العرب أهل الشيم وهم أصحاب النخوة والعفو عند المقدرة، كانت هذه ميزات يمتاز بها العربي ولا زالت ومن ذلك نشأت المودة ، ونشأ التعاضد والتآخي .. في هذه الأرض الطاهرة ، وبدت بطولات تحدث عنها التاريخ فقد كان لهم في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة والقدوة المثلى ، فنهجوا نهج الإسلام الحنيف قولا وعملا ، وفي ظل الإسلام عرف الإنسان العفو والصفح ... وعرف المظلوم حقه ورفع الظلم عنه ، ولم يكن للعرب في جاهليتهم يستغربون من الملتجئ إلى غيره وإن كان لا يعرفه حمايته والذود عنه حتى ولو ارتكب جرماً ضد من التجأ إليه ، ولعل هذه الحكاية القديمة التالية تعبّر عن نموذج من نماذج هذه الشيم الأصيلة ....
القصــــة :-
كان أحد أبناء البادية يرعى إبله ويرافقه راع ٍ يتجول بهذه الإبل بين الخمائل والأودية والمراتع لترعى في الأرض الخصبة ، فقد كان هدفه الأول والأخير حماية إبله من الغزو ، والذين لا ينقطعون عن الغارة لسلب الإبل من القبائل المعادية لهم في ذلك العصر .
وفي يوم من الأيام شاهد هذا الرجل الخيول تهجم عليه من كل جانب ، فدافع عن إبله وقتل أحد الفرسان الذين هجموا عليه وعلى إبله ، وخلصها منهم بعد معركة استمرت من الظهر حتى غروب الشمس .
واتجه بإبله إلى بر الأمان ، وكان الخيّالة يعرفونه تمام المعرفة ، حيث أنّ الرجل الشجاع يُعرف حتى من قبل أعدائه ، وبقي هذا الرجل يفكر في الموت لأنه قتل أحد الفرسان من القبيلة المعادية في ذلك الوقت .
وبعد مضي عشر سنوات من الحادثة اطمأن قلبه وتوقّع أنّ هذا الرجل الذي قتله ليس له أحدٌ يأخذ بثأره ، أو أنّ الأمر قد انتهى مع مرور الزمن ، ولم يكن يعلم أنّ لهذا الرجل القتيل ولداً يفوقه في الشجاعة والإقدام .
كان الولد وقت مقتل أبيه إبن عشر سنوات ، أما الآن وقد كبر وأصبح إبن العشرين عاما ً ، فقد صمم على الذهاب إلى جهة القبيلة التي قتل أحد أفرادها والده .
ركب الشاب إبن القتيل ذلوله وأخذ معه سلاحه عازما على أخذ الثأر لأبيه من قاتله ، وعندما اقترب من منازل القوم : وجد راعيا وسأله عن القاتل ولكن بدون أن يشعر الراعي بأنه يسأله من أجل الثأر بل قال له إنه مدان لذلك الرجل بمبلغ من المال ويريد أن يرده له ،حيث أنه اشترى منه بعض الإبل في السابق ويريد أن يفيه حقه ، فدله الراعي ، فذهب وعندما وصل إلى مضارب قوم قاتل أبيه شاهده عن قرب وكان القاتل لا يعرف هذا ولم يشاهده من قبل فتبعه الشاب ونادى عليه وقال له : أأنت فلان فقال له نعم من أنت ..؟... قال أنت قاتل أبي وأنا سأقتلك الآن ...!!! أقول لك ذلك حتى لا يقال أني قد غدرت بك ... وكل ما أريده منك أن تدافع عن نفسك ...!!!!!
قال القاتل : أنا لم أقتل والدك ظلما وعدوانا ... بل قتلته دفاعا عن النفس والمال والكرامة .
صوب الشاب بندقيته إلى صدر الرجل فرفع القاتل يديه وقال : مهلا ... مهلا .... أيها الفارس الشجاع أريد منك أن تسمح لي بأداء الصلاة ركعتين لوجه الله تعالى قبل موتي ... فإذا سلمت وأنهيت صلاتي فاقتلني ....فوافق الشاب بدون تردد وسمح له بالصلاة ونهض بعدها وقال : مهلا أيها الفارس ... أريد أن أقول كلمة واحدة فقال الشاب لك ما طلبت ....
قال : والله أنا رجل مقطوع ليس لي من الذريّة إلا بنت واحده .. فهل تعطف على هذه المخلوقة الضعيفة وتعتقني لوجه الله من أجلها ، وتأخذ كل ما تريد .... خذ الإبل وكل ما أملك من أموال ..
قال الشاب وهو مصوبٌ سلاحه نحو صدر الرجل : الأموال كلها لا تعوضني عن والدي الذي قتلته ..قال القاتل مهلا أيها الفارس : هل تسمح لي بأن أرتجل بعض الأبيات التي خطرت على بالي الآن .؟ قال الشاب تفضل قلها :
قال القاتل :
[poem=font="Simplified Arabic,7,white,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/28.gif" border="outset,10,white" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
يا فارس الهيجا طلبتك عطيّه=قل تم ياذخر الرجال المشاكيل
اعطف بحال البنت واعطف عليّه=مالي سواها لا وخلاّق جبريل
كانك عفيت العفو منكم هديّه=هديّه تنعد جيل ٍ بعد جيل
جايهك في خلاف كل البريّه=إرحم ذليل ٍ حصّل الذّل والويل
وان كان ما طاوعت عندي وصيّه=أوصيك باللي ما وراها رجاجيل [/poem]
وما أن انتهى قول أبياته حتى انهمرت الدموع كأنها الشلال من عيون الشاب ولد القتيل ، فرمى بندقيته ...!!!... وقال : أبشر بالذي طلبت : لقد أعتقتك لوجه الله تعالى إكراما لإبنتك الوحيدة ... والله ما أرضى إنها تصبح يتيمه وتذوق طعم اليتم مثل ما ذقته أنا ....
وذهب الشاب وهو يمسح دموعه إلى حيث أتى .....
تحياتي للجميع . ( علوم النشامى ) ...