بسم الله الرحمن الرحيم
قد يكون للعقل البشري طاقة أستيعاب وحدود للفهم والادراك لايمكنه أن يتجاوزها ليفكر في المستحيلات أو محاولة تفسيرها ربما لانه يعلم أن المستحيل أمر أكثر تعقيداً وصعوبة من محاولة التفكير فيه..
ولكن بالنظر الى الأوضاع الحالية والى العالم الذي أصبحنا نعيش فيه يمكنني القول أن التفكير في حصول المعجزات أو المستحيلات شي ممكن وعادي..
ربما أغلبكم سمع بالقضية التي شغلت ولا تزال تشغل الرأي العام الا وهي قضية تبديل طفلين لم يكن لهما ولعائلتيهما ذنب في الحياة سوى أن الاقدار ساقتهم الى مستشفى الملك خالد بنجران ليبصروا النور هناك وأيضاً ليعانقوا الظلام وتبدأ رحلة معاناة وقصة حياة موغلة في الألم والانسانية .. أختلط فيها حليب الام الطاهر بدموعها الصادقة وأختلطت فيها معاناة عائلتين على مدى سنوات كانت قابلة للزيادة لولا أن قضى ربك أمراً كان مفعولا..
بدأت القصة قبل نحو أربع سنوات حينما أدخل المقيم التركي يوسف جاويد زوجته فوندا التي كانت على وشك الولادة الى المستشفى ليستقبل بعد أيام طفله الجديد .. نظر يوسف ملياً الى وجه الطفل الجميل وقال : هذا الطفل لا يشبهني ؟!
قام يوسف بنقل شكوكه الابوية الى مدير المستشفى الذي استقبله بالتهكم والسخرية وأن هناك أجراءات مشددة حول عملية أستقبال الاطفال ووضع الاسماء عليهم..
أستلم يوسف طفله الجميل يعقوب .. وبعد سنه سافر بعائلته الى تركيا .. لتبدأ تفاصيل حكاية جديدة عندما شككت عائلة يوسف في شبه الطفل وأوصافه وأنه لا يمت ليوسف بصلة .. فالطفل ذو شعر أسود داكن وملامح ليست تركية أطلاقاً .. كان وقع الكلمات ونظرات الريبة والشك في يوسف وزوجته فوندا سهاماً تنطلق من عيون وألسنة الاهل والاصدقاء لتستقر في قلب تلك الزوجة المسكينه التي لم تعرف بماذا ترد أو كيف تدافع عن نفسها.
عاد يوسف وفوندا والطفل يعقوب الى السعودية مره اخرى وقلب الزوجين يحمل من تراكمات الالم والحزن الشيء الكثير..
وفي زيارته الثانيه لاهله في تركيا واجه يوسف موقفاً أكثر ألماً عندما واجهه والده وأخوته بحزم وقالوا بأن هذا الطفل ليس لك .. أنه طفل سعودي ..!!
عندها لم يكن أمام يوسف وزوجته الا الخضوع لتحليل الدي أن أيه للتأكد من نسب الطفل أليهما من عدمه ..
كان الساعات والايام تمضي مثقله بالحزن والشحوب على تلك العائلة المسكينه وهي تنتظر نتيجة الفحص ..
فأن ثبت أنه ينتمي لاحد الابوين دون الاخر تكون الفاجعه ..وهذا أكثر ماكان يخيفهما ويحول أيامهما الى جحيم لا يطاق .. وظهرت نتيجة الفحص .. وكانت المفاجأة .. بأن الطفل لا ينتمي الى أي منهما .. غريب عنهما !
أذن كيف وصل أليهما ؟ وأين أبنهما الحقيقي الذي حملته أمه 9 أشهر ؟
ومن هذا الطفل الذي يعيش معهما منذ أربع سنوات ؟ ولماذا لم يفقده أهله أو يبحثون عنه ؟
مسكينة أنت يا فوندا ..الزوجة الحزينة التي ربت يعقوب وأرضعته وعاش معها وكأنها قطعة من قلبها ..
لم تتحمل فوندا الأمر فقد عاش يعقوب في كنفها 4 سنوات وهي تعتقد أنه ابنها .. أصيبت بحالة هستيريه غريبه عندما عرفت .. كيف تأخذون يعقوب مني وأنا ربيته طيلة هذه السنوات .. كيف لهم أن يعرفوا شعور الام وقلبها ..كيف لمن مات قلبه أن يحس بك أو يحس بشعور أم عانت الحرمان مرتين .. عندما أخذ طفلها الحقيقي منها .. وعندما يؤخذ مره أخرى الطفل الذي ربته طوال اربع سنوات .. والاهم أنه الطفل الذي عاش معها وهي تظن أنه أبنها ..
إلا أن فوندا استسلمت للأمر الواقع في النهاية .. فتعايشت مع ابنها يعقوب وبشكل إنساني مميز
لم ترد أن يشعر بأنه غريب عنها وعن أحضانها التي طالما حملته بينها وداعبته وهو صغير ..
الرحـلة الى الالـم ..
كان لابد من العودة الى نقطة الصفر .. نقطة الالم وحرمان الابن من أبيه وأمه !
الى المستشفى الذي طالما حظي بالعجائب والغرائب .. مستشفى الملك خالد بنجران..
عندما وصل يوسف وزوجته الى السعوديه قاما بتقديم شكوى على وزير الصحة الذي شكل لجنة للتحري وإجراء تحليل آخر يثبت ما ادعاه يوسف لتتضح النتيجة نفسها التي ظهرت في تركيا.. وهنا عاد يوسف إلى نجران حتى يبحث عن ابنه الذي لا يعرفه ولم يشاهده منذ 4 سنوات..
وفي المقر القديم لقسم الولادة في مستشفى الملك خالد والذي يشهد حاليا عمليات ترميم وبناء من أجل تخصيصه لخدمات طبية أخرى..القسم لم يعد له وجود كما كان في السابق فلم يعد له غرف معروفة أو معدات أو طاقم خاص به إنما أطلال وذكريات قديمة وقف عليها يوسف وفوندا وهما يبحثان عن أبنهما وكأنهما لا يصدقان مايرانه ؟
يالها من رحـلة .. مليئة بالالم ..كأنك تبحث عن سراب أو خيال ..أربع سنوات مرت على آخر مره زار فيها الزوجين هذا المكان .. وها هي الاقدار تعيدهما مره ثانيه اليه ولكن الفرحة الاولى رحلت وتبدلت الى شحوب وحزن ودموع كانت تختلط في نظراتهما الى كل مايحيط بهمـا..
ليالي من السهر والتفكير المؤرق قضاها الزوجان .. يفكران في ولدهما الضائع .. ترى أين هو الان وفي أي بلد من هذا العالم ؟ ومع أي عائلة ؟ وأي أسم أو دين أو معتقد أو جنسية يحمل هذا الطفل البريء ؟
كانت أفكار وهواجس غريبه وموحشة تزورهما دوماً وتؤرق حياتهما التي كانت هانئه ووادعه..
ربـاه .. أعصم على قلبه وقلب زوجته المسكينة..
قامت اللجنة التي شكلتها وزارة الصحة بالبحث في ملفات الاطفال الذي ولدوا في ذلك اليوم .. ولتضييق دائرة البحث أكثر .. تم البحث في ملفات الاطفال الذي أدخلوا الى نفس غرفة يعقوب.. وفي الاخير أتضحت النتيجة .. كانوا أربعه أطفال .. جميعهم ذكور..
أثنين منهم تم تسليمهم في نفس اليوم الى أهلهم .. أنهم يعقوب والطفل الاخر ( علـي ) الذي تم تسليمة لعائلة سعودية تسكن نجران ..
لم يصدق يوسف نفسه من الفرحه حينما علم أن ولده على بعد كيلومترات منه .. ولكنها لم تكن بالسهوله التي يظنها ..
علي..اليـامي
لم يكن يدر بعقل او تفكير المواطن السعودي سالم اليامي أن أبنه علي الذي عرفه ورباه وعاش معه طوال أربع سنوات بأنه ليس من صلبه وأنه طفل تركي الاصل تم تسليمه له بالخطأ من قبل ممرضه في مستشفى الملك خالد..
كانت مسألة مواجهة الاب وأخباره بالامر شيئاً صعباً ومؤثراً ولن يتحمل أي شخص وزر هذا الامر..
تم تكوين لجنة من أمارة منطقة نجران وعدد من المسؤولين الذي قابلوا سالم وشرحوا له الامر المفجع..
أصيب سالم بالذهول من هول الامر .. وردت الى رأسه ملايين الافكار المرعبه خلال دقائق .. ارتسمت أمامه صورة أبنه علي .. وزوجته وأهله وأصدقائه .. كيف يمكن أن يكون هذا الطفل ليس أبني ؟
كيف ساواجه زوجتي وأبي وأخوتي .. كيف سأواجه علي ؟ كيف أتحمل فراق أبني الذي عرفته وعشت معه اجمل ايامي وأصدقها ؟
خرج سالم وهو يتعثر في مشيه من هول ماسمع .. وهو لايكاد يصدق مايحدث ..لا سيما وأن الامارة قد طلبت منه أن يأخذوا عينات من دمه ودم زوجته ودم أبنهما علي ليتم الفحص والتأكد من هوية علي وهل هو فعلاً أبنهما أم أبن العائلة التركية أم أبن عائلة أخرى..
كانت صعبة تلك اللحظات التي أخبر فيها سالم زوجته بالامر .. كان وقع الامر صعباً عليها .. لا ألومها حينما حملت أبنها علي وهربت الى منزل والدها رافضة تسليمه لاحد .. فهو أبنها الذي أرضعته وربته وحملته بين ذراعيها منذ أيامه الاولى في الحياة ..
بعد مداولات طويلة ومحاولات أقناع الأم تم أخذ عينات أخيراً من دمهـا ومن دم أبنها علي ..
نفس اللحظات المؤلمة والمخيفه وليالي الانتظار الموحشه التي عاشها التركي يوسف وزوجته فوندا ..
هاهي تعود مره أخرى ولكن على الطرف الاخر .. يعيشها الزوجان الاخران سالم وزوجته ..
كان قدراً صعباً مرت به هاتان العائلتان وهي ترى فلذات أكبادهم ترحل عنهم ليأتي أطفال آخرون يحلون مكانهم ..
أستمرت فترة الانتظار أكثر من شهرين .. حتى أتى التحليل من مركز التحليل والادلة الجنائيه في الرياض ليثبت ماكان الجميع ينتظرونه ويخافونه..
علي ليس أبناً للعائلة السعودية .. كما كان يعقوب ليس أبنا للعائلة التركية..
أثبت الفحص أيضاً صحة نسب علي الى العائلة التركية وأنهم أهله الحقيقيون..
وأن يعقوب هو الابن الحقيقي للعائلة السعودية..
يعقوب السعودي .. الذي لم يعرف غير تركيا وطناً .. والاتراك أهلاً .. ولايتكلم سوى اللغه التركية ..
يجد نفسه بين ليلة وضحاها .. أبناً لعائلة لم يعرفها ..ومواطناً لدولة كان يزورها مع والده ..
ولغة وعادات وتقاليد لم ينشأ عليها يوماً ..
وبالمقابل ..علي الذي عاش وتربى سعودياً ..يرحل الى تركيـا ..الى مجتمع غريب وعائلة غريبه ..
اليوم الاربعاء 7 نوفمبر.. أعلن مصدر مسؤول في الحكومة السعودية أنتهاء القضية الازمة وأعلن رسمياً أن علي ويعقوب تم تبديلهما بالخطأ وتسليم كل منهما الى عائلة أخرى .. وأنه بعد الفحوصات والتأكد تم أعلان أن يعقوب هو أبن السعودي سالم اليامي .. وأن علي هو ابن التركي يوسف أجاويد ..
وسوف تتم أجراءات تسليمهما رسمياً لعائلتيهما خلال الايام القادمه ..
أنتهت قصة ماسأة وتراجيديا مؤلمة عشناها لمدة شهرين أو أكثر .. أنتهت بالنسبه لنا كمتابعين ..
ولكنها لم تنتهي بالنسبه للطفلين يعقوب وعلي ولعائلتيهما..
لا أعرف ولا أريد التفكير فيما سيحدث للطفلين ذوي الاربع سنوات عندما تتغير حياة كل واحد منهما 180 درجه وينتقل الى عالم آخر مختلف تماماً عن عالمه ..
ولا أريد أن أفكر فيما سيعانيه والدا الطفلين السابقين من فراق طفل كان يوماً أبناً لهما عاش معهما أجمل الايام واللحظات ..
يا لها من أيام مؤلمة قاسية وليالي مليئة بالخوف والالم ستمر على الجميع ..
لا أنسى تحذير أحد الاطباء النفسيين من محاولة التبديل المفاجيء أو السريع للطفلين ومحاولة البدء بخطوات وتمهيد طويل للطفلين وتكييفهما نفسياً لعملية التبديل حتى لا يصابا بأزمة أو انفصام وربما جنون لا سمح الله فالامر ليس بالسهوله التي يظنها أحد ..
أعود على ما بدأت به .. ان التفكير في المستحيل أصبح أمراً عادياً .. بفضل الطب والاطباء في السعودية .. ممن أصبحت الاخطاء الطبيه لديهم قاتلة الى درجة الاستهانه بارواح ومصائر البشر ..
خاتمة ألم ..
على لسان يعقوب وعلي :
مين أنا ؟
ووين أنا ؟
وليه بالذات أنا ؟
وشهو ذنبي اللي جنيته ؟
وينها أمي ؟ وين أبوي عني ؟
وين عيال عمي وخوالي ؟
وين أنا رايح ؟
ديرة جديدة ؟ وعالم جديد ؟
غريبه عني هالوجوه وهالاسامي
وينك يا يمه ؟
خذوني عنك .. ما سألوني
مادرو عن سر دمعاتي
قالوا هذي أمك ؟
ما أعرفها .. ماابيها
ردوني لامي ..
ردوني لاخواني ..
وشهو ذنبي اللي جنيته ؟
لاتكسروا قلبي ..وارحموني
صغير ..ماعرفت الفراق ولا شكيته
ولا جربت الحزن ولا بغيته
ماابي من كل هالعالم أحد
بس ..
ردوني لأمي ..