه وقدميه. نهض. ها هو يخرج من حلم طويل. استعاد تفاصيل ليلته. جالت في خاطره أفكار تحبّها ليلى، وتحبّها أمه. شعر بالفرح.‏

مرّ الصباح. اغتسل. شرب كوباً من اللبن. استرخى على مقعد جانبي. أطال المكوث. أطال التفكير. منذ زمن لم يلحظ ما يراه الآن.غرف البيت المتّسعة. لوحات جدرانية. قطع فنية. مناضد. كتب. ابتسم. تسلّلت إليه البهجة.‏

التقت عيناه بعيني الرجل في المرآة. ملامح تشبه الطفولة. بادله ابتسامة عذبة. سرت الطمأنينة في نفسه. منذ زمن لم يبتسم لـه رجل المرآة. كرّر المحاولة. تكرّرت الابتسامة. لا يدري كم مرّ من الوقت. يذكر أن الغرفة كانت تدور. خاف في البداية. أراد الهروب. قبع في إحدى الزوايا.‏

مسح وجهه براحة كفّه. أغمض عينيه. فتحهما. تأكد أن أمراً غريباً قد حدث. حدّق إلى المرآة طويلاً. أجفل. كان إلى جانب وجه الرجل القابع في المرآة وجه ليلى.‏

لم يشك من أنه وحيداً أبداً. غير أنه التفت يبحث عنها. اقتربت منه بثقة. فتحت ذراعيها. ضمّته. عانقها فرحاً.‏

نظر إلى المرآة ثانية. اختفت ليلى. وجد الرجل الذي يشبهه مبتسماً. أشار إلى أن ليلى تعيش في أعماقه. ابتسم في سرّه مصرّاً على الكتمان. فلن يصدّقه أحد، غير أنه كان واثقاً ممّا حدث، ومن وجود ليلى التي أصرّت على الانتصار.‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:29 PM   رقم المشاركة : 8
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

الزوجة والبحر

كان الجو حاراً، رغم بعض النسمات الصافية.. تمتم زاهي: (هذا يوم جميل) البحر، الشمس، الرمال. هكذا أحب نهاره، وهو يستلقي إلى جانب زوجته التي تحرّرت من قيود الملابس، وراحت تستمتع بالشمس.‏

ثمّة موسيقى تتسرّب من هنا وهناك.. فكّر (إنه البحر.. فسحة للفرح، وحالة للتغيير) لقد اعتاد بين حين وآخر على هذه الأجواء. حيث الأولاد يمرحون، والصبايا ينطلقن بلا قيود، أو يبتهجن حين يلامس الماء أجسادهن، وحيث يتحوّل الكبار إلى أطفال، يتراشقون كرات الرمل، أو رذاذ الموج.‏

أغمض زاهي عينيه. نسمات دافئة تلامس جسده، وشعور بالانتعاش يسري في جنباته. خيّل له بأنه يركض، يلعب. باستطاعته رمي نفسه إلى أعمق نقطة في البحر. هنا يتذكّر سنوات المراهقة، والحب. يحلم بالحبيبة، يناديها، يركض وراءها، يسقطان في الماء، يغوصان، يكرّران اللعبة. تصبح الأشياء أجمل، تختلط الابتسامات بدفء الشمس، ورذاذ الماء. دائماً يشتاق للحب، لحضن الحبيبة، سيرمي في سمعها كلمة غزل، وربما اقتنص لمسة، أو كلمة، أو كليهما.‏

هكذا ينقله البحر إلى حالات من الصفاء، يجدّده، يحييه، فيتدفّق شوقاً، البحر عالم من حياة، من فرح وبهجة، له خصوصياته، وأحلامه، بعيداً عن اليابسة. هنا تتقاعد المدينة، تصبح نائية، بهمومها ووجعها، يشعر في كل مرّة بالتفاؤل، والولادة من جديد.‏

تحرّكت زوجته. رفعت نظّارتها. ضمّت أجفانها. اختطفت نظرة من المحيط، من الشمس، من الشاطئ. بدت وكأنها تلتقط الصور، ثم عادت للإغماضة من جديد.‏

مرت الساعة الأولى. كل شيء هادئ، عدا صوت الأمواج، والموسيقى الهادئة. راح يتأمّل ما حوله، الأطفال، الصبايا، الشبّان. لفت انتباهه شاب، لوّحت الشمس جسده، يبدو مغروراً بمشيته، فيذرو الرمال مع كل خطوة، يتلفّت ذات اليمين، وذات اليسار، وحين يتوقف، يثبت في الأرض كجذع صلب، ويمسح البحر والشاطئ بنظرات طويلة وغامضة. لاحظ زاهي أن الشاب مفتون بنفسه، بعضلات جسده، وربما بلون بشرته. أشاح مبتسماً. فكّر بعذوبة الموسيقى والبحر. أغمض عينيه، وعاد للاستلقاء.‏

جميل كل شيء. فكّر زاهي وهو يستمع إلى حركة البحر، وخطوات الشاطئ، نسمات ووشوشات تعبر سمعه، فينتشي. كانت الحرارة تتصاعد، وثمة وجوه وأجساد تتدفق. كان الشاطئ والبحر يغصانّ بالبشر، كل يبحث عن الهدوء، والاستمتاع بالدفء، إلى أن تحوّل المكان إلى لوحة تغصّ بالحياة.‏

في غمرة ما هو به، كان زاهي يستمع إلى خطوات العابرين جيئة وذهاباً، ويروق له تآلفها وتداخلها مع أنغام الموسيقى العذبة، فتأتيه كالهمس، كان يعدّ الخطوات ريثما تبتعد، خطوة.. اثنتين. ثلاثاً. أربعاً. ويعود للعد من جديد، هذه المرّة أتت الخطوات أكثر جرأة، فقد صفعته النسمة مع الرمل المتطاير، حاول متابعة العد، توقف، أصغى السمع، كان صوت الخطوات قد توقف، حسب مسافة آخر خطوة، أجفل، فأحد ما على مقربة، فتح عينيه على عجل، طالعه الشاب الذي كان مفتوناً بعضلات جسده، وهيِّئ له، أنه أكثر ضخامة، كان زاهي يراقبه، وكان هو منشغلاً عنه بأمور أهم.‏

مازالت الزوجة مستسلمة للإغماضة، نظر زاهي إليها، وعاد للشاب الذي على ما يبدو قد فتن بها. لم يصدّق زاهي في البداية، تابع مواقع نظراته، كانت عيناه على الخصر، ثم الردفين، فالساقين، وحين هبّ واقفاً، كان هذا يغادرهما، وكأن شيئاً لم يحدث.‏

مشى زاهي بضعة أمتار. توقف. شعر بأن الشمس ترسل نارها. جسده ينضح عرقاً، ويشتعل مع كل خطوة. أكثر من الحركة، وقد عجز عن التفكير. زوجته في إغفاءتها الهادئة، والشاب قد غاب بين الأجساد، وهو الذي حلم بالهدوء. شعر بأنه حبة رمل تذروه الرياح.‏

عاد إلى مكانه. جلس قرب زوجته وقد عقد ذراعيه. تفرّس فجأة في جسدها. كررّ ذلك عشرات المرات. شعر صعوبة في التفكير. بدا كل شيء تافه. الوقت. الاستمرار. مرّت أمامه إحدى الصبايا، لاحظ تناسق جسدها، جمال خصرها، غادرها ببساطة. كان يراقب تفاصيل زوجته. هاجمته الذكريات، اللقاء الأول، الثاني. هاجمته نظرات الشاب. شعر بالغضب.‏

تململ. نفض الرمل عن جسده. تأفّف. ضرب كفّاً بكف. حاول إصدار أكثر من صوت، ونظر إلى زوجته التي لم تحرّك ساكناً. شغل نفسه بعقد المقارنات، قبل مجيء الشاب وبعد مجيئه، تأفّف بعصبية، وراح يرسم فوق الرمال أشكالاً، ويمحوها ثانية، حاول الانسجام مع صوت الموسيقى، مع النسمات الدافئة، تلك اللحظة لاحت منه التفاتة، وجد الشاب عن بعد، يتنقّل أو يقف، راح يراقبه بلونه الداكن الجميل، بمشيته الواثقة، إنه يطيل النظر إليهما، وربما يتّجه نحوهما. شعر بالغضب. نظر إلى زوجته، فكّر. هي ملك له، يحارب من أجلها، يقاتل من أجلها. ألقى نظرة عليها، كم هي رائعة؟ وأجمل نساء الشاطئ.‏

اقترب منها هامساً:‏

- هل أنت نائمة؟‏

- لا.‏

- الشمس محرقة. انتبهي.‏

- ....‏

- بشرتك بيضاء. قد تحرقها الشمس.‏

- ....‏

هل تسمعين؟‏

- يا إلهي.. ما بك؟‏

- اعتقدت أنك ضجرة.‏

-لا.. إن كنت ضجراً، اذهب إلى الماء.‏

- وأنت؟‏

تأففت. غيّرت من وضعها. سقطت حبّات رمل من أماكن متفرّقة. أحكمت وضع نظارة الشمس، وعمّ الهدوء.‏

أحسّ زاهي بالقلق، الثواني طويلة، والوقت بطيء. راح ينقّل نظراته هنا وهناك.‏

لأول مرة يكتشف تفاهة قتل الساعات، إن كان ذلك تحت الشمس، أو في الماء، أو فوق الرمال.‏

استفاقت المدينة بجمالها. أصبح بيته أهم أماكن الراحة والهدوء، لكن! كيف سيبرّر لزوجته قراره المفاجئ؟ ماذا سيقول لها؟ أطال النظر إليها، وعاد يراقب الشاب الذي غيّر مساره، وانخرط بين الأجساد المنتشرة في كل مكان.‏

في غمرة ما هو به، سحبته جلبة وأصوات. رفع رأسه. كان بعض الشباب يتجمّعون تباعاً. لاحظ وجود الشاب بينهم، ولاحظ أنه يغيب بين الأجساد ويظهر. ويرفع ذراعه أو يسقطها. يحني رأسه ثم يعود للظهور. خفق قلب زاهي. نهض. أسرع لمعاينة ما يحدث. وعن كثب وجد الشاب يتلقّى الصفعات، بين تهديد وتوعيد، إذ لم تنج امرأة أو صبيّة هذا الصباح من معاكساته، وغسْل جسدها بنظراته الدنيئة.‏

همّ زاهي بالمشاركة، وصفْع الشاب كان قلبه يخفق بقوّة، وقدماه تتقافزان بجرأة. إنه معني كغيره. سيلقنه درساً لا ينساه. إنه يشتاق لشتمه، وصفعه، وكان يهجم ليحقق رغبته. حين تعالت فجأة أصوات، وموسيقى، وخرج من الصالة القريبة رجال ليسوا بلباس البحر، أسرعوا نحو الجلبة، وبهدوء فرّقوا الناس، فالشاب مريض، وضعيف الإدراك كما تثبت تقاريره الطبّية.‏

ابتسم الشاب للجميع، وبين لحظات الغضب والتحفّز والذهول. انتابت زاهي موجة من الضحك. ضرب كفاً بكف وقد تهدّلت ذراعاه. عاد أدراجه نحو زوجته التي كانت تجلس متصالبة الذراعين. ترقب المشهد بابتسامة عذبة، فبدت بعينيها الصافيتين المندهشتين أقرب للطفلة، أما وجنتاها الملوّحتان بدفء الشمس فكانتا أكثر نضارة. تذكّر يوم التعارف الأول. تمتم في سرّه: (مازالت جميلة). ابتسم للملاحظة. أدار وجهه للشمس. تمتم ثانية (فسحة للراحة.. وحالة للتغيير). ألقى نظرة أخيرة على الزوجة المستسلمة باطمئنان. كرّر الملاحظة (مازالت جميلة) هزّ رأسه، واستسلم للإغماضة من جديد.‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:31 PM   رقم المشاركة : 9
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

شـــــــجرتان وعصــافير

أسلمت جسدي إلى قبضة الليل التي هبطت ندية على قلبي، وسرت جوار المرأتين.‏

كان الضوء ينهمر من قمر سماء رائقة وينتشر بين الأماكن الداكنة لضفتي النهر، وكانت الجبال مفعمة بعشب مبلل أحسست رائحته تدهمني، مثلما أحسست رائحة المرأة الطويلة التي ذكرتني برائحة الليمون.‏

لعل الحلم هو الذي يقودني في عراء هذا الليل البارد الوضيء، أو لعل سحر المرأة الطويلة ذات العينين الصغيرتين المسكونتين بنداء الماء، هو الذي قادني إلى هذا المكان بحثاً عن خلاص الروح من سجن الجسد المظلم.‏

قالت المرأة القصيرة:‏

-الشوارع نظيفة وتلتمع كالأسماك الرشيقة في ضوء القمر.‏

قالت الطويلة:‏

-أحببت هذه المدينة السياحية، كنت أتمنى لو أمضينا فيها أكثر من ليلة. قلت:‏

-هي ليلة جميلة رغم كل شيء.‏

قالت الطويلة:‏

-ليلة يتيمة لم تكتمل.‏

قالت القصيرة:‏

-أجل، ليلة أشعرتني بالحزن، كنت أتوق إلى الرقص ونحن داخل المسرح.‏

قالت الطويلة:‏

-أنا أيضاً شعرت بدمي يدعوني إلى الرقص، أعترف بأني قد شعرت بالندم عندما غادرنا المسرح دون أن نرقص.‏

قلت:‏

-الأسلاك الشائكة تطوق حياتنا، وهكذا نسلم أنفسنا للفناء.‏

قالت القصيرة وعيناها تومضان بالأسى:‏

-لماذا لا ننسى نحن الكتاب عقدنا الاجتماعية، أقصد لم ندع الآخرين يحجرون على حريتنا؟‏

قلت:‏

-أحياناً يظلم الإنسان نفسه دون أن يدري.‏

قالت الطويلة وقد اتقد وجهها بحمرة قانية:‏

-إن الإنسان لنفسه لظلوم.‏

وضحكت فازداد الوهج في خديها الناعمين.‏

ضحكت القصيرة وضحكت وقلت:‏

دعونا من هذه السياط التي تجلدنا ولنرحل في هذا الحلم المرتعش تحت الضوء والقمر ونداء النهر والجبال.‏

قالت الطويلة:‏

-في الصباح سنرحل إلى مدينة أخرى، وستبقى وحيداً.‏

تطلعت إليها وبهدوء قلت:‏

-أستطيع أن أقول بأن مملكتي أعماقي وفضائي وخطاي عندما أكون وحيداً، هل تدركين أن وحدة بعض الناس في صالحهم؟‏

قالت القصيرة:‏

-فيك الكثير من روح الشعر.‏

وافقت الطويلة:‏

-فيه الكثير من طفولة وجنون الشعراء، هل راقبته في صالة المسرح وهو يتدفق كالماء على المائدة التي جمعتنا؟‏

أجابت القصيرة:‏

-كنت أتمنى لزوجي تلك الحيوية.‏

للتو استحضرت جلوسنا على المائدة في زاوية المرقص، استحضرت جسدي الذي كان يئن من حمى الجوع إلى وجه المرأة الطويلة الشقراء والذي أطلق ثيرانه الوحشية، وربما زغردت حينذاك بكل رعونتي، وربما شعرت بروحي تغادر سجن الجسد، ربما فعلت أشياء أخرى وأنا تحت وطأة كؤوس البيرة الخمس.‏

أعرف بأنني حاولت أن أضع كفي على ظهر المرأة أو ألمس ذراعيها العاريتين متقصداً، وأعرف أن صوت موسيقى الرقص لم يكن ليعلو على صوت الدم الخافق في نهايات أصابعي وأنا أتحسس ظهر المرأة اللدن، لماذا شعرت بقلبها يخفق في نهايات أصابعي بقلبي يخفق مجنوناً يسعى إلى حتفه، ولماذا قالت لي: -يعجبني هذا الألق فيك.‏

ولماذا قلت لها حينذاك:‏

-يعجبني هذا الدمار الذي أهديته لي‏

قالت القصيرة بعتاب:‏

-ها أنت تشرد مع أفكارك مرة أخرى!‏

واصلت الطويلة:‏

-كأن نوبات الشرود لم تكفه حين كنا معاً قبل دقائق.‏

قلت:‏

-اسأل الرب أن يغفر لمن أورثني هذا الشرود.‏

وتطلعت إلى المرأة الطويلة التي كانت قد فاضت بهاء غمرني وألقى بي في جحيم لذيذ كانت الأشجار مزهوة بخضرتها المبللة بالندى وكنت أشعر بصوت النهر يرتعش بين أضلعي.‏

كان النهر حبيس السّد ويريد أن يأخذ مداه اقتربنا من شجرتين تقعان وسط ساحة شاسعة ، شعرت بغرابة الشجرتين المستحمتين بالنور والغارقتين في عراك ومرح العصافير، مئات العصافير التي كانت تجوس بطلاقة بين الأغصان وتطلق الأصوات الغضّة المشاكسة التي خرقت قدسية الصَّمت .‏

قالت الطويلة: هذا أغرب مكان في العالم، لم أشهد من قبل أشجاراً تحتضن العصافير في هذا الوقت المتأخر من الليل.‏

أومأت القصيرة وهمست:‏

- اعتدنا أن نرى العصافير يقظة في النهار.‏

- سألت الطويلة:‏

- لكن مابالها تولول بهذا الشكل المفجع؟وجدتني أردد بصوت فيه شحنة يقين يخترقها الأسى: ذلك أنها عصافير جريحة.‏

- سألت المرأة الطويلة ثانية:‏

- ألا تعتقد بأن الشجرتين تشكوان من جرح واحد وأن العصافير تواسيهما بلغتها الخاصة؟‏

قلت:‏

- ربما.‏

كنت ما أزال أحس حركة النهر تضطرم بين أضلعي.‏

كان مد ماء النهر يعلو مقترباً من أعلى نقطة في جدار السد الحجري الخشن.‏

سرنا وئيداً باتجاه البيوت النائمة تحت قدمي الجبل.‏

أمام الباب توقفنا.‏

أدارت القصيرة المفتاح في ثقب الباب فأصدر صوتاً فيه تأوه ورغبة.‏

دلفنا إلى الداخل.‏

بقي الباب مفتوحاً‏

استدارتا نحوي‏

كنت أقف في الخارج وقد احتلني البرد المفاجئ.‏

قلت للقصيرة وشيء من الخجل يضرب صوتي:‏

- بحق السماء اتركينا لبعضنا دقيقة واحدة فقط تقدمت القصيرة مني وهتفت:‏

سأفعل، ولكن دعني أقبل خديك أيها الفتى الجريء‏

أسلمت خدي لشفتيها الحانيتين.‏

اختفت القصيرة داخل البيت وهي تصرخ باحتجاج‏

-كم هو مخجل أن تبقى امرأتان لوحدهما في هذا الليل البارد القاسي.‏

قلت بحزن:‏

-ومخجل أن يظل الرجل وحيداً في هذه الليلة الصعبة.‏

وقفنا في الخارج.‏

المرأة الطويلة أمامي تنتصب شجرة تهتز تحت ثقل ثمرها الشهي.‏

جلسنا على مقعد من الإسمنت العاري.‏

كان القمر يرشق وجه المرأة بالنور فيزيده عذوبة، وكان الصمت يمنحها سمة إلهة متعبة. لم نتكلم.‏

بدأت أيدينا خلق لغتها المشتركة.‏

كنا طليقين كالهواء الذي لم نأبه لبرودته اللاذعة.‏

وبغتة دفعتني المرأة الطويلة وانتبذت جدار البيت وقالت:‏

- لنترك الأمر عند هذا الحد، لا أريد أن أفسد هذه العلاقة.‏

ودون أن تترك لي فرصة القيام برد فعل هرعت إلى داخل البيت.‏

وجاءني صوت المرأة القصيرة:‏

لماذا تركت هذه الحمقاء تهرب؟ ألا تعرف أنها تحاول أن تكون مخلصة لرجل مسن تزوجته في لحظة يأس؟‏

بقيت في الخارج أرقبهما والصمت يلفني.‏

أبصرت المرأة الطويلة تقف تحت المصباح المتدلي من السقف واستطعت أن أتبين قطرات تخضل في عينيها المشبعتين بنداء الماء، ولا أعرف لماذا بدت في وقفتها تلك أصغر من عمرها بعشرين سنة! كما لم أعرف سبب هذا الدفء الذي أخذ يحتل جسدي ويجعل مياه النهر تفور بين أضلعي.‏

بقينا نرقب بعضنا‏

قالت الطويلة:‏

-عصرنا يلغي المسافات البعيدة. سنكتب لبعضنا، أليس كذلك؟‏

لم أجب.‏

عاودت الحديث بصوت غريق:‏

-سلم لنا على العصافير.‏

قالت القصيرة:‏

-أجل، سلم لنا على العصافير.‏

أمسكت مفتاح غرفتي بضراوة.‏

قلت:‏

-لا أقول وداعاً‏

قالت الطويلة الشقراء:‏

-لا أقول وداعاً‏

قلت:‏

-تذهبين وتبقين.‏

وانسحبت والدم يرتطم في صدري.‏

قريباً من الشجرتين المشتعلتين ببكاء ونزق العصافير وقفت.‏

بسطت كفي وباعدت بين ذراعي ثم أطبقت الكفين بقوة واصطفقتا وأخرجتا صوتاً عنيفاً أرهب العصافير وجعلها تمرق من بين الشجرتين وفي لحظة واحدة دوت أصواتها ونشرت الجنون في الساحة.‏

راقبت الشجرتين الوحيدتين وسرت نحو البيت ويدي تشد على المفتاح بقسوة، وكنت أسمع النهر يرتد عن جدار السد هابطاً نحو الأسفل.‏







رد مع اقتباس
قديم 29-05-2006, 03:32 PM   رقم المشاركة : 10
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

رائحة التفاح

-1-‏

رغم أن غزوان الفهد اشتهى أن يلتهم تفاحة ذات لون أحمر رائق يزهو بين الفاكهة الشهية التي ابتاعها من -السوبر ماركت- إلا أنه شهق وهو يمتص تفاصيل وجه المرأة الذي لسعته الشمس وحولته إلى برونز يتقد بنضارة دافقة تلهج بالصراخ السري الصامت.‏

أدرك غزوان الفهد خطورة الغموض المنهمر من عيني المرأة الشبيهتين بشفرتين قاطعتين، وخالجته رعشة خفيفة مكتنزة بالخوف من الموت.‏

وجد نفسه ينوء بحمل حقيبة الفاكهة وينوء بحمل روحه الجائعة المنقادة وراء المرأة التي راحت تبتاع من خانة الخضراوات تشكيلة متنوعة تضيفها إلى كميات كبيرة من الفواكه كانت قد اختارتها من قبل وركنتها في عمق العربة اليدوية المستكينة تحت يديها الطريتين.‏

كان غزوان الفهد يدرك إمكانية وجود نساء لهن جاذبية نادرة أشبه ما تكون بالسحر، وها هو الآن يرى نفسه يتحرك مسلوب الإرادة بفعل مغناطيس يشده قسراً ويلقي به في غياهب الألم والحرقة.‏

الله.. كم كان غزوان الفهد مجنوناً بالنساء الجميلات.‏

إنه يعرف أية حرائق يشعلن في القلب وأية بهجة آسرة يثرن في النفس ويحركن بحر الدماء لتصير خيولاً هائجة يملؤها التوحش.‏

يدرك غزوان هذا، ويعرف أنانيته في معاملة النساء، فهو لا يطيق إقامة علاقة إنسانية مع امرأة قبيحة، لا بل لنقل لا يستطيع إقامتها مع امرأة متوسطة الجمال.‏

باختصار كان غزوان الفهد مولعاً بالفتنة والبهاء، الأنثوي المكتمل. وكان يرى أن وجود نساء دميمات إشارة إلى وجود خطأ جسيم لا يحتمل في نظام الكون. ولذا فهو يدرك أن قبضة هذه المرأة تطبق على روحه بضراوة في محاولة لاستلال آخر رمق من جسده المطحون بالرغبة، يعرف أن لهاث الثيران الغاضب يتفاقم حتى ليكاد يصل إلى حلقه ويجهز عليه.‏

استكان لنداء الدم في عروقه وسار شبه منوم وراء المرأة.‏

أمام باب -السوبر ماركت- اقترب غزوان الفهد من المرأة وهمس:‏

- أستطيع أن أعاونك دونما أي ثمن.‏

رشقته المرأة بنظرة تحمل طعم التفاح وسألت:‏

- هل أنت متأكد بأنك لا تريد أي ثمن؟‏

وضحكت.‏

ضحك غزوان الفهد وامتدت يده لترفع كيساً مكتنزاً بالفواكه والخضراوات فقط، ولم يستطع أن يفهم لماذا كان يشم رائحة التفاح دون بقية الفاكهة؟‏

-2-‏

في مسبح بيكاديللي كان اللقاء الأول.‏

جفل الموج عندما ارتمت مونا فيه.‏

شعر الموج كما لو أن سيفاً يخترقه ببراعة ويوقظ فيه كل جنون الأعماق وشعر غزوان الفهد بشيء يخض القلب منه ويجعل الدماء تضرب جسده بوحشية وقسوة.‏

كانت مونا في السابعة والعشرين عارية إلا من ثوب سباحة أحمر صارخ يشد جسدها الممتلئ البض ويمنح جلدها رائحة ولون التفاح.‏

شقت مونا مياه المسبح وبدت سمكة رشيقة تمرح في زرقة الماء الحميم، وشقت رعشة الجوع في دم غزوان الفهد طريقاً عصبياً.‏

لعل غزوان الفهد، كان مسطولاً وهو يبصر مونا تسبح في كل اتجاه. تطفو مرة تغوص أخرى، لتعوم كالفراشة أو لتخرج فخذها الذي كان يزهو على صفحة الماء، أو لتروح مستلقية على ظهرها ونهداها يرتجان بعذوبة تحمل نداء الغابات الشائكة الأولى التي يعرفها غزوان الفهد ويعاني من لغتها الضارية الجارحة، كان غزوان الفهد يرقب مونا ويفكر بهذا البهاء الذي اندفع في الماء كالحلم. ووجد نفسه يتأمل عريها المؤتلق ويردد مع نفسه:‏

-لا عاصم اليوم يعصمني من هذا الفيضان الكاسح.‏

-3-‏

في شقة مونا التقيا ثانية.‏

احتضن غزوان الفهد جسد مونا الفارع، فانتصب ثديان طفلان مليئان بالنزق. وتوهج في ذاكرته فخذ أبيض يضيء المكان.‏

كان الثدي يتقافز مثل كرة ضالة تبحث عن هدف ولا تجده. وكان الفخذ يشرق شمساً مليئة باحتدام مجنون.‏

تمنى غزوان الفهد لو ينهض ويقترب من مونا، يفتح أزرار قميصها المشجر ويتلقف بشفتيه العطشاوين حلمتي الثديين بالتناوب ويشمهما بنهم ولهفة محمومة ثم يهبط بشفتيه إلى فستانها الأزرق ليرفعه مندفعاً نحو سرتها، زارعاً كل احتراقه هنالك. ونازلاً بعد ذلك قريباً من كائن عجيب في قبضة اليد وسحر الطبيعة، كائن هو طفل وهو شيطان يثير الزوابع في القلب ويفجر في الروح كل بروق السماء ونيران الأرض.‏

ومثل نمرة رشيقة مراوغة تحركت مونا فارتمى قميصها المشجر.‏

ارتمى فستانها الأزرق الخفيف.‏

ووقفت عارية إلا من الرغبة.‏

نشف الدم من وجه وجسد غزوان الفهد.‏

صرخ الدم في وجهه.‏

التمعت شعلتان من نار في عينيه المتقدتين.‏

ارتمى غزوان الفهد في البحر، جعلته مونا يسري في سموات الجسد ممسكاً نيازكه الحارقة ومتشبثاً بنجومه الخافقة بالحليب المتفجر. هبطت به إلى طبقات الأرض السبع فاكتوى بنار البراكين المندفعة في الأعماق، ولم تفلح كل مياه الينابيع الباردة في إطفاء توهج الروح التي ضاقت بالجسد وأرادت أن تغادره هرباً من هذا الجحيم الجامح.‏

-4-‏

في بيت من البيوت الكبيرة اجتمع غزوان الفهد بمونا.‏

كان قرميد البيت يبدو معتماً ويوحي بأنه عتيق. وكان البيت يقع في الريف، وإذا أردنا الدقة أكثر فهو ينتصب في ضاحية تقع في طرف المدينة وتنفتح على أفق واسع من الخضرة حيث الحقول الشاسعة المشتبكة بالريف.‏

داخل البيت أجال غزوان الفهد عينيه اللتين وقعتا على ثريات جليلة تتدلى من السقوف وتنير وجوه وأجساد الكثير من الرجال والنساء الذين أوحوا له من خلال حركاتهم وتصرفاتهم بأنهم نبلاء أو على أقل تقدير أوحى له سلوكهم الذي ينم عن تهذيب أكثر مما ينبغي بأنهم يراعون دبلوماسية مدروسة.‏

اكتشفت عيناه المساحة الكبيرة للصالة التي فرشت بسجاد يدوي يتألق تحت النور الذي غمر المكان.‏

أعطت مونا غزوان الفهد قدحاً من الويسكي، وهمست.‏

-بعد قليل سأعرفك بالشخص الذي يرعى مؤسستنا.‏

أحس غزوان الفهد بشيء من الخوف، ولكنه أحس بأن اللقاء بمونا منفرداً سيحرره من كل المخاوف فيما بعد.‏

أقبل رجل ملتح له عينان تشيان بوداعة ماكرة.‏

قالت مونا: الأب جيمس معلمنا.‏

مد الأب جيمس يده إلى غزوان الفهد الذي لم يعرف لماذا كانت باردة بهذا الشكل!‏

قال الأب جيمس: لابد أن مونا قد حدثتك عن ديننا الجديد.‏

قالت مونا: غزوان يعرف أننا نبشر بالحب والسلام ونسعى إلى كسب الناس إلى ديننا العالمي.‏

أومأ غزوان الفهد برأسه موافقاً.‏

قال الأب جيمس: هذا حسن.‏

ونظر إلى مونا وسأل: هل أخبرته بأهمية أن ينقل لنا بعض الأمور التي تهمنا عن بلده أحياناً؟ حركت رأسها بالإيجاب.‏

وحرك غزوان الفهد رأسه للمرة الثانية.‏

قال الأب جيمس: ستغيب مونا عنك للحظات ثم تعود لتزودك ببطاقة الطائرة ومبلغ بسيط.‏

قالت مونا: سأعود بعد قليل.‏

راقب غزوان الفهد البشر الذين كانوا يتكلمون بأصوات هامسة كما لو كانت لديهم أسرار خاصة وغامضة لا يريدون البوح بها للآخرين، وبدأ يتساءل عن معنى وجود كل هؤلاء البشر الذين أخبرته مونا بأنهم لا يأكلون سوى النبات ويحرمون الحيوان لأنه روح، وأحس برغبة في الضحك.‏

استعاد سؤالاً وجهه إلى مونا مرة: إذا كنتم تحترمون الأحياء إلى هذا الحد، فلماذا تغرقون أجسادكم في اللذة الحسية؟‏

حينذاك قالت مونا: نحن نريد أن نجعل الروح مرتاحة وغير مشغولة بمادية الجسد، نريد أن تشعر بالهدوء داخل هذا القفص الملتهب الذي نسعى إلى إطفائه.‏

وتذكر غزوان الفهد تعلقه بمونا، تذكر أنه قد تحول إلى طفل بين يديها، ولكم أحرقته الخيبة عندما رفضت السفر معه إلى بلده، يذكر غزوان أنها نظرت إليه وهي تسوي شعرها المتناثر على جسدها المبهج وقالت:‏

-لا أستطيع يا غزوان فأنا هنا لكسب الأتباع والدعاة.‏

يعرف غزوان أنها قد أحست بحزنه العميق فقالت:‏

-تستطيع أن تأتي هنا مرة أو مرتين في السنة وسنلتقي.‏

وربما شعرت بأنه لم يقتنع كلياً فواصلت:‏

وسنلتقي عندما أزور بلدك.‏

قالت مونا لغزوان الذي كان يبدو مسطولاً:‏

-عسى ألا أكون قد تأخرت.‏

لم يجب غزوان الفهد فأكملت:‏

هذه بطاقة الطائرة، وهذا غلاف فيه مبلغ قد تحتاجه، وبالمناسبة ستؤمن سفارتنا في بلدكم الاتصال بك وتزودك بما تحتاج.‏

قال غزوان بعد أن رشف من قدح الويسكي.‏

-هل ستذكرين غزوان الفهد يا مونا؟‏

قالت مونا بحياد ولكن بحسم: كيف أنساك يا غزوان؟‏

قال غزوان:‏

-أذكريني حتى بعد موتي؟‏

اعترضت مونا:‏

-أوه، لا تقل هذا فأمامك الكثير من الأشياء لتفعل.‏

قال غزوان:‏

-أعرف ذلك ولكنني أشعر بأن الموت يحوم حولي.‏

قالت مونا:‏

-غزوان سنحميك.‏

سأل:‏

-من يمتلك قدرة دفع الموت عن الإنسان؟‏

قالت مونا:‏

-غزوان لا تكن متشائماً، ودعنا من الموت، لقد صرت واحداً منا.‏

ردد غزوان بصوت دونما نبرات واضحة:‏

-أعرف ذلك.‏

سأل غزوان:‏

-متى نخرج؟‏

سألت مونا: أيكون الجو هنا قد أزعجك إلى هذا الحد؟‏

قال غزوان:‏

-أريد أن أكون في الخارج حيث الهواء الطلق.‏

قالت مونا:‏

-سأذهب وألتمس إذن الخروج.‏

قال غزوان:‏

-افعلي هذا، فموعد السفر في الأسبوع القادم ولابد أن نكون لبعضنا هذه الأيام.‏

ضحكت مونا.‏

عندما أصبحا في الخارج، أحس غزوان الفهد برائحة التفاح تهاجمه.‏

تطلع إلى مونا وتذكرها في مسبح بيكاديللي، تذكر كم كان الموج خائفاً حين رأى مونا لؤلؤة عارية تتألق تحت الشمس التي غمرت الماء. جفلت الأمواج وهي ترمق روحاً جامحة تفيض من جسد كاسح أنهكته ثمار تفور بالشهوة، استمد الماء من جسد مونا المفعم بلهب ينشر الحرائق في كل مكان، جنونه وغادر وقاره صار طفلاً نزقاً تملؤه قوى التدمير وهو يحتضن جسد مونا المندمج بالموج الغامر المميت. كان الجسد حوتا في الماء برقا في سمائه المضطرمة بالهلاك. المرتعشة ذعراً وهي تضم هذا الجسد الفيضان، كان الفيضان يأخذ غزوان الفهد بعيداً وكانت رائحة التفاح تهاجمه بوحشية لم يعهدها من قبل.‏

***‏







رد مع اقتباس
 
إضافة رد

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
النجوم الى دور الاربعة... ابوسعوود منتدى الوسط الرياضي بالخفجي 10 21-08-2010 08:51 AM
** علم النجوم واقسامه ** <الأثري> المنتدى الإسلامي 3 18-08-2009 11:02 PM
صور النجوم وهم صغار ... تشلساوي :: الأخبار الرياضية والمواضيع المنقولة:: 8 01-05-2007 06:23 AM
كــاريكتير لـ النجوم هبوب الريح :: الأخبار الرياضية والمواضيع المنقولة:: 4 05-09-2006 11:48 PM
اين النجوم ؟؟ شمالي :: منتدى الأصدقاء:: 11 28-06-2006 09:41 PM



الساعة الآن 03:12 PM.

كل ما يكتب فى  منتديات الرائدية  يعبر عن رأى صاحبه ،،ولا يعبر بالضرورة عن رأى المنتدى .
سفن ستارز لخدمات تصميم وتطوير واستضافة مواقع الأنترنت