د. هيا إبراهيم الجوهر
عندما تقرأ عن المبدعين والمخترعين في شتى المجالات تجد أغلبهم فوضويين ولم يكملوا تعليمهم، حتى إن بعضهم يعاني مشكلات نفسية، وتستغرب حينما ترى إنجازاتهم وما وصلنا إليه نتيجة أفكارهم، لذا يحق لنا أن نتساءل: من أين أتتهم تلك الأفكار؟ هل كل هذه الإنجازات نتيجة الإلهام واتقاد الفكرة فجأة في رأس صاحبها دون إرادته أو أي جهد منه، أم أن الأفكار لكي تولد لا بد لها من ظروف معينة وبذل جهود وجمع الخيوط لنصل إلى صناعة فكرة تؤدي إلى ابتكار؟
لقد سعى ستيفين جونسن في كتابه ''من أين تأتي الأفكار الجيدة؟'' إلى دحض خرافتين آمنّا بهما طويلا، وهما أن الابتكارات ناتجة من الذكاء أو المبالغة في تصوير لحظة ''وجدتها''! ويرى أن الفكرة ليست وليدة اللحظة، بل عبارة عن ورشة عمل قد تستمر أياماً وسنين يتم فيها تجميع أجزاء الفكرة، إنها تشبه لعبة المكعبات متشابهة القطع، ورغم ذلك تستطيع ابتكار عشرات الأشكال منها في كل مرة!
انظر إلى مشروع الإنترنت الذي حوّل العالم إلى غرفة صغيرة وليس قرية! ففي البداية لم يكن لدى تيم بيرنيس لي، تصورٌ كاملٌ عن شبكته التي يريد اختراعها، لذلك عمل على مشاريع رديفة حتى جمع أفكاره وتوصل إلى اختراعه بعد عشر سنوات من العمل المتواصل.
لقد بحث العلماء في السنوات الأخيرة عن إجابة لسؤالنا، وتوصلوا إلى أن الإنسان - أي إنسان - بإمكانه أن يكون مبتكراً إذا تربى في بيئة خلاقة تحثه على الابتكار، مع أخذه كفايته من العلم في مجال تخصّصه، ومنح نفسه الوقت الكافي للتفكير والتأمل والتعلم من الأخطاء، وتلمّس حاجة مجتمعه.
إذا فالفكرة تصنع في الغالب وتمر بمراحل، أولها الشعور بالمشكلة وتحديدها ودراسة جوانبها المهمة، وقد يستغرق هذا الشعور لحظات أو يطول لسنين! وقد يأتيك هذا الشعور أو الإحساس نتيجة قراءة وبحث في موضوع معين أو نتيجة ملاحظة عابرة لتفكرك فيما حولك من آيات الله، فنحن محاطون بالكثير من المحفزات يفوز بها من يستشعرها، وهنا يكمن الفرق بين المبتكر وغيره من الناس.
ثم تأتي مرحلة تنقيح الفكرة بإبعاد الأفكار التي ليس لها علاقة بالمشكلة فتتبلور الفكرة وتومض في ذهن المبتكر لتمنحه شعور بفرحة الانتصار، وهنا قد يصرخ ''وجدتها''! مثلما حدث مع أرخميدس عندما وجد حلاً لمشكلة حساب نسبة الذهب في تاج الإمبراطور حين قفز الحل إلى ذهنه وهو في الحمّام!
وبعدها تأتي مرحلة اختبار مصداقية الحل، وهل هو ملائم أم لا بإجراء التجارب، وهذا الأمر ليس مقتصراً على مجال البحث العلمي، فحتى الأدباء والرسامون والمؤلفون والكُتّاب يحتاجون إلى تجريب أفكارهم.
ويبقى السؤال الأخير: هل تحتاج الفكرة إلى مكان أو محيط تُولد به؟ توصل الباحثون إلى أن أشهر ثلاثة أماكن تولد بها الفكرة وأحياناً الحل هي: الحمّام -أعزكم الله - والفراش والحافلة (وهذه نفتقدها)! فولادة الفكرة أثناء النوم لا تحدث بسبب الإلهام أو مصادفة، بل لأن الفكرة أقضت مضجع المبتكر، فحلم بها، ومن أجمل ما يُروى أن مخترع ماكينة الخياطة إلياس هوي فشل في معرفة كيفية تركيب الخيط في الإبرة لفترة طويلة حتى حلم بوحوش تطارده معها رماح في نهايتها خيوط، ومن هنا استنتج أن الرماح مثل الإبرة يجب أن تثقب في منتصفها ويركب بها الخيط لتخيط.
لذلك لا تنتظروا لحظة الإلهام، بل اسعوا إليها وستجدون الأفكار تأتيكم تباعاً.