إطلالة على الموتى!
[align=justify]تطل نافذة مكتبه بشكل مباشر على مساحة كبيرة من الأرض المسورة، حسبتها للوهلة الأولى ملكاً لأحد كبار تجار العقار لا يزال ينتظر زيادة سعرها أضعافاً مضاعفة -كيف وهي في وسط العاصمة الكويت- ولكنني بعد أن مسحت نظارتي، وأزلت عنها ما علق فيها من غبار ذلك اليوم، وأعدت النظر فإذا بتلك المساحة من الأرض «مقبرة قديمة» ودون وعي مني قلت له: إطلالة على الموتى!! قال نعم، هذه من المقابر القديمة وتسمى مقبرة «الصالحية» في منطقة «القبلة» ويوجد فيها قبر أمير الكويت «أحمد الجابر الصباح» الذي توفي في بداية عام 1950م، ويرقد فيها أيضا شاعر الكويت «فهد العسكر»، وغيرهما كثير من أعلام الكويت في تلك المرحلة، فأخذ موضوع الموت جزءاً من حديثنا، ومن طريف ما ذكره لي: إنه كانت تقام حفلة سمر تمتد حتى الفجر عند قبر الشاعر «محمد بن لعبون» يحيها أهل الفن من عشاقه – في ليلة محددة من كل عام – وقد استمر ذلك زمنا حتى جرى منعهم في عشرينيات القرن الماضي.
كان محدثي الروائي الكويتي «إسماعيل فهد إسماعيل» الذي زرته يوم الإثنين الماضي في مكتبه بالعاصمة -وتحديدا في أحد الشوارع المتفرعة من شارع «فهد السالم» بالصالحية- ولأن الهاتف بات وسيلة لا غنى عنها مطلقاً، فقد اتصلت به من موقف السيارات المجاور؛ ليصف لي العنوان فأبى إلا أن ينزل -رغم أنه قد تجاوز سبعة عقود، فلوح لي بيده من على الرصيف المجاور بلباسه الإفرنجي الذي لا يلبس سواه، فتوجهت إليه، واصطحبني مستخدماً المصعد إلى الدور الثالث حيث المكتب، وهو يستخدمه لمتابعة بعض أعماله التجارية، وفيه جزء كبير من مكتبته، ويمارس فيه القراءة وشيئاً من كتاباته، ويستقبل فيه ضيوفه وزواره من أصدقائه ومعارفه في الفترة المسائية، ولكن زيارتي له كانت صباحية -حيث السكون والهدوء- وقد وفرت لي فرصة كبيرة للاستمتاع بحديثه الرائع بحرية أكبر.
خرجت من تلك الزيارة الرائعة لذلك الرجل الرائع حقا تغمرني سعادة كبيرة، لكن موضوع الموت والمقابر عاودني، واستمر مسيطراً على لبعض الوقت، واستحضرت ذاكرتي عدداً كبيراً من الأموات – أقارب وأصدقاء وزملاء ومعارف – عبر شريط مليء، فطالت القائمة لدرجة كبيرة، ولم يكن استحضار أسماء فقط، بل كان استحضاراً دقيقاً لأوصاف وأحاديث ومواقف. .. وذكريات، وفي خضم ذلك تنقل بي ذلك الشريط المرئي لكثير من أماكن الدفن والمساجد، وما يعتري ذلك من مواقف ومشاهدات مؤلمة ثم عادت بي الذاكرة إلى كثير من مدننا التي تعاني مساجدها قصوراً كبيراً في تجهيز أماكن التغسيل، وبعدها عن المقابر، وصعوبة الوصول إليها ممن هم ليسوا من سكان المدينة، وندرة الخدمات الضرورية أو انعدامها، وأهمها مواقف السيارات حيث يتحول المكان المجاور للمسجد لفوضى مرورية عارمة تعيي كثيرين وتضعهم في مواقف محرجة للغاية، ثم يقف ذوو المتوفين والمعزون تحت لهيب الشمس أو البرد والمطر.
ألحت على مسألة المقارنة كثيراً بين ما لدينا وما هو موجود في الكويت من عناية واهتمام بأمر الأموات -فكلما حضرت جنازة في مقبرة الصليبيخات في دولة الكويت- يلفت انتباهي –وغيري- الاهتمام الشديد بتلك المقبرة من عدة وجوه أهمها: إن بجوارها مبنى مخصصاً ومجهزاً تجهيزاً عالياً لتغسيل الموتى، ومسجداً كبيراً بملاحقه للصلاة، وتتوفر حوله مواقف كافية للسيارات، كما توجد في المقبرة مظلة كبيرة للصلاة – لمن لم يدرك الصلاة على الجنازة في المسجد – ثم أنه يكتب على كل نعش اسم المُتوفي، ورقم قبره الذي يحدد مكان دفنه، ويمكن أهله من التعرف عليه في أي وقت دون عناء، ويوجد في المقبرة صالة كبيرة ومكيفة للعزاء مجهزة تجهيزاً كاملاً، ومقسمة إلى قسمين أحدهما لذوي المتوفين – فيه كراسي لكبار السن والعاجزين – أما القسم الآخر فهو مخصص للمعزين، وبينهما بوابات عليها لوحات إلكترونية من الجهتين بأسماء المتوفين، فيقف ذوو المتوفي في المكان المخصص لهم، ويدخل من الجهة الأخرى المعزون حيث يقفون في صفوف منتظمة تتناسب مع هيبة الموت.
همسة: أثناء كتابتي المقال وردتني رسالة عبر (WhatsApp) وقد جعلتها تغريدة تويترية (بتصرف): سألوه من الذي تحبه أكثر؟ قال: الراجحي «يا بعد حيي» يعطيك قرض سيارة، وقرض زواج، وقرض تحسين أوضاع! وإذا مت يغسلك ويكفنك ويصلي عليك في مسجده، ثم يوصلك لقبرك![/align]
رابط المقال في جريدة الشرق
http://www.alsharq.net.sa/2013/06/06/858963