قد صِرْنَا والحمد لله في عصر انتشر فيه العلم وتعدَّدت مصادره والكل يكتب في الصحف والمجلات والكتب والكل يتحدث في أنواع البثِّ المباشر وغير المباشر الذي ملأ أجواء الفضاء والكل يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يتحدث عنه وتَحْدُثُ أحيانا حوارات بين المؤمنين في أمر يخص خير المرسلين صلى الله عليه وسلم، وكل يدلي برأيه وأحيانا يتصلب لرأيه على أنه الصواب ما الذي يجب علينا أجمعين نحو حبيب الله ومصطفاه في كل شيء نقرأه أو نسمعه عن حضرته؟ يقول في ذلك ربُّ العزَّة{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} فأي كلام تتكلمونه عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لابد وأن يكون سديدا ومؤدباً ورشيداً وأن تلاحظوا دائماً أنه صلى الله عليه وسلم محفوظٌ لا تجوز عليه الأحوال البشرية العادية لأن الله حفظه حتى قبل إنزال الرسالة المحمدية بل أن الله حفظه قبل ميلاده منذ أن اجتباه واختاره واصطفاه فقد جعل نطفته الطاهرة لا تقع إلاَّ في الأصلاب الطاهرة أو في الأرحام التقيَّة النقيَّة وقال في ذلك صلوات الله وسلامه عليه (إن الله عزَّ وجلَّ نقلني في الأصلاب الطاهرة والبطون النقية منذ آدم إلى أن ولدتني أمي فلم يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الجاهلية شيء)[1]
وهذا الكلام في كتاب الله حيث قال {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} فقد تقلب في الساجدين منذ آدم إلى أبيه عبد الله والحقيقة أن الله بذاته وجمالاته وكمالاته نزَّه حبيبه ومصطفاه غاية التنزيه حتي لا يظن أي مؤمن أنه صلى الله عليه وسلم يجوز أن يظهر عليه ما يحدث للأعراض البشرية وما يحدث لنا وفينا في الأعراض الدنيوية لأنه صلى الله عليه وسلم محفوظ بحفظ الله فنُورُه كان محفوظاً منذ جعله الله في ظهر آدم وكانت حواء تلد في كل بطن ذكراً وأنثي فلما أتمت العشرين ورُزقت بمولود واحد ذكراً هو شيث عليه السلام (كذا في تفسير الشوكانى وروح البيان وكثير غيرها) وانتقل فيه وإليه نور المصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ووصَّاه آدم وقال (يا بُنَيَّ لا تضع هذا النور إلاَّ في الأرحام الطاهرات)[2] وقصة تنتقل هذا النور أمرها يطول قال فيها الإمام هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه في الطبقات الكبرى (ابن سعد) (كتبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة أمّ كلُّهنَّ طاهرات خيرات لم يصبهن من نكاح الجاهلية شيء) أي أنه حتي النكاح الذي كان باطلاً لم يكن لهن شأن به فالنكاح كان تاماً وصحيحاً فلما وُلِدَ صلوات ربي وسلامه عليه تولَّي الله بنفسه حفظه وتربيته وصيانته وحتي لا يكون خضع لتأثيرٍ من أبيه أو لالتفات من أمه ربَّاهُ الله يتيماً على عينه
ونحن كلنا نعلم أن رسول الله حفظ الله قلبه حتي من الميل إلى اللهو فقد سأله أصحابه وقالوا له: ألم يصبك من لهو الجاهلية شيء؟ فروى عنه أنه كان يرعى الغنم وكان هناك عرس في مكَّة فطلب من رفيقه الذي كان معه أن يحرس غنمه حتى يذهب إلى العرس ويلهو قليلاً فذهب فألقي الله عليه النوم فلم يوقظه إلا حرارة الشمس مرتان والله يحفظه من اللهو وأيضا حفظه ربُّه حتي في ظاهره من ظهور شيء من عورته لما أراد التوجه نحو الكعبة للمشاركة في تجديد بنائها قال ما معناه اشتغلت مع عمي العباس في نقل الأحجار وكان الرجل يخلع ثوبه ويلفه ويضعه على عاتقه ويضع عليه الأحجار قال: فصنعت ذلك فإذا برجل يجذبني من ثيابي فأقع على الأرض حتي خدش ساقي وقال: إياك إياك أن يظهر لك عورة بعد الآن قال فلبست ثوبي فأراد العباس وغيره أن يجبروني على خلعه فقلت: لا أستطيع فلما أصرَّ أخبرته بما حدث لي وروى عن أبي الطفيل في مسند أحمد (وذكر بناء الكعبة في الجاهلية قال: فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً فبينا النبي يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضع النمرة على عاتقه فيرى عورته من صغر النمرة فنودي يا محمد خمِّر عورتك فلم يُرِ عرياناً بعد ذلك ) وحفظه الله أن يتجه لصنم بالعبادة أو الزيارة والأخبار في هذا المجال كثيرة فإذا كان الله حفظه قبل الميلاد وحفظه قبل بعثته فما بالكم به بعد نبوته؟ فقد صار حفظ الله له أتم وأكمل
[1] رواه الطبراني في الأوسط وابن عدى في الكامل عن علىٍّ رضي الله عنه
[2] ذكره صاحب السيرة الحلبية